تغطية: حكيم عنكر

وقائع ملتقى الشعر الإماراتي تأريخ وإبداعافتتح صباح أمس في قاعة المحاضرات التابعة لدائرة الثقافة والإعلام على قناة القصباء في الشارقة ملتقى الشعر الإماراتي تأريخ وإبداع، والذي ينظمه اتحاد كتاب وأدباء الإمارات ويختتم مساء غد الثلاثاء وتتخلل الملتقى شهادات ومداخلات نقدية وقراءات شعرية لشعراء من الإمارات. ويطرح الملتقى أربعة محاور هي مفاصل أساسية في التجربة الشعرية في الدولة وهي: الحيرة تأسيس ومنطلق والمدارس الشعرية وأثرها في قصيدة الإمارات والتجربة الشعرية النسوية في الإمارات والحداثة وحرية التغيير في قصيدة الإمارات، تلي ذلك مناقشات عامة وتوصيات الملتقى وإقرارها بينما يشهد مساء غد الثلاثاء أمسية شعرية لأسماء شعرية تمثل تجارب من الشعر الإماراتي الحديث.

في بداية الجلسة الافتتاحية للملتقى الشعري أكدت باسمة يونس مسؤولة النشر في اتحاد الكتاب ان هذا الملتقى يأتي في سياق اهتمام الاتحاد بالآداب والأدباء والثقافة والفكر والمثقفين داخل الدولة وخارج الاتحاد، وذلك من أجل إضاءة المسيرة لتبقى في الذاكرة الثقافية تأريخاً للإبداع وتنويراً لمستقبله.
من جهة أخرى، أكد ناصر العبودي الأمين العام للاتحاد ان هذا الملتقى يعتبر أول ملتقى شعري بهذا العنوان يقام في الدولة بتنظيم من الاتحاد والذي أخذ على عاتقه الاهتمام بالشأن الثقافي والأدبي بجانب المؤسسات الرسمية والأهلية في الدولة، وأضاف ناصر العبودي بأن الشارقة التي تحتضن هذا الملتقى أصبحت نقطة مضيئة في سماء الوطن العربي على مستوى الكتاب والمسرح والفنون التراثية والمتاحف والفنون التشكيلية، بالإضافة إلى رعايتها للكتاب والأدباء بمبادرتها بإنشاء صندوق تكافل اجتماعي لهم. وأكد ان كل ذلك متأت من الدور الكبير والرعاية المشمولة لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة والذي يحتفي بالكتاب والأدباء والشعراء وأهل الفكر.
وذهب العبودي إلى ان اتحاد كتاب وأدباء الإمارات قد حمل على عاتقه مهمة تكملة الاهتمام بالثقافة مع المؤسسات الرسمية والأهلية الأخرى، وبلورة فكرة ان يقيم كل عام ندوة أو ملتقى أو مؤتمراً يهتم بالجانب الثقافي الإماراتي ومن ذلك ندوة الترجمة الإبداعية التي أقيمت العام الماضي، والتي كان لها صدى واسع، محلياً وعربياً وأجنبياً.

في السياق نفسه ألقى محمد إبراهيم حوّر كلمة باسم الضيوف المشاركين واعتبر الشعر الإماراتي رافداً من روافد الثقافة العربية وظاهرة فنية تشف عن رؤية الشعراء لواقعهم واستشرافهم لمستقبلهم، وقال بأنه من الصعب الآن تصنيف الشاعر العربي ضمن رقعة جغرافية محدودة أو دولة قائمة ووصف الشعر الإماراتي بوجوده داخل دينامية تطور ملموس في العقدين الأخيرين بحيث ظهرت فيه معظم الاتجاهات الفنية التي شاعت في الشعر العربي في الأقطار التي سبقت الإمارات في نهضتها واستقلالها بزمن غير قصير، واعتبر أن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات قد لعب دوراً مهماً في نشر بيئة ثقافية جديدة على مستوى منشوراته في كل الأجناس الأدبية والإبداعية، أو من خلال سلسلة الندوات واللقاءات النقدية والفكرية والتي أقامها منذ تأسيسه إلى الآن.
وجاءت الشهادة التي قدمها الشاعر والأديب حبيب الصايغ لتعود إلى مرحلة أدبية بأكملها مستحضرة مناخات وأجواء تلك المرحلة، ولتكون شهادة عن التجربة الشعرية للشاعر وفيها وسيرة شعرية وحياتية وألم في الكتابة وتحولات سوف تهب على قصيدته وحياته وتدفعه في اتجاه عنف لحظات الستينات والسبعينات، وما جاء بعدها من حرقة السؤال الثقافي وتماساته الأخرى.
بدأ حبيب الصايغ بالحديث عن فخاخ الكتابة وفخاخ الشعر، في خطوة أولى منتشية بذاتها سوف تستتبعها خطوات أخرى لاحقة أشد ضراوة، خطوة الغناء خارج السرب وخطوة زمن الرفض وخطوة العودة للرحم، المكان الأول الذي يخلق ألف مرة لأن الشاعر، وذاك قدره، يولد ألف مرة "في خورفكان وفي الفجيرة وفي دبي، في الدم المر وفي القهوة وهي مُرّة" يقول الشاعر حبيب الصايغ: "كأنما ولدت وفي فمي ملعقة من شعر، كأنما ولدت وفي دمي قصائد وأسئلة، وفخاخ نحيلة، ماكرة تتربص بفرائسها عند كل ناصية ولا تستثني"، وحول صعوبة ان يختزل تجربته قال الصايغ: "في العاطفة البسيطة لا يستقيم ان يضع المرء عمره في كل ورقة وفي الفكر، يستعصي مبتدأ وخبراً، مقدمة ونتيجة، أن ينفصل الإنسان، الشاعر هذه المرة: إذا شئتم، عن نفسه، ليقولها، عن ذاكرته، ليتذكرها، إنما هي محاولة".
ووقف الشاعر حبيب الصايغ في شهادته عند أهم مفاصل حداثة الثقافة الإماراتية والماء الكثير الذي جرى تحت جسورها وحلمها المشروع والعراك المنتج الذي أفضى إلى الانتماء للجديد وإلى معاناة الجيل المؤسس لبنيات الحداثة والذي مثله حبيب الصايغ بامتياز إلى جانب أسماء رائدة أخرى، وفي منابر رائدة كان "الخليج الثقافي" أحد أهم أعمدتها ودعاماتها الأساسية عندما فتح صفحاته في بداية الثمانينات لأصوات وتجارب المشروع الثقافي الجديد.
وإن كان من الصعوبة اختزال شهادة الشاعر حبيب الصايغ بسبب لغتها الشائقة ولاشتمالها على تفاصيل ودقائق في سيرته الشعرية والحياتية وسيرة جيله وآمالها وخيباتها فإنه مع ذلك وصف الحركة الثقافية الآن بأنها في أحسن حالاتها بما في ذلك القصيدة التي يكتبها شعراء إماراتيون استفادوا من تراكم الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات.

