تلفظ جذور قصيدة الشاعر سليم بركات في جوها العام كل البلاغات المألوفة، وتقدم جسداً رشيقاً ذا حساسية شعرية خاصة، تنتج من منابع لغوية واستعارات حديثة، من خيال مكتنز بالكنايات والإستحضارات القاسية، حيث تنحو جملة هذا الشاعر الجميل بتوحش إلى سوريالية شديدة كأنها أفكاك غضبٍ تنشد كاتدرائية متصدعة من الدهشة.
في مجموعته "شعب الثالثة فجراً من الخميس الثالث" الصادرة حديثاً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، ينحت الشاعر سليم بركات في ذاكرة الألم تاريخ شعبٍ كرديّ مضطهد، ليمتد النشيد متفجراً كبركان سموي يقذف حممه من الكلمات، ذاهباً بنا في رحلةٍ إلى تاريخ الظلم عبر عينيه الواسعتين ولقطاته الذكية الحوادث ارتكبت ضد الإنسانية وهضمت حقوق بشرٍ أتقنوا فن البكاء وفن الموت. هؤلاء، بلا إلهٍ سوى حزنهم، مؤبّدين في الوجع ومكفهرّي الأمل، منثورين في بقاع الأرض، يشتتهم عرقهم وتجمعهم دماء قصيدة سليم بركات، مثل سكينة تنصاع لها اللغة وتبرمج تحت وطأتها التاريخ الشعري كما يشاء وحش الفتك المقتحم سياج الاقتباسات، والواقف بوضوح كضربة شمس أبدية. يمضون كما يحلمون، ولا يوقفهم أي كون أو أي إله: "لن يتوقفوا هنا. لن يتوقفوا في أيّ مكان. كثيرة ٌعرباتُهم. كثيرٌ الشحمُ، الذي ملأوا به جراب الله ذائباً. أكملوا غزل السماء الثالثة على النول الرملِ خيوطاً تكفي خماراً لقدر واحد، معتدلين في الرقن بزنجفر يقينهم؛ معتدلين في الغزل بحرصِ النهاية على إرثها".
كل واحدٍ منهم في عمقه الإنساني يغمر كثيراً من الرعب. شعبٌ لا يمكنه التكلم بحقه في الحياة، سلاحُه الوحيد قذف الشوك بسبطانة الشعر. يُخرجهم الشاعر من حواف الذاكرة من الشمال، من كل بقاع الأرض، عبر الصوت، عبر ضوء الغضب، خلال أروقة الانتظار يأتيهم كتابهم المقدس نازفاً ثورةً وعصياناً: "لا يقتربون من أبدٍ. لا يبتعدون عن أبدٍ مُذ حصّنوا خنادقهم بمآزقِ الكلمات".
تعاين رؤية الشاعر عبر منفاه الاختياري حال التاريخ الذي دوّن حوادثه المريرة مدعوكاً بدم ذاك الشعب. ما تقدمه الحضارة الإنسانية اليهم يتجاوز كل مفاهيم العدل، فهم المنبوذون الذين تفتعل في حقهم مجازر وتصفيات بشرية. هم المعروفون منذ عُرِف الماء، حفاة فوق زفت الحياة الكاوي، الخاسرون بمشيئة الظلم، والوافدون إلى فخ اللانهاية، تسقط وجوههم وتتبدل عروقهم بهواء النفي: "كلّما خلعوا قناعاً رموه إلى ملأٍ آخر في الأخدود يرتدونه من دم إلى دم"، و"عرفوا - مُذ عَرَف الماءُ – أنهم الربح محسوباً بأعشار النقصان".
يعطي الشاعر فتوحات اللغة الزاخرة بالاشتقاقات، حريةً ممسوكة بنَفَس واحد. الشعرية المكتوبة بطريقة تصوير سوريالية، تتنقل بين الاستعارة والبيان، تنفذ من تاريخ مكبوت بالغصات والخيبات. يقدد سليم بركات آهاته وثورته عبر نشيد طويل متجاوزاً حدود الغواية والتلميح. لا يهمّ أحداً مصيرهم الجحيمي الراهن. وحده الكلام المغضوب عليه ينفر من أجسادهم: "بالدخان كلَّموا الحروف حتى انتعشتْ"، و"لا يحبّهم شيء. لا يحبّهم أحد. مضَرّسة يُحْسَبونَ. مُذ كانوا كمالاً لا يؤبه للوعة كماله".
قصيدة مفتوحة على جحيم الحقيقة، تطلق الكلمات كالنار، لا تُختصر وتُلخص. تكاملٌ نزق مفتون بالنيازك. مقاربة حياتية تتفرد بشاعريتها بحسب الأحزان، لا دين لها سوى الحرية، ولا يفجرها إلا الحق نشيداً، لا مريدين خلفه سواهم. هو نشيد الحرية للشعب الوحيد. يقرّبهم الشاعر من الخوف ويفرز جبن المواجهة برؤيته ليهرع الخوف مسلولاً من شجاعتهم، ناراً تحلّق بين أصابعهم ولغة ترتّب انقلابها إلى بلاغ النبوة، تزهق الأرواح من بين فواصلها وتقدم الصرخات وجهها البشري عبر القصيدة : "هم أبكوا الخوف قي صعودهم الأدراجَ اللهبَ إلى أمّهم الطينِ. أبكوا الندم. أبكوا المواعيدَ يضربها جرحٌ لجرحٍ آخرَ. أبكوا البساتينَ، والرملَ، والزبدَ، والوسائد، والنقوشَ العمياءَ على الدنانير الهِرقليةِ".
مهاجرون لا يتبعون إلا هواءهم، أوكسيجين السفر المستمر نحو كل الجهات. من غابة سكوغوس في أسوج، يكتبهم الشاعر أسطورةً على رغم العولمة. يكتبهم سليم بركات، هذا الإنسان المهووس باقتلاع أظفار اللغة وجعل الشعر حاسة سابعة تضاف الى شعب الثالثة فجراً، شعب ما قبل الوجود: "لم ينجُ غيابٌ من براثن ابتكاره غياباً في سطور الخميس الثالث- خميس أيامهم المنكهةِ بزفير الهجرات. أخذوا معهم الجهاتِ القشدةِ محترقةً".
لا تنأى فكرة اللغة في "شعب الثالثة فجراً من الخميس الثالث" عن كل اعتبارات تصفية الحساب مع الماضي فحسب، بل تعتبر مقاربة تاريخية تفتح باب الأسئلة الصعبة حول مصير تلك الأمة المنفلشة في شهب الثالثة فجراً مع حقائب التهجير والترحيل الجبري إلى الجحيم البشرية ليصبحوا سفراء الحزن والألم.
يأتي عمل سليم بركات هذا، كرهان مباشر على نتائج العزلة التي يتمتع بها شاعرٌ يكتب روحه كحصان يعبر السهول والجبال والبحار والسماء والأديان والمجرات والكنايات الخيالية ويشطر بشفرته الخاصة قلب الشمس نصفين، مخرجاً قصيدته التي تشبه أفق عينيه الواسعتين والطافحتين بالأحلام والثورة.
عمر الشيخ
27 اغسطس 2009