راشيل عيد

الاول والتالينقرأ على الغلاف الأخير لكتاب "الاول والتالي" للشاعر العراقي الراحل سركون بولص العبارة الآتية لبسام حجار: "أعرف مسكناً واحداً لسركون بولص هو اللغة. ولعل هذا ما جعله في ظنّي، قبل أن ألتقيه وبعد أن ألتقيه، شخصاً من المعاني". يصيب بسام حجار في هذه العبارة جوهر قصائد صاحب "الأول والتالي" الذي يكتب شعراً مسكوناً باللغة والليل والأحلام والسفر واللقاءات والسهر والحب والخمارات والمقاهي. هو، أكثر من ذلك، مسكون في "الأول والتالي" باللحظة. فعلى الرغم من المغترب والمنفى اللذين عاشهما في باريس وسان فرنسيسكو وطنجة واليونان والاندلس ونيويورك وسائر المدن والعواصم، إلا ان قصائده تهجس بالبيئة الأولى التي تتربص به، كما تهجس بحكايات قديمة من العراق، وبذاكرة مدببة بالتفاصيل وغائرة في جهات لم يصلها احد، بل احياناً تتخذ القصيدة مشاهد العالم الحقيقي والتعابير والاشكال التي يستنبط منها معاني هذا العالم.

كلمة "التالي" الواردة في العنوان، لا تعني "اللاحق" في اللهجة العامية العراقية، وإنما تعني النهاية والآخرة، بحسب المعنى الديني. لذا يعلن الشاعر ما يأتي: "عليّ أن أطارد كلّ شيء حتى منابعه، حتى ترسب هذه النجمة تحت شرفة انتظاري مثلا/ أو تختفي حياتي الماضية كمحفظة سائح في ميناء". "الأول والتالي" هو اختصار الواقع، فـ"ما تبنيه اليوم، قد ترقص في خرائبه غداً"، و"الشعر حديثنا، وليس لنا حديث آخر/ كيف يولد ويموت"، ليسأل الشاعر: "كيف يمكن تلخيص الظلام؟". لا ندري اذا كان في إمكان الكلمات ان تلخص الظلام، فهي اولا وأخير تحيي عوالم الليل وأسراره وطبيعته وكائناته ونجومه وحاناته ونساءه، وما تقوله الكلمات في الشعر شموع تخترق الظلام، او كتابة مسوّرة بالأساطير ومرايا الحكايات.

يفتتح سركون بولص ديوانه بالعبارة الآتية: "إلى أهلي في أرض الرافدين... الى أحيائي وأمواتي". ثم يستلف من جلجامش عبارته الموحية "إلى أرض الأحياء، تاقَ السيّد للسفر". ثم يبوّب ديوانه بمسامير (أرقام) أرض الرافدين. هكذا تزخر اشعاره بالسفر والرحلات والعالم والمدن وامكنتها اللامرئية وعوالمها السفلية وذاكراتها المتقدة، كذلك تزخر مجمل اعماله بالمرجعيات الميتولوجية في الثقافية الاشورية. ففي "الأول والتالي" الذي يبدأ من الطفولة وينتهي في نيويورك، يرسم الشاعر مشاهد عن مآسي الحياة في العراق الذي تركه ليشاهده من بعيد، عابقاً في الذاكرة. ولعل أبلغ مشهد يأتي في قصيدة "يونس وبئر الأرملة" التي تصف معتوهاً يدخل بيت الأرملة في القرية بحجة حمل المؤونة، ويحسده رجال القرية لاعتقادهم أنه على علاقة خاصة بالمرأة لا يستطيعون تحقيقها. كذلك نقرأ قصيدة "أسطورة السياب والغرين" التي تبدو أكثر تعبيراً، اذ يقول: "عرف السيّاب منذ البداية/ أن الأشياء التي يمكن أن نحبها، قليلة/ وجه/ يشرق مثل رغيف..."، و عرف السياب منذ البداية/ أن القدم الحافية لن تسير إلا/ الى معتفل او مقتلة، والفقر هو الشيطان/ طالما كان هذا العالم في بؤسه وبهائه/ مأدبة للآخرين".

على ان البلدان التي زارها بولص والمدن التي عاش فيها والنساء اللواتي تعرّف اليهن والناس الذين التقاهم، نراهم يتقولبون كي يتخذوا أشكالهم وأحوالهم ليندرجوا ختاماً في عالم الكتابة، حيث يكتب الشاعر بلغة من دون زينة او زركشة، لغة كأنها مترجمة، وهذا ما يصنفه النقاد بـ"التغريب". هي لغة تدخل الى جوف الاشياء، لغة دينامية ومتوترة ومشعة، وشجية بالمعاني من خلال عبارات زاخرة بما هو غريب، فيجعلنا الشاعر نحاول تفسيرها على النحو الذي يرضي ذواتنا. انه "شعر طبيعي. طبيعي كالدم والكحول وورق الشجر" كما يقول احد الشعراء عنه، لأن عصبه موجود في الشعر، وكذلك فكره.

