المهرجان 34 العالمي للشعر في روتردام :احتفال كبير لإحياء الشعر وربما لتوديعه

عباس بيضون
(لبنان)

عباس بيضون يبدأ كل كلام عن روتردام من أنها تدمرت في الحرب الثانية تحت القصف الألماني. إن تاريخها الصغير ينطلق من هناك. أما تاريخها الكبير فشاراته تلك الآثار القليلة التي نجت من الحرب، بل هي ثلاثة يقول لك صاحبك الدانمركي الشاب الذي يعيش في روتردام ولا تمنعه دانمركيته ولا شبابه من أن يتكلم عن تاريخ روتردام كأنه تاريخه الشخصي.
إنها ثلاثة نجت من التدمير الألماني ويحصيها لك: الكنيسة الهائلة بمعمارها ذي الأسلوب الروماني، مبنى البريد.. إنها ثلاثة فحسب هي التي نجت، لكن صور روتردام المدمرة التي شاهدتها داخل الكنيسة تزيد عن ثلاث في وسط المدينة. لعل صاحبنا يعني مباني مشهورة أو لعله حبه للأرقام القياسية فهو يقول لك عن مبنى عادي العلو إنه كان من مئتي سنة أعلى مبنى في أوروبا، وعن وسط المدينة إنه الأول الذي أُخلي من السيارات في أوروبا وسيقول عن مرفأ روتردام إنه الأول في أوروبا في شيء ما فاتك أن تتذكره. ليس الدانمركي وحده من يتكلم هكذا فالأرجح أن روتردام مدينة فخورة بنفسها، فخورة بتاريخها الصغير الحديث، لم تولد مجددا من ولدين أنقذتهما الذئبة ولا من الأمير الناجي وحيدا من مجزرة العائلة، ولدت من دمار الحرب ومن المباني الثلاثة التي نجت من الدمار. إنها كفرانكفورت من بنات الحرب ومدن عالم ما بعد الحرب. كفرانكفورت روتردام مدينة حديثة واقتصادية ومبالية بالدرجة الأولى. لذا فإننا لن نجد فيها المباني المزخرفة بخيال مدهش والمتلاصقة على خط واحد يطل على القنوات النائمة بمائها الأسود وصمتها المظلم كما هي الحال في أمستردام. القناة الوحيدة التي رأيناها هنا ليست بعيدة عن الكنيسة، ولمحنا بطة تربي فراخها في مائها الضحل المهمل. تمثال إيراسم الرائع الذي يعود إلى القرن السابع عشر منصوب قرب الكنيسة أيضا وبفن خارق. لكن روتردام لم تعد مدينة المعلم إيراسم، وقليلة هي شواهد الماضي. التاريخ لا يتجول هنا كما يتجول في لاهاي وأمستردام. هنا لا نأمل أن نصادف رامبرانت وفيرمر كما نأمل في مدن هولندية أخرى، فالذي يظهر على روتردام هو حداثة فخورة ومتشامخة أحياناً، عمالقة معمارية من بلور ومعدن. كثير من البلور وكثير من المعدن وجماليات صناعية. فن آخر لكنه أحياناً برشاقة ورهافة الكلاسيكي. هذا المبنى الزجاجي الذي يرتفع كصفحة الكفّ رقيقا ومبسوطا أو كورقة لوتس رفرافة، أو ذلك المبنى الأزرق المتداخل الملموم على نفسه في وحدة تجعله أشبه بمنحوتة منه بمسكن. لكن لروتردام مع ذلك متحفها المعماري، والذي يرجع إلى ما بعد حداثة مبكرة أحيانا. أما المتحف فهو بضعة مبانٍ حول محطة مترو ذات سقف أشبه بقرص لاقط هائل، يظلل ما يشبه محطة فضائية. إنه وحي صناعي علمي، والمعدن بالطبع، المعدن العاري أو المدهون على نحو فاقع، هو الأساس. هناك مبنى على شكل مصنع، لكن بحشمة أكثر مما نجد في بوبور. نرى طيف المصنع وشكله الخارجي لكننا لا نرى أحشاءه الداخلية، لا نرى قساطله وسلالمه الصاعدة وأكواعه، جنب المبنى آخر هو برج ضخم لكنه صنع على شكل قلم رصاص هائل، قلم رصاص عملاق مغروس في الأرض بأضلاع متساوية سميترية. أما عجيبة المتحف فهو بناء مكعب، سماه معماروه البناء الشجرة، وهناك من يطلق عليه اسم الواحة بما يستدعيه هذا الاسم من صور الصحراء. لاح لنا البناء من بعد سلسلة متوالية منحنية مؤلفة من مكعبات مقلوبة معلقة برؤوسها وقواعدها