(في ذكرى رحيل سعد الله ونوس)

بيار أبي صعب
(لبنان)

سعد الله ونوسفي 15 أيار (مايو) 1997، انسحب سعد الله ونوس بعد صراع مع المرض، تاركاً بصماته على تاريخ المسرح العربي الحديث. جمع صاحب «حفلة سمر» بين إلمام واسع بالتراث، وبين مواكبة حقيقية للمسرح العالمي بشتّى مدارسه واتجاهاته.

قبل عشر سنوات، خسر سعد الله ونّوس معركته الأخيرة... أغمض عينيه ومضى، تاركاً بلاده في قلب الدوامة، والأفكار التي آمن بها على محك التساؤل وإعادات النظر. أين هو المسرح البديل الذي عمل على بنائه هذا المسرحي السوري المجدد؟ ونّوس الذي دخل دائرة الضوء بعد النكسة بمسرحيّة شهيرة هي «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (1968)، خرج من الحلبة كما يليق بمحارب ساموراي، وقد انتهر العالم: «إننا محكومون بالأمل... وما يحدث لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ». إنه ينتمي إلى سلالة من المؤلفين المعاصرين ــــ بينهم يوسف إدريس، وكاتب ياسين، وألفريد فرج، وعصام محفوظ... ــــ الذين ميّزوا بين الأدب والمسرح، بين السرد والفعل، بين لغة الكتابة ولغة الحياة. أراد ونوس أن يخرج المسرح من خزانة الأدب، والفرد من قطيع الجماعة، والمتفرّج من سلبيّة المتلقّي إلى فعل الشريك الحقيقي في اللعبة المشهديّة. في احدى مقالاته النظريّة انتقد مسرح «التفريغ» لدى دريد لحّام، واضعاً في مقابله «مسرح التحريض» الذي يصدم المتفرّج، ويدفعه إلى الوعي بظروف استلابه السياسي وقهره الاجتماعي، كي ينتفض على أسباب الهزيمة.

يكاد ونّوس يكون مؤرّخ الهزائم العربيّة بامتياز... استعادها على طريقته من «حفلة سمر» إلى «طقوس الاشارات والتحوّلات» (1994) التي قدّمتها نضال الأشقر. فيها يعود بلغة المجاز إلى هزائم قديمة من تاريخنا، تاركاً للفرد أن يحتل مكانته الأساسيّة، ويتحمل مسؤوليته التاريخيّة، وهي من سمات مسرح ونّوس في مرحلته الأخيرة: الانتقال من الوعي الجماعي... إلى التمرّد الفردي. ينتمي هذا الكاتب إلى جيل آمن بالإصلاح واتخذه منهجاً، وقرن الفن بالالتزام، فانبرى لمواجهة مشاكل زمنه ومجتمعه، قضاياه الانسانية والوطنيّة. لكن همّه الاساسي كان البحث عن القوالب الفنية الملائمة، والأشكال البديلة التي تمهّد لتحوّل في مسار المسرح العربي... ولعل هذا الهاجس لم يفارقه، بدليل التحولات التي شهدها مسرحه بين السبعينات والتسعينات. صحيح أنّه «وضع المسرح في مواجهة الواقع، في عالم عربي يبحث عن نقاط ارتكاز ثقافية وتاريخية جديدة»، بتعبير علي الراعي، لكنه منذ البداية تعامل بحذر مع «المسرح السياسي»، مسرح التحريض والحشد والشعار واللفظ، داعياً في «بيانات من أجل مسرح عربي جديد» (1988) إلى مسرح «التسييس» الذي يوحّد الخشبة بالصالة، في علاقة تفاعليّة تفترض الحوار الحيّ، ومتعة الفرجة الشعبيّة... كان همّه الاساسي أن يقرب مسرحه من المتفرّج.
وإذا كان ونّوس غرف من التراث، في زمن مسكون بهمّ «تأصيل المسرح العربيط، فقد قدّمه من خلال قراءة نقديّة، مستحضراً الأمثولة البريختيّة القائمة على التغريب، تاركاً مسافة نقدية بين الحدث والمتلقي. هذا ما فعله في «الفيل يا ملك الزمان» (1969)، «مغامرة رأس المملوك جابر» (1970)، و«سهرة مع أبي خليل القباني» (1972)، وصولاً إلى «الملك هو الملك» (1977)، و«رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة» (1978)، حيث تتخذ الحكاية الشعبية، بعداً جدلياً يغرف من تقنيات المسرح الملحمي. إنها أساسات «الاحتفاليّة» في المسرح العربي، التي ستعرف عصرها الذهبي في المغرب، مع الطيب الصديقي وعبد الكريم برشيد، وستبلغ أوجها مع عز الدين علّولة في الجزائر، وفرنسوا أو سالم («الحكواتي» الفلسطيني)، وطبعاً روجيه عسّاف («الحكواتي» اللبناني)...
وإضافة إلى احاطته بالتراث العربي، واكب ونوس كل المدارس والاتجاهات المعاصرة في المسرح الغربي... منذ أيام الدراسة الباريسية. لم يكن غريباً عن مسرح بيسكاتور السياسي، كما كان على إلمام دقيق بتجربة بيتر فايس صاحب «مارا ـــ ساد» في المسرح التسجيلي، من دون أن ننسى كل جماليات «المسرح داخل المسرح» وشكل «الارتجال» كذريعة دراميّة كما نقع عليهما في مسرح لويجي بيرندللو. وكلها انعكست في نصوصه. كما اكتشف في باريس «مسرح الشمس» وآريان منوشكين، هو الذي استعار أبرز شخصياته وأبطاله من القصص الشعبي والتراث، وتوسّل (مثل منوشكين أيام مسرحية 1789) المادة التاريخيّة لمقاربة الراهن السياسي.

