علي البتيري

(1)

يا صبايا فلسطينَ هل مَرّ عاشقُها
من هُنا..؟
وهل ماتَ شوقاً إليها
فمال على قلبها بوردً الجراحً
وقبلَّ وجنتها وانحنى؟

(2)

ورودّ ثلاثّ بقلبي أَنا..
وردةّ لوداع الشهيدْ
وردةّ لعزاءً الفقيدْ،
واخرى مبللةّ بدموعً القصيدْ

(3)

انَّهُ وآخرً الليلً،
يا عشاقَ السنبلة
وقبل طلوع الصّباح على غربَة البحرْ
يُصبحُ مركبُ عشقك أغنية للوصول
فتنذرُ كل الرّياح بأبراجها
وتعلّقُ قلبكَ فوق شراعً الهوى
قُنبُلة.

(4)

ألَسْتَ معي يا صديقي
بأن ظلامَ المنافي البعيدةً
يُشبهُ آخرُهُ أوّله؟
وأنّ خُطى السّعي نحوَ ملاعبً أحلامنا
لم تعُدْ هَرْولة؟

(5)

بجُثمانً حلمي المسُجّى
أجوبُ البلادَ التي صعْلكَتْني
وحيداً
وأخرجُ منها وحيداً
أحًنُّ إلى رقدةْ خلفَ هذا الزّمانً
وحيدة..
وليسَ معي غير قلبي المُشظّى
ورؤيا قصيدة.

(6)

وصلت بجمهور ناري
لحقل الرّمادْ..
فأوقفَني الصّمت
عًندْ حُدودً الكلام
لألقي على حُزنً أمُيّ السلام

(7)

أنا يا الحبيبَةُ
ما قلت في حُبًّ عينيك يوماً
كلاماً جزافاً
لأنيّ أحبّ الكلام
ولكنّ صَمْتي على صَلب عينيكً
فوق غُبار المرايا حَرام.

(8)

حصاني تربّى
على عُشب روحي
وماءً السَّماء التي أدهشتني
بلغوْ السُّهولً وصَمْتً الوحول
فلا خوفَ من أيّ جوع
وبَيْنَ يديّ تضجُّ الحقول
وقمحي أخبئهُ لصهيلً الخيول.

(9)

باردّ جامدّ طقسُ هذا الرّحيل
وهذا الصقيعّ الذي روّجته المنافي
على كاهلي جاثم مثل جًمْلْ ثقيلْ..
وكدتُ أموت مًراراً
على شرفة الرّيحً لولا هواءُ الجليلْ.

(10)

أيها المرتدي موتك الان
مثل عباءة..
أيّها العابرُ الان من قبو أحزاننا
وفينا يجر رداءه..
ستبقى على الباب روحكَ
توقظ فينا دماً لاقتحام الظلام
ودماً مثله للاضاءة

(11)

نشيعّ فارسَ أحلام حيفا
ونحملهُ قمراً فوقَ أهدابنا السْمر
هذا المساءْ..
ونفتحُ بابَ أريحا
ليدْخلَ في موكبً المجد والكبرياء
الطريق الى القدس مغلقةّ
غيرْ أن السَّماء
أشارتْ إلينا بكل النجوم
التي تحرسُ الشعراء
بدَرْب الحنين المُضاءْ.

(12)

تشظيتُ من شدّة العشق،
واخترتُ عاصفتي لأطيرْ
وصرت شظايا مهيّأةً للرجوع الأخيرْ
إلى حيثُ دمعةُ أميّ
وحُزنُ أبي
ووصايا الخلاصً الكبيرْ.

(13)

على طبقْ من حرير الكلام
أقدّمُ روحي
وألثم كفيَّكً حين أخبىءُ
بين ضلوعي هديلَ الحمام
وقلبي يتمتمُ: سمعاً وطاعة
فلولاك ما عرفَ الشعرُ
في كَسْرً أوزانه كُلَّ هذي الشجاعة.

(14)

شربتُ خمور المنافي
فصرتُ على قمة الحلمً
أكثر صحواً
وأكثر توقعاً لعشبةً صَبْر جميل
تهدهدُ جرحي
تعلّلُى بلقاء أبي
تحتَ داليةْ سرّحت ظلَّلها
فارتمى متعباً فوقَ سفحً الجليلْ.

(15)

هذه قصةُ العاشق المختفي
عن عيون الجبال
قصّةّ لم نجدها ولو في الخيالْ
عاشقُ يخْتم الان غُربة أسفارهً
فيرتّبُ أحزانهُ واحداً واحداً
ويعيدُ الدموعَ لصمت الحقائب،
مغتبطاً بالرَّحيلْ..
يشتهي أن يرى روحه في مرايا السّفَر
ويعيدُ لذاكرة الروح رونقها في انحباس المطرْ

(16)

لا يليقُ بنا الجَهرُ بالصّمتً
يا صاحبي
فلنكُنْ صامتين
اذا ما مشينا على جمر هذا السكوتْ
إذا قُلْت شيئاً حزيناً
فإنّ حروفي على شفتيَّ تموت

(17)

فقدناكَ؟
لا.. أيُّها المعتلي في أسانا جوادكْ
تجوّلْ بكل قلوب محبيكَ
أجّلْ رُقادَكْ..
وفي أعين الصابرين تأمّلَ بلادكْ
تجد أنكَ الانَ حيّّ
بكل الجبال وكل الحقولً
وكل القلوبْ..
وكل القلوبْ..
وأنّكَ رغم الرحيل المقدّر
فارسُ هذي الدروبّ.