المخروطية متصلة في حبل صاعد هابط بمنحنيات وتعرجات. شكل شبه عنقودي شبه معلق يمتد دائريا على مساحة يتسع وسطها لفناء مغلق أو يكاد. وإذا وقفنا في الفناء بدا الشكل ذا خصوصية وحميمية لا نلحظهما من الأول. أما المكعبات المقلوبة المتسلسلة فتبدو فعلا كالأغصان الشائكة ويمكننا أن نلاحظ في الفناء نباتات صبار. إذاً الإيحاء الصحراوي البدوي ليس بعيدا. الأرجح أن المعمار نفسه ذو سمة بدوية. إنه في تعرجاته ومنحنياته لا يوحي بالصحراء فحسب بل يبدو وكأنه أقرب إلى قافلة متنقلة. إنه بناء مترحل إذا جاز التعبير وشكله يحمل فكرة الترحل من أوله إلى آخره. إذ إننا لسنا أما شكل متكامل ملموم بل أمام شكل بلا بداية ولا نهاية، قائم في توالده وتتابعه وحركته الملتوية المتصلة الحاملة إيقاع المتاهة أو الكثبان الرملية. أحسب أن المعمار من اتجاه يقر بوحيه البدوي. عمارة بدوية إذا جاز التعبير. فكرة البيت الراسخ الحصين ليست هنا ولا فكرة المقيم المتوطن الثابت في مكانه. إنها فكرة بيت في عالم متنقل مفتوح على بعضه متصل في حركته. يستطيع المرء وهو جالس أمام كمبيوتره أن يزور العالم. ليست الغرفة بعد حمى لكنها نافذة أو شاشة تتحرك في وسط الدنيا. إنها شراع متنقل أو ناقة سارحة في قافلة، رغم أن البيت المكعب ليس حديثا جدا. لقد بناه بييت بلوم (أظن أن هذا هو الاسم) في النصف الأول من القرن الماضي ربما مع الحركة التكعيبية في الفن التشيكيلي، لكن فكرته لا تزال حديثة أو ما بعد حديثة.

المدن اليتيمة

الصعود إلى واحدة من حلقات (شقق المبنى) ليس مجانا، إنه برسم 1,3 يورو أو ما يعادل تقريباً 2000 ليرة لبنانية. والصعود يتم عبر سلالم ضيقة لولبية. لسنا بالطبع أمام طوابق حقيقية، إننا أمام جيوب عديدة متداخلة، وأمام علب تنفذ إلى بعضها البعض. ثمة ما يشبه بيت النمل أو خلية النحل أو جحر الخلد، لكنه هذه المرة معلّق كالعش، تنفذ من المكتب الصغير إلى مطبخ منخفض نتأت من جنبه طاولة رخام، تعلوه غرفة نوم ملأ ثلثيها سرير بلا ظهر. قال أمجد وهو ينظر من نافذة المطبخ إنه شعر بالدوار فالغرفة منحدرة إلى أسفل. لم أشعر أنا بذلك، لكن الغرفة المخروطية لم تكن بالتأكيد في وضع مستقيم. ثم إن هذه السلالم اللولبية النافذة إلى أعلى لا تشعر بالعلو بقدر ما تشعرنا بأننا في جحر، إننا فيها نحس أننا في سفينة بقمراتها وسلالمها الضيقة وبانحدارها وإيحاء الدوار أو الدوار الحقيقي فيها. إننا في وكر معلّق في أحسن الأحوال، في الداخل ينتهي وحي الصحراء والقافلة والترحّل، ويحل محله إحساس المعلّق في وكر أو المطمور في حجر، وليس في الاحساسين ما يمت إلى التنقل والحركة والسعة والتغير. أي أن قافلة المكعبات المقلوبة تمشي للناظر ولا تمشي بالنسبة للمقيم. لا تنجح نباتات الصبار في قلب هذه الصورة. نشعر بالضيق والصعوبة وننزل بإحساس مماثل.
ليست تحف ما بعد الحداثة أليفة دائماً، المتحف المعماري كما أسميناه قائم في أرض عارية مبسوطة. في ذلك خيال صحراوي نجده في المسلسلات الفضائية. لكن ذلك القوس الذي ينتصب عملاقا على جانبي الجسر الضخم الذي يمتد هو الآخر على شكل قوس فوق النهر الدافق، اقرب إلى ضلعين هائلين يتعامدان في زاوية غير مستقيمة. وهما مشدودان بأمراس معدنية إلى ضفتي الجسر، انه باب حديث للمدينة، باب للعصر والصناعة والعالم الحديث، الضخامة والقوة والمعدن والبساطة، لكن أيضا الاندفاع والامتشاق والتفجر. انه هكذا يستقبل الشمس والزمن هائلا شامخا، نوع من معبد حديث.
