رسالة أصيلة: عزت القمحاوي

الطريق إلي أصيلة محفوف بيوم كامل من اليقظة قبله وآخر من النوم بعد العودة، ذلك أن الرحلة من القاهرة تبدأ في الخامسة صباحا مما يعني بالنسبة لمدمني السهر ليلة سابقة من اليقظة، وعندما تحط الطائرة في الدار البيضاء في التاسعة من صباح المغرب يكون المسافر قد قطع فقط نصف الرحلة، حيث تقله طائرة أخري بفارق ثماني ساعات إلي طنجة بحيث لن يدخل المدينة الأطلسية الصغيرة أصيلة إلا في ليل آخر غير ذاك الذي غادر فيه القاهرة. وعقب رحلة كهذه يصبح من الحكمة التفكر قبل قرار جديد بالسفر، لكن نداهة أصيلة تنادي محبيها كل عام ليجدوا أنفسهم هكذا علي سهوة في أصيلة. نداهة تسكن مياه المحيط هي السر المختفي تحت الأسباب الأخرى التي يذهب المثقفون بسببها إلي أصيلة التي استضافت هذا العام نحو ثلاثمائة ضيف بين سياسيين ومفكرين شاركوا في ندوات سياسية عن العرب وأوروبا، العرب وأمريكا، أفريقيا والأحلام الضائعة وبين شعراء ونقاد شاركوا في تكريم قاسم حداد وعبد الكريم الطبال وبابلو نيرودا وبين فنانين تشكيليين وفرق فنية وموسيقية. وقد اخترت من أيام المهرجان ثلاثا حرصت فيها علي تغطية تكريم قاسم حداد وندوة أفريقيا، القارة المنسية حتي من أهلها!

لعلها أول التفاتة عربية كبيرة لشاعر فرد من جيل السبعينيات الشعري العربي هذه المبادرة التي جاءت من منتدى أصيلة لتكريم الشاعر البحريني قاسم حداد في ندوة تواصلت أعمالها علي مدار يوم وفي جلستين رأس أولاهما السوري صبحي حديدي والثانية المغربي بنعيسى بو حمالة. ولعلها لا تكون المبادرة الأخيرة، بل المفتتح مع هذا الجيل الذي استوي عوده واشتعلت رؤوس ممثليه شيبا وهم يمثلون الآن الرافد الأكبر للشعرية العربية.

استهل محمد بن عيسي، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، الندوة مرحبا بالشاعر مؤكدا علي أن الاحتفاء به يأتي في إطار العناية التي أولاها موسم أصيلة للشعر والشعراء منذ انطلاقته، من خلال جائزتي 'تشيكايا أوتامسي' وجائزة بلند الحيدري للشعراء الشباب، مؤكدا علي أن احتفاء منتدى أصيلة بالشعر والشعراء لم يكن سوي استجابة لما يستحقه الشعر في حياتنا، لذلك يكرس المنتدى جهوده ليظل الشعر حاضرا باستمرار.

شاعر تجربة

بعد المقدمة الاحتفائية في الجلسة الصباحية التي رأسها صبحي حديدي كان أول المتحدثين الناقد السعودي معجب الزهراني الذي أشار في البداية إلي أن الشاعر صرف جهدا كبيرا خلال مساره الشعري من أجل أنسنة الحياة.

واعتبر الزهراني قاسم حداد، شاعر تجربة بامتياز وهي الميزة التي وصلها بعد أن مر بمرحلة ما سماها شعرية النص، مشيرا إلي أن شعراء التجربة، بمعناها الفني والإنساني الشامل، قليلون في العالم العربي، تلك المرتبة الفنية ارتقاها الشاعر بالدأب والاجتهاد، فتحول الشعر عنده إلي ارتكاز وجودي ومعرفي في نفس الوقت.

وأشار الزهراني إلي سمة النضالية التي طبعت أعماله الأولي، والتي تجاوزها إلي محاورة الذات العميقة، مستكشفا مجاهلها ومناطقها المعتمة، لا يلعب بالعبارات بل يمارس بحثا شاقا ومضنيا في ذاكرة الكلمات وتخوم اللغة، ليلتقط ما هو قادر علي التعبير عن أعماق الذات الفردية والجماعية.

ورصد الزهراني ملمحا آخر في تجربة الشاعر المتطورة باستمرار، سماه الولع بقيم محددة مثل الحب والتمرد، البارزين في تجربته الخصبة، مما يؤشر في نظره، علي تمسك الشاعر بالحياة في أعمق معانيها، ملاحظا في نفس الوقت أن تجربة حداد الإبداعية لم تنل حظها بعد من الدراسة والبحث، معتبرا سيرته الذاتية 'ورشة الأمل' إحدى مفاتيح الدخول إلي أغوار تلك التجربة.