في أواخر السبعينات (1978) صمت سعد الله ونّوس كما هو معروف عقداً كاملاً. كانت الأزمنة قد بدأت تتغيّر في اتجاه الانحطاط الذي نعيشه اليوم. راجع الكاتب تجربته، وحاول أن يفهم سر ذلك الأفق المسدود الذي يحاصر المسرح العربي، ومشاريعه البديلة، مثلما يحاصر الأحلام التقدميّة والطليعيّة الساعية إلى تحقيق الديموقراطيّة والتنمية والتطوّر. اكتشف ربّما أنه بقي كاتباً نخبوياً. لكن كيف يكون الكاتب المسرحي العربي غير ذلك؟ عندما سيعود الى الكتابة، سيكون جدد لغته ومصادره الإبداعيّة وأدواته الجماليّة... وراح يفرد حيزاً واسعاً لضمير المتكلّم على حساب ضمير الجماعة... عاد إلى الكتابة بعد رحيل شريك تجربته فواز الساجر، مع «الاغتصاب» (1989) التي قدمها جواد الأسدي وشكلت خطوة نوعيّة في مساره الابداعي. وتبعتها مسرحيات عدّة أبرزها «يوم من زماننا» (1993)، «منمنمات تاريخية» (1995)، «ملحمة السراب» (1995)، «بلاد أضيق من الحب» (1996)، الذي ضمنه كتابه «عن الذاكرة والموت»، وأخيراً «الأيام المخمورة» قبيل رحيله.

في تلك المرحلة التي كان يقاتل فيها المرض ــــ كمجاز عن اليأس السياسي والهزائم المتواصلة ــــ بدا ونوس أكثر عفوية وطلاقة في تصور البناء الفني والقالب الدرامي. وبدا مشغولاً ببلوغ أقصى درجات الصدق مع الذات، بعيداً عن جدران الايديولوجيا العازلة... وركّز بجرأة مفاجئة على المحظور الاخلاقي، والمسكوت عنه في المجتمعات العربية.
شباب آخر، شباب أخير... آخر انتفاضة في وجه اليأس والاحباط والموت، هو الذي طالما استل سلاح الكتابة في مواجهة الهزائم الفرديّة والجماعيّة، الذاتيّة والسياسيّة...