مدينة حديثة هي روتردام وككل المدن الحديثة التي ولدت من تلال مبان شاحبة ومن دمار عام، فإن فيها شيئا اميركيا، شيئا من نيويورك مثلها مثل فرانكفورت الألمانية، لقد بُنيت من مستطيلات وخطوط مستقيمة ومتوازية. مدينة تمتد بمخيلة جيومترية كرقعة شطرنج.
ليس هذا حال أمستردام ولاهاي العريقتين. قضيت يوما في لاهاي، عادت لي فيه حساسيتي البصرية التي لم تعد بالتأكيد كما كانت، ولا أعرف إذا كان هذا من تعب العمر. لم يكن في وسعي أن لا انتبه جيداً لما حولي وأنا أسير في هذه المسارب الضيقة بين المباني المتحاذية المطرّزة بنمنماتها وألوانها، شعرت مجددا بأنني أمام لوحات، فكرت قليلا بأن هذه المربعات التي ترصّع تلك البيوت الضيقة الممشوقة تستدعي لوحات، استهدي فجأة إلى فان غوغ، اللوحات التي رسمها في ارل قد تكون مستمدة من ذاكرة عاشت هنا. قد لا يكون هذا صحيحا، لكننا في لاهاي وأمستردام كما في صنعاء نتجول في المدينة كما لو أننا في زيارة متحف نرى الواجهات في طرقات كهذه، بل لا يبقى فيك سوى عين ترى، إنها مدن مسحورة تقريبا. والأرجح أن من يدخل إلى ساحة البرلمان في لاهاي من باب ضيق يجد نفسه فجأة وقد اجتاز الزمن، فهذه الأبراج والبوابات الشاهقة والواجهات المزخرفة هي في رمشة عين رحلة إلى عصر لا تحتاج إلى كثير خيال إذ تراه مرسوما متحركا أمامك. هذه المدن خزائن الأحلام والمشي فيها اقرب إلى التجوال في ذاكرة عظيمة. لا تبقى في ساحة البرلمان الشخص ذاته. ولا تعود تعرف نفسك تماما، تتقمص أشخاصا وأعمارا توشك أن تتعرف عليها. تتحرر في لحظة من نفسك ومن الزمن وتتفرج على العالم وعلى الحياة كلوحة مكشوفة. السحر نفسه يتجدد. ما زلت هناك. غير أن رؤية لوحة "درس في التشريح" معلقة في إحدى غرف متحف لاهاي الصغير نسبيا حدث في حياتك وبالتأكيد. في إحدى الغرف لا القاعات لان المتحف صغير واللوحة كبيرة. لكن ضوء النهار شبه الغائم والضبابي في القاعة هو نفسه ضوء رامبرانت، وفي امكانك من داخل ذبذبات الضوء الكهربائي أن ترى إلى الميت معنا، وسط الأطباء، مضاءً من لا مكان تقريبا، ربما من الأبدية، ربما من الروح الساهرة.

لغات وشعوب

لا اعرف كم مضى على زيارتي الأولى لهولندا. منذ دعتني جمعية الهجرة المغربية إلى لقاء شعري هولندي عربي. لم اذكر الوقت ولا الأشخاص وبقيت أجتهد لأستعيد اسم الشاعر الذي كان شريكي في ورشات ترجمة من اثنين. لا زلت اعرف انه اسم مستعار يبدأ بحرف أو ينتهي بحرف لكني لم اعثر على الحرف ولا على الاسم، أقلقني أنني ازداد نسيانا لكني رأيت وراء طاولة الاستقبال شخصاً وصل لتوّه. رأيته من مؤخرة رأسه وجانب وجهه. قفز إلى بالي اسم: ليونارد نولنس، انه الشاعر البلجيكي الذي حادثته طويلا في زيارتي الأولى ومن بعد ذلك وفى بوعده فأرسل لي بعد عام انطولوجيا شعرية له مترجمة إلى الفرنسية، قرأتها بإعجاب ووجدته شاعرا مهما. انطلق لساني باسمه فالتفت إلي، لم يبد عليه أنه عرفني أو تذكر انه أرسل لي كتاباً لكننا لم نحتج إلى البدء من جديد. حين بدأت استعيد معه ذكريات ككل الزيارة، صحّح تقريبا كل ما قلته، لم يصدق انه قال عن الهولنديين أنهم الشعب الأكثر حرارة. لربما قال أنهم الشعب الأكثر حفاوة. لم يعد من زمن طويل يعمل في كوخ في الغابة وابنه سائق الشاحنة لا يزال سائقا أما ابنه الآخر ففيلسوف، قلت له "إياك والشعر لا تقترب من ارضي فلا اقترب من أرضك". رأيت فيما بعد شريكي القديم، قفز اسمه فورا إلى رأسي بعد أن أعياني تذكره طوال أيام، ميشال ك. الذي صادفته أيضا في كولومبيا، وفي المرتين نلتقي بحرارة ثم لا تكفي فرنسيته الضعيفة وانكليزيتي المعدومة لكي نتصل أكثر فننقطع عن بعضنا بعضاً بقية الوقت.