وحول فتور حضوره في حركة الشعر في الإمارات اليوم، قال: "من قال إن حضور الشاعر بالمعنى المتداول، أهم من غيابه بالمعنى ذاته"، وأضاف: "أخذتني الصحافة نعم، وأغوتني انتصاراتي التي تنطفئ مع كل غروب شمس، لكن انتظروني يا أصدقائي في الزلزال المقبل، انتظروني".
وفي المحور الأول من الملتقى، والذي خصص لموضوع "الحيرة تأسيس ومنطلق" ألقى الدكتور إبراهيم علان ورقة بالعنوان ذاته، وقدم الباحث سلطان بخيت العميمي استقصاء ثقافياً وتاريخياً وأدبياً وعنون ورقته ب "الحيرة ثقافة عريقة" وتناولت المداخلتان أهمية منطقة الحيرة الموجودة في الشارقة والتي نبغ فيها شعراء كبار أثروا القصيدة الإماراتية منذ بداية القرن الماضي، من بينهم الشاعر سالم بن علي العويس والشاعر سلطان بن علي العويس والشاعر خلفان بن مصبح والشيخ علي بن محمد المحمود والشيخ مبارك الناخي والشعراء العاميون من أمثال: الشاعر أحمد بن عبدالرحمن بوسنيدة والشاعر علي بن محمد بن محين الشامسي والشاعر سالم الجمري.
وجاء في مداخلة الدكتور إبراهيم علان إن منطقة الحيرة في الشارقة قد لعبت دوراً مهماً على المستوى الثقافي والأدبي والعلمي والاجتماعي وانها شكلت منجماً من مناجم الإبداع في روحه العربية والإنسانية، وعدد علان أسماء الشعراء الذين خرجوا من الحيرة والأدوار الطلائعية التي لعبوها في الحياة الثقافية في الإمارات، وقال: "إننا نلاحظ في قصائد شعراء الحيرة أنها على صلة بالماضي، ولكنها لا تخلو من التجديد في المضمون وصور التعبير، فقد عبروا عن هموم الوطن ودعوا إلى نشر العلم والمعرفة وتأثروا بما حل بفلسطين وشعبها وهللوا لإنشاء الجامعة العربية ولم ينسوا أحاسيسهم الخاصة ومشاعرهم تجاه الجمال في النساء وفي الطبيعة".
ورغم أنهم كانوا في بدايات القرن العشرين وفي شبه عزلة عن العالم العربي، فقد حقق بعضهم حضوراً في الساحة الثقافية العربية واتسمت أشعارهم بروح العصر فانطلقت العبارات الشعرية منسابة دون تكلف ولكنها لا تخلو من صور مبدعة وطريفة في أحيان كثيرة، رغم بعض الهنات العروضية واللغوية.
وقد أثبت رجال الحيرة أنهم حملوا راية التنوير ففتحوا المدارس والمكتبات واستقدموا المجلات والكتب والصحف وحرروا بأنفسهم صحفاً حائطية بأدوات بسيطة، علاوة على ما اكتظت به مجالسهم من العلماء والشعراء الذين كانوا يجوبون الجزيرة العربية.
وقد لعب بعضهم دوراً خارج حدود الإمارات كمبارك بن سيف الناخي ومحمد بن علي المحمود اللذين ذهبا للتدريس في قطر.
وهكذا أثبتت الحيرة أنها كانت البؤرة الأولى التي ترعرعت في تربتها الأزهار الآدمية وكانت حاملة مشاعل التنوير والنهضة. فسقى الله ثراهم بكل خير.
وطرح الباحث سلطان بخيت العميمي عدة أسئلة في مداخلته المعنونة ب "الحيرة ثقافة عريقة" تتصل بالأهمية الإستراتيجية التي اكتسبتها منطقة الحيرة والأجيال الأدبية والشعرية التي نبغت فيها وانطلقت شهرتها الأدبية منها وأضحت علامة بارزة في الحياة الثقافية الإماراتية، وقال في حديثه عن الحيرة: أما حيرة الشارقة، فهي تلك المنطقة التي لا تختلف في تاريخها وجغرافيتها وأهميتها عن بلدة الحيرة، وأفضل ما يمكن ان نطلقه على الحيرة في الشارقة، أنها كانت العاصمة الثقافية للإمارة، حيث مثلت بمثقفيها الجانب الثقافي للإمارة، كما نجد لها نشاطاً ملحوظاً على الصعيد الاقتصادي، حيث كان أغلب تجار اللؤلؤ وطواويشه من سكان الحيرة.
أما معنى اسم الحيرة، فهو يشير إلى أكثر من معنى، فالحيرة عكس التيقن والرشاد، يقال فلان حائر ومحتار، وهي تعني أيضاً الحجرة في المنزل، حيث تقلب الجيم في العامية إلى ياء.
كما تعني أيضاً حارة، وهو المعنى الذي يعطيه عدد من كبار السن في هذه المنطقة كتفسير لمسمى الحيرة، حيث يقولون ان الحيرة كانت تتكون في الماضي من مجموعة من الحارات المتراصة والمتقاربة، والتي كان منها حارة بالهول، وحارة بن كلبي، وسكان هاتين الحارتين من الشوامس، وكذلك أغلب الحارات الأخرى في المنطقة ذاتها.
عندما نذكر الحيرة، نتذكر الشيخ صقر بن سلطان القاسمي وسالم بن علي العويس، وعلي بن عبدالله العويس، وسلطان بن علي العويس، وأسرة آل المحمود، ومنهم علي بن محمد بن علي المحمود، ومبارك بن سيف الناخي، وخلفان بن مصبح الشويهي، وعبدالرحمن بن محمد الشامسي، ومحمد بن سيف الشويهي، ومحمد بن جاسم بن جروان وغيرهم كثيرين.
عندما نذكر الحيرة، لا بد أن نذكر جماعة الحيرة التي أسسها أبناء الحيرة، ولا بد ان نذكر أيضاً الشيخ مشعان بن ناصر، والشيخ الرجباني.
نذكرهم ونذكر أيضاً عدداً من الشعراء العاميين، نذكر علي بن محين الشامسي، وأحمد بن عبدالرحمن بو سنيدة، ولا بد من التوقف أيضاً مع الشيخ مانع بن راشد بن مكتوم بن بطي والشاعر سالم الجمري لنتأمل في ذكرياتهم في الحيرة.
تقع منطقة الحيرة بين إمارتي الشارقة وعجمان، وهي تتبع لإمارة الشارقة، وكان أغلب سكانها من أفراد قبيلة الشوامس، وكان النشاط الاقتصادي والثقافي معلمين بارزين من معالمها، وكانت سمعة المنطقة قد تجاوزت حدود الإمارات، حيث كانت مقصداً للعديد من المثقفين والأدباء والعلماء من داخل وخارج الشارقة.
وتوقف سلطان العميمي عند أسباب نهضة الحيرة الثقافية قائلاً: لكن، ما هي أسباب النهضة الثقافية التي شهدتها هذه المنطقة؟ لماذا لم تشهد بقية المناطق في الإمارة أو في بقية الإمارات، خروج مثل هذا الكم من الأدباء والمثقفين والمفكرين؟ هل هي مسألة مصادفة غير مخطط لها؟ أم أنها نتيجة طبيعية لعدد من المعطيات في تلك الفترة؟
دعونا نستعرض عدداً من هذه الأسماء، وبعض الشهادات من أصحابها، لنحاول الخروج بما يمكن ان نفسره لازدهار هذه المنطقة قبل أكثر من قرن.
سنبدأ بشعراء الفصحى، لنبدأ مع الشاعر سالم بن علي العويس، الذي ولد في سنة (1307 ه) الموافق لسنة (1889م)، في بلدة الحيرة في عائلة ميسورة الحال، لكون أغلب رجالها نواخذة لسفن الغوص وتجاراً للؤلؤ، كوالده وخاله عبدالله بن سلطان وعلي بن عبدالله العويس وآخرين، كما تميزت عائلته باهتمام أفرادها بالشعر والأدب، كوالد الشاعر وجده لأمه سلطان وجدته أم والده.
وانتقل منها بعد سنوات قليلة من صباه وسكن منطقة الحمرية في الشارقة، بينما بقي والده ناصر في الحيرة بالشارقة تاجراً معروفاً في تجارة اللؤلؤ، لكن عاد إليها بعدما يقارب الثلاثين عاماً، وتحديداً في عام ،1926 وأقام فيها مدة 17 عاماً، وكانت فترة وجوده فيها من أخصب فترات حياته التي كانت مليئة بالأنشطة التجارية والثقافية والأدبية، فافتتح له محلات تجارية فيها وفي الحمرية وأم القيوين والجزيرة الحمراء، وعين فيها بائعين بالأجرة، كما امتلك سفينة تجارية من نوع الصمعة وكان ينقل فيها البضائع من دبي إلى تلك المحلات بقيادة أبنائه، كما كان يستورد السمن من الهند، ويوزعه على المحلات بغرض بيعه.
وفي سبيل الطواشة سافر الشاعر عدة مرات إلى البحرين، كما سافر إلى الهند لبيع اللؤلؤ، ولكنه في أغلب سنوات تعامله مع اللؤلؤ كان يشتريه ويرسله لوكلاء في الهند ليقوموا بتصريفه.
لقد كانت فترة وجود سالم العويس في الحيرة فترة مهمة، حيث نشأ فيها سنوات عمره الأولى، ولأنه عاد إليها فيما بعد، ونظم في أثناء وجوده فيها عدداً كبيراً من قصائده الفصيحة".

الخليج الثقافي

**********

ملتقى الشعر يناقش مرجعيات الشعر الحديث
ومفردات التجربة النسوية في الإمارات

عاينت جلسة ملتقى الشعر الإماراتي التي عقدت المدارس الشعرية وأثرها في قصيدة الإمارات من خلال تتبع آثار شعراء القصيدة الجديدة خلال المسيرة الشعرية التي شهدت الثمانينات طفرات في تراكيبها الفنية، وتقصت الجلسة الصباحية التي عقدت أول من أمس بحسب صحيفة "الراية" القطرية التجربة الشعرية النسوية مع محاولات بحثية جادة تضمنتها أوراق الجلسة لرصد الغياب.
وتناولت الجلسة التي عقدت في قاعة المحاضرات بقناة القصباء بالشارقة البحريني علي عبدالله خليفة شهادته حول تجربته الشعرية شهادة للشاعر.
وبحار النقد والفلسفة التي أراد لها الشاعر ان تنتصر في علاقته وتمسكه بالشعر، وهي ان الشعر يأتي كيفما شاء يختار بوتقته ولا إطاره ولغته ويفرضها على الوجود بدون ترتيبات ولا شروط ولا اشتراطات.
وقال علي عبدالله خليفة في هذا الإطار: "أود أن اعترف بأن ذلك خارج عن إرادتي ومن تجربة فعلية فأنني لا املك خيار لغة القصيدة وإنما هي التي تختار عند التخلق ما تريد، وان ذلك كان ولا يزال غائبا ليس عن عامة المثقفين وإنما عن بعض المتمرسين من نقاد الشعر أيضا، لبعدهم عن فهم طبيعة التجربة الشعرية، وبعدهم عن تفهم ما يكتب بالعامية".

بعد ذلك قدم الباحث والناقد عزت عمر ورقة بعنوان "توجهات القصيدة الجديدة في الإمارات" استعرض خلالها نماذج من التجارب الشعرية لشعراء إماراتيين من بينهم إبراهيم الملا وخالد البدور وثاني السويدي.

أما الباحث سالم خدادة فقد تناول في ورقته "القصيدة الحديثة في الإمارات.. قراءة في بعض مداخل الشعرية" الملامح والمداخل الجديدة في قصيدة الشعر الإماراتية كتحول العنوان وتقدم الانزياح وبروز السرد عند بعض شعرائها وتنوع الإيقاع عند البعض الآخر.

مؤكدا على ان النزعة الرومانسية ظلت مطلة بوجهها الجميل في نتاج الشعراء وعناوين دواوينهم بين حين وآخر حيث مثلت عناوين بعض الدواوين المنتمية إلى الواقعية، شعر التفعيلة، تحولا آخر في حركة الشعر في الإمارات إذ اخذ الشعراء ينشئون كثيرا من العناوين المختلفة في صياغتها عما لمسناه عند ذوي النزعة الرومانسية.

وتناول د. رمضان بسطاويسي محمد دور المستحدثات الشعرية على التجربة الشعرية في الإمارات في ورقة بحث مطولة وشاملة حضرت فيها نماذج شعرية للعديد من الشعراء مشيراً في بدايتها إلى ان كثيراً منهم قد واكب مسيرة الحداثة الأدبية وأكملوا مسيرة الكتابة من حيث انتهى من قبلهم وارتكزوا على مقياس الإبداع الخلاق وحققوا مهمة الشاعر والأديب الحقيقي بكونهم المرآة التي تعكس مجتمعهم وتعكس الكثير من سمات الثقافة العربية الراهنة وتحديدها.

التجربة الشعرية النسوية

"التجربة الشعرية النسوية في الإمارات" هي محور الجلسة التي شاركت بها كل من الشاعرة الإماراتية صالحة غابش ود. صالح هويدي ود. سعاد المانع والشاعر والناقد الموريتاني محمد ولد عبدي.

وفي محاولة استقرائية وميدانية أيضا ذهبت الشاعرة صالحة غابش في ورقتها إلى السؤال المباشر عن سر وغياب شاعرات تركن تجاربهن ومضين إلى الاختفاء متسائلة: هل هو انسحاب عن الكتابة أم انسحاب عن النشر وقالت:
على الرغم من تعدد المدارس الشعرية التي تخرجت منها الشاعرة الإماراتية خلال ثمانينات القرن العشرين، خاصة مدرستي الحداثة والتفعيلة إلا ان ظاهرة اختفاء الشاعرات و"الشعراء" عن الساحة بعد الظهور والغياب بعد الحضور شكل لدي أسئلة حاولت ان أجد لها أجوبة حتى من المعنيات بالأمر .

وفي إطار عنوان الجلسة قدم الشاعر والباحث الموريتاني محمد ولد عبدي ورقته التي جاءت تحت عنوان "الشعر الأنثوي في الإمارات..السياق والرهانات"، أكد خلالها على ان تجربة الشعر النسوي في الإمارات تكاد تكون استثناء في الخليج فهي لم تكن مجرد أصوات ناشزة، بل كانت تجربة جماعية متصادية الأصوات.
أما د. سعاد المانع والتي تناولت من جانبها المرأة في شعر المرأة في التجربة الشعرية النسوية في الإمارات من خلال قراءة نقدية تحليلية تتبع مسارات الأنثى في قصائد مجموعة من الشاعرات الإماراتيات، فقد خلصت إلى ان هناك جرأة في الموضوعات المتصلة بالجسد أو المتصلة بمواجهة التقاليد الاجتماعية ويظهر التمسك بهذه التقاليد واضحا عند شاعرات أخريات.

وتناولت د. صالح هويدي تجليات المكان في تجربة شاعرتين إماراتيتين هما الشاعرة صالحة غابش والشاعرة الهنوف محمد حيث يرى الدكتور هويدي أن المكان في نصوص الشاعرة صالحة غابش في شكل ملامح عامة مطلقة ممثلة في الرمل والبحر والشاطئ .

وعن أمكنة الشاعرة الهنوف محمد يشير د. هويدي إلى ان ابرز ما يميز التعبير عن صورة المكان لدى الشاعرة هو تركيزها على المكان السلبي الذي يكشف عن سيادة السمات الدالة على الانكفاء والركود والخواء.