سيرة

ولد سعد الله ونوس في قرية حصين البحر في محافظة طرطوس عام 1941. درس الصحافة في القاهرة وتخرّج عام 1963، وعمل محرراً للصفحات الثقافية في صحيفتي «السفير» اللبنانية و«الثورة» السورية. كما عمل مديراً للهيئة العامة للمسرح والموسيقى في سوريا. في أواخر الستينيات، سافر إلى باريس ليدرس فنّ المسرح.
اكتنفت مسرحياته نقداً سياسياً اجتماعياً للواقع العربي بعد صدمة المثقفين إثر هزيمة 1967 وتوقف النقاد كثيراً عند مسرحيته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» التي اعتبرت نقطة تحول رائدة في المسرح الواقعي. في أواخر السبعينيات، أسهم ونوس بإنشاء المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق. كما أصدر مجلة «الحياة المسرحيّة»، وعمل رئيساً لتحريرها. من العام 1978 حتى 1988 اعتصم ونّوس، ليعود إلى الكتابة في أوائل التسعينيات.
توفي في 15 أيار (مايو) 1997، بعد صراع خمس سنوات مع مرض السرطان.
استسلم في يوم الذكرى الـ49 لنكبة فلسطين، رحل كي لا يشهد على احتفاء جديد بألمنا كما كان يردّد.

*

«كان موته أشبه بالخيانة» هكذا وصف سعد الله ونوس رحيل صديقه وشريكه في الحلم المسرحي فواز الساجر (1948ـــ 1988). فالمخرج السوري وجد فيه ونوس نصفه المسرحي الآخر. أسسا معاً فرقة المسرح التجريبي في دمشق لتكون انعطافة مهمة في تاريخ المسرح السوري بعروض لا تزال ماثلة في الذاكرة من «يوميات مجنون» إلى «سكان الكهف». النص كان أشبه بمرثية شخصية للساجر. يقول ونوس مستذكراً النقاشات الحادة التي جمعته بالساجر: «كان فواز يلح على مفهوم الحب، فيما ألححتُ على مفهوم الحرية. وما كان المفهومان يتعارضان، بل يتكاملان في حوار انقطع فجأة».

*

مزاجي جنائزي، سنبدأ حديثنا عن إسرائيل

في عام 1971، توجه عمر أميرالاي مع سعد الله ونوس إلى قرية سورية نائية تقع على تخوم نهر الفرات لإنجاز فيلم تسجيلي، بعيداً من النظرة الفولكلورية للريف. هكذا، كانت أول تجربة سينمائية سورية مشتركة لرصد الواقع كما هو. هناك، عاش الاثنان أشهراً لمعاينة الحياة الريفية عن كثب، فكان فيلم «الحياة اليومية في قرية سورية».
كان الشريط قاسياً ومؤلماً في تشريح واقع مهمل وفضحه على الملأ، فوجدت فيه الرقابة الرسمية خطاً أحمر. هكذا مُنع الشريط من العرض، لكنه بقي إحدى أبرز علامات السينما التسجيلية في سوريا حتى اليوم.

بعد سنوات طويلة، سيلتقي الصديقان مجدداً في ظرف مختلف: قبل رحيله بأشهر، وقف سعد الله ونّوس أمام عدسة عمر أميرالاي ليروي سيرته ومكابداته وشقاءه في مواجهة المرض العضال في فيلم «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء» (1996).
في هذا الشريط، طغى حديث الهزيمة والموت على ما عداهما. اللقطة الأولى أرادها أميرالاي أن تبدأ بحقن المصل في وريد سعد الله وهو شاخص يرقب تدفق القطرات في جسمه المنهك، إلى أن يأتي صوته ليكسر إيقاع الصمت: «مزاجي جنائزي، ليس بسبب المرض، بل بسبب أشياء كثيرة. سنبدأ حديثنا عن إسرائيل». هكذا يختلط لدى سعد الله ونّوس، الشخصي بالعام على الدوام، فتصير هزيمة حزيران 1967، هزيمة شخصية له. وكانت زيارة السادات إلى إسرائيل ذروة محنته: «في تلك الليلة أقدمت على محاولة انتحار جدية». وعندما وقعت حرب الخليج (1990)، عدّها صاحب «الاغتصاب» (1990)، الضربة الأخيرة الموجعة. ويقول معلّقاً «أشك معها في أنها كانت السبب المباشر لإصابتي بمرض السرطان، وليس مصادفة أن يبدأ الشعور بالإصابة بالورم أثناء الحرب والقصف الوحشي الأميركي على العراق».

