محمد الحجيري
(لبنان)

لوتريامونلوتريامونأعادت دار «الجمل» طباعة كتاب «أناشيد مالدورور» للشاعر لوتريامون (اسمه الحقيقي ايزيدور دوكاس)، وكانت الطبعة الأولى صدرت عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» عام 1982، والطبعتان بتوقيع سمير الحاج شاهين النزق المتخفي عن الوسط الإعلامي في مدينة زحلة في البقاع اللبناني.
لوتريامون في أناشيده أشهر من نار على علم، على رغم أنه تعرّض للإقصاء والمنع أثناء إصدارها، بل إن هذه «الأناشيد» كادت أن تكون في خبر كان لولا الصدفة، ففي عام 1917 اكتشفها السوريالي فيليب سوبو (1897-1990) القليل الشهرة، ومرّرها، بعد قراءتها بولعٍ كبير، إلى رفيقيه لوي أراغون وأندره بروتون، فراح هذا الأخير يتردّد على المكتبة الوطنية ناسخاً النسخة الوحيدة المودعة فيها، لينشرها في العام التالي في مجلة «أدب». بعدها صار لوتريامون الملهم الفذ للسورياليين الذين وجدوا في أعماله لغة جريئة مذهلة. وفي بيانه السوريالي الثاني، حرّر بروتون نفسه والسوريالية من غالبية الأسلاف الذين ذكرهم في البيان الأول، بل أبدى تحفّظاته حتى بشأن الشاعر الفرنسي رامبو، إلا أنه تشبث بلوتريامون معتبراً إياه سلف السوريالية الحقيقي، فقال عنه: «إذا وضعنا على حدة شخصاً واحداً... هو لوتريامون، فإني أرى أشخاصاً آخرين لم يتركوا أثراً ملتبساً عن عبورهم». ولوتريامون هو أول شاعر يحرر الصور من عبء الرموز مطلقاً إياها كصور مستقلة بذاتها. والصورة السوريالية تقوم على جملة لوتريامون الشهيرة: «جميل كاللقاء الطارئ على طاولة تشريح بين آلة خياطة ومظلة». أُعجب السورياليون بلوتريامون ورفعوه إلى مرتبة العبادة. فقد كانوا يبحثون عن الانتهاك اللفظي والمعنوي لكلّ ما هو كائن، فوجدوه عند هذا الشاعر الذي لا يشبهه أحد من قبله ولا من بعده. في «أناشيد مالدورور» يتغنّى لوتريامون بالشرّ، والقساوة، والرعب، وكل ما هو سلبي أو منفّر في الوجود. ينتهك القوانين الإنسانية والأخلاقية كلّها، إنه ديوان يتفجّر بالتمرّد والرفض لكلّ نواميس المجتمع، بل وحتى البشرية. وربما لم يشهد تاريخ الشعر ديواناً في مثل هذه الجرأة على التجديف، وربما لهذا السبب نصح لوتريامون عائلته، أو قلْ ترجّاها، بألا تقرأ ديوانه. فقد كان يعرف ما فعل، وكان يخشى أن يصدمها كما صدم أجيالاً متتالية من القرّاء. لم يتجرأ شاعر على انتهاك المقدّسات مثلما تجرأ هذا الفتى. وربما لهذا السبب انطوت أشعاره على شحنة مطلقة من الحرّية. لم يجرؤ شاعر على الذهاب إلى مثل هذا الحدّ في الخروج عن المألوف، في مغامرة المجهول. تجاوز لوتريامون كلّ رقابة، ومن أي نوع كانت: دينية، جنسية، أخلاقية... لكننا في ديوانه الثاني «أشعار» نسمع صوتاً آخر مضاداً للأول تماماً. فمغامرة لوتريامون غير المسبوقة انتهت بالحكمة، بالانقلاب على مضمون «أناشيد مالدورور» الشرير واللاأخلاقي. هكذا، راح لوتريامون يمجّد كونفوشيوس، وبوذا، وسقراط، والمسيح. كذلك، راح ينحني أمام فلاسفة العقلانية كأرسطو، وأفلاطون، وسبينوزا، وديكارت، ومالبرانش.

أقوال

ليس السورياليون وحدهم من أعجب بصاحب «أناشيد مالدورور»، يورد سمير الحاج شاهين بعضاً من أقوال الأدباء فيه، منهم أندريه جيد الذي يقول إن «قراءة رامبو ونشيد مالدورور السادس تجعلني أخجل من مؤلفاتي»، ويقول هنري ميشو: {لوتريامون مع ذلك استحوذ عليّ: لدرجة أنّني اضطررت أن أتخلّص منه. لم يكن يتركني أعيش. بفضله كتبت. وحتى ذلك الحين لم تكن عندي رغبة شديدة في ذلك ولم أكن أجرؤ. عندما قرأت أناشيد مالدورور وعلمت أنّ المرء يستطيع أن يكتب وينشر ما يملكه في داخله من خارق حقاً، فكّرت أنه يوجد مكان لي»، وجاء على لسان لويس آراغون: «لا نكاد نتذوّق مالدورور حتى يصبح كلّ الشعر تافهاً بعض الشيء ومدبّراً»، ويقول الروائي لوكليزيد عن لوتريامون: «هذا العمل البدائي فريد من نوعه، لا يوجد شبيه له في تاريخ الأدب. أشباهه ينبغي أن نبحث عنها في أماكن أخرى. وبعيداً جداً ينبغي أن نبحث عنها في فوضى الأدب الشفهي مثلاً، في ذلك التدفق الحيواني للأغاني حيث الصور لم تثبت بعد من قبل اللغة المكتوبة. وينبغي أن نبحث عنها في المزامير، والشتيمة، والصلاة. نعم يصعب أن نتخيل مغامرة في مثل هذا القرب والبعد في آن معا».

