محب جميل (مصر)

أدونيس في القاهرة

تحت عنوان «نحو خطاب ديني جديد»، قدّم صاحب «الثابت والمتحوّل» ندوة ضمن «معرض القاهرة للكتاب» أول من أمس، متوقفاً طويلاً عند الأفكار والقطائع التي حدثت في القرن الثامن الميلادي. اعتبرها «مهيار» أكثر جرأة وعمقاً من الأطروحات المعاصرة اليوم، حيث «لا نجد شاعراً خلق لغة خاصة بالمدينة كما فعل أبو نواس، ولا في شعرية اللغة وعلاقتها بالأشياء والعالم كما فعل أبو تمام، أو في الموروث الديني والاجتماعي العربي كما أبي العلاء المعري »
إذا ذهبت مصر، ذهب العرب» بهذه الكلمات افتتح الشاعر أدونيس ندوته ضمن «معرض القاهرة الدولي للكتاب» أول من أمس . صاحب «الثابت والمتحول» الذي اختار على مدار حياته الثقافية أن يطل علينا من نافذتي الشاعر والمفكر، آثر هذه المرة أن يبدأ من النافذة الثانية، فالندوة التي أدارها رئيس «الهيئة المصرية العامة للكتاب» أحمد مجاهد حملت عنوان «نحو خطاب ديني جديد ».
في البدء، دخل صاحب «مفرد بصيغة الجمع» إلى الإنجازات التي حقّقها المبدعون العرب في كل الميادين. قال: «شخصياً أقول إن الحداثة العربية ليست حاضرة معنا، وليست أمامنا وإنما خلفنا. ولذلك، فإن الأطروحات والأفكار والقطائع التي حدثت في القرن الثامن الميلادي أكثر جرأة وعمقاً من الأطروحات المعاصرة اليوم. وبالتالي لا نجد شاعراً خلق لغة خاصة بالمدينة وطباعها كما فعل أبو نواس، ولا في شعرية اللغة وعلاقتها بالأشياء والعالم كما فعل أبو تمام، أو في الموروث الديني والاجتماعي العربي كما حدث عند أبي العلاء المعري .
هذه أمثلة فقط، وفي مجالات أخرى يُمكن أن نجد تجربة المتصوفين، وكذلك ابن خلدون في مقدمته بخصوص علم الاجتماع». وتابع: «حداثتنا العربية خلفنا اليوم وليست أمامنا، إلا إذا غيّرنا مسار التفكير والعمل معاً. والسؤال: كيف حدثت هذه المنجزات في الماضي ولم تحدث في الوقت الحاضر؟ لا يُمكن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة إلا بإحداث قطائع معرفية وجمالية كما حدث في العصر العباسي، وهذا لم يحدث اليوم داخل الانقلابات المعرفية الكبرى في القرنين الأخيرين ».
الإرهاب الذي نشاهده اليوم
ليس إلا تنويعاً جديداً على قضايا الإرهاب القديم (أدونيس (

ورأى أنّ كل تأويل هو تقويل للنص. وبالتالي، فإن أي نص مهما كان عظيماً، إذا مرّ في عقل صغير، فإنّه يصغر، وإذا مر في عقل كبير، فيكبر. كما توقف عند التأويلات التي حدثت في الثقافة العربية وفي الأفق الديني. وبالتالي «تم اختصار النصّ القرآني بالـ150 آية المتعلقة فقط بالنكاح والشرع والطقوس الدينية. أما الآيات الأخرى التي تتعلق بالتعقل والتفكير فليست موجودة، ولا نستغرب إذن أننا لا نجد بين المليار ونصف المليار نسمة مفكراً واحداً أو شاعراً واحداً أو فيلسوفاً عظيماً .
نجد فقط فقاعات تقلد مفكرين كباراً يمكن أن نضعهم إلى جوار جان بول سارتر وغيره». وتوقف عند أبي نواس الذي «جدّد لأنه خلق لغة للمدينة توازي لغة البداوة، وأبي تمام الذي غيّر علاقة الكلمة بالأشياء حولها، والمعري الذي بحث في الشك والتساؤل. ثقافياً، لا نزال في الامبراطورية العربية الإسلامية؛ حيث ثقافة الغزوات والفتوحات. لكن الإنسان العربي اليوم لم يعد يكتفي بالتسامح. فالإنسان لا يريده بل يريد التساوي مع الآخر، والإنسان العربي يرفض اليوم التسامح وإقامة العدالة التي تفترضها المساواة. نحن نعيش ثقافة القرون الوسطى، كأن يُقال هذا إسلام صحيح وهذا غير صحيح. قد يكون هناك مسلمون معتدلون أو متطرفون، لكن الإسلام واحد .
هذه اللغة أوصلتنا اليوم إلى ما يُسمى العنف والتكفير. وبالتالي أصبح النقاش حول الخطأ والصواب هو اللغة السائدة. الحقيقة دائماً هجوم وليست دفاعاً. نحن نترك للمتطرفين أن يقوموا بالهجوم، ونكتفي نحن بالدفاع ».
وتساءل: «ما هو المشروع العربي اليوم للوقوف في وجه التطرف الديني؟ وماذا تُقدم الأنظمة التي تتنازع في ما بينها ضد هذا المشروع؟ السؤال ماذا نعمل إذن؟». وأردف أنّ مصر وسوريا والعراق أسهمت في صنع الحضارة البشرية. ولذلك «نحن الآن مساءلون أمام الآخر. ولا أتجرأ على وصف الصورة التي يصفون بها الإسلام في العالم الآن. في السطح يقولون إن هذا لا يعبر عن الإسلام في شيء. أما في الحقيقة فالواقع غير ذلك». وأشار إلى أنّ «الإرهاب الذي نشاهده اليوم، ليس إلا تنويعاً جديداً على قضايا الإرهاب القديم. تاريخنا دائماً هو تاريخ السلطة، وهذه السلطة تفكر دائماً في الحفاظ على الحكم. من منكم قرأ تاريخ العرب، وكيف عاشوا في بغداد في القرن الثالث الهجري أو دمشق؟ ببساطة لا أحد. تاريخ الحروب التي تقوم بها السلطات، هو السائد دوماً .
ولذلك لا يُمكن أن نرى حاضرنا إلا إذا درسنا الماضي». وتساءل «مهيار»: «من منكم يتصور أن التراث الأشمل عن الشخصية العربية هو الشعر؟ وليس هناك كتاب واحد بعد 14 قرناً يدرس جمالية الشعر العربي وما كتبه القاضي الجرجاني كان عن جمالية النص القرآني لا الشعر .
نحن عندنا فقر في النقد العربي، وليس لدينا عقل نقدي. كما إننا جماعات تعيش على ما يقوله السلف. في كل منا شخصيتان؛ نأكل ونلبس ونشتري ونعيش، لكننا نرفض رفضاً باتاً تلك الأسس العلمية التي أدت إلى هذه الاكتشافات. نعيش في عالم ونفكر في عالم آخر. نحن شعب منشطر الشخصية. الآخر هو المخطئ دوماً، ولا أحد يبدأ بنفسه. ولذلك، ليس عندنا أدب اعترافات .
الثورة الحقيقية أن نثور أولاً على أنفسنا». وتابع: «أنا أكره الوعظ والتعاليم والإرشادات، أعظم معلم للانسان إذا كان صادقاً مع نفسه، هو نفسه . كما أن الثقافة العربية السائدة لا تعلم سوى الكذب والنفاق والرياء. إذا كانت الثقافة لا تستطيع أن تقول الحقيقة، فلا معنى لها، وهذه هي حال الثقافة العربية التي لا تبحث ولا تسأل. إنها فقط وظيفية، وبالتالي لا دور للمثقف .
وإذا كان هناك دور للمثقف، لكان علي عبد الرازق أو محمد عبده أو طه حسين في المقدمة. لا يوجد أسهل من النقد والهدم كما أفعل الآن، وما لم نؤسس لقطيعة معرفية كاملة، فلن نستطيع أن نفعل شيئاً». وأجمل أدونيس مشروعه في نقاط عدة أولها «القطيعة مع القراءة السائدة للدين. ما دام التدين فردياً، فأنا مسؤول عن الدفاع عنه، ولكن أن يفرض على المتدين طريقة حياته ومعيشته وثقافته، فهنا أنا لست معه». وأكد أن الإسلام رسالة لا دولة: «إذا كان الإسلام دولة، فهذا سيؤدي الى العنف، ويتحول الدين من أفق روحي معرفي إلى قمع وسجَّان. ولا اعتقد أن الرسالات السماوية نزلت لتقييد البشر بل لتحريرهم. الرسول تحدث في كل الأشياء وأكثرها خصوصية، ولم يتحدث عن الإسلام كدولة، وإذا كنّا حريصين على الدولة نفسها، يجب أن تكون هناك جبهة علمانية على مستوى الوطن العربي تؤسّس لقيم وثقافات جديدة، وتحرير الثقافة العربية من الوظيفية إلى المزيد من الحرية والمعرفة وافتتاح الآفاق. أما النقطة الأخيرة فهي لا مفر لنا من الديموقراطية، فبدونها لا حرية أو حقوقاً أو مساواة ».

الاخبار- العدد ٢٥١٢ الجمعة ٦ شباط ٢٠١٥



أدونيس: ليس لدينا فيلسوف بل آلاف الفقهاء!

محمد شعير (مصر)

أدونيس في القاهرة، زيارة رسمية بعد انقطاع طويل، كما أنه لم يشارك في ندوات معرض القاهرة منذ المرة الأخيرة في نهاية التسعينيات.. رفض صاحب «الثابت والمتحول» أن يلقي شعرا، وفضل أن يتحدث تحت عنوان «نحو خطاب ديني جديد». وهي القضية الرئيسة التى دارت حولها نقاشات المعرض في دورته الأخيرة.

قدم اللقاء أحمد مجاهد رئيس هيئة الكتاب الذي أشار إلى أن أدونيس: «اعتاد أن يُطل علينا من شُرفتين، الأولى هي شرفة الشعر، أما الشُرفة الثانية التي يُطل علينا من خلالها، فهي شُرفة التجديد الفكري، الذي يتأمل منها شؤون الثقافة العربية كلها»... وأضاف: «قد اختار أدونيس أن يُطل علينا اليوم من هذه الشرفة، شرفة المُفكر».

قال أدونيس: سأقول لكم بعض الأفكار والرؤى التى ربما تعرفون منها شيئًا من خلال كتاباتي وأعمالي السابقة، ولكني أحب أن أكرر بعضها في مثل هذه اللقاءات وفي مثل هذه المراحل التاريخية الفاصلة».. كرر إذاً أدونيس أفكاره القديمة متعمدا كما يقول، ربما لتأكيدها: «سريعا ورغم كل الإنجازات التي حققها الكتّاب والمبدعون العرب في كل الميادين، شخصيًا أقول إن الحداثة العربية ليست حاضرة معنا وليست أمامنا، وإنما الحداثة هي خلف ظهورنا. فالأطروحات والأفكار التي حدثت في القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي، وخاصة في بغداد، أكثر جرأة وأكثر عمقًا وأكثر جذرية من أطروحتنا المعاصرة اليوم، فلا نجد شاعرًا خلق لغة كاملة للمدينة كما فعل أبو نواس، لا نجد شاعرًا أعاد النظر في شعرية اللغة وفي علاقتها بالأشياء وبالعالم كما نجد عند أبو تمام، لا نجد شاعرًا أعاد النظر في الموروث الديني والموروث الاجتماعي العربي كما نجد عند أبي العلاء المعري، هذه أمثلة فقط وثمة أشياء أخرى من الممكن أن تعطينا أمثلة كثيرة».

ولفت أدونيس إلى أننا لا نجد تجربة فذة مثل تجربة المتصوفين، ولا نجد تأريخًا عظيمًا كما نجد عند ابن خلدون، في مقدمته الشهيرة في كل ما يتعلق بعلم الاجتماع، هذا كله يجعلني أقول وأكرر ان حداثتنا العربية هي وراء ظهورنا وليست معنا اليوم وليست أمامنا، إلا إذا غيّرنا مسار تفكيرنا وعملنا.

يسأل أدونيس: «كيف حدثت هذه المنجزات الكبرى في الماضي ولم تحدث في الحاضر؟ والجواب بسيط هو أنه لا يمكن التجديد والانتقال من مرحلة لمرحلة إلا بإحداث قطائع معرفية وقطائع جمالية. ومثل هذه القطائع حدثت في العصر العباسي على وجه خاص لكنها لم تحدث عندنا حتى اليوم بالشكل الذي تفترضه الحداثة العربية داخل الانقلابات المعرفية الكبرى، وذلك على الرغم من حدوث هزات معرفية وفكرية عنيفة في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين!».

وأوضح أن هناك إمكانية للتجديد والتأويل في الدين، وأنتم تعرفون قصة التأويل في التراث العربي، ولعلكم تعرفون القراءات والتأويلات التي حدثت في الثقافة العربية وخاصة في إطار الأفق الديني.. والآن يختصر ويختزل هذا التأويل القرآن الكريم إلى مئة وخمسين آية فقط، وهي التي تتعلق بأمور النكاح والفرائض والطقوس الدينية، غافلين عن جميع الآيات الأخرى المتعلقة بالتدبر في الكون وخلق السموات والأرض وخلق مناهج جديدة، وكان النص القرآني غير موجود في هذه المجالات إطلاقًا؟!

تجديد
وأضاف: «لا استغراب أو دهشة إذاً إذا لم نجد مفكرًا أو شاعرًا أو نجد فيلسوفًا! لكننا على الطرف الآخر نجد لنا مئات بل آلاف الفقهاء، الذين ليس لديهم أي تجديد ولا ابتكار». وأضاف: «لا تجديد إلا بالمقاطعة، فأبو نواس جدد حينما قاطع لغة البادية، وكذلك حدث مع أبو تمام والمعري فكل منهما استطاع أن يصنع عالمًا جديدًا قائماً على الإبداع والابتكار لا على التقليد، فإذا كنا صادقين في نياتنا للتجديد فعلينا أن نقوم بمثل هذه القطائع في جميع الميادين، فنحن لا نزال ثقافيًا نعيش في ثقافة الإمبراطورية العربية الإسلامية، والتي قامت على ثقافة الغزو والفتوحات».

وتساءل: «ما هو المشروع العربي اليوم للوقوف في وجه التطرف الديني، وماذا قدمت الأنظمة التي تتناقض في ما بينها ولا يجمعها سوى أنها تقف على شاطئ واحد لمقاومة التطرف؟! والمتطرفون كداعش وجماعة النصرة الإسلامية وغيرها لم ينزلوا في قفة من السماء فجأة بل هم استمرار لتاريخ طويل من العنف. وذلك لأن تاريخنا دائمًا هو تاريخ السلطة، والسلطة العربية لم تفكر يومًا ما في المجتمع بل فكرت في الحفاظ على السلطة العربية فقط على مدار كل السلطات العربية بلا استثناء، من منكم قرأ ذات يوم تاريخاً للشعب، أين تاريخ الشعوب؟!». وأوضح: «هل تتصورون مثلاً أن التراث الأعظم والأكثر تعبيرًا عن الشخصية العربية وهو الشعر لا يوجد كتاب واحد يدرس جمالياته على مدار 14 قرنًا من الزمان، وما كتبه الجرجاني في هذا الشأن وأخذه عنه الباحثون بعد ذلك لم يكن عن الشعر بل عن جماليات الأسلوب القرآني، هذا هو حال تراثنا الأكبر، ليس هناك عقل نقدي».

ورأى أن «الشعوب العربية منشطرة الشخصية ولذلك فلا نجد لدينا من ضمن أنواع الأدب العربي ما يُعرف باسم أدب الاعترافات، لأن العربي توجد في مخيلته ثقافة راسخة تؤكد أنه يولد ويكبر ويموت معصومًا عن الخطأ، وأن المخطئ دائمًا هو الآخر. إن الثقافة العربية اليوم أميل إلى أن أسميها ظاهرة تقليدية أكثر من كونها ظاهرة بحثية تدعو لفتح مجال جديد للعلم والثقافة والمعرفة. فالثورة الحقيقة أن نثور أولًا على أنفسنا وبعدها نبدأ في الثورة على الآخرين، وإذا لم نفعل ذلك فسنظل ندور في حلقة مفرغة يأكل بعضنا فيها بعضًا».

مشروع إصلاحي
وأكد أدونيس أن الثقافة العربية السائدة هي ثقافة لا تعلم إلا الكذب والنفاق والرياء، فإذا كانت الرقابة في المجتمع العربي جزءاً عضوياً من الثقافة العربية وليست فقط رقابة أهل السلطة، فرقابة أهل السلطة جزء من الرقابة الاجتماعية والسياسية، فأنا لا أستطيع أن أقول كل ما أفكر فيه، وإذا قلته في قاعة كهذه لا أستطيع أن أقوله كله، وهذا يؤكد أن الثقافة العربية لا معنى لها فهي ثقافة وظيفية لا ثقافة بحث واكتشاف، كلنا موظفون في ثقافة سائدة.
وفى الختام أكد أدونيس أنه صاغ مشروعاً للإصلاح من نقاط أربع:

النقطة الأولى، هي أننا في حاجة إلى قطيعة كاملة مع هذا النوع من القراءات السائدة للدين والتي تحوّل النص الديني الذي هو نص رحمة ومحبة وسعادة للبشرية إلى نص عنف، إلى جلاد، ومع احترامي الكامل للمتدينين فنحن في حاجة إلى قراءة جديدة للنصوص الدينية.
النقطة الثانية، إذا كنا بالفعل نرغب في تغيير السلطة والمجتمع معًا فيجب أن ننشئ جبهة علمانية على مستوى الوطن العربي، تعمل على إعادة قراءة الموروث وتؤسس لمجتمع جديد قائم على المعرفة والفكر المتجدد.

النقطة الثالثة: علينا أن نحرر ثقافتنا من القيود المفروضة عليها، فقد وضعنا كل شيء من أجل الثقافة وتناسينا أن الثقافة هي من أجل الحرية وفتح الآفاق.
النقطة الرابعة والأخيرة، هي الديموقراطية التي لا مفر منها، فبدون الديموقراطية لا حرية ولا حقوق ولا مساواة، فالمواطنة القائمة على علمنة المؤسسات هي ما تستحق أن نناضل من أجله.

السفير- 9 فبراير 2015