الرأي - 8-2 -2005

****

مناخات الشعر الإماراتي الحديث
تجارب الاستمرارية والتجاوز

كتب: حكيم عنكر

لا بد في بداية هذه القراءة في المتن الشعري الإماراتي الحديث من الإشارة إلى محددات منهجية عدة تتعلق بطبيعة القراءة نفسها ورهاناتها، وأول هذه المحددات ان قراءة الشعر ليست في النهاية إلا عملاً ذاتياً وتذوقياً. وان الآلة المنهجية مهما كانت عدتها و"عتادها" ما هي إلا ذريعة أو واسطة ما بين القارئ والنص أو "أداة توسط"، هذا إذا علمنا انه لا توسط بين المتلقي والأثر الأدبي ذلك ان كل سلطة منهجية مهما كانت درجات استجاباتها وشمولية مستوياتها لن تستطيع الادعاء بتقديم النص من جوانبه وتسليط الضوء على تشابكات وجوده كذات حية تتنفس وتعيش وترتحل إلى الناس والقراء في أزمنة وأمكنة متعددة.
ثانياً، ان هذه القراءة، ليست إلا اقتراحاً من اقتراحات كثيرة، محكومة في الأول والأخير بتتبع "الشعر" وهو ينتقل من شاعر إماراتي إلى آخر ومن شاعرة إلى أخرى، وهو (أي الشعر) ليس قسمة عادلة بين جميع الشعراء الإماراتيين وما ينبغي له ان يكون، مثل أي شيء في الحياة، مثل الجسوم والقوامات والأفئدة والأرصدة والذرية.
ثالثاً، نؤمن ان القصيدة الإماراتية الحديثة ليست قصيدة واحدة، انها مثل الشعر العربي الحديث تجارب فردية وأوجه قطيعة واستمرارية وحوار مع النص الغائب والذي هو في حالتها، المدونة الشعرية العربية والتراث الشعري العالمي وكل النتاج الأدبي الإنساني، وبذلك فإن هذه القصيدة الإماراتية تتأسس من خلال المناخ الشعري العربي وحداثة قصيدته وأبحاثها الجمالية واختياراتها الشكلية، سواء من خلال استمرار عمود الشعر في جزء من مساحتها التي تضيق باستمرار أو من خلال قصيدة التفعيلة التي توطدت داخل بنية الاستقرار والذي وفر لها نوعا من الإقامة في ذاكرة الشعر العربي وجعل روابطها أكثف مع الشعرية التقليدية التي ظلت في حوار معها وفي نقض وتجاوز بسبب مشتركات كثيرة، أغناها الظاهرة العروضية باعتبارها أسلوباً ومنطقاً في التفكير وتمثلا العالم.
انخراط في صلب أسئلة الحداثة دونما حاجة إلى الفرز الكمي والأجيالي عزلة المتن مؤقتة وسيحين الوقت لينجز حواره الغائب مع ذاته ومحيطه الشعري أو من خلال قصيدة النثر، التي وان كانت قد حسمت موقعها الخلافي، فإن التردد بشأنها لا يزال يجد بعض المقاومات من العموديين والتفعيليين في تحالف مرحلي بسبب "المصالح" المشتركة والتي هي نتيجة لوحدة الدفاع عن القيم السائدة في التذوق والجمال والحياة والبيئة الثقافية التي تعكس منطق السلطة الثقافية المهيمنة.
ولذلك فإن "كتّاب" قصيدة النثر أو "شعراء" قصيدة النثر يوشكون على تقديم أنفسهم، داخل هذا الوعي بشراسة هذا الصراع العنيف الأعماق، الهادئ الضفاف، بأنهم البديل الجدري الجمالي، لذلك فإنهم يكتبون قصيدة فيها "إغراب" كثير و"غموض" مفكر فيه وجملة شعرية لامعة دفعت بالكثير من شعراء التفعيلة إلى الارتحال بين الفينة والأخرى لكتابة هذه القصيدة وتذوق طعمها ولسان حالهم يقول بالاستهزاء نفسه الذي ردده العموديون في لحظة من اللحظات عن قصيدة التفعيلة: ما أسهل هذه الكتابة المستباحة.