ثمة استفادة لدى بولص من الشعر العربي القديم، حيث نلحظ حضور شخصية النابغة الذبياني وعمر بن أبي ربيعة. يروي بولص ان بضعة أبيات للنابغة الذبياني الذي عاش في عهد الملك النعمان بن المنذر وكان شاعر بلاطه بالحيرة، قد علقت في ذهنه. ويقول إنه وجد نفسه متأرقاً ذات ليلة مليئة بالنجوم في سان فرنسيسكو، وكان قريباً من البحر، فأحس بصورة غير واعية بارتباطه بالشاعر العربي القديم، إذ ولدت قصيدته "كواكب الذبياني" التي ربط فيها الشاعر القديم بمدينة سان فرنسيسكو وبليلها. واذ يقتطف شطراً للذبياني "وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب"، يقول هو في قصيدته:" بيدي اليمنى المتعبة، في طريقي/ الى المطبخ لأغلي الشاي من جديد/ أشير الى الصباح الذي يزحف كبزاقة ذهبية/ من الشرق، بين التلال وأبراج التلفزيون".

اما بالنسبة إلى عمر بن أبي ربيعة فقد وجد سركون بولص نفسه يشكو الى الشاعر الأموي حالته ويرثي الحب والغزل والمرأة. المرثية فيها من اللعب لأنها ليست مرثية على الاطلاق، إذ يتحدث عن جرأة المرأة الحديثة: "قد أصف نهدها/ حلمتها الوردية وكيف تشف من النور القويّ/ نارية كالزبيبة او تمر الدين/ قد اكتب عن نمش يغطي كتفيها/ كظلال قوافل من النمل/ تعبر صحراء من الصوان/ عندما تستيقظ في سريري/ أو سريرها، عند الظهيرة أو في الضحى/ وليس أبدا في الصباح... لكن آخرين/ أكثر جدارة مني/ تغنوا بهذا... أين مني/ تلك الأسرار يا ابن ربيعة/ أين مني ذلك المديح/ إن كانت من أرفعه اليها/ كما تفسد الذئبة بأوجاعها تغريد الكناري/ افسدت مطامحي في إغوائها بمهلٍ، وعلى روّيتي/ حتى يصيبها مسّ، وتعرف مجد الدوار". يسمي بولص هذه العلاقة مع التراث أحيانا بالعلاقة الشرطية، واحيانا العكسية، والتي تتميز في بعض الاوقات باللعب.

المدينة كتابة

يستعير سركون بولص عبارة "المدينة كتابة" من الناقد الفرنسي رولان بارت. المدينة كتابة، وكل شيء يتقولب في الكتابة لدى سركون بولص، الذي عنون احد كتبه "الوصول الى مدينة أين؟". جال الشاعر في مدن شتى، وجعلها في متون الكتابة التي هي بالنسبة اليه سفر. كذلك هي الحياة، سفر في اللامكان، وسفر في كل مكان، في مدن كثيرة وعوالم كثيرة. كتب سركون بولص "نهار في كركوك" في سان فرنسيكو وتعبّر عن صورة كانت تلازمه حول المدينة العراقية. ذلك أنه لا يمكن ذكر اسم سركون بولص من دون أن نستعيد "جماعة كركوك"، التي ضمت أكثر تجارب الشعر العراقي الستيني طليعيةً وموهبة: سركون بولص وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمو وصلاح فائق. كتب بولص عن كركوك في كل كتبه وفي شكل خاص كتابه "الأول والتالي". في "الحياة قرب الاكروبول" ثمة حضور لمدينة كركوك الغريبة التركيب من حيث الأجواء الاجتماعية ومن حيث الأقوام التي تسكن فيها، وهم خليط عجيب متكوّن من العرب واشوريين واكراد وارمن وصابئة، ومن الاجناس العتيقة التاريخية التي وجدت نفسها في الشمال، حيث ان المدينة كانت دائما منبعا إنسانيا متنوع اللون والشكل. وهو منبع لا ينتهي لغرابة اللغات المتبادلة بين تلك الأقوام. وكركوك كانت بالنسبة الى سركون بولص بداية الكتابة والمنبع والمكان الذي فتح فيه عينيه على الشعر. وهي الأول وهي التالي. أي العالم كلّه. والحياة كلّها. وما يلي.

النهار
14 يونيو 2008