اللغة طبعاً مشكلة، الفرنسية ليست لغة احد، الجميع يقولون أنهم يحسنونها قليلا ثم يملون من أول جملة أو لا يجدون حماساً للتخبط في جملة ثانية، تستطيع أن تتواصل بأي إنكليزية، حتى تلك التي يقتلع فيها الكلام اقتلاعاً. يبدأ الشعراء ال39 المشتركون في المهرجان بالتوافد من الحادية عشرة صباحاً إلى السطيحة المخصصة لهم ليتوزعوا على المقاعد أو يجلسوا إلى الطاولة الكبيرة العامرة يصحف من كل اللغات أو يتوقفوا عند البار ليتناولوا كأساً أو حبة فاكهة أو شيئاً من النقل أو الكاتو. مجتمع صغير يتحرّك يومياً طوال أسبوع، مهرجان طويل لكن للشعراء كما هو للجمهور. خطة الإدارة أن يلتقي الشعراء ويتحاورون ويقرأون بعضهم بعضاً، هذا المجتمع الشعري ميزة أولى للمهرجان، يسمح لذلك وقت المهرجان وتنظيمه الذي يؤدي إلى اجتماع الكل للشاي والنبيذ والطعام والقراءة في مكان واحد. أن يعيشوا معاً بكل معنى الكلمة كل هذا الأسبوع، لا يقدم هنا أن يقول لك واحد أن آخر من دون أن يتلجلج لسانه "انه صديقي" مع ما تحاط به هذه الكلمة من احتياط وتجنّب في العادة، ذلك يكشف في العادة في الشعراء غير الشعر ملكات أخرى، قدرة على الصداقة متفاوتة بين الحاضرين. تجدها قوية عند راؤول شروت وكريس اباني مثلا أكثر مما تجدها عند آخرين، الإنكليزية بالطبع هي قناة هذه الصلات الجديدة، أي إنكليزية تكفي لكن ليس أي لغة أخرى. أحسبني كنت بفرنسيتي وعربيتي في سجن لغوي. كثير هم الذين لم استطع أن اكلمهم وبدا مثيراً للسخرية بالنسبة لي أن يتواصل شعراء بلغة الإشارات. نشرت إدارة المهرجان لكل مشترك كتيبين احدهما بالنيرلاندية، والثاني بالإنكليزية وكان يمكن بالتالي للشعراء أن يتواصلوا أيضا كشعراء. تجمع من هذه الكتيبات مكتبة كاملة، وكان يمكن لمن يقرأ بالإنكليزية أن يطل من هنا على جانب من شعر العالم، في بقية المهرجانات تلقى بالألمانية أو الفرنسية أو الكاتالانية أو الرومانية لغة جمهورك، لكن بينك وبين زملائك صمت كامل، شعرهم على الأقل ليس في متناولك وأنت تسمع أجراسه وأصواته لامعانيه. في روتردام ينجحون في إنشاء مجتمع صغير عالمي، في إيجاد تواصل شعري، ربما لذلك يمكننا بلا تردد أن نتحدث عن رؤية خاصة هنا. وضعت بين أيدي الشعراء ترجمات كاملة بالإنكليزية، وكانوا بالتأكيد عماد هذه الحياة التي استمرت تجري ليلا ونهاراً طوال الوقت. الكتيبات التي يسبق صدورها كل قراءة، المكتبة والمقهى والسطيحة والبار الأرضي والحديقة وكل هذه، في مبنى واحد، نكون في المركز والمقهى والبار من دون أن تخرج، ذلك يعني أن تنتقل من الحادية عشرة ظهراً إلى ساعة موغلة في الليل في المكان ذاته من دون أن تشعر انك محصور فيه، بل يعني انك تمضي مع زملائك كل ساعة وكل يوم من دون أن تشعر انك محصور بينهم. ، تسلّم كل منا مغلفاً يحوي بطاقات للأكل في مطاعم عدة في المدينة لكن الغريب أن قليلا جداً من هذه البطاقات استعمل رغم قرب المطاعم وجودتها. فضّل الجميع أن يقتاتوا بالسندويشات على أن يغادروا السطيحة أو المقهى، كانوا جميعاً هنا حتى ساعة متأخرة في الليل يشربون ويشربون. الشراب على السطيحة وفي المقهى موفور وكثير، اشرب واشرب، الشعراء أهل شرب لا أهل أكل.. رغم قطعة الكاتو الكبيرة التي كانت دائماً أمام منصف المزغني الشاعر التونسي.