ملاحظات عامة حول

تجربة الحداثة الشعرية

وفيما نخال فإن حداثة القصيدة الإماراتية وخلال عهد قصير (30 سنة) من حركة نشرها وتداولها قد عاشت كل هذه الأسئلة، ذلك انه وعلى مدار ثلاثة أجيال شعرية كان السؤال الشكلي حاضراً ضمن أسئلة بحوثها الجمالية، إننا ونحن نرصد هذا المتن الشعري نرصد الملاحظات التالية:
أولى هذه الملاحظات، ان القصيدة الإماراتية لم تتوقف عن الإعلان عن نفسها باعتبارها قصيدة عربية أي داخل المشروع الحداثي العربي العام بمعنى انها جزء من جدلية حوار الشكل والمضمون الذي عبّر عنه في الدعوة لإعادة قراءة التراث الثقافي قراءة جديدة تستلهم جانبه المضيء وتحدد موقفا متجاوزا من انحطاطه ومظاهره السلبية.
ثاني هذه الملاحظات، ان القصيدة الإماراتية الحديثة تراكب داخلها كل منجز الحداثة الشعرية واستفادت بذلك من التراكم الحاصل الذي سهل عليها الانخراط مباشرة في صلب أسئلة الحداثة دونما حاجة إلى الفرز الكمي والنوعي والأجيالي.
ثالث هذه الملاحظات، انها جاءت مطبوعة بخصوصية وصوت محلي، وإن كان موضوع الخصوصية يحتاج إلى تفكير وتدقيق عميقين، اعتباراً لكون الخصوصية ظلت مطلب الشعر العربي الحديث والذي أنتج نوعاً من التخبط الثقافي ومن الحيرة ما بين التعبير عن الهم الجماعي في قصائد الالتزام وما بين التمترس خلف جدار الذات أو من خلال حوار "سياحي" مع مفردات المكان الواقعي أو الأسطوري.
ولم تأل القصيدة الإماراتية الحديثة جهداً في الانطباع بخصوصية فارقة، تميزها ويشار إليها بالبنان وهو جهد تترجمه قناعة مفادها ان الشعر يكتب هنا والآن وداخل الجوهر الإنساني في الوقت نفسه.
الملاحظة الرابعة، ان الحداثة الشعرية الإماراتية تبدو وكأنها جزر صغيرة معزولة، لا حوار ولا تفاعل بين نصوصها، وهي عزلة ذاتية مؤقتة تنبع من الخوف من التشابه، ولكون كل شاعر إماراتي جديد لا يعتبر نفسه استمراراً ضمن متوالية الإنتاج الشعري أو إضافة، بل قارة قائمة الذات ووجوداً شرعياً لا ثاني له، ولكن هذه العزلة الصامتة هي في وجه منها مرحلة مؤقتة، إذ سيحين الوقت الذي سيسمح بإبراز تلك الخطوط العميقة والمتشابكة التي توحد نفس القصيدة الإماراتية في أبعادها الرؤياوية وقلقها الوجودي ومكوناتها الجمالية.
وخامس هذه الملاحظات، ان النص الشعري الإماراتي مطالب بالتعريف بنفسه وتقديم "مشروعه" إلى الساحة الشعرية العربية والعالمية ووضعه المرتبط بحركة النشر والجهات الداعمة للكتاب وبالأخص من خلال مطبوعات دائرة الثقافة والإعلام في حكومة الشارقة أو من خلال منشورات وزارة الثقافة والإعلام في الدولة أو من خلال مؤسسة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات أو مؤسسات ثقافية أخرى، كل هذه الآليات يمكن ان تهيئ أرضية خصبة لتداول الكتاب الشعري على مستوى واسع محلياً وفي شكل مخطط مدروس لنشره في باقي البلاد العربية.
هذه الملاحظات كانت أساسية وضرورية لأن كل قراءة لا بد لها من الاندراج داخل أسئلتها وأهدافها وبالأخص في ما يتعلق بالشعر الإماراتي الحديث الذي لم تسنح الفرصة بعد لدراسته وتقديمه نقدياً، باستثناء الحالات المفردة التي تناولت شاعراً بعينه أو تجربة شعرية مخصوصة. قراءات تقديمية، وعلى أهميتها، تبقى الضرورة ملحة لإنصات عميق لأسئلة الشعر في القصيدة الحديثة الإماراتية، وهي أسئلة ذات بال بالنظر لخصوبة المتن الشعري ذاته، والذي نجده قوياً عند أحد أعمدة قصيدة الحداثة في الإمارات ونقصد بذلك الشاعر حبيب الصايغ الذي ينطبع شعره بتطلب كبير وحرص وكثافة والذي اجتاز موطنه الإمارات ليعلن عن نفسه شاعراً عربياً، متخذاً بيروت قاعدة نشره وانطلاقته، لنلاحظ انه وعلى مدار عقدين من الزمن قد نشر أغلب إنتاجه الشعري وأحياناً في فترات متقاربة جداً، مما يؤشر على قلق السؤال الشعري لديه وعلى مقدار التورط ضمن أسئلة الشعر والكتابة وأسئلة اللحظة العربية الملتبسة.
هكذا ينشر حبيب الصايغ: "هنا بار بني عبس - الدعوة عامة" سنة 1980 و"التصريح الأخير للناطق الرسمي باسم نفسه" في السنة نفسها و"قصائد إلى بيروت" سنة 1982 و"ميارى" سنة 1988 و"قصائد على بحر البحر" سنة 1993 و"وردة الكهولة" سنة 1995 و"غد" سنة 1996.
يوازيه في هذه الانطلاقة القوية الشاعر أحمد راشد ثاني، الذي يشاء ان ينشر أول ديوانه له بالعامية سنة 1981 والمعنون ب"سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي تعرفه" في دمشق، قريباً من بيروت، وينشر أول ديوان له بالفصحى سنة 1991 بعنوان "دم الشمعة" وسيعود إلى بيروت ليطلق ديوانه الثاني والمعنون ب"حافة الغرف" سنة ،1999 بينما سيطلق ديوانه الثالث "جلوس الصباح على البحر" سنة 2003 من الشارقة.
لكن أحمد راشد ثاني ستصرفه عن نشر الشعر مشروعات أخرى وولع آخر هو جزء من قصيدته، بحوثه التراثية واهتمام بالتاريخ الشفوي وطموح الكاتب المسرحي داخله ثم شعره بالعامية، ولذلك فإنه يبدو موزعاً، منشغلاً بأطراف كثيرة، مكتوياً بالأسئلة الحقيقية للثقافة الإماراتية، ان هذه كلها "تضحيات" سوف تجازى فورياً بقصيدة مشغولة بعمق، لها غيبها الخاص ومرجعياتها وافتتانها.
وهو الطموح نفسه سيدفع بالشاعر خالد البدور إلى واجهة المشهد الشعري وهو القادم من لغات أخرى وثقافة بصرية بميزانها الأكاديمي، وتقضي "المشيئة" الشعرية ان تكون انطلاقة ديوانه الأول "ليل" من بيروت سنة 1991 عقب فوزه بجائزة "يوسف الخال" في السنة نفسها، انطلاقة كرسته كشاعر عربي ومنحته ثقة في تجربته وفي قصيدته، وسوف يأتي ديوانه الثاني "حبر وغزل" الصادر عن المجمع الثقافي في أبوظبي ليوطده كشاعر له صوته المفرد، ولعل ديوانه "شتاء" الصادر سنة 2002 عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات سيتوّجه كشاعر له قيمه اللغوية والجمالية وأبعاده الرؤياوية ومكانته التي لا ملاججة فيها في خريطة حداثة القصيدة الإماراتية، ومثله مثل أحمد راشد ثاني ستغويه مناخات الشعر العامي وسينطلق فيه مجدداً على غرار شعره الفصيح وسيعيش محفوفاً بانشغالات أخرى متاخمة بصرية (أودوفيزيال) وسينمائية رفقة زوجته الشاعرة والسينمائية نجوم الغانم.
لكن شاعراً آخر سيعلن عن وجوده بقوة من حيث الوفرة ومن حيث الحرص على إصدار كتبه الشعرية، كتاباً تلو كتاب، يتعلق الأمر بالشاعر إبراهيم محمد إبراهيم الذي أصدر أول ديوان له سنة 1990 بعنوان "صحوة الورق" وينتظر سبع سنوات بعد ذلك كي يرتب أشياء ليعلن "فساد الملح" سنة ،1997 لكنه بعد ذلك سيفتح باب نبوءته الشعرية على مصراعيه، ليصدر منذ بداية الألفية الثالثة خمسة دواوين شعرية على التوالي هي: "هذا من أنباء الطير" و"الطريق إلى رأس التل" و"عند باب المدينة" و"خروج من الحب دخول إلى الحب" وديوانه الأخير "مس من شتاء". هذه السيولة في النشر تبين شجاعة الشاعر إبراهيم محمد إبراهيم ومدى أهمية رهاناته الشعرية في وقت يتراجع فيه محيط قراء الشعر وعشاقه.
لقد بدأت حركة نشر الكتاب الشعري الإماراتي منذ بداية الثمانينات، لكنها بلغت درجة من الحيوية في سنوات التسعينات من القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة. وان لذلك لدلالة بالغة وعميقة، إذ يعني من ضمن ما يعنيه ان النشاط الإبداعي ورفع ما كتب في تلك الفترة هو مؤشر على حيوية القصيدة الإماراتية ووصولها إلى مستوى من النضوج والاستواء.
وبقراءة أخرى فإن هذه "الأقلام" الواعدة التي انطلقت تكتب في الصحف المحلية في بداية الثمانينات وفي الدوريات والمجلات الخليجية والعربية، قد وجدت نفسها وفي مدة زمنية قصيرة في شباك "سن الرشد" الإبداعي وداخل قدرها الشخصي وقدر الكتابة نفسها.
لقد ذابت النزوة الشخصية والدوافع الذاتية "البدائية" لتصبح الكتابة تورطاً ومسؤولية وبالأخص في مناخ ثقافي عربي عام كان يعتبر الثقافة والإبداع أداة مقاومة ومواجهة لكل أشكال الغبن التاريخي والحضاري الذي طال أمة العرب، وبالتالي فإن الحركة الثقافية عموماً في الإمارات والحركة الشعرية بشكل خاص قد وجدت نفسها داخل هذا المقترب الموضوعي وفي التعادي التام مع ما يحدث في المشرق العربي على مستوى البنيات الفوقية والتحتية، لكن القصيدة الشعرية الإماراتية سرعان ما ستجد موضوعها، وهو موضوع ليس سهلاً أو ملقى على قارعة الطريق، لقد كان ذلك نتيجة لتجارب مخبرية شديدة الحماسة والتشيع إلى الحداثة كمعتقد جمالي لا سبيل إلا بالانخراط فيه، لكن من الموقع الخصوصي الذي تتأسس عليه التجربة الشعرية باعتبارها تجربة ذاتية لها أصواتها الجماعية في المشترك الإنساني.
من الجوانب المثيرة للاهتمام أيضاً خلال الثلاثة عقود من الشعر الإماراتي، هو الوعي الجمالي الذي أصبح انشغالاً حقيقياً لدى هؤلاء الشعراء. بحيث ترجم على مستوى سلاسة الجملة الشعرية ونضوجها والابتعاد عن أطياف الكلاسيكية والاستناد إلى منظورات جديدة في الكتابة وفي استلهام للثراء النقدي الحديث وللطروحات الجمالية في فلسفة الفن والإبداع.
وإن كانت هذه الخلفية النظرية تتفاوت من شاعر إماراتي إلى آخر، فإنها شكلت عاملاً مساعداً على إنجاز شبه مشروع لتجاوز الأثر الأدبي والإبداعي الكلاسيكي وزرعت البذور الأولى لشجاعة المغامرة وحرية الكتابة وتجاوز سلطة اللغة نفسها. وسنلاحظ انه وبعد هذه السنوات سيصبح الحديث عن الشعر الإماراتي أكثر صدقية بسبب توفر المادة الشعرية نفسها وبسبب عدد المنخرطين في حقل الكتابة واتساع دائرة الشعراء، وأيضاً بالنظر إلى الإصرار الذي يعتمل داخل هذه التجارب في مواصلة الكتابة وكتابة القصيدة الحديثة، وفي النقلات التي تتجلى من ديوان إلى آخر.
يكاد يكون هذا الإصرار على المواصلة جماعياً لدى الشعراء الإماراتيين، فهذه الشاعرة خلود المعلا تصدر في مصر ثلاث مجموعات شعرية منها "وحدك" و"هنا ضيعت الزمن"، لكن أكثر الشاعرات الإماراتيات كثافة وحضوراً على المستوى المحلي والعربي، الشاعرة ظبية خميس، والتي لا تعيش كشاعرة فقط، بل انها تجسد نموذج المثقف العربي الذي يحضر بأشكال مختلفة في المشهد الثقافي العام. لقد أصدرت الشاعرة ظبية خميس ومنذ سنة 1981 كتبها الشعرية ومجموعاتها القصصية ودراساتها النقدية والفكرية من عاصمتين ثقافيتين عربيتين هما القاهرة وبيروت، وفي دور نشر معروفة مثل رياض نجيب الريس والمؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار النديم ودار عيون جديدة. ففي سنة 1981 تصدر ظبية خميس كتابها الأول "خطوة فوق الأرض" لتواصل بعد ذلك سلسلة إصداراتها ب"قصائد حب" و"موت العائلة" و"حبايات المهرة العمانية" و"المشي في أحلام الرومانتيكية" وغيرها من المجموعات الشعرية والتي تضعها ضمن مصاف أغزر شاعرة وكاتبة إماراتية.
وداخل هذا التوثب، تكتب صالحة غباش الشعر والقصة، لكنها ومع مرور سنوات تجربتها تسعى صالحة إلى تأكيد وضعها كشاعرة، إذ انها ستصدر سنة 1992 ديوانها الأول "بانتظار الشمس" ضمن منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، وفي خطوة لافتة بعد ذلك، تجعل من انتظارها انتظاراً قصيراً عندما تصدر مجموعتها الثانية "المرايا ليست هي" سنة ،1997 ثم تواصل تعميد ذاتها كشاعرة لها مكانتها المحفوظة في المشهد الشعري الإماراتي عندما نشرت مجموعتها الثالثة "بمن يا بثين تلوذين؟".
شاعرة إماراتية أخرى هي الهنوف محمد تعلن عن نفسها أواسط التسعينات عندما تنشر من بيروت ديوانها الأول "سماوات" وتنتظر مدة طويلة نسبياً قبل ان تنشر ديوانها الثاني "جدران" سنة ،2004 والأمر نفسه ينطبق على الشاعرة منى مطر التي بدأت النشر في أوائل التسعينات لكنها لم تستطع ان تنشر مجموعتها الأولى إلا في السنة الماضية تحت عنوان "أوراق الماء".
في الجهة الأخرى هناك شعراء إماراتيون آخرون كان الشعر من صميم اهتماماتهم وجوهر انشغالاتهم لكن ولأسباب متعددة يلجئوا إلى طرق نشر أخرى من بينها الكتاب الشعري الجماعي أو المجموعة الشعرية المشتركة مثل ما فعله أحمد العسم وعبدالله السبب وهاشم المعلم عندما أصدروا كتاباً شعرياً مشتركاً بعنوان "مشهد في رئتي"، ليتسنى لهم بعد ذلك إصدار كتبهم المفردة. وان كان السبب قد أصدر مجموعته الشعرية "الآن" قبل ذلك، ومن هذه التجارب يجدر ذكر التجربة الشعرية القصصية المشتركة والمعنونة ب"تراتيل النوارس" لكل من القاص والسينمائي مسعود أمر الله والشاعرين: إبراهيم الملا والهنوف محمد.
وتجارب الإصدار المشترك تجارب لافتة للانتباه في المشهد الشعري الإماراتي إذ في الاعتقاد انها كانت تؤسس لبداية حوار ثقافي وأدبي وجمالي ولتأسيس ما يسمى بجماعة شعرية، مثل جماعة "الشحاتين الخمسة" التي تأسست في رأس الخيمة، غير ان هذه الجماعات التي تقاربت رؤاها في فترة وجدت نفسها بعد مرور مدة من الوقت تدقق أكثر في اختياراتها الجمالية وقناعاتها هكذا يصدر الشاعر أحمد عيسى العسم ديوانه "يحدث هذا فقط" سنة ،2002 ويطلق الشاعر إبراهيم الملا "حمراء في السلال"، ديوانه الأول من منشورات الجمل بكولونيا، فيما ينشر هاشم المعلم "المدفون في الهواء" سنة 2003.
من التجارب الرائدة في الشعر الإماراتي الحديث، لا يمكن تجاوز تجربة الشاعر عارف الخاجة، والذي نشر أول أعماله سنة ،1983 بعنوان "بيروت وجمرة العقبة"، عن دار الطليعة في الكويت، وينشر بعد ذلك ديوان "قلنا لنزيه القبرصلي" سنة ،1986 وديوان "صلاة العيد والتعب" في السنة نفسها.
ومن التجارب الشعرية التي لها حضور أساسي في القصيدة الإماراتية الحديثة تجربة الشاعرة نجوم الغانم في ديوانها "مساء الجنة" والتجربة الشعرية للشاعرة ميسون صقر القاسمي والتي تعتبر من بين الشاعرات العربيات اللواتي قدمن الشيء الكثير للقصيدة العربية، ومن أعمالها نذكر "الآخر في عتمته".
على مستوى آخر يعيش الشاعر ثاني السويدي تحت غمامة روايته "الديزل" والتي أصدرها سنة 1994 عن دار الجديد في بيروت، واعتبرت في وقتها انعطافة مهمة في الكتابة السردية في منطقة الخليج، وإن كان السويدي قد اصدر قبل "الديزل" ديوانه الأول "ليجف ريق البحر" سنة 1991 عن منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ليعود بعدها في سنة 2000 لينشر في بيروت ديوانه "الأشياء تمر".
على أن أهم تجربة شعرية إماراتية مجددة بسياقها الجمالي العنيف الذي قطع حبل السرة نهائيات مع مقتضيات الشعرية العربية السائدة، كانت ولا تزال تجربة الشاعر عبدالعزيز جاسم في ديوانه "لا لزوم لي" والصادر عن دار الجديد في بيروت سنة ،1995 وهي تجربة تندرج ضمن سياق قصيدة النثر والتي انتهت إلى شبه قطيعة مع المتخيل الشعري العربي الكلاسيكي وحاورت شعريات كونية أخرى من داخل الأفق النظري والمعرفي الذي رسمته الناقدة الفرنسية سوزان بيرنار في كتابها عن قصيدة النثر: "Poeme de lopose".

