الشعر العربي و الإحساس العميق بالعالم

نور الدين محقق
(المغرب)

تحية شعرية أولى في هذا الفضاء الذي يحمل اسم شاعر مغربي هو محمد الحبيب الفرقاني ، والذي من بين دواوينه ديوان " نجوم في يدي". هذه النجوم التي سنرى أنها ستمتد إلى ما نهاية، فهي تظهر حتى في النهار، لتعبر عن الشعر الحقيقي في اطلاقيته ووهجه الذي لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد . وتحية شعرية مرة ثانية في هذا الزمان اليومي الذي نلتقي فيه هنا والآن، بالشعر في تجلياته البهية عبر أصوات شعرية عميقة وبعيدة الأمداء .

هذا الشعر الذي ما هو إلا نشيد عميق يمتد من الذات الشاعرة ليصل إليها والى العالم المحيط بها في نفس الآن ،كما هو نشيد البجع ، وليشكل من ندرته الهائلة التي لا تحد إلا بالعين الثالثة ولا تسمع إلا بالأذن الوجدانية الداخلية . الشعر يتحول هنا بتعبير شاعرنا المغربي محمد بن طلحة ، يتحول من شدة عمقه إلى " قليلا أكثر" . الشعر هنا صوت أورفيوسي ، موغل في العمق الذاتي في أبعاده المتفردة . إنه " مفرد بصيغة الجمع" على حد تعبير الشاعر أدونيس ، انعطافة إحساس قوي بالوجود ولحظة تأمل في نبض أنباضه .

في هذه اللحظة الشعرية بامتياز سننصت جميعا إلى نبض الشعر ، وهو يترقرق صافيا في دواوين وقصائد الشاعر محمد بن طلحة . الشاعر الذي لا يستريح إلا عن طريق التجدد المستمر. الشاعر الذي يفكك اللغة عبر صور مرآوية تتعدد دلالاتها بتعددية الرؤى المنبعثة إليها ، والذي حفر بصبر وبصمت أيضا آباره الشعرية الملأى بالماء ، بتأمل المتوحد في عزلته الذهبية و بعمق المتفرد بصحبة الكلمات . هذا الشاعر الذي أحب البجع وغنى نشيده إليها، كما استمع إليها في نشيدها وهي تقدمه إليه في محبة متبادلة. يرسم الشاعر محمد بن طلحة لوحات شعرية غاية في الجمالية المفتونة بذاتها والفاتنة للآخر ، من خلال الغوص العميق في ثنايا الأشياء ، بدءا من القبض على اللحظات الهاربة ومحاولة تحويلها إلى استمرارية شعرية تتجاوز اليومي المنفلت لتؤسس لها مكانا في الآتي ، المرئي واللامرئي في ذات الآن . وهو حتى و إن أعلن في أحد دواوينه بأنه " بعكس الماء" فإن قصائده ملأى به ، حيث تتدفق ماء شعريا عذبا زلالا بتعبير الشاعر أبي الطيب المتنبي .

أترككم اللحظة مع الشاعر المغربي البهي محمد بن طلحة ، الذي قدم للشعر في كليته ولقرائه في العالم أجمع ، مجموعة من الدواوين الشعرية هي " نشيد البجع" ، " غيمة أو حجر" ، " سدوم" ،
" بعكس الماء"، و" قليلا أكثر" دون أن ننسى ديوانه الجامع " ليتني أعمى "، وليتفضل مشكورا.

( يقدم الشاعر محمد بن طلحة قراءات شعرية)
بعد هذا الشعر الجميل الأخاذ نتوقف عند شاعر آخر ، عميقا في رؤيته وبعيد التخييل في رؤياه . هو الآخر ، يفتتح الدهشة ويفتش عن المطر ، ويوقظ جسده بوصلة الأعماق ، على حد تعبيره الشعري الجميل .انه الشاعر زهير أبو شايب، الذي بالصدفة جعل المطر المضيء مظلته الأولى ، وكتب شعرا مدهشا بعمق بساطته ، وبغوصها الفاتن في ثنايا الأشياء ، هذا الغوص الذاهب إلى أقاصي الذات والباحث عن الصور في ثنايا المرايا الشعرية . يقول عنه الشاعر عبد العزيز المقالح ما يلي : " في شعر زهير ما يدهش ويرج الروح ، لغة ناصعة ، وغنائية هادئة، شديدة العذوبة " .وأقول عنه ، أي الشعر الذي يكتبه وينكتب به، إنه شعر ينحث كلماته من كلماته ، ويعيد بناءه انطلاقا منها ، مولدا من خلال ذلك كله، دلالات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد ، محققة قوة تصويرية مضاعفة لما هو متحقق أو على وشك التحقق . هذا الشعر الذي يدفع اللغة إلى إعلان توهجها الدائم، والى تقديم هذا التوهج عبر تكثيف الصور التعبيرية واحدة تلو الأخرى |، مبنى ومعنى.
الكلمة الآن للشاعر الفلسطيني المتميز زهير أبو شايب ، الذي قدم للشعر هو الآخر بكل شغف وتألق، مجموعة من الدواوين الشعرية التي نذكر منها هنا : " جغرافيا الريح والأسئلة" ، " دفتر الأحوال والمقامات" ، " سيرة العشب" ،فليتفضل مشكورا للقبض على بعض أطيافه الهاربة .

