جمانة حداد
(لبنان)

جمانة حدادمئةٌ وخمسون شاعراً. مئةٌ وخمسون شاعراً انتحروا في القرن العشرين. مئةٌ وخمسون صرخوا (أو همسوا): ’كفى!‘، وسبقونا الى الضفّة الأخرى. على رؤوس أصابعهم عبروا، كي لا يوقظوا خوفهم فينتبه ويحول. على رؤوس أصابعم، لأنّ الحزن خفيفٌ هو الحزن الخفيف.
نعم. مئةٌ وخمسون، في القرن العشرين، انتحروا. مئةٌ وخمسون شاعراً وشاعرةً، من ثمانية وأربعين بلداً، من جهات الأرض الأربع، احتقروا، بعشرين لغة مختلفة، وباثنتي عشرة طريقة مختلفة، هذه الحياة "الانتحارية". مئةٌ وخمسون بطلاً وبطلةً ازدروا العروش كلها، الباطلة منها وغير الباطلة، وارتموا في الهاوية. (جبنٌ؟ شجاعةٌ؟ لا يهمّ. ارتموا).

*

ترى هل كان يهوذا أول منتحرٍ في تاريخ العالم الحديث؟ لستُ أدري. لكنه بالتأكيد أوّل منتحرٍ قرأتُ عنه في كتب الدين على مقاعد المدرسة، وأحببتُه. أحببتُ رومنطيقيته الخاسرة، وفروسيته المؤجلة، لكن المتجلية. أحببته معلَّقاً بأناقةٍ ونبلٍ على تلك الشجرة، وأحببتُ، على العشب تحته، نقودَ خيانته تلمع كرسالة وداع. أحببتُه رغم أن المعلّمات كنّ يقلن لنا بنبرةٍ تشبه الحقد كثيراً (لكنها ليست الحقد تماماً): "هذا رجلٌ غادرٌ، وقد نال ما يستحقّ". أجل أحببتُه. (جبانٌ؟ شجاعٌ؟ لا يهمّ. أحببتُه). ولو أُعطي لي، بسحر ساحرٍ، أن أغيّر قدره والتاريخ، لما غيّرتُ شيئاً. لقلتُ له: خنْ وانتحر من جديد يا يهوذا. خنْ وانتحر من جديد، والى ما لا نهاية.
عندما بدأ الشعراء المنتحرون ينادونني ويلفتون انتباهي تدريجاً، كان واضحاً بالنسبة إليَّ، ومنذ اللحظة الأولى، أنهم النماذج "العصرية" لهذا الـ"يهوذا": كيف لا، وكلّ واحد منهم "خائنٌ" على طريقته؟ كيف لا، وكل واحد منهم باع روحه لقاء "ثلاثين من فضّةٍ" ما؟ منهم من خان الحبّ ومنهم من خان الشعر. منهم من خان الجسد، ومنهم المنطق. لائحة خياناتهم أطول من أن ترد هنا، لكنهم جميعاً، جميعاً بلا استثناء، خانوا الحياة في المرتبة الأولى: "مَنْ لا يعرف ما هي الحياة، أنّى له أن يعرف الموت؟"، يسأل كونفوشيوس. أتراهم خانوا الحياة، وخانوا أنفسهم، كي "يعرفوا"؟
هل كان يهوذا حقاً أول منتحرٍ في تاريخ العالم الحديث، وهل كانت سافو أول شاعرةٍ منتحرة، مثلما تفيد بعض المراجع التي أتيح لي الاطلاع عليها على مرّ الوقت؟ لا أعلم. لكني، من إيما بوفاري ابنة فلوبير الى آنا كارينينا شيطانة تولستوي، ومن وورثر غوته الى اوفيليا شكسبير، ومن أبطال الأدب الى أبطال التاريخ (كليوباترا، هنيبعل...)، ومن أبطال التاريخ الى أبطال الخشبة والشاشة (كورت كوبين، ماريلين، داليدا، رومي شنايدر، سعاد حسني...)، وقعتُ في حبّ المنتحرين، "مرضى" الحياة، المنتقمين منها ومن أنفسهم، مراراً وتكراراً، وسرق هؤلاء قلبي عاماً وراء عام، صفحةً وراء صفحة، حادثةً وراء حادثة، الى غير رجعة.