قراءة في النص.. شقهات عمودية

لعل الصورة تبدو واضحة الآن، فالنص الشعري الإماراتي ليس نصاً واحداً، بل هو متعدد ومختلف وينتمي إلى لغات، محافظ عند البعض، متشبث بلغة مسكوكة عند البعض الآخر، متردد في حسم وضعه كتجربة فردية، أو انه ذاهب إلى ما يجعل من المغامرة الشعرية تستأهل هذا الوصف.
ولأن غرض هذه القراءة ليس إصدار أحكام عامة ونهائية، وما ينبغي لها أن تكون كذلك، فقد آثرنا الحوار مع هذه النصوص، والاقتراب من لغاتها، تفاديا لكل حكم قيمة متسرع، وهذا يعود إلى اعتبارات عدة، أولها ان هذه التجارب وعلى مسافة ثلاثين سنة ومع التفاوت الذي يطبعها، تظل تجارب غير نهائية، أي انها لم تبلغ بعد محطتها الأخيرة، فهي لا تزال موجودة وتعبر عن نفسها، وتسعى عبر انتمائها للشعر إلى مواصلة تنفيذ مشروعها الشعري والتورط في مقتضيات القصيدة وتجريب أدواتها ومن ثمة الاستقرار داخل نتائج بحثها الجمالي وقناعاتها الفنية وفلسفتها ورؤياويتها.
ثاني الأشياء ان هذه النصوص السالفة الذكر ليست كل النص الشعري الإماراتي، ذلك إننا نعتقد ان هناك أسماء أخرى وشعراء وشاعرات إماراتيات لم تسعفهم ظروف خاصة وملتبسة في نشر أعمالهم في مجموعات شعرية ودواوين أو في الولوج الفعال إلى الساحة الأدبية المحلية، فيما تكون تجارب أخرى قد انقطعت عن نشر الشعر على الأقل وأسماء أخرى قد صمتت أو اختارت ان تعلن عن نفسها عبر أنواع أدبية غير الشعر.
ولكن ومهما يكن فإن للشعر الإماراتي اليوم أكثر من صوت وذائقته الفنية تتسع، فعلاوة على الشعراء العموديين الذين يكتبون قصيدة ناضجة وقوية، هناك أيضا شعراء القصيدة النبطية والذين يشكلون وحدهم كيانا شعريا قائم الذات يحتاج إلى قراءة مفردة، مع الاشارة الواجبة إلى ان الكثيرين ممن يكتبون قصيدة التفعيلة أو حتى القصيدة المتحررة من الوزن، والذين ذكرنا بعضهم يترحلون ما بين أشكال شعرية مختلفة، كأن يكتبوا القصيدة العامية والعمودية وقصيدة التفعيلة والمنثور في آن معاً، وتلك مسألة أخرى.

حبيب الصايغ..
تجربة في الاكتمال

الذي يقرأ أعمال الشاعر حبيب الصايغ، سيصل دون عناء مشقة إلى خلاصة فحواها، انه أمام تجربة في الاكتمال الشعري، تتجلى أساسا في "العدة" الشعرية التي استكملت أدواتها، لا حاجة إلى القول ان الصايغ شاعر تفعيلي، إذ لا معنى لهذا التوصيف في حد ذاته، فجملته الشعرية، وإن كانت سليمة عروضيا، فإن سلاستها الخاصة تخلصها في الكثير من الأحيان من الثقل الذي يطبع كثيرا من قصائد الوزن، وهذا متأت تحديدا من الغنى اللغوي لحبيب الصايغ، ووعيه بممكنات الصوغ الشعري، وكأن اسمه يدل عليه "الصايغ"، وصائغ الذهب والسباك وصائغ الذر والمحار، إذ لا يجب ألا يغيب عنا لحظة المعنى العميق الذي يمنحه عبدالقاهر الجرجاني في حديثة عن النظم ونظرية النظم.
ولذلك يمكن اعتبار ديوان "وردة الكهولة" تجربة شعرية وافية، قدمت الشاعر حبيب الصايغ وهو في العمر الشعري الذي يليق بالنبوغ، فالأربعون هي سن الوحي وسن النبوءة وسن "حلم" الشاعر عما به وبما يفعل.
إنها مكابدة الإبداع ومناخات التجربة الحارة والوقوف في المفترق الحاسم يقول في قصيدة تحمل عنوان الديوان نفسه:

كبرت وردة الحزن
سوداء،
معتمة،
وحميمية
في الصدور
حين أهملت الأرض أبناءها
وغفت في سرير الدهور

وبالالتياع نفسه الذي يشبه تأبيناً جنائزياً يعيد الشاعر تدوير المعنى نفسه وفي سياق قصيدة أخرى بعنوان "وردة" يقول:

وردة تملأ الشرفة المطفأة
وردة لؤلؤه
أوشكت من تأنقها وتفردها
أن تكون امرأه
فضج بها شارعان وغيمه
كلما أمطرت غيمة بلادي
كلما أمطرت غيمة في دمي
قلت: هل ترجعين؟

في قصيدة "بين بين" والتي هي كهولة بمعنى من المعاني تنويع على الإحساس الصارخ نفسه بفوات الأشياء وتحلل الكائنات وضمور العالم، يقول:

هادئاً ينهض البحر
والموج يكتب شطآنه الغافلة
ويكتبنا أحرفاً أو قبوراً
ويكتبنا أحرفا مائله
هادئاً..
كيف يحتضر البحر في هدأة
كيف يغسل عينيه
من أثر اليقظة الزائله

لكن الشاعر ليس بيديه شيء، فكل سابح في مداره، مؤرق ومسهد، منتش أو قلق، لا مجال للتأمل إلا بما تسمح به "وردة الوقت" أو وردة العمر، يؤكد حبيب الصايغ في قصيدة "حتى لا" هذا الطابع الزائل، والتالف والكبيس ل "الحياة" الفردية أو الأخرى: حياة الأكوان المجاورة والمتاخمة لنا.
وكأنه في "وردة الكهولة" يتدرج نحو فرح أقل، هناك شيء ما في الأفق رمادي ويعتم شيئا فشيئا:

حفرة العمر
سحيقة ومظلمة
وأنا أنزل فيها
درجة درجة
حتى لا تعثر رجلي
وأقع على ظهري
من شدة الضحك

ولعل حبيب الصايغ لا يستطيع ان يبعد عنه هذه النظرة القاسية اتجاه العالم حتى وهو يحلم بالغد في ديوانه "غد"، يقول بالقوة نفسها التي تلملم الأزمنة في صرة واحدة:

لست أناي
ولست أراك سوى في كتاب الوفاة تراجيع ناي
لست أنايَ
ولكنني أخرس ويداك يداي
فاحتملني قليلا،
وأعد لي قليلا، بلادا وجرحين
أهلا وقافلة وشراعاً
سماء
يداي يداي
جمرتان من البطش مطفأتان
وموضع ذبح ينادي
وإني أراك غدا ماضيا في الكلامْ
سداسية مشتبكة مع نفسها

لقد أملى دافع منهجي ان أتناول عرض ست مجموعات شعرية دفعة واحدة بسبب قناعة مفادها أن هناك كثيراً من المشترك بين هذه التجارب وكثيراً من الاختلاف أيضا. إنهم ليسوا قامات متساوية ولكنهم تجارب متجاورة في جغرافية الشعر والتي تضيق أحيانا حتى لا تسع أحدا وتتسع أحيانا أخرى لتخلق ترابطا سرياً بين أكثر من صوت شعري وأحيانا ليس على مستوى الإقليم الجغرافي أو الرابط اللغوي أو المشترك الثقافي، بل في تلك البنية العميقة التي اسميها بكل بساطة الحقيقة الإنسانية وأسئلتها الكونية، والتي يمكن أن يطرحها شاعر في الإمارات كما يمكن أن يطرحها شاعر في رأس الرجاء الصالح أو في قبيلة افريقية، أو في الفضاء النيويوركي الحجري.
وهؤلاء الشعراء هم: أحمد راشد ثاني في ديوانه "جلوسه الصباح على البحر" وأحمد عيسى العسم في ديوانه "يحدث هذا فقط"، وثاني السويدي في "الأشياء تمر" وهاشم المعلم في "المدفون في الهواء"، وإبراهيم الملا في "صحراء في السلال" وعبدالعزيز الجاسم في "لا لزوم لي".
وهي تجارب تنطلق في البدء والمنتهى من قلق السؤال الشعري ذاته ومن ذلك الافتتان التي يؤلفه نسق اللغة الشعرية والانفتاح الدلالي الذي يؤلفه ومن تكسير منطق اللغة والتطابق والانسجام المألوف للاسنادات ودرجة "تقعر" الصورة الشعرية والتي تتحول عند هؤلاء الشعراء إلى منطقة للتفكير وليست مجرد "حلية" خارجية صامتة وجامدة في مشهد.
لنلحظ هذه اللغة الشذرية التي تتمتع بها نصوص أحمد راشد ثاني في قصائده ذات البناء المقطعي وبالنفس السردي الموارب بدقة. انه يكتب جملة خالية من الحشو، لازمة وغير متعدية مشيدا تعدية أخرى. وهي التعدية الدلالية، وهي خاصية تميز قصائد راشد حتى في نصوصه التي توهمنا بنفسها الطويل، ومن ذلك هذه المقاطع والتي أجمعها دونما نظام من ديوانه المذكور:

"خائن من محا حفرة
دون غصن"

أو: "ما صعدت إلى قلعة ونزلت جريحا/ ما صعدت إلى قلعة وانتشيت"، أو: "اكتموا السر: هذه هي التي عذبتني" أو "اكنس أيها الريح/ هذا الموت الوفير" أو "لن تتعثر إلا بالنظرة" أو روحي قنعت جرح في الهواء/ وصفا الوقت" أو "كان الجبل قريباً/ كالكتف/ والمجهول غريباً/ وأنا الرنة والمحنة".
وهكذا يمكن المضي قدما إلى ما لا نهاية في هذا اللعب وفي إعادة إنتاج نصوص أخرى مجاورة، ومتخللة في النص الواحد لأحمد راشد، إنها لعبة، ولكنها لعبة فائض الشعر ودليل علي التروي الذي يتحلى به الشاعر وهو يكتب قصيدته، أو تكتبه كلمة كلمة، وأما البيوت فليست إلا مساكن للغرباء.
في ديوانه "يحدث هذا فقط" يستلهم الشاعر أحمد العسم التقنية نفسها لكنه يضيف عليها طابعاً شكلانياً جديداً، إن منطق التفكير في العالم يقوده إلى منطق العقيدة وعلى ضوء ذلك يشيد نصه الشعري إنه يكتب الشعر من داخل ويؤلف القصيدة من داخل القصيدة وتتحول القصيدة عنده إلى وحدات ومقاطع، بمعنى آخر أنه يشرخ هذه الوحدة "الوهمية" ويجرحها عند ذلك يسيل دم الشعر، لا يسفك ولكنه يتطهر أي يصبح قرباناً، ولذلك فإن "يحدث هذا فقط" هو تفكير بمنطق الواحد وليس بمنطق المجموع "أو الجماعة التي تحمل معنى متلبس".
لنقرأ على سبيل المثال قصيدة "قفزة غير مكتملة" المؤلفة من خمسة مقاطع، كل مقطع بعنوان ولنتساءل ما الذي يوحد هذه المقاطع، هل العنوان الأهلي سابق أم لاحق؟ أم أنه مجرد إشارة ولافتة تدل على شيء ترشد ولا شيء غير ذلك"
يقول في المقطع المعنون ب"لغة"

كمحترف
سأهوي على فراشي
لا أحد يعي ما أهذي
مدّي أصابعك
افتحي أزرار الحياة
فالحياة لغة
تعالي لترثي كل الكلمات

وفي المقطع المعنون ب"ظن" ينسف الشاعر كل علاقة ترابطية، ولا يؤسس الانسجام الشعري إلا باعتباره إيقاعا داخلياً وغريزة أمومية للبحث عن المعنى والفتك بالدلالة، نقرأ:

مثل كل ليلة
يتحرج جسدي ككتلة لهب
الرابعة فجراً
النعاس على المشبك يتدلى
حافة أطرافي
ترتجف
قد أذهب بظني إلى البحر

في قصيدة الشاعر ثاني السويدي النوستالجيا نفسها، ذلك الحنين الأبدي للغياب وللأشياء التي تمر مرور السحاب، والأشياء تمر وترتحل من قارة الذات إلى مجاهيل التلف، ولذلك جاءت قصيدته مدثرة بالكثير من الصمت ومن اليأس. جملته الشعرية مرة، مختصرة، متبرمة، تشتغل على الواقع وخطابه لكنها تحوله وتقيم تلك العلاقات الترابطية، إنه يكتب جملة مملوءة بأصداء كثيرة هي نفسها أصداء الأشياء التي تمر، تلك الحوادث، كما قال شاعر قديم والتي تستقر في قرار مكين بذلك الصوت الأخرس المندفع بنزعة تأويلية صارمة.

