صياح داخلي عنيف

عناية جابر

غسان جوادفي اتجاه تحرر أكبر، يتقدم غسان جواد من الشعر إلى النثر. نثر منتظم وسلس في مجموعته الجديدة: «الحب لا يسكن الحب» عن «دار النهضة العربية» ونثر أكثر تقطعاً وأكثر كثافة نحو شكل أكثر فردية وإتقاناً وتركيباً.
القيمة هي الحب، في جديد الشاعر، والتأملات إنما تنصرف الى عجائب العشق، مشغولة بفنية معتنى بها، فالعشق كامن في المجموعة وأحد أسباب خصائص أسلوبها، والجمل بسيطة، وأحياناً شبه عرجاء ـ ما يمنحها جاذبية مضاعفة ـ: «الحجارة وظيفة/ وأنت لا تجيد تهشيم الهواء/ سلالة توتر تتناسل في جسمك/ لكنه كلام وحسب/ رجل عاد صباحاً/ قطف عن جسمها رغباته/ أودعها قليل حبه/ قالت غداً تبدأ دورتي الشهرية/ حبك لن ينمو».

النصوص التي استلهمها جواد من حالة حب، لا تحمل أثرا لأي انشغال ذهني قد يعيق الحالة. بالإضافة إلى الفنية، «فالحب لا يسكن الحب» هو في الواقع مؤلف وجداني، ومجموعة اعترافات مؤثرة وساخطة، وتبدو أكثر ما كتبه جواد اتقاداً ونضجاً، ويمكننا من وجهة النظر الجمالية، اعتبار المجموعة، عملاً انتقالياً. فالكتابة في دراما الداخل، أو دراما العشق، من أشق الكتابات وأكثرها مدعاة للحساسية العالية، مدعومة بخبرة التوليف والخبرة الفنية للشاعر.
خليط واسع من المشاعر، وصياح داخلي عنيف رغم النبرة الهادئة ظاهرياً. ثمة نوع من الترابط والتطور من نص او من قصيدة إلى أخرى، وثمة سيادة للغة الشعرية على اللغة المنطقية: «إفتح عينيك/ لست وحدك هنا/ لا تخف/ الأجساد قمصان ننزعها عند الحافة/ إنزع قميصك/ افتح عينيك على هذا العالم/ وتأكد انك لست سعيداً».

في خاصية النثر عند جواد، والأكثر تأثيراً ذلك العنف المستتر خلف الكلمات البريئة، العنف والنزق ونوبات اليأس التي تعكر صفو القصيدة، وتبعث الفوضى الجميلة في السطور: «ثمة ستارة بيضاء مربوطة على الدوام. واحدة مربوطة واخرى مسدلة. كأنني في مسرح عتيق. الستارة صفراء كوجه رجل لا ينام. لو ان لها رئة لاختنقت. أمر الى جانبها، تتنفس في وجهي دخاناً سميكاً. تلفحني بالغبار. الغبار أعتق من البشر». الجملة حيوية وموقعة، إيقاعها خاص غير خطابي ولا ينتمي الى التعويذات الرخوة التي تدرأ الضجر، وإنما سلسلة من النغمات العنيفة، ذات النهاية المقتضبة والدامغة. إن الشاعر هنا، يوجز وجعه، بأن يقطع الجمل، ويعطي نثره طابعاً مفاجئاً، ممزقاً، ولا يستبقي سوى الكلمات الدالة التي تجعل القصيدة مضغوطة ولاهثة.

نصوص جواد وقصائده تشيع فضاء مأزوماً، يقف فيه الإنسان المعاصر وحيداً ومنعزلاً في مجابهة قوى خفية، مسيطرة يلاحقه شعور جارف باللاجدوى واهتزاز الكينونة. تيمة الحب المشغولة في متن اغلب النصوص، تكفل التدفق والاسترسال والحوار الداخلي والمزج بين الحلم والواقع، ما أرخى في بعض المواضع رمزية خفيفة، تلطف العالم المادي المسكون بالسوداوية والرعب.

أيضاً، نصوص جواد النثرية، قريبة من أدب الاعترافات، لا سيما لجهة البوح، المنشغل بحركة الذات وعالمها وهواجسها وإحساسها باللاجدوى كأنما ينظر الشاعر إلى كتلة ضجر ضخمة ويدور حولها، فيرى من كل ناحية بعض ما رآه في «حياة» سابقة، والكثير مما لم يره. تكرار بعض الحالات عند جواد، لا يقود إلى التماثل بل إلى الاختلاف، وكلما أوغل القارئ في «الحب لا يسكن الحب» تتبدى له، على الرغم من الحركة الدائرية، وجوه الشاعر المتعددة وتناقضاته ورهافته ودفؤه عبر مشاهد تحفر في العمق، مستفيدة من الحلم، ومن «الضحك» مستثمرة دلالاتها لتشكيل عالم أقل مأساوية.


أقرأ أيضاً: