صبحي حديدي
(سوريا)

ورقة مقدمة الى ندوة تكريم قاسم حداد
أصيلة، المغرب آب (أغسطس) 2004

I

لا يُذكر اسم الشاعر البحريني قاسم حدّاد إلا وتقفز إلى الذهن قضيّتان: ريادة وتجديد وتحديث النصّ الشعري الخليجي، وترسيخ القصيدة المنشقّة عن الخطاب المألوف في تمثيل هواجس الشخصية العربية في الخليج. وإذا كان من الصحيح أن يفترض المرء توفّر سلسلة من الوشائج العميقة التي تربط بين المسألتين على نحو منطقي ومتبادَل، فإنّ ما هو أكثر صحّة ــ وإدهاشاً في الواقع ــ إنما يكمن في تلك المقاربة التركيبية الخاصّة التي تحلّى بها حدّاد على الدوام ــ أو منذ مرحلة مبكّرة من نضج تجربته الشعرية ــ وأتاحت له صناعة وتطوير سلسلة أخرى من الوشائج العميقة بين جماليات الهواجس الإبداعية من جهة، وأبجديات الهواجس الإنسانية (على اختلاف أنماطها: السياسية والمعرفية والشعورية والميتافيزيقية) التي تكتنف برهة الإبداع، أو تحيط بها إحاطة تامّة، من جهة ثانية.

ففي القضيّة الأولى، لا نزاع ــ البتّة، كما أعتقد ــ حول الدور الريادي الذي لعبه شعر قاسم حدّاد في منطقة الخليج العربي، سواء بمعنى الخروج عن أعراف الكتابة الشعرية التي كانت سائدة هناك (في الشكل، واللغة، والموضوعات)، أو بمعنى ربط التجارب الشعرية الخليجية بحركة/ حركات التجديد الشعري التي كانت تعصف بـ »المراكز« الشعرية العربية في بلاد الشام والعراق ومصر. ولست، هنا، أغفل تجارب شعراء من أمثال عبد الرحمن رفيع وعلي عبد الله خليفة وعلوي الهاشمي، ممّن أسهموا مباشرة في صياغة النصّ الشعري الحديث (أو »الشعر الحرّ« كما ينبغي القول) في البحرين. غير أنّ تجربة حدّاد كانت نسيج وحدها في مستوى ما حقّقته من تفاعل دائب وعميق مع تجارب التحديث العربية في »المراكز«، وفي اعتماده على شكل قصيدة التفعيلة منذ البدء، واستمراره في تطوير خياره هذا في الأعمال اللاحقة، ومقارباته المَزْجية بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر في أعماله اللاحقة.

المدهش، مع ذلك، أنّ تفاعل التجارب الشعرية الخليجية الشابّة مع شعر قاسم حدّاد اتخذ على الفور ــ وفي نسبة عالية ــ شكل قصيدة النثر أكثر من قصيدة التفعيلة. كأنّ بذور التغيير والتغيّر التي زرعها هذا الشاعر السبّاق إلى التجديد كانت، في الأساس، لا تفترض شكلاً محدّداً سلفاً من استنبات البذرة؛ أو كأنّ الأصوات الشابة المتميّزة التي قرأنا تجاربها ببهجة وإعجاب منذ أواسط الثمانينيات ومطلع التسعينيات (قادمة من السعودية وعُمان والإمارات وقطر والبحرين) كانت قد أزمعت الإنشقاق مبكّراً عن نماذج التجديد تلك، لا لشيء إلا لأنّ نزوع الإنشقاق كان بين أبرز الدروس الجمالية التي بشّر بها الرائد نفسه.

وبذلك فإنّ من الإنصاف الحديث هنا عن دور ريادي مزدوج: الأوّل جمالي ـ إبداعي يتّصل بضرب المثال الشعري كتابةً وخيارات، والثاني ثقافي ـ سوسيولوجي يتّصل بضرب المثال الإنشقاقي سلوكاً وإيديولوجية. ولعلّ النبرة »الكفاحية« العالية في قصائد قاسم حدّاد الأولى (مجموعاته: »البشارة« (1970)، »خروج رأس الحسين من المدن الخائنة« (1972)، و»الدم الثاني« (1975) بصفة خاصة)؛ وحقيقة كتابته لعدد كبير من القصائد وهو في المعتقل؛ وتنقّله المَرِن بين شكل التفعيلة وشكل قصيدة النثر؛ كانت بمثابة أمثولات بادية للعيان تماماً، حاضرة في مشروعات التحديث المحليّة الشابّة (الخليجية) ومتواصلة مع مشروعات التحديث العربية (الناجزة بهذا القدر أو ذاك في »المراكز« الشعرية)، وقادرة أبداً على المساهمة والإغناء والإغتناء، محليّاً وعربياً في آن معاً.

هذه، في عبارة أخرى، هي »سياسة« التجديد التي تتجاوز مهامّ تكريس التيّار الأدبي، وتكتسب وظيفة ثقافية ـ سوسيولوجية عميقة الأثر حين تعبر حدود تطوير الأساليب والأشكال والأغراض، وحين تحضّ على المقاومة في النصّ الأدبي مثل المقاومة في السلوك الإنساني، وتدافع عن مقترحات جمالية وأخرى فكرية، وترسل جوهرياً رسالة الإنشقاق البنّاء: عن السائد في الكتابة (مبنى ومعنى، شكلاً ولغة وموضوعات)، وعن السائد خارج الكتابة (النظام والمؤسسة، السياسة والأخلاق).

وفي مقالة طويلة بعنوان »سيرة النصّ«، كُتبت في فترات متباعدة تمتدّ من منتصف الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات وأعاد قاسم حدّاد ضمّها إلى مجموعة مقالات أخرى صدرت في كتاب بعنوان »ليس بهذا الشكل.. ولا بشكل آخر« (1997)، نقرأ هذه الفقرة الدالّة:

ففي معظم تلك الكتابات [التي تناقش قضية الأنواع الأدبية وحدودها الشكلانية، والأوهام المتصلة بالتراث الذي تصدر عنه تلك الأنواع] يبدو التعاطي النقدي مع أشكال التعبير كما لو أنّه مَسٌّ بأرسخ المعتقدات الدينية لدى الإنسان، موحياً بأنّ ثمة منطقة محرّمة ليس للكاتب أن يتجاوزها وهو يحاول صياغة منظوره الجديد. حتى يكاد المرء أحياناً يشعر بأنّ مجرّد اختراق شروط القول الموروث من شأنه أن يخلخل نظام الكون، ويهدم كيان البشر. قد لا يصرّح البعض بهذه العقيدة، لكنّ حقيقة الأمر تشفّ عن نزوع لاواعٍ لعدم المساس بالأصول الموروثة، وبالتالي الخضوع لوهم محاكمة كلّ خروج عن تلك الأصول باعتباره خروجاً شاذاً عن منظومة أكثر شمولاً، بحيث تطال بنية المعرفة الدينية التي تأسّس عليها العقل الإنساني. وفي هذا السلوك دليل جديد على الصعوبة التي يمكن أن تواجهها التحوّلات الثقافية عندما تستجيب لشروط المنظور المقدّس في الحقل الأدبي. غير أنّ السلوك لن يمنع التحوّل الحضاري الذي يحدث بصورة بطيئة، وجوهرية، ولكنها شديدة الفعالية والعمق«. ص 13.

ولقد تقصّدتُ اقتباس هذه الفقرة مطوّلاً لأنها تسعى إلى تشخيص »سياسة« التجديد دون سواها، ولأنها نموذج تمثيلي بليغ على ما كان يعتمل في المشهد الأدبي الخليجي من شدّ وجذب حول »سياسة« قبول أو رفض الجديد. والفقرة لا تخطيء أبداً حين تقيم التشبيه بين المَسّ بأشكال التعبير الراسخة والمَسّ بالمعتقدات الدينية الراسخة، وهي بالتالي تلمّح إلى الصعوبات البالغة التي لا بدّ أنها واجهت شاعراً تجديدياً مثل قاسم حدّاد، في بيئة أدبية محافظة لم تكن مستعدّة لإلقاء السلاح بسهولة، الأمر الذي استدعى المقاومة على الجانب الآخر أيضاً.

ذلك يقودني إلى القضيّة الثانية التي تقفز إلى الذهن كلما ذُكر اسم قاسم حدّاد، وأعني ترسيخ القصيدة المنشقّة عن الخطاب المألوف في تمثيل هواجس الشخصية العربية في الخليج. فمن المعروف أنّ مفهوم »ثقافة الصحراء« تسيّد العديد من المنظورات النقدية التي قاربت النصّ الأدبي الخليجي، بحيث بات هذا المفهوم أقرب إلى مفتاح نظري لا مناص من حمله قبل الدخول إلى أيّة تجربة شعرية خليجية. ويحدث، غالباً، أن يخضع هذا المفهوم إلى سيرورة تصعيد كونية شبه صوفيّة، كما حين يقول ناقد سعودي جادّ مثل الدكتور سعد البازعي إنّ ثقافة الصحراء توجز تفاعل كثير من مبدعي الخليج »مع ذلك العالم السديمي الممتد بغموضه ورهبته وتقلباته، عالم الرمل الراحل أبداً، والصحراء الجرداء، والمطر الشحيح الذي لا يعرف جدولاً ثابتاً، المطر الذي يأتي ولا يأتي« (في كتاب »ثقافة الصحراء« الصادر في الرياض سنة 1991).

أكثر من ذلك يذهب البازعي، في استرسال غنائي ومفاجىء، إلى حدّ افتراض ولادة الثقافة ذاتها من ذلك التفاعل بين المبدع و»العالم السديمي« ذاك، فيقول: »والثقافة هنا هي نتاج ذلك التفاعل وتاريخه وإعلان الإنسان المتواصل عن بقائه في عالم الريح والرمل والمطر الشحيح، وعن حبّه لذلك البقاء وقبوله لتحدياته. والثقافة أيضاً هي محصلة الرغبة الإنسانية الدفينة في أنسنة الطبيعة، وملء فضاء اختلافها بألفة الوجود، وهي التفاصيل التي يرسمها الإنسان على جسد الأشياء الخارجية، وجماع أحلامه ورؤاه. إنها ذلك الزجل الذي ملأ به البدويّ فضاء المهامِه ورهبتها منذ الفجر الجاهلي الأوّل، هي تلك الدعوات والتطلعات التي سقى بملامحها الإنسانية عطش الصحراء، واستسقى بإيقاعاتها المطر والخصوبة«. ص 32 ـ 33.

والحال أنّ شعر قاسم حدّاد عكف، مبكّراً، على أنسنة الإنسان ذاته بدل ــ وقبل ــ أنسنة الطبيعة؛ وواصل إعلان بقاء الإنسان (في القيد، وفي المعتقل، وفي المدن الخائنة، وفي المنفى) قبل ــ وربما دون حاجة إلى ــ إعلان بقاء الإنسان في عالم الريح والرمل والمطر الشحيح؛ وصاغ ذلك الحضور الإنساني على نحو إنساني أوسع بكثير من صورة البدوي التائه في مَهْمَه مقفر، وأشدّ مضاضة وغربة وعذاباً. ولم يكن عجيباً، والحال هذه، أن تكون عوالم قاسم حدّاد تمّوزية، إذا جاز القول، أكثر منها صحراوية؛ وأن يكون المطر في قصائده ليس ذاك الذي يسقي عطش الصحراء فحسب، بل ذاك المطر الآخر (السيّابي ربما) الذي يغسل أدران الأرض قبل أن يسبغ الألفة على الوجود:

غُصتُ في الأرض إلى أطول شعره
وشربتُ المطر المخزون في الأرض إلى آخر قطره
فرأيتُ القمر الميّت من مليون عامْ
ذلك الغائبُ عن عالمنا الممدود في عين الظلامْ
قمر الدرب الطويلْ
مثلنا كان غريباً ذلك الطفل الجميلْ
تحت جلد الأرض مصلوباً على أبواب قبره
مجموعة »البشارة«، 1970


وليس الأمر أنّ المحمول الدلالي في قصائد قاسم حدّاد كان يجُبّ تراث المنطقة وشخصياتها الصحرواية الكبرى، هذه التي تمثّل مخزوناً رمزياً وأسطورياً ليس من السهل على الشاعر الخليجي أن يضرب صفحاً عنه وعن مغريات توظيفه. بل الأمر ببساطة أنّه نفر مبكّراً من التنميطات المعتادة الشائعة، ومن ألعاب استلهام الشخصية البدوية أو الصحراوية على نحو مباشر أو مسطّح لا يقوم بما هو أكثر من إعادة إنتاجها ضمن أقصَيَين متناقضَين: إثقال الشخصية بما ليس فيها، أو تشويهها عن طريق الإسقاطات الركيكة.

وهكذا فإننا نعثر عنده على تمثيلات مركّبة، متعدّدة الأبعاد والدلالات، لشخصيات مثل الجاحظ، والحجّاج، وامرئ القيس، والخنساء، وأسماء بنت أبي بكر وشهرزاد. ولكنّنا نعثر أيضاً على شخصيات وأساطير مثل سيزيف وبنلوب وغيفارا. وإذا كان قاسم حدّاد يبيح لشخصية تاريخية مثل عبد الله بن الزبير أن تلتحم (في الرمز والمعنى والحكاية أيضاً) مع شخصية أدبية مثل فدريكو غارسيا لوركا، فلأنّ شخصية الحجّاج أوسع من دلالاتها المحليّة، ويمكن لتوسيعاتها تلك أن تصل بين غرناطة والخليج. وبالقدر ذاته يمكن لـ (طفول)، الاسم المعرّف والشخصية والرمز والأسطورة، أن تكون المناضلة الظفارية الشهيدة، وطفلة الشاعر، وطفلة جبال الأوراس أو مخيّم اللاجئين الفلسطينيين:

أخبرونا، هل وراء الشجر اليابس عصفورٌ
وهل قبرٌ يصلّي؟
لو قرأتم سورة الحجّاج، لو نافذة مثل بلادي
ثم آه
حين نامت طفلةٌ في دم لوركا
واستفاق الزنبق الوحشيّ فينا
كُسرت قافية السلطان بالورد الجميلْ
آه يا لوركا، أغانيك تصير الآن دفئاً
لتراب الحبّ في غرناطة أو في الخليجْ.
مجموعة »خروج رأس الحسين من المدن الخائنة«، 1972

ثمة، أيضاً، شخصية »طرفة بن الوردة« التي ابتكرها قاسم حدّاد لتكون اسمه الأدبي المستعار تارة، أو قناعه الشعري الذي يتيح هامشاً تراجيدياً في التعليق على عذابات الشخصية الخليجية من داخل الموقف أو من خارجه، أو في منزلة مركّبة تجمع المنزلتَين معاً. وطرفة بن الوردة هذا كائن الفقد الإنساني، ورَجْع الرثاء، وقيثارة الشجن الروحي العميق؛ ولكنه، في الآن ذاته، بيان المقاومة الثقافية والجمالية والأخلاقية، وفنّانها الذي يحفر عميقاً في الجسد والروح.

وحين نتذكّر، كما يقتضي الإنصاف أن نفعل دائماً، حقيقة استقرار قاسم حدّاد في الوجدان الخليجي (المعاصر والشابّ تحديداً) على هيئة ترتقي بصفة الشاعر التحديثي الرائد إلى صفة »العلامة« الثقافية المقاوِمة، فإننا عندئذ ندرك عمق الحَفْر الجمالي والمعرفي والسيكولوجي والسوسيولوجي الذي مثّلته تجربته الشعرية والسلوكية. وما امتلاك طرفة بن الوردة لتلك المساحة الكريمة من قرائن اللقاء بين الحريّة الفردية للفنّان والحريّة الجَمْعية للأمّة؛ وما تمثيله البارع لحالة التماهي الوثيق بين الفنّان والمعذّب والراثي والثائر، سوى خلاصة كبرى للموقع الفريد الذي شغله صانع القناع ــ قاسم حدّاد ــ في وجدان أهله: وجدان الكارثة مثل وجدان الأمل.  

II

واليوم يعقد قاسم حدّاد العزم على إصدار أعماله الشعرية الكاملة. وفي نظر معظم دارسي الشعر، أو في يقين دارس مثلي على الأقلّ، تعدّ هذه الخطوة تسليماً علنياً من الشاعر بأنّ تجربته بلغت طور الكهولة، وآنَ لتاريخها الأسلوبي أن يُكتب. كذلك تعني هذه الخطوة استعداد الشاعر لوضع تجربته على محكّ »الحصيلة«، أي حين يكون منطق تصنيف التجربة إلى محطّات أسلوبية فاصلة هو استراتيجية التحليل المثلى، وليس دون أسباب وجيهة في الواقع.

وإذا كانت الحكمة النقدية المجرَّبة تقتضي عدم إشراك الشاعر في عمليات التصنيف تلك، لأنّ أواليات »مغالطة القصد« الشهيرة يمكن أن تسوق الحكم النقدي إلى حيث يشاء الشاعر لا إلى حيث تهدي الدراسة التحليلية، فإنّ الحكمة ذاتها قد تقتضي منح الشاعر »فضيلة الشكّ«، في أمر واحد على الأقلّ: التعريف بالنفس وبالتجربة. وفي المادّة التي كتبها بنفسه لموسوعة »أعلام الأدب العربي المعاصر«، التي أعدّها روبرت ب. كامبل وصدرت سنة 1996 عن جامعة القديس يوسف في بيروت، يقول قاسم حدّاد ما يلي:

»في تجاربه الشعرية الأولى كانت بصمات شعراء المدرسة الحديثة واضحة بين قصيدة وأخرى (...) منذ ديوانه الثاني انحاز إلى التجديد الشعري، وحمل همّ التجريب الإبداعي، مؤكداً على الحرّيات اللامحدودة التي ينبغي على الشاعر أن يستمتع بها ويتشبث بها بعيداً عن كافة السلطات. وهو بالرغم من تجربته السياسية في الحياة، إلا أنه لم يخضع تجربته الشعرية لسلطة السياسة. وظلت قصيدته بعيدة عن المحاذير الخطابية المباشرة التي تستدعيها السياسة السائدة«. ص 481.

وهذا التعريف صحيح تماماً، إلا في جانب واحد هو نفي خضوع التجربة الشعرية لـ »سلطة السياسة«. ذلك لأنّ السياسة كانت ــ وما تزال في الواقع ــ حاضرة في تسعة أعشار قصائد قاسم حدّاد. و»السياسة« هنا ليست تسلّل بيان الحزب السياسي إلى القصيدة، وليست خيار التغنّي بفلسفة العقيدة، كما أنها ليست متابعة الحدث اليومي، أو حتى تلك الأحداث الكبرى التي قد تكون فاصلة في حياة الأمم، ولكنها لا تترك في الوجدان الجَمْعي ما هو أعمق من العواقب السياسية المباشرة. ما أعنيه بـ »السياسة« هنا هو خيار التحديث التعبيري دون سواه، وما يترتّب على تطوير ذلك الخيار من ضرورات اعتماد »أبجدية« محدّدة لا تستطيع مجانبة السياسة. والأمر قد يبدأ من تفضيل شكل التفعيلة على عمود الخليل؛ أو تفضيل الإتكاء الإستعاري على شخصيات بعينها (سيزيف أو طرفة بن الوردة، مقابل البدوي أو ابن ماجد على سبيل المثال)؛ أو إبراز رموز كونية دون أخرى (الشمس، والأطفال، والنسر، والطوفان).

هذه، مثلاً، هي المفردات الكبرى في مجموعة قاسم حدّاد الأولى »البشارة«، بل إنّ نمطاً من السياسة التامّة (والصريحة في الواقع) يهيمن على معظم قصائد المجموعة، ويبدو مباشراً تارة ومبطّناً طوراً، ولكنه في الحالتين لا يخضع لاعتبارات أخرى قدر خضوعه لـ »السياسة«. ففي قصيدة (من أبجدية القرن العشرين العربي)، والعنوان دالّ في ذاته، يقول حدّاد:

زاء
الموت في زيورخ يا شهيد
والقبر في بيسان
والنعش يأتي حاملاً بطاقة البريد
حرّية الإنسان
يمرّ فوق أعين العمّال في الجنوب
ويصبغ الجبال في الشمال
ويمسح الخوف عن الأطفال
ويرفع القلوب
فنقرأ العنوان في بطاقة البريد
حرّية الإنسان
يمرّ فوق قاعة الإعدام
وفوق سرحان الذي يمثّل الحرمان
من غصن زيتون ومن أمان
يجلس فوق الحكم والحكّام
يصرخ في وجوههم:
قتلته لأنني حقيقة، لأنه أوهام
عقوبتي أعرفها يا أيها الحكّام
لكنني حقيقةٌ
      والحقّ لا يموت بالإعدامْ
مجموعة »البشارة«، 1970

 ومن الواضح أنّ هذا المقطع يتناول ظاهرة الفدائي الفلسطيني عموماً، وواقعة سرحان بشارة سرحان خصوصاً. المقاطع الأخرى في القصيدة تتحدّث عن بركان الثورة، والطريق الثوري إلى القدس والجليل، و»عالم الحريم، في كهف شهريار«، والحرب في فييتنام وفلسطين، ونشيج الخيام في الخليج، والوالد الذي قهر البحار ولم يخلّف لأولاده سوى الحرمان، والسلطان والأميرات الحسان، والفلاّح وتعب الحصاد، وصوت غيفارا الساخن مثل الحبّ، والرجال من شاربي الخمور في موائد الأنذال...

غير أنّ المقطع الأوّل في القصيدة يتحدّث عن »الشاعر الجديد في زماننا الجديد«، ذاك الذي »يغمس الريشة في الجراح« و»يصرع الرياح«. وبصرف النظر عن مقدار الحماسة البطولية في القصيدة، ونبرة الاحتجاج العالية، واعتناق عشرات القضايا شرقاً وغرباً، فإنّ ما يرسب في القرار العميق من القصيدة هو حسّ الإنشقاق العميق عن السائد الفاسد والفاسق، وهو ليس سوى السياسة في واحد من أعمق مظاهرها. وليس في خيار كهذا ما يعيب قصيدة قاسم حدّاد، في تلك البرهة بالذات من صعود تجربته أوّلاً، وفي ذلك الطور بالذات من ممارسته لدور الرائد الذي لا يكذب أهله! ذلك، ببساطة، كان خياره الوحيد في ظلّ الشرط الإبداعي والثقافي والسياسي المعقّد الذي كان يعيش فيه، ويعيش في إساره أيضاً.

لكنّ القوى الجمالية والفكرية والأسلوبية العارمة، الكامنة عميقاً في شعريّة قاسم حدّاد، كانت أشدّ تعقيداً وتنوّعاً من أن تكتفي بهذا المستوى المباشر من التعاطي مع السياسة (الأمر الذي يفسّر نفوره اللاحق من إقرار خضوع تجربته الشعرية لسلطة السياسة)، ولهذا فإنّ مجموعته الثانية »خروج رأس الحسين من المدن الخائنة« أنجزت نقلة سريعة ــ بل وخاطفة مباغتة ــ بعيداً عن »السياسة« الأولى تلك، وبعيداً أيضاً عن أسلوبية الكتابة تلك. لكننا، مع ذلك، ما نزال نلحظ »بصمات شعراء المدرسة الحديثة واضحة بين قصيدة وأخرى« كما أقرّ قاسم حدّاد، ونهتدي بسهولة إلى أصوات بدر شاكر السيّاب (في المنحى الغنائي والأسطوري)، وعبد الوهاب البيّاتي (في المنحى الواقعي التبشيري)، وصلاح عبد الصبور (في الميل إلى التفاصيل واللغة اليومية)، وأدونيس (في اللغة الصوفية واللقطة الذهنية) وشعراء المقاومة الفلسطينية (في التمثيل الملحمي والعمارات الإيقاعية المتينة).

غير أننا نهتدي، بسهولة أكبر ربما، إلى شخصيّة الشاعر التي أخذت تستقلّ تدريجياً، وإلى أولى السمات الأسلوبية التي سترافقه زمناً طويلاً، وستغتني من مجموعة شعرية إلى أخرى. لقد أخذ يدير شبكات سردية تمنح القصيدة حركة دوّامية ونموّاً عضوياً هادئاً؛ ويقيم حوارات بين ضمائر المتكلّم والغائب والمخاطَب، بالمفرد وبالجمع؛ ويبدّل التفاعيل داخل القصيدة الواحدة على نحو سلس متّسق أحياناً، ومتقطّع خشن الوقع أحياناً أخرى؛ ويضمّن الكتلة التفعيلية مقاطع نثرية مفاجئة؛ ويترك للغة أن تسترسل في ما يشبه الطواف اللفظي الحرّ؛ ويمزج في القصيدة الواحدة بين التركيب الدرامي ـ الحواري والتركيب الغنائي ذي الضمير المنفرد. أمّا موضوعات قصائده فقد خرجت، مرّة وإلى الأبد في الواقع، عن تلك النبرة الخطابية الحارّة التي طبعت مجموعته الأولى، ومالت أكثر فأكثر إلى التمحور حول الرؤى الحلمية والصوفية التي تتشكّل استناداً إليها عوالم طرفة بن الوردة، ومنظورات رثائه لعصره، وتحوّلاته الميتافيزيقية في الزمان والمكان:

في طرف القبر حلمٌ: أنا الطرف الثالث للحلم
ماءٌ يسير ويختصر الموتَ والمهرجانْ
سأفصل ما بين عصر الوقوف وبيني
ليَ الآن حرّية في الرحيلْ
لغاتي ذائبة وحدها في الهواءْ
إذا شئتُ أدخلُ من فجوة الليل أو أستقيلْ
حوانيتٌ توزّع مرض الحزن والنومْ. ومصحّاتٌ
بحجم السأم المرابط تنشر سلالة الشرطيّ
والصلاة والشفق واحتقان الأمل في الوريد.
وتحتلّ الغفلة جيلاً بلا أسئلة.
أنا خندقٌ عمّقته السؤالات والشكّ أن الطفولة ماءٌ
وأنّ النخيل طريقٌ إلى الماءْ.
مجموعة »الدم الثاني«، 1975

ومن الواضح أنّ السطور 7 ـ 10 تخرج عن الكتلة التفعيلية إلى النثر دون سابق إنذار، كما أنّ مخطط التواتر المخفّف للقافية لا يشبه في شيء تلك المخططات السابقة حين كان قاسم حدّاد يلجأ إلى التسكين أو التضحية بالتشكيل الصحيح لأواخر الكلمات في سبيل تحقيق القافية. كذلك من الواضح أنّ هذا الحسّ العالي بالشكّ والأسى والشجن (وبعض الذنب الشخصي أيضاً) ليست سوى إرهاصات الطور القادم من اشتغال قاسم حدّاد على موضوعة الفقد، المركزية في تجربته الشعرية. وفي مجموعاته اللاحقة سوف تتطوّر هذه الموضوعة في منحيَيْن: عاطفيّ تعبّر عنه علاقات القصيدة الشكلية والموسيقية والتصويرية (التشكيلية بصفة خاصّة)، وعقلاني تعبّر عنه شبكة العلاقات الدلالية وجملة الرموز والشخصيات.

ولعلّ إلحاح هاجس/ موضوعة الفقد على قاسم حدّاد هو الذي شدّه إلى توسيع تجربته في كتابة القصيدة الطويلة المنقسمة إلى أجزاء أساسية ومقاطع فرعية قصيرة نسبياً، وذلك في مجموعة »القيامة« (1980). واستعارة المرآة، التي تتكرّر في الجزء الثاني من القصيدة، هي عين الضمير الشخصي للشاعر إذا جاز القول. إنه، هنا، لا يلقي على عاتقه أثقال حياته الفعلية والمجازية فحسب، بل يحمل أيضاً أثقال (وآثام!) الحقبة بأسرها. وهو يبرع حقاً في تحقيق توازن مدهش في التعبير عن حرّية داخلية قصوى وسط هذا القدر من القيود التي استجمعها بنفسه. وثمّة ارتقاء رؤيوي بليغ بالزمان والمكان، واندغام تركيبي رفيع بين حياة الشاعر وحياة الأمّة، ووحدة شعورية عالية تكتنف الحصيلة المزجية هذه، وتقودها إلى ما يشبه النشيد الملحمي الكوني.

III

 قبل هذه المجموعة وبعدها شهدت تجربة الشاعر منعطفها الحاسم التالي، حين استقرّ على تكريس مجموعتَين كاملتَين لشكل قصيدة النثر: »قلب الحبّ« (1980)، و»شظايا« (1983). ويمكن الركون، دون أدنى مساءلة، إلى ما يقوله حدّاد عن هذا الطور، الذي يدشّن مراحل تململه الفنّي في المجموعات الأولى، ويتبلور في »خروج مباشر وشامل عن التفعيلة«. غير أنّ الاعتراف الأكثر أهميّة، حول هذه المرحلة، هو ذاك الذي يتعلّق بإدراك الشاعر للمسؤوليات المترتبة على حيازة الحريّة التعبيرية هذه، وخطورة أداتها الكبرى: اللغة. وهو يقول، في »سيرة النصّ«:

الاحتفاء باللغة، إذن، هو الشرط الأوّل لتخلّق الحالة الشعرية، حيث الصورة الفنّية لا تتحقق بغير طاقة الجمال الكامنة في اللغة. هذا الاحتفاء يشكّل، في اعتقادي، طبيعة أساسية عند الكاتب وضرورية، لكي يجعل إنتاجه الأدبي مبرراً بتميّزه التعبيري عن أشكال التعبير الإنسانية الأخرى.
تبلور ذلك في تعاظم الحساسية تجاه الإيقاع اللامتناهي في اللغة العربية: الكلمات، الجمل، المفردات، الحروف، الصور، الإستعارات، الدلالات، العلاقات. كنت أجد في اللغة طاقة هائلة من الإيقاع، الذي كانت الأوزان والتفاعيل تسحقه أو تَعبر عليه بضجيجها الخارجي والعام، ورأيت في ذلك كبتاً لحرّية الحرف، كوحدة وذات، في مواجهة القانون الموضوعي العام، الذي لا يرى في الحرف سوى جرس يمكن أن يصخب مثل طبل في نهاية كلّ كلمة وعند خاتمة كلّ قافية.. في ذيل الشطر أو التفعيلة«. ص 19 ـ 20.

لماذا ــ بين مجموعة قصائد نثر وأخرى، وبعدهما أيضاً، وبعد هذا الكلام المتشدّد ضد ضجيج التفاعيل وجرس الحروف التي تصخب مثل طبل ــ عاد قاسم حدّاد إلى كتابة قصيدة التفعيلة في »القيامة«، بل واستخدم القافية في »انتماءات«؟ ألا تبدو مقاطع قصيدته الفاتنة »أوراق الجاحظ الصغيرة« وكأنها تذكرة بليغة بأفضل ما في تقاليد قصيدة التفعيلة من صياغات موسيقية باهرة؟ هنا، على سبيل المثال، مقطع يصعب أن تكون حروف قوافيه صاخبة مثل طبل:

أرّختُ للدماء في سرادق العروسْ
وقلت للطاووسْ:
تصير غرباناً على الذبيحهْ
أرّختُ. كنت الكتب الجريحهْ
مصابة بالكتب الفؤوسْ
بعثتُ أوراقي إلى رفاقي
أرّختُ. صارت جنّتي بغداد
آهٍ على بغدادْ
محزومةٌ بالماء والزنازن الفسيحهْ
أرّختُ للعروسِ
لو أرّخت غير الكتب الكسيحهْ
مجموعة »انتماءات«، 1982

وفي يقيني أنّ الإجابة على التساؤلات السابقة تكمن في حقيقة أنّ الإنعطافة الأسلوبية الفاصلة التي شهدتها تجربة قاسم حدّاد منذ مطلع الثمانينيات وحتى أواسطها لم تكن تدور حول قلق الشكل (التفعيلة، أو قصيدة النثر)، بل حول قلق اللغة الشعرية أوّلاً، وقلق الموضوعات ثانياً. وليس بغير مغزى تعبيري عميق أنّ مجموعتَي »قلب الحبّ« و»شظايا« تشتركان في سمات محدّدة طارئة على أسلوبية حدّاد: القصيدة القصيرة، أو تلك التي لا تتجاوز السطرين؛ قصيدة الحب؛ وموضوعة محاورات العاشق؛ المسحة الغنائية الممتزجة برومانسة شفيفة؛ والاشتغال التشكيلي على علاقات التجاور الدلالي بين الألفاظ (كما حين يقول: »حين أرسم كلمات مثل:/ حنين   حارس/ حُلم   حجر/ ليل   لهفة/ لذّة   لبن/ أكون قد لوّنتها بكِ«)؛ أو حتى في خيار التصوير التشكيلي عن طريق توظيف التجاورات الصوتية بين الحروف (كما في المثال التالي الذي يوظّف حرف الخاء: »قلت للسيف/ أيها المهيمن/ سليل الخواضع والخواشع/ مستبطن الخنوع والخوف والخديعة/ خليل الخوارج والدواخل«).

هذا القلق الأسلوبي (الذي يدور جوهرياً حول الأدوات التعبيرية، وليس حول الخيار بين شكل التفعيلة وقصيدة النثر) هو الذي سوف يعطينا دفعة من أصفى مجموعات قاسم حدّاد الشعرية، بدءاً من »انتماءات«، وصولاً إلى »عزلة الملكات« (1992)، ومروراً بالمجموعة المتميّزة »يمشي مخفوراً بالوعول« (1990). وفي هذه المجموعة الأخيرة تحديداً ندرك مقدار الإضطرام التعبيري الذي قاد الشاعر إلى هذا المستوى المستقرّ من القدرة على المصالحة بين الشكلَين، والمستوى القَلِق (المتحرّك أبداً) من أنساق تجريب الأدوات، واللغة الشعرية بخاصة.