(يقدم الشاعر زهير أبو شايب قراءات شعرية )
في هذا الطريق الشعري الجميل بتنوعه وغناه ، والمتميز بعمق التخييل وصدق التجربة الفنية ، والقدرة على التعبير عنها بالكلمات ، تلك الكلمات التي يكتب بها الشعر، على حد تعبير الشاعر الفرنسي مالارمي، نلتقي بشاعر آخر ، كما أورفيوس تماما، صفير القصب يتبعه أنى حل وارتحل، لأنه يحمل ناي الشعر، و ينفخ فيه من نفسه ، فتأتي القصيدة معبرة عن الذات الشاعرة فيه ، كأبدع ما يكون التعبير الشعري . إنه الشاعر محمد بودويك الذي عانق جراح الشعر، وقدم لها القرابين ، في محراب الكلم الصادق ، فجاء شعره مليئا بالأبعاد الرمزية ومعبرا عن الذات الشاعرة في تعدديتها المتفردة بالتوحد وبالحس الإنساني العميق . ومن خلالها استعاد الطفولة وألقها وبحث عن سر التفاصيل المعبرة عن دهشة الرؤية إلى كينونة الأشياء ، وتتبع المحبة وعبر عنها بعمق شعري باذخ .
لتكن هذه اللحظة إذن مع الشاعر المغربي المتألق محمد بودويك الذي أبدع مجموعة من الدواوين الشعرية، نذكر منها هنا " جراح دلمون" ، يتبعني صفير القصب" ،" قرابين" و " مركبة السنجاب". و " امرأة لا تحصى"، فليتفضل مشكورا لتقديم بعض أشعاره.

(يقدم الشاعر محمد بودويك قراءات شعرية)
و إذا كانت الدهشة تحقق بنية التوتر لدى المتلقي وتدفعه للاستماع بعمق إلى نبض قصائد الشعراء ، ليجد متعته الوجدانية والفكرية في ذات الآن ، في هذه الكلمات التي تعيد للكلمات ألقها الأولى الحقيقي ، وإذا كانت الدهشة تثير الانتباه دوما ، فإن الشاعر عادل محمود يدعونا إلى الانتباه إلى أهمية التفاصيل الصغيرة في الحياة ، يدعونا إلى " الانتباه إلى ربما" حسب عنوان أحد دواوينه الشعرية . شاعر عميق في رؤيته للوجود ، يعلن المحبة على الناس ، ويشيد شعره انطلاقا منها . يقول عنه الناقد حسين بن حمزة ما يلي: " قد لا يبدو عادل محمود أكثر من شاعر حب بالمعنى العميق للكلمة. الحب بطل قصائد كثيرة في مجموعاته الشعرية كلها. حب ممزوج بطبيعة ريفية وساحلية أصيلة مستدرجة من طفولته وأمكنته الأولى، مضافا إليها هنا وهناك نتف ومعان من مدن مستعبدة ومتغيرة مع التقدم في السن والتجربة والحياة".
فلننصت إلى هذا الشاعر السوري المتألق عادل محمود الذي قدم في محراب الإبداع الشعري ،مجموعة من الدواوين الشعرية التي نذكر منها هنا "قمصان زرقاء للجثث الفاخرة" ، ضفتاه من حجر" ، مسودات عن العالم " ، " استعارة المكان" ، " حزن معصوم عن الخطأ " و" انتبه إلى ربما" .
فليتفضل مشكورا لتقديم بعض أشعاره .

( يقدم الشاعر عادل محمود قراءات شعرية )
هكذا يأخذ الشعر مجراه الطبيعي ويتتبع صدى الأيام المنفلتة ، ويقبض على التفاصيل الصغيرة ليجعل منها مرآة أورفيوسية عميقة ، الناظر إليها تتراءى له صورها قوية التعبير وشديدة الإيحاء بالعمق . وهو الأمر الذي نجده في قصائد الشاعر نور الدين بالطيب، الذي استطاع أن يشق طريقا شعريا متفردا بالخصوصية، وأن يحقق بالتالي تواجدا لافتا في محراب الكلم الشعري. شاعر يعلن تحية الصباح والمساء على باعة الجرائد وعلى السياح وعلى الصبايا الجميلات وعلى النساء العابرات في الحلم كما في الحياة .
الآن مع الشاعر التونسي البهي نور الدين بالطيب الذي أبدع في ميدان الشعر مجموعة من الدواوين الشعرية التي نذكر منها هنا " أمطار الصيف" ، " أنت أيتها العزلة" ، "قصائد متوحشة" ، " كعشبة في الرمال" و " كتاب القصائد". فليتفضل مشكورا لتقديم بعض أشعاره .

( يقدم الشاعر نور الدين بالطيب قراءات شعرية)
هكذا تأتي جلسة الشعر على نهايتها هنا لتبدأ مرة أخرى هنا أيضا أو في مكان آخر حتى ، فالشعر رفيق الوجود و سيد التعابير الملأى بالحياة. الشعر بوتقة الحياة الماضية والحاضرة والآتية ...شكرا لكم جميعا وشكرا للشعراء الذي سعدنا بالاستماع إليهم والاستمتاع بأشعارهم جميعا. شكرا .

*الورقة التقديمية للقراءات الشعرية التي قام بها كل من الشعراء محمد بن طلحة ، زهير أبو شايب، محمد بودويك، عادل محمود و نور الدين بالطيب يوم السبت 14/2/2009 بالمعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء. المغرب.