في رأس الخيمة
يمكنك أن تصطاد سمكة
وتسد بها جوع شعب بأكمله
بإمكانك أن تلمع
كأساور متماسكة في يدي متزوجة جديدة
بإمكانك أن تختار أمك
فالشوارع مليئة بالأمهات
أو في المقطع التالي:
لماذا البيت معطل هذا المساء
آه تذكرت/ لقد استلف مني صديقي/ سلك الكهرباء/
ليضيء نجمة

في "لا لزوم لي" و"صحراء في السلال" و"المدفون في الهواء" هناك شيء ما يوحد بين هذه النصوص الثلاثة، أصفه على الشكل التالي: جملة شعرية قوية، مشبعة ووفيرة، منطلقة لا يشدها كبت داخلي، سيالة ومؤسسة داخل النظام العام الذي يجعل من قصائد عبدالعزيز الجاسم وإبراهيم الملا وهاشم المعلم لوحة يرسمها شاعر "تجريدي".
لنلحظ هذه الجملة المشعرنة عند جاسم:

"هذا هو البيت الذي أسكن
مائلاً عند حدبة الشط
ناصعاً مثل شبهة
وهاهي العجوز جارتي
تسمن كلابها الستة دون انقطاع
مكررة، بعصاها، رسم نفس الوجه
على الرمل
ترى ما الذي تبحث عنه هذه الجدة؟ من تنتظر؟

وتفوق عبد العزيز الجاسم يمكن في قدرته على الإمساك بتلابيب المشهد البصري في قصيدته والتحكم في المنزع الحكائي أو المسار السردي (Le parcours narrative) الذي يؤلف قصيدته، وهو دليل على أن الشعريات الحديثة هي السبيل الوحيد للتعاطي مع مثل هذه النصوص، من قبيل تتبع طرق "التغطية" والإنشاء النصي والأصوات المتكلمة في النص و"السرود" والتوليفات السياقية والمنولوجات، وكلها أدوات تحليل من خارج منطقة الشعر، وكذلك هي الورطة التي تتسبب فيها حادثة قصيدة النثر.
ونعتقد أن الشاعر عبد العزيز الجاسم يقدم قصيدة نثر نموذجية في بعدها العربي، إنه ليس أقل شأناً من سركون بولص أو أنسي الحاج، أو وديع سعادة وفي المستوى المرعب لوايتمان ووالد زورث وتسيلان ودوغي أو إيف بونغوا.
لنقرأ هذه الصورة المرئاوية المقابلة لمشهد الجارة العجوز "لن أفعل أكثر/ سأجلس قبالة المشهد هكذا/ كمن فاز بقربة مقطوعة ومزق لحمة في حقيبة الليل/ مرخياً يدي من النافذة/ محدقاً في اللاشيء/ حيث بغصني الطويل هذا/ أريد رفع جفن السماء الثقيل".
وداخل هذه المنطقة الشعرية أو الغابة الشعرية يحتطب إبراهيم الملا قصائده ان "صحراء في السلال" هي ألبومات صور بالأبيض والأسود وبالألوان، ان قصيدته هي معرفة كاملة، حكمة مبثوثة في خلاء أو مطمرة في جدار أو مركونة في "باركنيج" الروح. أسئلته عميقة ووجودية وذات ظلال كثيفة، منطقة تصيب أهدافها مثل طلقة يتيمة ليس لها من مد إلا أن تصيب سويداء الأشياء وتجعل العالم يرتج قليلاً، يتراجع مغلولاً في أكثر من هزيمة.

"ما الذي تركته العائلة
ربما الحنان المقتول
أو بضعة شجيرات صغيرة
ربما أيضاً
وديعة الألم"

إنها رؤية استفزازية كابوسية، فالأشياء ليست خالية من المعنى تماماً، والشاعر ليس "صانعاً تقليدياً" إنه القدر السحيق للكلمات.

"نحن الذين تهنا/ في خراب الورد/ جئنا بباقات منسية/ ومخاوف جافة/ جئنا مكللين بالوقت/ وبالجنون الناعم/ نشبه صوركم البعيدة/ نشبه كذلك سكرة المودة/ والحنين الفاقع/ في سلالنا الصحراء/ وعلى موائدكم حجر".

من "خبز" هذه الميتافيزيقيا الساحرة يقتسم الشاعر هاشم المعلم جوعه الشعري، ولذلك فإنه في "المدفون في الهواء" يكتب وكأنه يرمي شخصاً في البحر وينتظر وله الصبر كله ألم يقل:

"خلسة في حديقة/ مثل طفل يبحث عن وجه ملائكي/ اذكر تماماً/ منذ سنوات بأني التقيتك ذات نهار/ كنت بيضاء ونقية كالصباحات/ في هذا الوقت/تعذر العثور عليك/ إلا أنني/ تمنيت لو صرت حديقة/ وكرسيك الفارغ في الزاوية/ صار فكرة".

من المهم الإشارة إلى أن قصيدة النثر، تكتب اليوم وكأنها بيان شعري ضد العالم، إنها تبني مشروعيتها في منطقة الرفض تلك ولا نعدم الأمثلة والنصوص و"الاستشهادات" في نصوص شعرائها، وكم هو لافت أن تدشن خطابها بكل جرأة، وأن تعي ذاتها بأنها تكتب اليوم في منطقة الصراع وليس في هوامش الهدنة.
يوجه هاشم المعلم "رسالته الشخصية" إلى هؤلاء يكتب:

"الحرس
أيها الأوصياء
العيون التي تفكر
سأنام
مرمياً في قرية مهجورة
مثل ضحكة ترن في الجوف
ولا تصل"
ولكن الرسالة وصلت داخل هذه الشفرة اللغوية القاطعة
ثلاث شاعرات
ثلاثة رهانات

من بين الشاعرات الإماراتيات المثابرات على الحضور الدائم في المشهد الشعري، الشاعرة صالحة غابش، التي كانت قد أصدرت منذ سنتين ديوانها الثالث "بمن يا بثين تلوذين" والذي يعتبر تحولاً رمزياً في مسيرة هذه الشاعرة بالنظر إلى ديوانيها السابقين: "بانتظار الشمس" و"المرايا ليست هي". إنها من هذا المنطلق شاعرة تتطور باستمرار وتجيد تطويع أدواتها وتطوير منظورها للقصيدة والشعر عامة، ولذلك تتراكب داخل تجربتها أصوات ويتحول نصها الشعري إلى احتمال متكرر بالاستقرار داخل اليقين الشعري الذي تؤسسه من منطلق كونها شاعرة وأنثى، ومن منطلق الرهانات الجمالية التي تجعلها منساقة وداخل دائرة مكنونها الشعري، وعبارتها الشديدة الحرص ونضوجها العام ما بين قصيدة وأخرى.
في "المرايا ليست هي" مقايسات أخرى، عودة لاستقراء الجاهز ودحره عند عتبة السؤال الشعري، والتطويح به عميقاً في صلب المغامرة والتي لا يستقيم الإبداع من دونها. تعبر صالحة غابش عن هذا الاختلاج في قصيدتها وتكتب:

"اهدئي
كل شيء آخذ في الانتهاء
دفقة الأشعار تأوي للسكوت
همسة الشمعة
ترسو عند شط الانطفاء
والقناديل التي علقتها
ترقد في برد رصيف شاحب"
وتقول في مقطع آخر:
"هذه الأغنية
ليست لك
والقصيدة المسافرة في لحنها
المستريح تحت شجرة الليل
ليست لك
هي للوقت الذي أجهل قراءة دفاتره"

من دون شك فإن صالحة غابش سوف تتوقف عن طرح سؤال ماهية الشعر في مستقبل تجربتها، وذلك أن هذا السؤال ليس سؤالاً وقفياً عليها فقط، بل ينسحب على تجارب كثيرة، ولذلك نعتقد أن بعضاً من ذلك قد تحقق في مستوى من المستويات في ديوانها الأخير "بمن يا بثين تلوذين" حين انبرت بصوت شعري لافت لكتابة السيرة الشعرية لبثينة ابنة الشاعر والأمير المعتمد بن عباد.
على مستوى آخر تأتي تجربة الشاعرة منى مطر في ديوانها "أوراق الماء" قريبة من اللغة الشعرية، منصاعة لهسيس الذات ومتشبثة بأسئلة الأنثى تقول:

"أين أخبئ بعضي؟ أين أضع أسئلتي؟ في أي وعاء؟" وتكتب في موضع آخر: "الموسيقا ناعمة حروف تسبح في الماء" وفي مقطع آخر "لا ترخي أهدابك خلفي/ ارفعها/ احبسني كحزمة ضوء/ أنا شمسك" أو "اللهب الأزرق/ الحلم صمت مشتعل/ متى احترق خشب الجسد أيتها الصبية؟/ متى تفحم"

إن الشاعرة منى مطر تؤسس قصيدتها من منطلقات عرفانية صوفية تأتي قصيدتها مثل شذرات صوفية وانثيالات، إنها تلوذ بالصمت المطلق وتكتفي به ويكتفي بها، صمت صاخب وراء هذه الجملة الشعرية الشديدة "البساطة" والموغلة في الحذف وفي التشطيبات التي تترقرق في فضاء البياض الكثيف لورق الطباعة.
في ديوانها "جدران" تطيح الشاعرة الهنوف محمد بكل جدران، هل يتعلق بخدعة بصرية أو بألعاب السيرك السحرية؟ إن الأمر يتحصل في التوق الدائم للهنوف كشاعرة للتحطيم وكسر منطق السائد فقد اعتلت في ديوانها الأول سماوات "أبراج المتعالي لكنها عادت إلى الأرض كي تصاحب عالماً متكلساً وأخرس، وربما كي تنجز وعداً بالخلاص الأرضي. إن واقعية وبرنامج القصيدة أهم من كل برنامج آخر.
تقول:

"لا تهمني الكلاب
مهما نادت في الطرقات
فأنا كبرياء
ودمعي محيط"

وصوت الأنثى رمز الاستمرارية يتصارخ في داخلها موحياً لها باليقين اللذيذ الذي تصوغه جدلياً كالتالي:

"اقتلني يا شكي
فالعذاب باق
الإطارات فارغة
والعربة أيضاً
وأنا لا أحمل
سوى الحياة
في رحمي"