المتوسط العربي

انه المهرجان الرابع والثلاثون، خبرة 34 سنة جلية هنا، لا يسمح بخطأ كبير، وكل شيء مرتب ومدروس إلى حد الإتقان. المبنى الواحد كان بالتأكيد فكرة سحرية. لقد تأمّنت للجميع حياة كاملة بدون أي برنامج معقد، كان هناك أيضا في المبنى نفسه القاعة الكبيرة والقاعة الصغيرة والمقهى والحديقة للقراءة، وكل قراءة تختلف عن الأخرى، في القاعة الكبيرة الليالي الكبيرة والموسيقى والفواصل الراقصة والمسرحية والعروض ذمْنٍُْفَكم الشعرية وبالطبع الخلفيات الفوتوغرافية الرائعة التي ترافق على عرض الشاشة القراءات، في القاعة الصغرى الليالي الأصغر في المقهى والحديقة قراءات حرة على جمهور موزّع تحت الشجيرات أو على طاولات المقهى.
كانت هذه رغم القرب أماكن مختلفة بظروف مختلفة، بتغير المكان يتغير الجو والعرض والاستقبال. يمر الشعر والشاعر هكذا في لحظات متنوعة، يكون الشعر إنشاداً أو ارتجالاً أو حديثاً بحسب المكان واللحظة، يمكننا أن نتكلم أيضا عما يتعدى الشعر، عن عرض من شعر وموسيقى ومسرح وصور مصاحبة ورقص، عن فن كامل، خلطة ليست اعتباطية كما يحصل غالباً عندما تتعدد التعبيرات الفنية. الأرجح أن المزيج صُنع بقدر من الدراية والذوق، كانت المونودراما بالأصوات التي شكلت فواصل ليلة الافتتاح رائعة، كما أن ليلة "كفافي" التي احتشدت بتعابير من كل نوع بدت بحقّ سخية وملأى فواصل رقص وأوبرا وعناء ومسرح وعروض شعرية تتابعت بقدر كبير من التفاعل والتبادل، كانت هنا ربات الفنون جميعها في رقصة واحدة، لقد وجدت لحظة حوار حقيقي بين لغات الروح.
بدا الموضوع المتوسطي ضابط إيقاع المهرجان، كان الرمل الأبيض يملأ أرضية المبنى (المسرح وخشبة المسرح الصغير والمسرح الكبير، المتوسط) الذي كان موضوع الصور المرسلة على الشاشة، أوقات القراءة. المتوسط الذي كان أيضا وراء موضوعات المهرجان الثلاثة، التي انعقدت لها ثلاث ليالٍ: البحر، البيت، كفافي. والأرجح انه كان وراء ميزان الدعوات التي جعلت الشعراء العرب هذا العام الكتلة الأكبر في المهرجان، عز الدين المناصرة، إيمان مرسال، جلال الحكماوي، منصف المزغني، كما جعلت إدارة المهرجان تقدمني مع خيرت كاونار الشاعر الهولندي الثمانيني لافتتاح المهرجان. ليست هولندا متوسطية، إنها تقع في العالم الآخر لذا يبدو تخصيص دورة كاملة للمتوسط اشتراكاً في أسطورة أخرى ومخيلة أخرى، يبدو انفتاحاً بكل معنى الكلمة. لقد أفسح للآخر أن يكون هو الموضوع. ليس الآخر الأوروبي فحسب بل الآخر الآخر الأبعد العربي أيضا. لا زلت لا افهم لماذا يبدو المتوسط بحراً عربياً، ففي كل المهرجانات التي تتصل بالمتوسط يدعى الشعراء العرب بسخاء استثنائي. كان لفرنسا وايطاليا وأسبانيا وتركيا المتوسطية شاعر واحد وهذه ثقافات ولغات اقرب بكثير إلى التاريخ والتراث الهولندي. لا زلت لا افهم كيف يكون المتوسط بحراً عربياً لكني افهم أن في ذلك إرادة صحيحة للفهم والحوار، بيد أن الإرادة وحدها لا تكفي لبناء الجسور، لا بد من الزمن والمعرفة والتاريخ وكل هذا لا ينشأ بمجرد النية ولو صادقة. لقد فعلت إدارة المهرجان ما استطاعت لتقديم الصوت العربي. قد يكون هذا جديد الدورة الحالية. لكنه لا يكفي لجذب اهتمام مماثل من الصحافة أو الجمهور، الشعراء العرب ابعد المدعوين لغة عن المخيلة الثقافية