البحريني محمد البنكي توقف من جانبه أمام الكتاب ذاته علي ضرورة ألا يقتصر الاهتمام في ندوة التكريم، علي الشعر وحده، معتبرا كتاب 'ورشة الأمل' نصا نثريا مشتملا علي مجازات كبري ورصد البنكي تقنية السرد النثري لدي قاسم التي تندمج عنده في النص الشعري.

ووجه أمين صالح، شريك الشاعر في كتاب 'الجواشن' تحية رقيقة إلي صديقه ، مستعيدا ذكريات لقائهما الأول، معترفا أن أحدا لم يحب الآخر في البداية، فقد كان، صالح، في مطلع حياته الأدبية خجولا، بينما كان،حداد، قد حقق شهرة في ذلك الوقت. وذات ليلة التقي جمع من الأصدقاء في بيت قاسم الفقير، وفي لحظة انخرط هذا الأخير في البكاء بدون سبب، فران الصمت علي الجميع، وكبح كل واحد أسئلة في نفسه. ومنذ تلك اللحظة أحس، صالح، بانجذاب لم يتوقف نحو صديقه الشاعر الذي حاول أن يحصي في مداخلته الحميمية، بعض خصاله الإنسانية التي أجملها في العبارة التالية: 'أخطاؤه وشوائبه لا تحصي، لكن قاسم لا يخطئ أبدا في الحب'

في علاج المسافة

الناقد والشاعر المغربي بنعيسى بوحمالة، توقف أمام أحد دواوين قاسم حداد 'علاج المسافة' مؤكدا أن ¢الاشتغال الشعري في كتابة حداد يتجسد في مستويات فنية متعددة أبرزها الحاسة السينوغرافية القوية النابعة من عشق الشاعر للفنون التشكيلية، وشغفه بالرسم والتخطيط واستحضار صور الطبيعة الصحراوية والحيوان والنبات، لتشكل تلك العناصر كلها تكوينات تصب في الرؤية الكلية، إضافة إلي حضور الذات وضمير المتكلم في صورة أنا مركزية لا يمكن فصلها عن وشائج الشعر'.

و تتبع الناقد المصري محمد عبد المطلب مصطلح ( المخيلة ) لدي قاسم الذي ظهر عنده ابتداء من ديوان ¢عزلة الملكات¢ حيث ترد اللفظة باعتبارها اسم مفعول واسم فاعل، أداة إبداع وأداة تلق في ذات الوقت. وتناول حضور هذا المفهوم في الكتابة الشعرية والنثرية لدي حداد وأسباب ترددها بقوة في نثره وفي أشعاره المتأخرة، ملاحظا ان الشاعر حول المخيلة الى مؤسسة كاملة تجشرٌِع وتنفذ، فالحرف عنده خاضع للمخيلة خضوعا مطلقا، بشكل يؤدي الى الاحتفاء بالكلمة البكر، والي إحياء مفردات اللغة القديمة وتجديدها إلي حد يلغي سلطة الواقع ويجعل المخيلة تستحدث ما تشاء من كائنات ومكونات وفق شروطها. أما بخصوص الشكل فإن النص يفرض شكله عند حداد. وليس هناك من قداسة للشكل الذي أصبح ملكا للمخيلة.

سببان للحفاوة

الناقد السوري صبحي حديدي الذي جاء للمرة الأولي إلي أصيلة للاحتفاء بحداد تحدث عن أقدار الريادة وهواجس التجديد كاعتبارين موجبين للاحتفاء بهذا الشاعر الذي ارتبط بريادة التحديث في الشعر الخليجي المعاصر، وقام في هذا السياق بمهمتين أساسيتين: كتابة القصيدة المتطورة وربط مجهودات التحديث الأدبي في الخليج بمراكز التجديد العربية الأخرى في بيروت والقاهرة، بحيث تحول شخصه الى جسر ونافذة علي هذه المراكز. وقد تواشجت ريادة حداد الثقافية والاجتماعية مع جرأته علي انتهاك أعراف الكتابة في الخليج العربي، ولمواقفه الثقافية والسياسية المشهودة والمعروفة. كما ان مسيرته الإبداعية عرفت ديناميكية مستمرة التجدد حولته الى ما يشبه العلامة الثقافية الفارقة في المنطقة، وجعلت كل شعراء الخليج يقرون بريادته.

ويؤكد حديدي: 'لقد قام قاسم حداد باختراق أساسي بواسطة خطابه الشعري الذي انتهك وتجاوز التنميطات التقليدية للأدب الخليجي التي كانت تحصر إبداع المنطقة في نطاق 'أدب الصحراء'، الذي جعل منه البعض طوطما بالمعني الانتثروبولوجي، بحيث لا يمكن ان يفلت منه أي فرد. لكن الرموز الحاضرة بقوة في شعر حداد وخطاباته كانت رموزا متنوعة ينتمي جزء كبير منها للبيئة الحضرية، ويخترق التنميطات ليتحرر من عبء تمثيل النص الخليجي، ولينطلق في سيرورة تحديث لم يكن من هواجسها واجب تمثيل نمط أدبي معين'.

ويشير صبحي إلي تجارب شعراء من أمثال عبد الرحمن الرفيع وعبد الله خليفة وعلوي الهاشمي ممن أسهموا مباشرة في صياغة النص الشعري الحديث في البحرين، علي أن تجربة قاسم كانت نسيجا وحدها من حيث ما حققته من تجاوب عميق مع حركة التحديث في المراكز واعتماده علي قصيدة التفعيلة منذ البداية وقصيدة النثر في المراحل اللاحقة.
ويضيف حديدي سيرة الشخص الذي واصل كتابة القصائد المقاومة من داخل السجن إلي سيرة النص مما يرفعه من مستوي الرائد التحديثي إلي مستوي العلامة الثقافية المقاومة.

وبعد هذه التحية التي تقتضيها المناسبة التكريمية توقف حديدي مطولا أمام تقنيات الكتابة لدي قاسم حداد والقوي الجمالية الكامنة لديه التي جعلته يرتفع فوق المستوي المباشر في التعاطي مع السياسة.

العبور نحو الآخر

جهات قاسم كان عنوان مساهمة الناقد التونسي محمد لطفي اليوسفي في تناص مع موقع جهة الشعر الذي أسسه قاسم حداد، لا للاحتفاء بنصه، بل لاستضافة نصوص الآخرين مشددا علي انتفاء الفجوة بين الشاعر ونصه، حيث تترجم نصوصه طريقة إقامته علي الأرض، وحيث تمثل قصيدته فعل وجود وليس مجرد صناعة تمعن في تغريب الكائن.مؤكدا أن الكتابة لدي حداد منطقة كرم وعبور نحو الآخر، لا منطقة عزلة، وهو ما تبدي في كتابة أعمال مشتركة مع آخرين: 'الجواشن' مع أمين صالح، ومع الفنان التشكيلي ضياء العزاوي في ¢ليلي والمجنون¢ ومع المصور الفوتوغرافي صالح العزاز في ¢المستحيل الأزرق¢ ومرة أخري يحلو لقاسم أن يظهر مخفورا بالأصدقاء وبالرفقة رغم أن الكتابة طقس فردي بامتياز.

وعن الممارسة الشعرية لدي حداد يري اليوسفي أن قصيدة النثر التي يكتبها توهم بعدم التعارض مع الأطروحات التي بشرت بها قصيدة النثر واعتبرتها فلك نجاة الشعر العربي ذلك لأن التغاير الذي تقترحه قصيدة قاسم يأتي هادئا دون تنظيرات ودون صخب.
الناقد والشاعر محيي الدين اللاذقاني، اعتبر حداد واحدا من شعراء أربعة في الوطن العربي شاغبه صبحي حديدي بمطالبته ذكرهم فذكر محمود درويش وأدونيس ونزار قباني وسعدي يوسف مما أثار غضب محمد عبد المطلب الذي أشار إلي أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور، وعودة إلي قاسم استحضر اللاذقاني بعض القيم الأساسية التي تطبع شخصية وكتابة قاسم حداد. وأولي هذه القيم الشجاعة في الاعتراف لديه، رغم ندرة أدب الاعتراف الحقيقي في الثقافة العربية، مما يجعل سيرته الذاتية منعطفا في مسار الادب السيرذاتي في منطقتنا. واعتبر اللاذقاني أن 'مكمن القوة في أدب قاسم حداد يتجسد في نجاحه في تقليص الفجوة بين الشعر والنثر، وفي خبرته بالكلمات وبعمقها التاريخي الناجمة عن حرصه علي العودة للمعجم وللماضي ليحافظ علي الخيط الذي يربطه بالتراث، فالإخلاص والوفاء لا يكون للناشر فقط، بل للنصوص ايضا'.
الشاعر محمد فريد ابو سعدة (مصر) اختار أن يبدأ شهادته بالشعر: ( إلي أين يمضي /هذا الأسمر الفارع / قالت الوعول: / ذاهب إلي ترجمة الليل / ذاهب ليكون قاسم حداد) مؤكدا أن قاسم يكتب لأنه خائف من العالم، ولأن الكتابة تحميه وهو ¢ يولد مرة بعد مرة وفي كل مرة يكون شخصا آخر، لأنه مولع بالشكل، ويري أن تحولات الشكل هي استجابة صادقة لقلق الروح والمخيلة¢' مؤكدا أن الشاعر انطلق متحولا من شعرية الشعار إلي شعرية الرؤية والكشف، من الظاهر إلي الباطن، من قصيدة التفعيلة إلي قصيدة النثر وحتى النص التفعيلي المطول.