*******

أسئلة الحركة الشعرية المحلية وآفاقها
فراغات في التأريخ وغياب أفق نظري نقدي

تحقيق: نواف يونس

منذ ظهور إرهاصات مدرسة الشعر الحديث قبيل الخمسينات، وبالتحديد مع نشر نازك الملائكة لقصيدتها "كوليرا" في العام ،1947 وما تلاها من بروز أسماء شعرية منها بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وفدوى طوقان وعبدالوهاب البياتي وغيرهم، بدأت تتبلور خصائص وملامح الشعر الحديث من حيث
مضمونه في الالتصاق بالواقع والتعبير عنه من خلال توظيفه اجتماعياً واللجوء إلى التجديد في الشكل، وتقسيم القصيدة إلى مقاطع ، مع الاتكاء على التفعيلة وعدم الالتزام بالقافية الواحدة، والتركيز على الرمز والصورة الشعرية، مع التأثر الواضح بالمدارس والاتجاهات الشعرية الغربية.
ذلك خلافاً لما كانت عليه المدرسة الرومانسية التي كانت قد سيطرت على خارطة الشعر العربي كتوجه طغى قليلاً أو كثيراً على المدرسة الاتباعية.
هذا الحراك الشعري الجديد كان على المستوى العربي عموماً، أما بالنسبة إلى الإمارات خصوصاً فربما كان تكوين جماعة الحيرة "صقر القاسمي، خلفان مصبح، سلطان العويس" هو ما مهد بصدقية لظهور القصيدة الحديثة في ما بعد في الإمارات، إلا أن الحركة الشعرية في الإمارات لا تزال تسير في اتجاهين الأول يتمثل في التيار الذي يحافظ على الشعر العمودي والآخر ينمو باتجاه الشعر الحديث الذي اقترب أكثر من قضايا المجتمع وتفاصيله وتعمق داخل النفس والذات.
وبنظرة سريعة نلاحظ أن الشعراء أمثال أحمد بوشهاب وعارف الشيخ وشهاب غانم وهاشم الموسوي وعبدالله الهدية، لا يزالون على التزامهم بالشعر العمودي، بينما اتجه حبيب الصايغ وناصر النعيمي وصالحة غابش وإبراهيم محمد إبراهيم إلى شعر التفعيلة، ومازج بين الاثنين عارف الخاجة وأحمد محمد عبيد وسلطان الحبتور وشهاب غانم، في حين انحاز إلى قصيدة النثر أحمد راشد ثاني الذي بدأ بالتفعيلة ونجوم الغانم وخالد البدور وثاني السويدي وعبد العزيز الجاسم وإبراهيم الملا وهاشم المعلم وأحمد العسم والهنوف محمد.
وفي هذا اللقاء نلقي الضوء من خلال شهادات لشعراء من الإمارات على تحديد مظاهر الثابت والمتغير في النص الشعري الإماراتي، سواء من خلال تجاربهم الشخصية أو المشهد الشعري في الإمارات.
الشاعر ثاني السويدي يوضح في شهادته أن قصيدة النثر لم تأت من فراغ، كما أنها لم تلغ ما سبقها، وإنما ظهرت من خلال تجارب ومحاولات مضنية خاضها نفر من الشعراء الذين امتلكوا الهم الإبداعي وهم يبحثون عن الشعر نفسه وليس عما يشبهه ويقول: جاءت قصيدة النثر في الإمارات لا لتعلن نفسها البديل لكل ما سبقها، ولكن لتفتح آفاقاً جديدة للكلمة، ولتبحث عن الشعر نفسه لا ما يشبهه، هكذا كانت رؤيتي ورؤية من جايلني وجايلتهم من أصدقائي الشعراء، كنا نحاول إدراك اللغة وتفاصيلها ونستنجد سراً وعلناً بمغيث من العالم الآخر كي يخلصنا من حرب شنها كتاب اندثروا اليوم في حوانيت الأكاديمية والايديولوجيا، ولا يسعني في هذه الشهادة إلا أن أقدم دليلي على أن إنجاز التجربة الشعرية لقصيدة النثر يعود فضله إلى شعراء هم ركازتها وعمادها وهم من بقوا في الذاكرة ومازالوا يمثلون الوجه الحضاري للإبداع الإماراتي خارج الدولة "رضي من رضي وأبى من أبى".. فتحية إلى من كتبوا الصبر ونالوا رهان الكتابة والانفلات في الزمن.. تحية إلى حبيب الصايغ، ظبية خميس، أحمد راشد ثاني، خالد بدر عبيد، نجوم الغانم، عبدالعزيز الجاسم، عادل خزام، خالد الراشد، ميسون صقر، مرعي الحليان، سعد جمعة، إبراهيم الملا، أحمد العسم، الهنوف محمد، واليوم لدينا هاشم المعلم، ومحمد حسن وغيرهما من الجيل الجديد الذي قبض على لحظة الشعر وأطلقها حرة لا تقيد.
الشاعر عادل خزام يرصد التحولات في النص الشعري الإماراتي منذ مائة عام. خصوصاً مع بروز قصائد الشاعر سالم بن علي العويس مع بداية القرن العشرين، إضافة إلى التجارب الشعرية الأخرى التي كونت المشهد الشعري في الإمارات فيقول:
أكثر من مائة سنة مرت على بروز تجربة كتابة الشعر الفصيح في الإمارات منذ ان ظهرت قصائد الشاعر الكبير سالم بن علي العويس المولود في عام 1887 في بداية القرن قبل الماضي، وبالتالي فإن الحديث عن الثوابت والتحولات التي طرأت على هذه التجربة طوال قرن كامل قد يمتد في تفاصيله ليشمل كل البنى المعمارية والأشكال والأساليب التي ميزت تجارب وكتابات أجيال الشعراء في الإمارات.
ولو بدأنا بسالم العويس نفسه، فإننا سنرصد عدداً من التحولات المهمة أبرزها انتقال الخطاب في مضمون القصيدة من أغراض الغزل والوجد السائدة، إلى أغراض الانتماء إلى العروبة، والدفاع عنها.. وهذا النوع من القصائد ظل "ثابتاً" في تجارب الجيل الذي أتى لاحقاً مثل (خلفان بن مصبح والشيخ صقر القاسمي ومبارك سيف الناخي وسلطان بن علي العويس) وغيرهم ممن يطلق عليهم شعراء "الحيرة".. والثابت في تجارب هؤلاء ان مفهوم "العروبة" لم يكن يتضمن قصائد حماسية في فلسطين بل تشعب ليشمل كل أغراضهم الشعرية ومن بينها الغزل في المرأة العربية، وفي العاصمة العربية، حيث كانت تتناثر مدن بغداد وبيروت والقاهرة وغيرها في ثنايا تلك القصائد التي لم تلتزم بأرض بعينها، أو بلد بعينه.. وكان بناء القصيدة الذي يعتمد على "البيت الشعري" هو "الثابت" الأول في جميع تلك التجارب.
أما المتحول في الكتابة الشعرية على صعيد الشكل فجاء في مراحل متأخرة نوعاً ما مع تجربة أحمد المدني الذي تعرف إلى تجربة الشعر الحديث في العراق وبدأ بكتابة قصيدة التفعيلة في مراحل الستينات، ثم ارتفعت وتيرة التغيير مع تجارب الجيل الثالث مع حبيب الصايغ وظبية خميس وعدد من الأدباء والشعراء، إلا ان الفورة الكبيرة حدثت مع بداية الثمانينات عندما انتظم صدور الصحف المحلية بشكل يومي حيث أتيح المجال لعدد كبير جداً من أدباء الجيل الجديد لنشر تجاربهم ومغامراتهم في كتابة قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر التي تعد "المتغير الدائم" في المشهد الشعري العربي حتى اليوم.
العنصر "المتغير" الكبير في المشهد الشعري الإماراتي ظهر في بداية الثمانينات، مع الصحف، ومع بروز جيل جديد من المتعلمين والشباب من الجنسين، ووقتها كان فضاء الإبداع العربي يشهد الكثير من السجالات الساخنة الحيوية، وكان الواحد منا عندما ينشر قصيدة في الصباح يجد حلقة من الشباب والكتاب تناقش ما جاء فيها في المساء.. وكان الحماس هو "الثابت" في تلك الفترة، كما تغيرت في هذه المرحلة ملامح وأساليب اللغة الشعرية حيث ذهب "المجربون" إلى اجتراح بنى مبتكرة، وظهرت قصائد نثر عالية المستوى تتقاطع وتتوازى مع تجارب جيل الحداثة العربية في كل الوطن العربي، كما تم تأسيس اتحاد الكتاب في منتصف الثمانينات وعلى الفور قام الاتحاد بجمع قصائدنا ونشرها في أول مطبوعاته "قصائد الإمارات" في عام 1986. وكانت معاني الحب والإخلاص وتشجيع المبدعين الجدد هي السائدة في تلك الفترة.
اليوم، وبعد عشرين سنة من تحولات الثمانينات، أصبح "الثابت" هو اختفاء معظم أولئك المبدعين وعدم تفاعلهم مع أنشطة الساحة الثقافية، ولدي قصاصات وقصائد لأكثر من أربعين كاتباً وأديباً في تلك الفترة اختفوا تماماً عن عالم الأدب الآن، والبقية من جيل الحداثة الذين لا يتجاوز عددهم عشرة شعراء استطاعوا نشر مجموعتين أو ثلاث مجموعات على الأغلب، خلال عشرين سنة، والظاهرة البارزة هنا ان النساء الشاعرات في الإمارات من أبناء هذا الجيل هن أكثر إنتاجا من الرجال حيث أصدرت ظبية خميس وميسون القاسمي ونجوم الغانم في حدود ثماني إلى عشر مجموعات شعرية كل واحدة على حدة.. وهن بالمقابل غائبات تماماً عن النشر داخل الإمارات وبعضهن اخترن نشر نصوصهن الجديدة على الانترنت، وفي دور النشر العربية.
المتغير الآن في الساحة الشعرية، هو الزمن.. هو تفكير الجيل الجديد في طريقة التعبير عن نفسه شعرياً، والثابت الآن أن قيم الحماس والتألق والضرب في المستحيل الشعري قد انطفأت مع بروز ظاهرة "المسؤول الثقافي" واعتماد الحراك الشعري على أنشطة المؤسسات وأهواء المسؤولين فيها.
الشاعر أحمد العسم يتناول ظاهرة الجمود في المشهد الشعري العربي عموماً والإماراتي خصوصاً، ويرصد الموقف من التجديد في النصوص الشعرية، ودور النقد في آلية المتغير:
لا يلتوي ساعد الشعر بما يحيطه من ارتكاسات أو ما يصيبه من مرض إذ سرعان ما يغتسل بماء الصفاء ويعود قوياً وإذا كان الشعر العربي قد عانى الكثير وبقي شامخاً من خلال قامات نعتز بها فإن الشعر الإماراتي شأنه شأن الشعر العربي فقد أصيب بحالة من الجمود في فترات زمنية معينة، لكنه ظل قوياً بحيث استطاع أن يتخلص من أمراض كثيرة، وها هو اليوم يتجدد باستمرار لأن الشعراء الإماراتيين أخلصوا له.
وهذا الرأي ينحاز إلى النسبية لا إلى المطلق وإلى بعض الشعراء وليس كلهم وهذا أمر طبيعي في أي بلد من البلدان أو أي قطر من الأقطار العربية، ولو كان الشعر الإماراتي ساكناً جامداً لما رأيت شعراء إماراتيين يواكبون الحداثة ويعملون على القصيدة العربية شكلاً ومضموناً.
وليس عيباً إن قلت إن التكلس أصاب بعض من رفضوا التجدد والتجديد سواء أكان ذلك على صعيد القصيدة الحديثة (التفعيلة - النثرية - النثيرة - النص... إلخ) أم على صعيد القصيدة الخليلية.
وما ينقص شعرنا الإماراتي هو النقد البناء وما ينقصنا نحن شعراء الإمارات تقبل هذا النقد برحابة صدر وعندها تغدو حركتنا الشعرية ذات صفات شمولية تجهض المتكلس وترتقي مع حركة الحياة والإبداع.