في نهاية الفيلم، يطرح عمر أميرالاي وجعاً مشتركاً «سنموت في يوم ما وفينا العلة التي اسمها إسرائيل». يزفر مضيفاً «أعتقد أن جيلنا كله سيمضي إلى مثواه الأخير وفي رأسه ظلال هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة هي بالضبط علامة العمر الذي عاشه، لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهايته». ويستدرك أخيراً «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء».

محكومون بالعدم!
(شهادة: جواد الأسدي)

أتيتُ إلى دمشق مثل غجري، رمتني (صالحية) العراق إلى (صالحية) دمشق، وحيداً مثل حصان مرتبك ومكسور يبحث عن احتفالات العدم. حطّتني الأيام عند عتبات سعد الله ونوس، على مقربة من جمرة جروحه وعزلته الأكثر ضوءاً من جمهورية مفتونة بالكآبة، التقيته في غرفته بمسرح القباني. وقتها كنت أضربُ المجاديف في يوميات الفتوة والنزق، والبحث عن دروب اللذة في بروفات مسرحية طوفانية، وفي لغات لا تلتفت إلى الخلف. العراق بفراديسه صار أقرب إلى دكّات المذابح، وقبليات الأحزاب ووحشيتها تعلّق العراق بأساطيره وتعلّق جماليات شعره على مقصلة في الشوارع العامة.
هذا هو سعد الله ونوس بعينيه الدافئتين يضع يده على عباءة أمي، يزيح عن كتفها غبار الغرق وعن وجهها نيران التنور وبقايا إعدام ابنها بوحشية فريدة. قال لي بنبرته الحلوة: «يا جواد بيتي منذ اليوم بغدادك، ومسرح القباني بيت بروفاتك». ازدادت فتنتي بنصّه «رأس المملوك جابر»، حرصَ على حضور بروفاتي يومياً. طلاب المعهد العالي للمسرح يرتّبون أجنحة عالية الضربات، مع نص محتشد بالسرد والجمال العفوي. بعد سنة كاملة من البروفات، صنعنا احتفالاً بصرياً، أسعدَ سعد الله. وقتها وضعنا الأساس المهني المتين لشراكنا الروحية والفكرية. وسعد الله ونوس يندر أن تجد له مثيلاً في احتفائه بأصدقائه. كان مسكوناً بفتنة الحوار، واللهفة إلى الكشف.

بعد غيابه الظالم، توحلت علاقتي بالمدنيّة، تسبّب بوحشة لا مثيل لها على صعيد يومياتي بالمسرح. كأني فقدت عشيرة من الطيور المجروحة، بلاداً اختصرها اسمه. صرتُ أمشي في شوارع الشام مثل شجرة رماد. سعد الله لم يعد موجوداً، لا في مسرح القباني، ولا في فندق الشام، ولا في صخب الحوارات، هو ليس في بيته، تلفونه لا...
غاب الكاتب المتمدن، المدني، اغتصب نصّه «الاغتصاب» حفنة من الموتورين، كانت حملة أمّيةً شرسة انعكست على صيرورة إخراجي للنص. سعد الله كان دائماً يشكل هدفاً لمن يقرأونه بضيق أفق. لهذا، كان نادراً، حراً، فارساً يخترق زمانه بجدل فكري ناري. تبلور ذلك عبر مشروعه المسرحي. أمّا الإنسان، هذا السعد الله ثمرة الألفة، وردة الحنو، ضحكة التمرد، القلق، المتواري، الحاضر، الغائب، الوحيد، المستوحش. إنّه حصان الألفة. بروفات على الشغف. يرفع الستار، سعد الله يتقدم نحو المنصة. الجمهور يصفق. سعد الله يقرأ كلمة يوم المسرح العالمي. الجمهور يسكت. سعد الله يوغل في الكشف عن وجعه، الجمهور يتألم، سعد الله يطلق جملته: «محكومون بالأمل». أقول له الآن وهو محمول على مويجات «حصين البحر»، نعم نحن محكومون بالعدم.

الأخبار
الثلاثاء ١٥ أيار 2007


إقرأ أيضاً:-