وإذا كانت هذه المجموعة قد صدرت في مطلع التسعينيات، فإننا من جانب آخر نعرف أنها كُتبت في العام 1982: عام انخراط قاسم حدّاد في دورة معقدة من البحث الجمالي والاستكشاف التعبيري. ومّما يرتدي أهميّة خاصة في هذا السياق أنّ الشاعر هنا كان قد استقرّ كثيراً في علاقته النقدية مع خياراته الشعرية السابقة، ولكنه استقرّ أكثر في استقلاله عن تأثيرات »شعراء المدرسة الحديثة«، كما كان يحلو له تسمية شعراء التحديث العرب في »المراكز«. 

ومجموعة »قبر قاسم« (1997) هي ذروة اكتمال دورة البحث والاستكشاف تلك، والأرجح أن قاسم حدّاد قرّر ــ بعد هذه المجموعة بالذات ــ أنّ تاريخه الأسلوبي قد شهد الكثير من التصارع والتطاحن والقلق والاستقرار، وأنّ الأوان قد آن لإصدار الأعمال الشعرية الكاملة. وليس من المدهش، والحال هذه، أن يكون هاجس تطوير اللغة الشعرية هو القاسم المشترك الأعظم في المعادلات الجمالية والتعبيرية التي نهضت عليها هذه المجموعة، الأضخم حجماً والأكثر أهمية في تراث الشاعر. وليس من المدهش، أيضاً، أن تسير سطور القصيدة الفاتحة هكذا: »ذاهب لترجمة الليل/ هل النصّ شهوة اللغة/ هل المعنى شكل يفيض بالأبجدية«.

موضوعة الرثاء الكوني، الأثيرة لديه، تكتسب هنا بُعداً صوفياً عميقاً دون أن تتخلّى عن مقتضيات التغطية الملحمية الكثيفة لفلسفة ارتطام الكينونة الوجودية بالكينونة الإبداعية. وإذا كان الناطق الواحد في هذه القصيدة (الواحدة، رغم انقسامها إلى »كُتُب«) يرثي فقدان الروح لشرط حرّيتها الأصلية، الحرّية التي فُقدت ساعة الولادة ربما، فإنه في الآن ذاته يحتفي بحيازة الكائن لمخيّلة حرّة قادرة على »ترجمة الليل« وتحويل قبر الشاعر إلى كينونة أبدية، مخلوقة ـ خالقة:

جالس هناك،
يفرك حرّيته ببلّور الصحراء، فتستيقظ حواسّه كلّها،
وكلما سمع عن عبيد ينالون أحلامهم،
يشغف بمَن يضع يديه على حجر ويشعل به بركان الرفض.
جالس هناك،
يرى المستقبل، كما يلمح ضوءاً تحت عقب الليل،
فيتحصّن بنصٍّ يخذل الكلام. 

وفي هذه المجموعة يستجمع قاسم حدّاد محطات تاريخه الأسلوبي دفعة واحدة، ولكن على نحو تركيبي بديع وبارع وذكيّ: إنه يستخدم شكل التفعيلة وشكل قصيدة النثر؛ يلجأ إلى القافية أو يمتنع عنها؛ يكتب المقطع القصير أو القصيدة الطويلة؛ يوظّف الألعاب الطباعية، والفراغات، والبياضات، والتوزيع الهندسيّ للسطور؛ ويقول حرفياً: »قدحي تفيض/ ولي احتمالات من النزوات/ تاريخ الشراك وجنّة الأخطاء لي/ ولي النقيض«. أو يقول: »آنَ للشخص أن يمنح النصّ / ما يشتهي/ آنَ للروح أن تنتهي«.  

وقاسم حدّاد يمنح النصّ، ويمنحنا، تلك المعادلة الفريدة في امتزاج الفضائيَن الطبيعي والتشكيلي في لغة القصيدة. والفضاء الطبيعي هو ذلك الحيّز الذي يُدرك بدءاً من الجسد الإنساني وإلى الخارج المقابل، سواء أكانت عناصر ذلك الحيّز مشهداً متعدّد الأجزاء (كما في الإطلالة على منظر طبيعي) أو مشهداً وحيد الجزء (كما في النظر إلى شجرة عزلاء)، أو مشهداً مركّباً قائماً على الفراغ المادّي والإمتلاء الرمزي (كما في الوقوف أمام بيداء صحراوية). والشاعر في مواجهته لهذا الفضاء الطبيعي يقيم توازناً من نوع ما بين مخيّلة ترشقه خارج نفسه، وذاكرة بصرية تشدّه إلى داخل نفسه، ومكان يغلّف المخيّلة والذاكرة فيُبقي الشاعر خارج نفسه وداخلها في آن معاً.

أمّا الفضاء التشكيلي فهو الفضاء الطبيعي وقد انقلب إلى رؤيا إبصارية خارقة لوسائل الإدراك المعتادة، وانهارت فيه علاقات التراتب الوظيفي الثلاثي بين المخيّلة والذاكرة البصرية والمكان، وتكوّنت عناصره من مزيج تركيبي لا يسمح بتبادل أو إعادة توزيع أو قَلْب الأدوار بين عناصر التوازن الثلاثة هذه فحسب، بل يسمح بتحويل الإلتقاط الشعري لذلك الفضاء الطبيعي إلى التقاط بصري تشكيلي على الصفحة المطبوعة ذاتها: اختيار شكل هندسي لتوزيع النصّ، تدوير أو قطع السطور الشعرية وفق عمارة غير مألوفة، إفساد القواعد المعتادة لعلامات الوقف، استخدام قياسات أو ألوان مختلفة للحرف الطباعي، وما إلى ذلك.