للهولندي العادي، لا شك في أن السويسريين الألمان والبرتغاليين والمقدونيين والأتراك والكوسوفيين والأسبان اقرب لأسباب لا يصعب بسطها وكلها في النهاية أوروبية. حضر العرب في المهرجان بقوة ليست دائما عددية، والأرجح أن الجمهور الحاضر لم يكن غائبا عنهم لكن الاهتمام الصحافي لا ينشأ في يوم وليلة، استقبلت الصحف شعراء تعرفهم. كان راؤول شورت السويسري المتعدد الامكانات (شاعر، روائي، باحث، ملم بالعربية) هو الاسم الذي تردد مع روزا أميرال الشاعرة البرتغالية، هكذا كان يمكن أن نستنتج من تكرار الاسمين في تعليقات الصحف الهولندية. لم يستطع الثقل العربي أن يوجه الاهتمام إلى هذه الناحية، كان أحد شاعري ليلة الافتتاح عربيا، وخرجت صحيفة محلية تحمل صورته بغزارة، واحدة على الصفحة الأولى وثلاثة لمقال المهرجان. الصور وحدها لأن المقال الذي كرر اسم راؤول شروت تكرارا لم يذكر اسم صاحب الصور إلا عرضا وفي نهاية المقال. كان هذا مفارقا بالطبع ولكن السبب ليس بعيدا. ما جذب المصور لم يكن هو ما جذب كاتب المقال. شاعر هولندي يقرأ بدون أن ينظر إلى الجمهور جامدا مغرقا وجهه في الصفحة التي بين يديه وبلا صوت سوى ما يحتاجه النطق، أما الشاعر العربي فيلعب بصوته وحركته وإماراته وهذا ما يجذب المصور، مديرة المهرجان قالت لي ذلك بفرنسية صعبة حينما سألتها. ليس اسم الشاعر هو الذي استلفت الصحيفة بل وقفته، أما راؤول شورت الذي يقرأ جالساً فاسمه هو الأصل.

من يصدِّق

المفارقة ليست هنا فحسب. إنها في كل خطوة لنا في العالم، لا نزال نشعر إننا غير مفهومين ويزداد حرجنا من ذلك وأحيانا عنادنا، ما ينقصنا أننا لا نجد لنا لغة أو صورة في العالم، أن صورتنا العالمية مفقودة. لنا ولغيرنا. لم ننتبه إلى أن الاسم الوحيد الذي أضيف إلى الأربعة العرب في ندوة عن وقع 11 سبتمبر على الشعر كان للشاعرة الإسرائيلية الوحيدة في المهرجان. لم ننتبه في الغالب عن سهو وعن خلو بال، أنا وعز الدين المناصرة وجلال الحكماوي بقينا خالي البال الى أن وصلنا إلى الكنيسة وتحققنا من هوية خامستنا. انسلّ عز الدين المناصرة حين درى بذلك. أما أنا وجلال الحكماوي فوجدنا أنفسنا على الطرف الثاني من الطاولة ومديرها زيمان في الوسط فيما نوريث زاخري على الطرف الأول. لم اعرف كيف أداري حرجي فهذه لحظة لا مخرج منها إلا بقدر من سوء الفهم. لقد وجدنا أنفسنا في ندوة مصطنعة وسؤال مصطنع أمام عدد لا يزيد عن الخمسة عشرة مع ذلك الندوة إذا تمت لن تكون لدى الكثيرين سوى حوار مباشر مع العدو إن لم تكن خيانة، ولا أنسى أن شاعرا وزع بالفاكس خبرا غير موقع يقول أن شعراء النثر اللبنانيين خصوصاً ومعهم محمود درويش؟ مدعوون للقاء سري مع الكتاب الإسرائيليين في رام الله، كانت تلك فرية مضحكة أما الآن فلن يقول أحد أن سوء تفاهم سخيفا قادنا إلى هذا. لم يكن أمامي خيار. قلت لزيمان مدير الندوة أنني من بلاد لا يزال القانون فيها يحجر على أي لقاء مع إسرائيلي، ولا أستطيع لذلك أن أشارك إسرائيليا في حوار أو ندوة. كان سوء الفهم الأول من زيمان الذي رمقنا بقدر من التعجب ومن الريبة معا لكنه أذعن ونقل إلى الجمهور والى الشاعرة الإسرائيلية ما قلته. ارتباك انتهى بانسحاب الإسرائيلية وبقائنا أنا والحكماوي وحدنا مع زيمان في نقاش كان فقد سبّبه قبل أن يبدأ.