الشاعر د. شهاب غانم يبدي ملاحظاته الانطباعية على تطور الشعر الفصيح في الإمارات منذ بداية القرن العشرين، من خلال تتبعه لمسيرة وتجارب شعراء أمثال سالم بن علي العويس ومبارك بن سيف الناخي ومبارك العقيلي وخلفان مصبح، إضافة إلى أجيال لاحقة عليهم من الشعراء في الإمارات:
لقد ضاع الكثير من الشعر الفصيح الذي ينتمي إلى الحركة الشعرية في الإمارات المختلفة في أوائل القرن العشرين لشعراء أمثال عبدالعزيز بن سيف وعبدالعزيز آل مبارك بل وحتى الذين جاؤوا بعدهم أمثال أحمد بن سليم وإبراهيم المدفع إذ لم نطلع إلا على القليل من شعرهم وإن كنا قد اطلعنا لحسن الحظ على شعر سالم بن علي العويس الذي قام بجمع شعره بعض أسرته كما اطلعنا على بعض شعر مبارك العقيلي الذي قام بعض الباحثين أمثال بلال البدور بجمع بعض شعره. والذي نلاحظه من النماذج التي اطلعنا عليها أنها تلتزم الشكل العمودي التقليدي في اللغة والمفردات والصور وأما المواضيع والمعاني فيدور جلها حول الغزل والمدح والمواضيع الدينية والسياسية القومية (كما نرى في بعض شعر سالم العويس ومبارك بن سيف الناخي ومبارك العقيلي)، كما نرى أحياناً مواضيع اجتماعية كلوم أصحاب السفن وتجار اللؤلؤ على استغلال الغواصين وأيضاً نرى المواضيع التقليدية كالشكوى من الزمان والمواضيع الدينية.
ويحلو لمؤرخي الأدب والشعر في الإمارات أن يتحدثوا عن مرحلة تلت ذلك يسمونها بمرحلة شعراء الحيرة ويكادون يقصرونها على ثلاثة شعراء كانوا على صلة ببعض ومن عمر متقارب هم خلفان مصبح والشيخ صقر القاسمي وسلطان بن علي العويس وثلاثتهم ولد بالحيرة في الشارقة. أما خلفان فقد توفي وهو في الثالثة والعشرين إثر حادث تعرض له والنماذج التي تركها كانت تبشر بشاعر موهوب له حس رومانسي تأثر بمدرسة أبوللو ومن قصائده التي أثارت اهتمامي وترجمتها في مجموعتي لآلئ وأصداف قصيدته "الميسم" لحدتها في موضوعها وهو يتناول علاجه بالميسم والذي للأسف لم يجد فقد مات بعد ذلك بقليل.
الشاعر سلطان العويس وكان صديقاً شخصياً لي رحمه الله فقد جمع كل أو معظم شعره في ديوان أعيد طبعه والإضافة إليه مرات عدة وهو على كل حال مقل وديوانه ليس بالكبير. وكان رجلاً متفتح الذهن مطلعاً على التجارب القديمة والحديثة ومعظم شعره يدور حول الغزل الحسي وإن كان يولي المواضيع الأخرى كالقضايا الوطنية أحياناً بعض الاهتمام، وقصائده عموماً قصيرة فهو لم يكن من الشعراء الذين يعتبرون طويلي النفس أو أنه كان يؤمن بما قل ودل ونحن نجد في شعره التجويد والاهتمام باللغة وبالصورة وله بعض الصور الجديدة والمتميزة كما في قصيدته "ريودي جانيرو" التي ترجمتها في مجموعتي، ويبدو أنه تأثر إلى جانب الشعر العباسي بالشعر الأندلسي وشعراء أبوللو إلى جانب شعراء النهضة.
بعد ذلك ظهر عدد من الشعراء المعروفين أمثال محمد شريف الشيباني ود. أحمد أمين المدني وحمد خليفة بوشهاب وكانوا اكبر مني سناً. أما الذين كانوا اصغر مني بقليل فمنهم سلطان بن خليفة الحبتور وهاشم الموسوي ود. مانع سعيد العتيبة ومحمد بن حاضر ود. عارف الشيخ وحبيب الصايغ. وبعض هؤلاء أمثال حمد خليفة بوشهاب ود. مانع سعيد التزموا بالشكل العمودي، وكان شعرهم يدور حول الغزل والمديح والقضايا الوطنية كموضوع الاتحاد والقضايا القومية مثل القضية الفلسطينية. وبعضهم أمثال كاتب هذه الشهادة ود. أحمد أمين المدني وسلطان خليفة ومحمد بن جاد وحبيب الصايغ كتبوا الشكل العمودي والشكل التفعيلي، فشاعر مثل د. أحمد أمين المدني كان على علاقة شخصية ببدر شاكر السياب أثناء دراسته في العراق ونجد ان شعره التفعيلي يشبه في أساليبه تجارب الرواد أمثال السياب ونازك الملائكة، أما من حيث الموضوعات فقد كان رومانسيا في كثير من شعره، ويتناول الموضوعات التي دأب على تناولها الرومانسيون وربما يمكن ان نقول مثل ذلك على تجربة سلطان خليفة فالتجديد والتجريب محدود. وقد تحدثوا في الحب والغزل والموضوعات التي تتعلق بالهم العام من وطني وقومي. وهذان الشاعران وغيرهما من الشعراء ومنهم كاتب هذه الكلمات وحبيب الصايغ وعارف الخاجة وكريم معتوق وسيف المري وأحمد محمد عبيد كتبوا الشعر العمودي والشعر التفعيلي وبعضهم استمر يكتب بالشكلين مثلما افعل شخصيا ومثل أحمد محمد عبيد بينما تخلى بعضهم عن الشكل العمودي تقريبا نهائيا مثلما فعل حبيب الصايغ وعارف الخاجة مثلا وبعضهم اقتصر معظم شعره على الشكل العمودي مثل د. عارف الشيخ وسيف المري مثلا.
أما من حيث الموضوعات فيكاد المدح يختفي في شعر تلك الفترة التي تمتد من أواخر الستينات مرورا بالسبعينات والثمانينات بل تمتد حتى وقتنا هذا والملاحظ ان هؤلاء الشعراء جميعا أو بالأحرى معظمهم اهتموا بجمع شعرهم في دواوين ومجموعات بعد ان صار النشر متيسرا كما ظهر اتحاد الأدباء والكتاب الذي نشر لبعضهم.وظهرت في الفترة منذ أواخر السبعينات كتابات نقدية وان كانت معظمها صحافية سريعة أو انطباعية ومن خلال ما كتب عن دواويني استفدت من بعض الآراء كما كانت هناك ملاحظات أحيانا متناقضة عند النظر إليها بشكل أولي. مثلا بالنسبة لاستخدامي الشكلين العمودي والبيتي يقول مصطفى النجار: هل صحيح ان الشعر العربي البيتي قد خفت صوته، كما يتردد بين آن وآخر؟ وان إنشاد قصائد د. شهاب غانم ومعظمها من النمط العربي المعروف أفضل جواب عن مثل هذا التساؤل المريب، بينما يقول د. حمزة ابوالنصر: أقول لشهاب غانم انك تجيد الشعر العمودي ولكنك تجيد أكثر وأكثر الشعر الحديث، ان شعره الحديث مسترسل خال من التكلف مشحون بدفقة الشعور الحار مكثف المعاني والأساليب أيضا، وهو في شعره الحديث هذا من شعراء المدرسة الجديدة التي تنطلق على أساس إقامة القصيدة على نقطة محورية رئيسية ثم يأتي بناء القصيدة كله بعد ذلك دائرا حول هذه النقطة أو القضية، ويلاحظ بعض النقاد أمثال عبدالمنعم عواد يوسف عن تجربتي "المحور التأملي الفلسفي يبرز في شعر شهاب غانم" وهذا الاهتمام بسبر أغوار النفس تجده يبدأ في البروز عند بعض الشعراء في هذه المرحلة ثم المرحلة التي تلتها عند من حاولوا كتابة التفعيلة أو ما يسمى بقصيدة النثر.
والحقيقة ان الإمارات لم تنجب حتى الآن ناقدا ذا بال مثل المقالح في اليمن أو الغذامي في السعودية في الفترة أواخر السبعينات أو أوائل الثمانينات التي رأت ظهور بعض الشعراء الذين تمسكوا بكتابة الشكل العمودي أمثال الشاعر سالم الزمر الذي يهتم بتجويد شعره وأمثال عبدالرحيم السعيدي وعبدالرحمن العبادي وعبدالله الهدية وطلال سالم وشعراء كتبوا التفعيلة وبعضهم باقتدار أمثال إبراهيم محمد إبراهيم وصالحة غابش، هناك أيضا ناصر جبران وإبراهيم الهاشمي وظاعن شاهين وسالم ابوجمهور القبيسي وسارة حارب ورؤى سالم وعبيد موسى وخالد الراشد وعلي ابوالقاسم وغيرهم. ثم كثر شعراء قصيدة النثر وإذا كان الشاعر المعروف حبيب الصايغ قد صار الكثير من شعره من هذا الشكل فإنه كان قد بدأ شاعرا عموديا ثم مارس كتابة القصيدة التفعيلية فترة طويلة أما الآخرون فمعظمهم بدأ مباشرة بكتابة النثر ما عدا ربما أمثال خالد بدر عبيد وربما الشاعرة عائشة البوسميط، اللذين مارسا التفعيلة قبل النثر.
ومن كتاب قصيدة النثر أيضا ظبية خميس وميسون صقر القاسمي ونجوم الغانم وأحمد راشد وعادل خزام وعبدالعزيز الجاسم وثاني السويدي ومحمد المزروعي وغيرهم ممن بدأ يظهر على الساحة أخيرا. وهؤلاء يتناولون الموضوعات التي يتناولها هذا الشكل من الكتابة وفي كثير منه غموض بل إبهام وبعضه يتعمد صدم القارئ وموضوعاته في غالبها ذاتية بحتة وبعضه يثير الدهشة.
الشاعرة صالحة غابش تؤكد في شهادتها ان الثابت في النص الشعري في الإمارات يقتصر على القصيدة العمودية نتيجة لتوقف الأسماء صاحبة النص الحداثي، أو لحضورهم المؤقت، وهو ما يجعلها تطالب الشعراء في الإمارات بالحضور المكثف والذي من خلال استمراريتهم.
لعل من أهم ظواهر النص الشعري المحلي ما يجمع بين ثابتة ومتغيرة فالتجربة الشعرية برمتها غير ثابتة لا من حيث عمق تناولها.. ولا من حيث المدارس الفنية التي تعتمدها.. ولا من حيث حضورها بالشكل الذي يكفي لأن يجعلها متوهجة طوال العام..
النص الشعري بشكل عام غائب.. والثابت في غيابه هو القصيدة العمودية التي يبدو انها تشكل نوعا من موقف تجاهها بالرغم من انها القصيدة العربية الأم التي يجب ان تتفرع منها النصوص الشعرية المبنية على المدارس الحديثة.
في الوقت الذي نشهد فيه ولادات أسماء جديدة للنص الحداثي.. الأصوات القوية مثل حبيب الصايغ وعارف الخاجة ونجوم الغانم وسواهم ما زالت نصوصهم بعيدة مؤثرة الاكتفاء ربما من حضور مؤقت توقف لأسباب ودواع قد تكون شخصية وقد تكون موضوعية.
هناك نصوص شعرية جديدة تظهر بين فترة وأخرى، ولكنها لم تسجل بعد أسماء تمثل حضورا مؤثرا في الساحة الشعرية المحلية.. ذلك انها لا تستمر أو تفضل ان تنشر في السنة مرة واحدة.. أو ربما تترك النشر للظروف الأمر الذي لا يعطي فكرة واضحة عن التجربة.
شعراء الإمارات جميعا مطالبون بالحضور المكثف والثري بالتجربة لأنها أي التجربة بدأت قوية وكان يحسن بها ان تكون الآن قد بلغت شأوا عظيما ولكننا كالعربة التي تنطلق بقوة ثم تتعثر أمام التحديات وترفض الاستمرار في الطريق.. أو تستمر ولكن بمزاجية عالية.
شعرنا الإماراتي جميل، وشعراؤنا الإماراتيون أؤكد مطالبون بذلك الحضور كي يبقى أجمل.

*********