وفي قصيدة بعنوان »زفير الأحجار«، من المجموعة ذاتها، يقول قاسم حدّاد:

يحضنُكَ الفَكُّ كأنّه رأفةُ القَصل.
يحتازكَ نصلٌ وهو يجهشُ
تحسبُ أنّ الأمّ تنتخبُ لكَ المهدَ، فيما هو لحدُكَ المحتوم.
فالحبّ قبرٌ أحياناً،
ويفتحون لكَ الأفقَ.. لتضيعَ
يرصدكَ رصاصٌ يطيش في خطواتك،
تظنّ أنها بهجة الطبيعة تبعث لكَ أجنحة الولوع،
وهو هلعٌ يرصدُ لك الخطوة والطريق،
فالقدح يغلب الماء أحياناً.
وأحياناً تبرد أطرافكَ بفعل الوحشة،
وحدكَ في كهفٍ،
تقرأ كي تخدعَ النومَ لئلا يستفرد كابوسُ الوحي برأسكَ،
فالماء يحايد أحياناً.
يترككَ الرفقة في الدار، وزفير الأحجار يتصاعد طيوراً.
يختلج قنديلُ المعنى ليشيَ نُصفُ النَصّ بنصفٍ آخر.
لماذا تنام وتتيح لأشباحكَ حرّية المخيّلة وسلطة الليل
لماذا كلّما انتابكَ الذُعرُ
هفوتَ بأحلامكَ إلى حُبّ يسبق الموت ويليه.
هل لديكَ أسماءٌ واضحةٌ لشمس أيّامكَ.
هل لديكَ أيّامٌ لا ينال منها الوقت ولا يطالها المكان.
ذاهبٌ في وطأة الغياب وعذاب القميص وجنّة الذئب،
ما كان لكَ أن تبذلَ جسدَكَ لمهبّ الحُبّ الصارم،
مثلما يضعُ الفارس شُغافه في شفرة السيف..
                              ويحلمُ بالنجاة.

وفي هذا النصّ يمارس الشاعر الحرّيات التخييلية التي تقتضيها أبجديته الخاصة في تحويل الفضاء الطبيعي إلى فضاء تشكيلي، لكنه يقف قاب قوسين أو أدنى من تنبيه القارئ إلى بعض هذه الحرّيات، أو »الاتفاق« معه حول ممارستها إذا صحّ القول. وحدّاد يشير صراحة إلى »قنديل المعنى« و»نصف النَصّ« الذي يشي بنصف آخر، و»أشباح المخيّلة« التي تنشط في »سلطة الليل«، وكأنه يطالب القارئ بالتعاقد مع صوت الشاعر الباحث عن المعنى، من أجل التوليد المشترك للمعنى (ونتذكّر ثانية قوله: »هل المعنى شكل يفيض بالأبجدية«). أو كأنّه يقلب الآية فيسعى إلى ردم الهوّة بين شروط إنتاج الفضاء التشكيلي وشروط تقويض الفضاء الطبيعي، بين النّصّ كما يسجّل ذلك الإنتاج، وبين الاستقبال كما يوافق على ذلك التقويض.

والشاعر مضطر، هنا بالذات، إلى تقديم عدد من التنازلات للقارئ، ربما انطلاقاً من قاعدة منطقية صحيحة تقول إنّ أيّة قراءة مرهونة بالتوافق البنّاء بين القارئ والنصّ الأدبي. إنه، على سبيل المثال، يهادن الذاكرة البصرية حين يشير إلى نصل يحتزّ، ورصاص يطيش، وقدح يغلب الماء، وأطراف تبرد، وقنديل يختلج... هذه العلاقات ليست طارئة، بل إنّ بعضها يدغدغ مخزون القارئ حتى في المستوى الإتفاقي للإستخدام اللغوي، كما في التقابل بين المهد واللحد، أو في اقتران الفعل »يتيح« بمفردة »حرّية«، والفعل »ينتاب« بمفردة »ذعر«. لكنّ قاسم حدّاد يتحدّث أيضاً عن نصل يجهش، وحُبّ قبر، وأجنحة الولوع، وزفير الأحجار، وقنديل المعنى، وجنّة الذئب. كذلك يكتسب المكان من الأبعاد الرؤيوية ما يكفي لكي تنقلب صُوَره الطبيعية إلى أخرى تشكيلية طارئة، غير مألوفة، وغير مدوّنة في الذاكرة البصرية التي قد يسارع القارئ إلى التمسّك بها، ربما بوحي من إحساسه بأنّ المصالحة مع مخيّلة الشاعر تسري على هذا الحقل أيضاً.

IV

لقد بدأ قاسم حدّاد تجربته الشعرية بالتحالف التامّ مع الذاكرة البصرية للقارئ، وهو ــ في هذه المجموعة التي تتوّج أنضج أطوار تجربته ــ ينتهي إلى انتهاك تلك الذاكرة واقتياد القارئ، الراضي والسعيد، إلى ذاكرة شعرية تشكيلية طازجة وطارئة... تسعى إلى ترجمة الليل. وفي قصيدة نثر ذات عنوان دالّ، »صوت ينتسب للخارج«، كان الشاعر قد قال:
صوتي لنهر
يجنح ضدّ عادة الماء
للحرف ضدّ القواميس
               والنحو والصرف
للشعر في النثر
أعني الشريد في صرخة الليل
أعنيه
             مستقبلاً سوف يمضي.

وهذه الأعمال الشعرية الكاملة تزوّد دارس الشعر العربي المعاصر بوثائق إبداع استثنائية حول تاريخ أسلوبي فريد وحالة نادرة من تقدّم النصّ الشعري الرائد عكس التيّار: ضدّ عادة الماء، ولكن ليس بعيداً عن ائتلاف لجّة النهر الدافق.

إشارة:
 (*) نشرت هذه المادة كمقدمة لأعمال قاسم حداد الكاملة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 2000