اليتيم

وُلد لوتريامون عام 1846 في مونتفيديو عاصمة الأورغواي، من أبوين فرنسيين مهاجرين. وقبل أن يبلغ السنتين، ماتت والدته. عاش طفولته في أجواء مليئة بالعنف والمجازر والكوارث والأوبئة، إذ إن الحرب بين الأورغواي والأرجنتين بدأت في عام ولادته واستمرّت حتى عام 1952 ويظهر تأثير ذلك في أناشيده: «الحرب الأزلية نصبت سيادتها الهدَّامة فوق الأرياف، وهي تحصد بفرح ضحايا عدة…». وكتاب لوتريامون عبارة عن ستّة أناشيد شعرية نثرية بطلها يدعى «مالدورور» هو في الحقيقة لسان حال لوتريامون الذي كان دائم الصداع مؤرقاً لا يعرف النوم، وإذا غفى فعلى كوابيس رهيبة. لقد ذكر حالته تلك في أناشيده، فوصف ضعفه الجسدي والنفسي وحرمانه تذوّق مباهج الحياة، وقطف ثمار الحب والهوى والشباب، ونعمة النوم والرقاد... يقول في أناشيده: «سعيد من يغرق في سبات عميق ساعة يضع رأسه على مخدته، ها إني منذ يوم ولادتي المشؤوم أعاني من الأرق الذي نذر أن يجرف دائماً أعضائي إلى أعماق الحفرة التي تنبعث منها الآن رائحة المقابر». تبدو سيرة لوتريامون القصيرة عابقة بالتناقضات والأفكار الجهنمية، فهو الملحد والمؤمن في آن، وهو المدمر والباني، وهو المجنون والعاقل، وهو الشاعر الباحث عن الخراب، أتى إلى فرنسا عام 1859 ليتلقى التعليم في مدارسها. بعد أن تنقل من مدرسة إلى أخرى، استتبّ في باريس حيث مات في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 1870 تاركاً كتيباً صغيراً بعنوان «أشعار» وعملاً وحيداً مكوناً من ستة فصول عنوانه «أناشيد مالدورور». قبل موته بسنتين نشر لوتريامون النشيد الأول من «أناشيد مالدورور» على نفقته الخاصة، وفي السنة التالية عثر على ناشر بلجيكي وافق على نشر كتابه كاملاً، غير أن الناشر امتنع عن توزيع الكتاب بسبب جرأته البالغة ورؤاه الغامضة، ولم توزع الطبعة الأولى إلا بعد مرور عشر سنوات. على أن لوتريامون، الذي دفع نفقات الطبع كافة، بقي يستعلم، عبثاً، عن مصير كتابه، بل استبد به الشعور بالذنب من أنه كتاب شرير، وبالتالي ليس عليه إلا أن يكتب شيئاً آخر أكثر تفاؤلاً. وبالفعل، تنكر لوتريامون للكتاب واعداً صاحب المصرف داراس بأنه سيكتب مقدّمة لكتابه المقبل الحافل بالأمل، ليقرأها والده فيبعث إليه بالمال الكافي لطباعته. وهذا ما أشار إليه لوتريامون نفسه في توطئة لكتيبه «أشعار». لكن لوتريامون مات قبل أن يكتب مجلد الرجاء هذا، وقبل أن ينزل كتابه في المكتبات بعد أكثر من عشر سنوات، أي عندما حلت أزمة مالية بالناشر فباع النسخ بسعر زهيد. في البداية، قدّم لوتريامون بطله في أناشيده تحت هيئة بشرية، ليجسّد من خلاله أنواع البؤس الإنساني، والأسئلة المقلقة التي تتعلق بخلق الكائنات، قدّمه على شكل شخص شاحب، بالكاد تتدفق الدماء في عروقه، وذي فم محموم ولأن صحواته تأتي على شكل نوبات مرضية، فإنه يجد نفسه عاجزاً تماماً أمام هذه التراجيديا الإنسانية، لقد أعلن لوتريامون في مستهل أناشيده، أنه يريد تسخير عبقريته لوصف ملذات القساوة. وأنه لا يدعي أن ألحانه هي نسق مجهول. بل بالعكس، يغبط نفسه، لأن أفكار بطله المتعجرفة والهدامة موجودة في كل البشر.

سمفونيّة

لم يكن لوتريامون، بحسب شهادة ناشره، يكتب إلاَّ ليلاً، جالساً على كرسيه، أمام الليل منشداً جمله المسبوكة في قالب سمفوني مدهش... جمله الموقّعة في أنغام مؤتلفة بديعة... يقول سمير الحاج شاهين: «لكننا لا نستطيع التأكد من صحة هذه الأسطورة التي تبناها الكثيرون من دون دقة أو تمحيص... ومن بينهم أندريه مالرو وفيليب سوبولت، إلا إذا استنطقنا آثاره ذاتها، التي تربطها حقاً علاقة وثيقة بالموسيقى، التي هي من بين الأشياء القليلة النادرة، التي وفّرتها شتائمه في «الأناشيد»: إذ تطايرت التساوقات من أوتار آلة، فإني أسمع بشهوة حسية هذه العلامات الموسيقية المجوهرة التي تفلت بإيقاع عبر موجات الجو المرنة». وجميع الجمل المحمولة على التيار الشعوري نفسه، تشكّل لدى لوتريامون كياناً واحداً، لأن الجَيَشَان العاطفي يدغمها ببعضها، لأنه يعيرها بدايته ونهايته المتماثلة، وبذلك يزيل التخوم والحواجز القائمة فيما بينها ويلم شتاتها في شريط مشترك متصل لا انقطاع فيه.

الجريدة
25 ديسمبر 2010