*

مئةٌ وخمسون شاعراً في القرن العشرين انتحروا، إذاً، ووجدتُهم.
متى بدأ ذلك؟ وكيف؟ ولماذا؟ أنا نفسي لا أعرف. بزغوا جميعاً ذات غفوةٍ: ألفونسينا، فلاديمير، أميليا، بول، سيلفيا، تشيزاري، دانييل، خليل، نيلغون، جان بيار، أليخاندرا، جون، صفيّة، أتيلا، ريتيكا، تيسير، بيدرو، قاسم، كارين...الخ: بزغوا وجاؤوني في المنام. جاؤوني وخطفوني وصعقوني. صعقوني ودوّخوني وافترسوني. إلى المقلب الآخر سحبتني أطيافهم وقالت: "حان ليلنا فاذهبي وتجهّزي. انهضي من رقادكِ وأنهضينا. قد تعبنا من حياتنا السريّة، ومللنا الهيمان في وادي الظلال. دحرجي الحجر وابعثينا".

متى بدأ ذلك؟ وكيف؟ ولماذا؟ لا أعرف، أقول. جلّ ما أعرفه هو أننا نحن الشعراء محاطون بأشباحٍ يخاطبوننا سرّاً. أشباحٌ من كل نوع ولون وطبيعة. أحياناً يتمسّك هولاء بأكمامنا، يشدّونها كأطفالٍ صغار أضاعوا أمهّاتهم في الزحمة، ويطلبون منّا إعادتهم الى البيت. أشباحي أنا، "أطفالي" أنا، طوال السنوات الأربع الماضية، كانوا هؤلاء المنتحرين، "شهداء" الشعر، ربما، وشهداء أنفسهم خصوصاً.

جاؤوني، إذاً، وخطفوني وصعقوني. عذّبوني ودوّخوني وافترسوني. "انهضي"، هتفوا معاً بصوتٍ مكهرِب، فنهضتُ وطاردتُهم، واحداً واحداً، وواحدةً واحدة. طاردتُ قصائدهم طفولتهم أرضهم ابتساماتهم أوجاعهم استيهاماتهم هواجسهم عذاباتهم جهنماتهم جروحهم المفتوحة وغرفهم المغلقة. طاردتُهم وعشتُهم. عشتُهم ومتُّهم. مئة وخمسين مرّةً عشتُ، ومئة وخمسين مرّةً متُّ. ومراراً وكم شعرتُ بأني أنبش قبورهم بيديَّ. لا تصدّقون؟ تعالوا وانظروا: لمّا يزل بعض ذاك التراب المطيَّب عالقاً تحت أظافري...

عشتُ ومتُّ فعشتُ، لكني لن أروي حياتي وموتي ولا حياتي ها هنا. مَنْ يريد أن يعرفها، هذه الرواية، عليه أن يقرأ، قريباً، مجموعتي الشعرية الخامسة، "مرايا العابرات في المنام"، التي أحدس فيها شعرياً تجربتي مع اثنتي عشرة شاعرةً انتحرن باثنتي عشرة طريقة (هنّ للمناسبة الشاعرات اللواتي أفتتح بهنّ أبواب المدخل الى الأنطولوجيا).

في صوفيا عشتُ وفي واشنطن، في فيينا وفي بوينوس ايريس، في موسكو وأثينا ومكسيكو وهافانا، في بيروت وعمّان والقاهرة والجزائر، في ريو دي جينيرو عشتُ وفي ليما، في بروكسيل وفي برلين، في بيجينغ عشتُ وفي بودابست...

ومتُّ: بالرصاص متُّ بالحبل متُّ بالسكين متُّ بالحبوب متُّ بالمياه غرقاً متُّ تحت العجلات دهساً متُّ بالارتماء في الفراغ متُّ بالسمّ متُّ وبالكهرباء وبالغاز وبالمخدرات متُّ وباللهيب المفترس متُّ.

نابشةُ القبور أنا، قبور الشعراء المنتحرين.
مئةً وخمسين نعشاً فتحتُ، نعم،
والى مئةٍ وخمسين جهنّم نزلتُ.
مئةً وخمسين جثّةً أنعشتُ بماء الزهر،
ومئةً وخمسين شيطاناً روّضتُ.
مئةً وخمسين دمعةً رشفتُ
وبمئةٍ وخمسين ناراً احترقتُ.
مئةً وخمسين حكايةً حكيتُ،
ومئةً وخمسين مرّةً سألتُ، بحسرةٍ سألتُ، وقهراً، وعارفةً سألتُ:
لماذا ينتحر من ينتحر؟

* مقتطف من مقدّمةٍ طويلة لأنطولوجيا الشعراء المنتحرين في القرن العشرين ("سيجيء الموت وستكون له عيناك")، التي تصدر هذا الأسبوع عن "دار النهار" و"الدار العربية للعلوم".

www.joumanahaddad.com