إبراهيم فرغلي (مصر/ الكويت)

XXXXXXXXXX

«في الفجر، أحمل العبء على كاهلي، وأقف في المصلين مثل طفل ينسى الدرس. أبكي قليلا قبل أن أخبرهم أنني لم أكتب الموعظة». ليس هذا صوت راهب كنسي أو راع لكنيسة كما قد يبدو الأمر للوهلة الأولى، بل هي جملة مما دونه الشاعر البحريني الكبير قاسم حداد في كتابه «أيها الفحم يا سيدي»، الصادر عن دار «مسعى للنشر والتوزيع» اخيرا.

إذا تحرينا الدقة لوصف جوهر هذا النص فعلينا القول: إن هذا هو صوت الفنان الهولندي الأشهر فنسنت فان جوخ، صاحب لوحة «زهرة الخشخاش» التي تكاد شهرتها تماثل لوحة دافنشي «الجيوكاندا».

كتاب يفترض أنه تقمص لصوت الفنان الهولندي، مدونا سيرته، لكنه في الحقيقة، وفي جوهره يتجاوز ذلك ليكوّن نصا شعريا فلسفيا ذهنيا وفنيا، يبدو فيه قاسم حداد، ليس ككاتب متقص لسيرة فنان تشكيلي من ثقافة وزمن آخرين فقط، بل كمبدع كبير يرتحل في الزمن والمكان والتاريخ، ليصحب قراءه ليسمعوا ويروا كل ما عاشه فان جوخ. متيحا لهم تأمل العالم من وجهة نظر الفن والشعر.

رحلة زمنية، ذهنية، نفسية، فنية, وشعرية، في داخل عقل فان جوخ، ترتحل إلى زمن طفولته، إلى الحقول التي شغف بكل مفردات الطبيعة فيها مبكرا، ثم بين أقرانه وعائلته التي كانت تتهمه بغرابة الأطوار ثم بالجنون، باستثناء شقيقه ثيودور الذي ارتبط به أكثر من غيره، وكان سنده في جل حياته، إلى مدينة آرل الفرنسية حيث عاش فنسنت بين 1888 و1889 أي عاما واحدا أنتج خلاله 300 لوحة.

تمتد الرحلة أيضا إلى باطن الأرض؛ في عمق أعماق أحد مناجم الفحم، في قلب العتمة، والقهر، وبين الغازات الخانقة حيث عمل فان جوخ لفترة، وإلى الكنيسة حين أريد له أن يكون كاهنا، وإلى أروقة المصحات النفسية التي دُفع إليها للعلاج القهري تحت الرقابة، أسيرا للهلوسات الذهنية، وتحت ضغط الرغبة الشديدة في الرسم، في القوت نفسهالتي تعد الوسيلة الوحيدة لنجاته من عبث المصحات، وصولا إلى مكانه الطبيعي والحقيقي والوحيد كفنان تشكيلي مهووس بالرسم، بين الألوان، وخلف اللوحات، ومع الكتب نثرا وشعرا.

حفر

جهد هائل بذله قاسم حداد يتجلى مع كل سطر من سطور الكتاب، ليس فقط في قراءة ودراسة كل ما يتعلق بفان جوخ وعصره وسيرته وقراءة رسائله إلى شقيقه، وهو يشير إليها في بدايات الكتاب موضحا أنها (1100 رسمة، 900 لوحة، و800 رسالة)، بل ويبدو جليا أيضا اطلاعه على تاريخ الفن ومراحله خصوصا ما يتعلق بعصر فان جوخ ومعاصريه من الفنانين، وأعماله الفنية وعلاقة الفن بالشعر ودلالات الألوان.

والجهد المبذول لا يتعلق بهذا كله فقط بل يتجاوزه إلى الحفر باللغة لتحويل هذا كله إلى نص لغوي فاتن، فريد، وشعري وسردي وفلسفي. يختار الصياغة المناسبة للجملة بحيث تتحمل بكل هذه الدلالات معا، بل ويبدو متأنيا في اختيار كل كلمة ليوسع من قاموس مفردات النص، ويضيف متعة صافية لكل من يلهج بكلمات الكتاب همسا أو في قراءة صامتة.

ومن المؤكد أنه يعيد تقديم الفنان الهولندي الكبير لقراء العربية، بعيدا عن الكلاشيهات القليلة التي نعرفها نحن القراء العرب عن فان جوخ وربما لا تتجاوز ما اشتهر عن تعرضه لخلل عقلي أدى به إلى أن يقطع أذنه يوما ليمنحها لحبيبته، ومات منتحرا، ورسم مجموعة من اللوحات التي عدت ثورة في عصره.

نعم، يقدم قاسم حداد سيرة ذهنية وسيلته فيها اللغة والحرف، راسما بالكلمات كل شيء، الصور والأفكار، والألوان، وأعماق المناجم المظلمة، والمصحات والأديرة والحقول، متأملا فنون العصر كما رآها فان جوخ، وفلسفته الفنية، وعلاقته بالفنانين الآخرين مثل كوربيه، جوجان، مونييه، ديلاكروا، ورامبرنت، الذي يدين له بالكثير من التأثر والإعجاب.

«أرى ديلاكروا مهرجانا ضاجا بالضوء. بارع في هذا، لكنه ملون يرسم الظلال، لئلا نتجاوز رامبرانت، ساحر الضوء الأول. حتى أن ديلاكروا نفسه اعترف بجسارة رامبرانت وهو يبتكر للرسم ضوءً ليس من النهار أو الليل».

ويتقدم قاسم حداد– فان جوخ لكي يصف مظاهر الطبيعة الغربية بدقة فنان كبير لا تفوته التفاصيل وبقلب شاعر؛ ينصت للطبيعة طويلا قبل أن يكتب عنها، أو بالأحرى يرسمها بالكلمات.

أفكار لكل عصر

ما أثار إعجابي في «أيها الفحم يا سيدي»، على نحو خاص، إحساسي بأن «عصرية» أفكار فان جوخ تجعل الكثير منها لا يزال صالحا لعصرنا الراهن نحن الذين نخلف عصر فان جوخ بأكثر من قرنين من الزمان، حول الفن والشعر واللون، بل وحول مؤسسات العقاب وبينها مصحات الجنون التي تحارب الخروج عن قوانين المجتمع.

ولعل تأملاته عن الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، وما سببته من تغييرات وجدل تحيلنا فورا على الكثير مما يدور حولنا وما دار منذ نشوب ما اصطلح على تسميته بثورات الربيع العربي وما آلت إليه. يتأمل فان جوخ، عبر لغة ونص قاسم حداد، لوحة ديلاكروا الشهيرة «الحرية تقود الشعب»، ويرى فيها خروجا لديلاكروا عن دوره كفنان، واصفا كيف أنها لا تعبر عن ديلاكروا فنيا:

«أراد البعض لديلاكروا أن يكون ثوريا، دون أن يكون رسمه كذلك. علينا أن نضع الفن في الاعتبار كلما تحدثنا عن الإبداع الإنساني. الثورة ليست شيئا إذا هي أدرجت الفن في عجلة دعاية الثورة، أو ضدها. في حالة الفن ينبغي الكلام فنيا، شكلت لي لوحة «الحرية تقود الشعب» نوعا من الصدمة. لم أفهم فنانا يدعم حربا أو يروج لقتال. الفن أكثر جمالا من ذلك».

في الكتاب نكاد نسمع صرخات فنسنت يأسا من عائلته وكل الذين وسموه بالجنون، موضحا أنهم كانوا يصرون على ذلك، رغم تشخيصات الأطباء التي أشارت بحساسية إلى إصابته بالصرع الذي قد يزداد في حالات الإرهاق والتوتر. ثم يعرج على دوستويفسكي يكاد يغبطه أنه أصر على علاج نفسه بنفسه من نوبات الصرع ولم يترك نفسه لهم ليعالجوه.

علاقته بالمرأة أيضا تأخذ قدرا من اهتمامه في النص، حيث يحاول أن يبرر أسباب عدم معرفته بعديد النساء، لكنه قبل ذلك يقدم لقطة شديدة الحساسية حين كان يقوم بالرسم في حديقة المصحة، ورأى الممرضة «إيما» ولمس يدها حين كانت تقدم له جرعة مياه، ثم انسحبت تاركة يدها ليضعها في جيبه، وحين التفت ليراها كانت اختفت لكنه رأى أن يدها تركت أثرا في الرسم أمامه. كأنه يخبرنا عن الكيفية التي كانت تعنيها المرأة بالنسبة إليه كملهمة، كرفيقة روحية يستدعيها بروحه فتسطع روحها فيما يرسم.

بحساسية بالغة يدخل قاسم حداد إلى عقل فنسنت فان جوخ، ليقرأ أفكاره ويشعر بمشاعره وينصت لهواجسه ومخاوفه وآلامه. ثم يبثها لنا بقلب مفتوح وموضوعية وصدق جديرين بفنان كبير. وبينها أفكار فان جوخ عن الجنون الذي لم يحاول فان جوخ أن يدفعه عن نفسه كتهمة أو سبة بقدر ما حاول أن يوحي لنا أن الجنون في النهاية درجات، وأن أي مبدع حقيقي غالبا ما يتمتع بقدر ما من الجنون، مفرقا بين الجنون كمأزق إنساني ووسيلة من المجتمع لتقييد حرية المختلف مع عاداته، وبين الجنون كقدرة عقلية وطاقة هائلة على إنتاج الفن الذي يتقوت من الخيال، وليس من الواقع.

لا يترك قاسم حداد شيئا في ذهن أو حياة فان جوخ دون أن يعرج عليها، وبينها علاقته بالقراءة وبالكتاب الذين يحبهم وشكسبير خصوصا، عن مأزق الحياة وقصرها مقابل رحلة الفن الطويلة لها وغيرها لا يمكن أن تغني عن قراءتها على النحو الذي جاءت عليه في هذا النص الفاتن الذي أزعم بيقين أنه نص فريد في المكتبة العربية لعصيانه على التصنيف ولما يضمه من معرفة، وما يقوم عليه من بحث وما يؤسسه من بلاغة جديدة.

قاسم حداد، سلمت يدك، على هذه التجربة الاستثنائية، يا سيدي!

الاتحاد- تاريخ النشر: الخميس 30 أبريل 2015