ندوة ب15 حاضرا فعلت ما لم يفعله حضور كامل. مقالان على الأقل ناقشنا المسألة بلغة لا اعرفها. وأرجو أن تكون قلت بنزاهة ما قلته لزيمان والصحافيين. قلت لفرانك البير وهو صحافي معروف كتب عن الحادثة: إنني لست عدوا للسامية وأنا احترم الإسرائيليين الذين تظاهروا احتجاجا على مجزرة صبرا وشاتيلا والذين يرفضون أن يتجنّدوا لقتال الفلسطينيين، والكتّاب الإسرائيليين الذين نقلوا للعالم صورة الانتفاضة الأولى، لكن لبنان وسوريا لا يزالان في حال حرب مع إسرائيل والقانون يمنع أي لقاء أو حوار مع إسرائيلي. هذا قانون التزم به كلبناني ولا أناقشه في هولندا وليس أفضل وقت لمناقشته هو اليوم حيث تتساقط قذائف شارون على رؤوس الأطفال الفلسطينيين، مع ذلك شعرت أن ما جرى وسم حضوري كله في المهرجان وإنني لن أنجو من سوء الفهم ومن المحاكمة التي تدور بلغة لا اعرفها ولا ادعى للشهادة فيها. إلى أن نقل لي احد الشعراء أن صديقه الناقد البلجيكي لا يصدق أن قانونا يحجر اللقاء مع الإسرائيليين هو حقا موجود. وليس وحده الذي يشك. فحال الدول العربية مع إسرائيل في نظر الجميع حال صلح، تعجّبت من أن يؤخذ واحد بريبة كهذه ولا يسأل ولا يتحقق أحد مع سهولة ذلك وامكانه، تلفون للسفير اللبناني مثلا يكفي، التقيت بالبلجيكي فقال لي أن الناس هنا لا يصدقون وشرحت له فأبدى حسن تفهم ولا أدري إذا كان صدّق، لا أريد أن استطرد كثيراً في مسألة كهذه، لكنها تصلح مثلا على ما قلته من أننا لا نملك صورة عالمية لأنفسنا، ولا نعرف كيف يمكن أن نخاطب الآخر خارج حدود الحرج أو الاعتذار أو الاستفزاز وبلغة لا تنبع من الاحتقان ولا سوء الفهم ولا المونولوج الذاتي.
الشعراء العرب كما ذكرت ستة، لا أجد بعد التحري سبب للشعور بأن التمثيل العربي في دورة للشعراء العرب فيها ثقل واعتبار لم يكن مناسبا تماما أو كافيا، لا أحد سبب القول ذلك لكنني لا اقدر على منع نفسي من التفكير به، لا أريد أن اكرر الموازين السخيفة وان اكرر: لو كان أدونيس حاضرا، لو كان محمود درويش حاضرا، لقد انشغلت طوال عمري بشعراء جيلي، ولا أريد الآن أن أبدأ هتافا معاكسا. لكني مع ذلك لست مباليا بشعر عز الدين المناصرة ولم اعرف بشعر المنصف المزغني إلا في روتردام وذعرت من تخشّبه وفقره. أجد أسبابا متناقضة لأدعم تجربة إيمان مرسال ولم اقرأ جلال الحكماوي. لكن من أنا ولماذا أقيم من نفسي ميزانا، الست أعرى يوما بعد يوم من كل ميزان ومعيار فكيف أجد في نفسي هذه القدرة على أن أصنّف وأرتّ
(...) إيمان مرسال كانت محبوبة في المهرجان بسطورها المكتوبة بخيطان إبرة يومية ورقيقة ومعاصرة. جلال الحكماوي جذب بعروضه التي مزجت الكلام بالموسيقى المغربية بروح المسرح. والمزغني، أيضا المزغني فتن بأدائه المسرحي وغنائه، جمع الحضور الغربي أجيالا وطرقا: الإنشاد والأداء المسرحي والذمْنٍُْفَكم، كان بدون جدل ملحوظا وقويا، لكن مع ذلك لا تزال تسأل نفسك ماذا لو أن ترتيبا آخر، مختلفا كثيرا أو قليلا حصل. أهذه وساوس فحسب أم أن من حق الشعر العربي أن يجد صورة أفضل؟ لم تكن النتيجة سيئة ونجونا بهذا الترتيب، لكن كيف يمكن أن نقبل بأن نسلم شعرنا وصورتنا لبعض ما قيل، أليس مفارقا. أيضا ألا يدخل في حساب حرجنا والتباسنا، أليس أيضا من فقدنا لصورتنا في العالم وعن العالم.