من جانبه قدم الشاعر المغربي ياسين عدنان شهادة احتفائية في شكل نص إبداعي يقيم محاورة مع نص قاسم حداد متوقفا أمام عدد من الدلالات والأقنعة التي يتلبسها نصه سواء تمثلت في أقنعة شخصيات تاريخية وشعرية أو في أقنعة غير بشيرية.

ثقة بالمستقبل

أما حداد نفسه فإنه لم يتخل عن رفيقه الحزن، حتي في تلك اللحظات التي وجد نفسه فيها محاطا بحب الأصدقاء ، قال مختتما الندوة:
(شخص مثلي من المتوقع أن يصاب بالإغماء عدة مرات في هذا اليوم، ليس فقط لصداقتكم الحميمة للنص والشخص، التي تغمرونني بها وأنتم تضعون شعري في مهب البحث والتأويل في شكل باهر من الاحتفاء، لكن خصوصا لفرط الحرج العظيم الذي ينتابني بينكم.

لذا أتمني عليكم أن تكملوا جميلكم وتمنحوني حرية الارتباك الذي سيغلبني دائما.
سعيد بهذا الاحتفاء الذي أميل إلىاعتباره احتفاء بالشعر أولا، فالشعر هو هذا النزوع الإنساني القادر، بطريقته الخاصة، علي تحقيق التواصل والمحبة والمعرفة في آن. الشعر وسيلتنا لمعرفة ذواتنا والعالم، ولإضفاء معني علي وجودنا، لا أحسب أن الوسائل الأخرى يمكن أن تضاهيها في العمق والجمال.

لقد جعلتم من تأملكم النقدي وشهاداتكم الشخصية، فضاء رحبا من الاكتشاف والكشف سيكونان حقا قناديل جديدة وجديرة لما تبقي من مسافة العمر والكتابة، بل هو جهد معرفي من شأنه أن يضيء جهودا أخري في التجربة الشعرية الجديدة، فليس من العدل القول بأن الشعر الجديد لم يزل بلا نقاد يتفهمونه ويرون معه الأفق ويرافقونه في الذهاب.
فبمثل هذه الجهود النقدية الجديدة الجادة المتميزة بالتعاطف الرصين، يمكن أن نتأكد بأن ثمة من يصغي إلي الكتابة الجديدة ويتعرف عليها ويري معها المستقبل.

أشعر اليوم بأننا في حضرة درس المعرفة والمحبة في لحظة كثيفة المشاعر، وظني أنه ليس مثل المحبة طريق ملكية لوضع المعرفة في مكانها من العمل الفني.

لقد كنت، دائما، انظر إلي كتابة الشعر بوصفهافعل حب للإنسان والكون. وما تقترحه علينا تجربة اليوم هو فعل حب إضافي يصقل النص الشعري ويضعه في مهب الأمل النادر، الذي يضاعف إحساس الشاعر بمسؤولية هذا الحب، وبمسؤولية المعرفة وخطورتها.
فالنقد الأدبي هو أيضا فعل حب في الحياة والكون، بل انه لا يتحقق، بوصفه إبداعا، إلا إذا صدر عن حب عميق ورؤية حادة بالشكل الكافي لجعل النص أمام مسؤولياته الكونية.
ليس أن يتفق، ليس أن يروٌج، ليس أن يكرٌس، لكن أن يضعه في ضوء الأسئلة الحميمة، فالحوار، في العمق، هو دليل صادق علي الحب ورغبة البناء. ففي حياتنا لا نستطيع أن نفعل شيئا مهما بدون أن نكون صادرين عن هذا الشعور وتلك الشهوة الحميمة.
سوف أقصر دائما في التعبير عن مشاعري لجميع الأصدقاء الأعزاء النقاد الذين منحوا نصوصي كل هذا الكرم الصادق والصارم، ومنحوني هذا الدرس الحميم الذي يجعل التكريم النقدي مفتوحا، برحابة كاملة، علي تجربة الكتابة الشعرية العربية الجديدة التي تشكل الأفق الرحب لكل ما كتبته، وتجعل الأسئلة النقدية والحوار الإبداعي جناحين جديرين بالعديد من التجارب الشعرية العربية الجديدة التي تصوغ في العقود الثلاثة الأخيرة ما نزعم، حقا، بأنه مشهد شعري قادر علي محاورة ومضاهاة الشعر في مناطق أخري من العالم .
وأنهي حداد بقراءة مقاطع من ليلي والمجنون.

أخبار الأدب
12 أغسطس 2004