لحظة الشعر

لكن ماذا عن المهرجان نفسه. ندخل هنا أيضاً في مفارقة أكبر وصورة أكثر تنازعاً، لكننا ندخل في جدل فكر ومفاهيم لحق الشعر مؤخرا، هناك بالطبع غروب الشعر ومحاولة إحيائه أو التعويض عنه على الأقل إذا امتنع الإحياء. المسألة ليست خاصة. هناك مسار للفن يدركه الشعر متأخرا لكنه يدركه. إذا كانت الخصوصية والابتكار والأسلوب والبناء والتوقيع الشخصي والفنية واللغة الخاصة أمور لم تعد بديهية، وقد تكون في النهاية بنت حداثة دارسة أو تكاد، إذا كان هذا ما يتجلى في الموسيقى والفن التشكيلي فهل يمكن أن يتجلى في الشعر وهل يمكن إدراكه في الشعر أم أن امتناع ذلك علامة على قدم الشعر وتصلبه واستعداده للانقراض. ليست هذه الأسئلة لتلقى جوابا هنا. قد تتلقى بعض الصدمات، بعض اللعب، بعض المناورات لكن طريقا ملكيا لم ينفتح بالتأكيد، ولا نجد إلى الآن وجهة أخرى.
يقرأ خيرت كوانار الثمانيني كبير شعراء هولندا وأحد مؤسسي الكوبرا أشعاره وتستقبل بحفاوة بعضها للتاريخ وبعضها للاعتراف وبعضها للشعر نفسه الذي يكرم مع كاونار وربما يودع أيضا. تكون مناسبة عيده الثمانيني مناسبة أيضا لهذا الاحتفال المزدوج، إذ مع كل شاعر كبير يدخل الشعر مجددا ساحة المجد وبالتأكيد ولكن مقبرة الخالدين أيضا. لعل من المناسب هنا أن نتذكر أن الفرنسيين يحتفلون أيضا بثمانينية بونفوا وهذا أمر مجيد لكنه مخيف أيضا. إذ يتراءى أيضا أننا إلى حد نودع آخر الشعراء.
أهداني كاونار الذي كان دائما آخر الساهرين، يدخن ويشرب وينتظر الصباح، مختاراته الوحيدة المترجمة إلى الفرنسية "رائحة ريش محترق". شعر مكتوب بقوة، بنحت خاص، بلغة مضغوطة إلى حد اللمح، بموزاييك كلامي صلب ولكن أيضا ملموس. سهولة خادعة، لا ليست سهولة على الإطلاق، عالم من زوايا وملموسيات لكنه لا يتحمل النظر كثيرا ولا اللمس. إنه دائما على وشك أن يعود مجرد لغة، مجرد صور. أحسب أن قصيدة ليونارد تولنس الطويلة كانت أيضا من نسيج ملحمي وبقدرة على بناء فن صعب وصاف ومقصود في آن، لكن هذه طبقة من الشعر والشعراء لم تكن وحيدة، كان هناك شعراء "البروفورمانس". الحكماوي مع موسيقاه المغربية واستيحاءات من الزوايا الصوفية. زرع الشاعر الصيني في الرمل نبتات سقاها بالحبر وكتب بها على الرق. ليس البروفورمانس وحده، هناك الأداء المسرحي كالذي نجح فيه منصف المزغني. وهناك نوع من لعبة الكلمات الأشياء، كالتي قامت بها مولانار الشاعرة الفرنسية التي كتبت بفرنسية لا تهتم بالنحو الفرنسي كله. كان هناك اباني النيجيري بنايه. وكان هناك أيضا بلونك الهولندي الذي قام بتمارين صوتية، مطلقا في الغالب تنويعات على أحرف محوّلاً حنجرته إلى مصنع أصوات بلا حصر والى دراما كاملة.
يرفض برنار نويل أن يقرن الشعر بأي شيء آخر، أن تصحبه الموسيقى أو المسرح، يريده أن يبقى وحده. الشعر ضعيف وهو لا يصمد أمام أي دخيل عليه، تبتلعه الموسيقى والمسرح ولا يستطيع أن ينافس. هل ما زال رأي برنار نويل سليما أم أنه نوع من عبادة الشعر لم يعد معاصرا. تغير مفهوم الفن التشكيلي والموسيقى. أمكن لصيدلية عادية أن تغدو أثرا فنيا بمجرد أن عرضت لذلك أمكن بناء موسيقى من أصوات بشرية أو من أصوات الطبيعة والأشياء، فهل يمكن بناء شعر من أصوات، أو من مزيج فني، أم أن هذا لا ينقذ الشعر، بل يدفعه أكثر في أزمته وربما لا يربح من ذلك سوى نهايته، هل يمكن إحياؤه فعلا أم أن هذا الحفل الكبير وكل الاحتفالات الأخرى الكثيرة هذه الأيام، لتوديعه.

جريدة السفير