(18)

أنا ما تركتُ حصانَ انتظاري وحيداً
فخلفَ غُبارى تسيرُ الجموع
ومن بين هذي الدّموع
سيَصْهَل فيكم حصاني
ويأخذُ أجملكم في اعتناقً النفّيرً
مكاني..
فتنهض مُن وجع البحر يافا
وتنفرُ كالمهرةً المستميتة
مًن حَسرْة البرّ حَيْفا

(19)

هُنا أيّها العاشقونَ اليتامى
تصيرُ القصيدة أمّا لكمُ،
وشًعري يَصيرُ أباً ليتيم الهوى
في غيابي..
سأكنزُ بذرة عشقي لأرضي شتاءً
وصيفاً سأخرجهُها من حنايا تُرابي
لتزهر حُبّا..
لتوقظ قمحاً غفا في الخوابي.

(20)

دواوينُ شعركَ
تصطفُّ في الساحة الخارجيّة للحُزنً،
مثلَ اصطفاف الأحبة والأصدقاءْ
تتقبّلُ فيك العزاءْ..
ترشُ على عين الحاضرين أريجَ القصائًد،
مغتسلاً بالضيّاءْ..
فتقسمُ كل الجراحً بأنكما غبتْ عنها
وما زلتَ تدخل مُن كُلًّ بابْ..
وما زلتْ يا نجم آفاقنا المرُتجى
حاضراً في الغيابْ..

(21)

يا صبايا فلسطينَ إن مرّ عاشقها
في الصباح الحزين..
تساقينَ أشعاره يا صَبايا
بالمناديل جَففنَ دمْع المرايا
إذا مَرّ عاشقُ حيفا الجميلْ..
وبي يديه بياضُ الكفنْ
فزمّلنه بترابً الحقول التي عشقتهُ
وشيّعنهُ بدموعً الوطنْ.
قصيدة درويش الأخيرة
لاعب النــرد

****

لا تسقطي يا جمرةَ المعنى حاكم عقرباوي

إلى فقيد الأمل درويش
لا تسقطي
يا جمرةَ المعنى
رمادكً كامنّ
في كامنً المعنى
وأنتً تنتظرينَ أن يومي إليكً
حصاركً الممتدُّ في السكنى .
حصانكً جامحّ
يا جمرة المعنى
وإن سقَطَتْ
حوافرّ أخرى .
ماذا يضيركً لو هدأتً هنيهةً
بين الترابً ستنبتينَ قصيدةً،
وعصيَّةً،
لا تفجعي بالموتً
فهو مكانةُ الإنشادً
في دمكً النَّحيلً
أما خبرْتً الموتَ في
مدنً الضَّلالةً والهدى
وزرعْتً ما قطفَ الحنينُ
من الحنينً
أريدُ أن أحيا
لكي أحيا قريباً من هوائكً
مرَّةً
في البيتً،
قرب قصيدةْ رعويَّةْ،
في البيتً، كان الشعرُ أهدأً
من فتيلْ خامدْ
حضرَ الكلامُ
وكانَ صوتّ يشبهُ
الزَّمنَ القديمَ
رأيتُ في عينيكَ أغنيةً
تفرُّ من الكمنجةً
هلْ هدأتَ الآن
أم هي جولةّ أخرى
ليتَّضًحَ النشيدُ ؟
ھھھھھھ
يا لكَ من عصيّ
أيها الموتُ
قريبْ واثقْ
متطاولْ متمرًّسْ
ومدافعْ شرسْ
بخيلْ كلَّما أبقيتَ من رمقْ
لإلقاءً التَّحيَّةً
أنتَ أسرعُ من تحيَّةً شاعرْ
سقَطَتْ يداهُ
ولمْ يُودًّعْ شعبهُ
وصبرْتَ حتَّى نلتَ فاهنأ
بما تبَّتْ يداكَ
فلم يعدْ
قلبُ القصيدةً يحتملْ
مذْ صارَ شاعرُها
( يربًّي ) في معانيها الأملْ .
لاعب النرد يلاعب الموت ويمضي

صقر ابو فخر

****

درويش مطرّ على جبلْ تصدّع

زياد أبولبن

فاجأنا الموت وهو يخطف منّا شاعراً كبيراً بحجم محمود درويش، الذي ترك مسافات شاسعة بين الحلم والحقيقة، وبقيت تلك الأرض تنتظر نبض الشعر، نقرأ "الجدارية" كلما ضاقت علينا الدنيا، وشعرنا بضجر الأيام وعبثها، وهي تُحاصرنا في خبز أمي وقهوتها. عاش درويش حلم الثورة والمقاومة، وهو يصرخ في وجه العالم "سجّل أنا عربي"، إلى أن أصبح "نجمة سقطت بين الكتابة والكلام"، وبقيت قريته تنتظر ابنها الذي غادرها صغيراً، تبكيه تلك الأرض وهي تنام مفقأة العينين.

ترك فينا درويش لغة الكلام، تركض مع وحوش البرية، وتُسمعنا عواء الذئاب، وفحيح الأفاعي، يُبعث من بين الرماد كالعنقاء كلّما دبّ فينا الكسل، ونامت نواطير فلسطين عن ثعالبها، لم يبق لنا سوى الحبّ الذي زرعته القصائد، وأشعلت حرائق السنين، مضت سبعة وستون عاماً، بين جرح وجرح، وبين عدو يتربصنا وصديق تدمع عينه علينا، كلّما أحسّ بأن القضية أكبر من لغة الكلام.

ضاق قلب درويش، وهو ينظر مصرع هابيل على أرض السلام، وانحاز للموت بعدما مرّغ الأشقاء وجوههم بتراب الأرض، وكسرت أجنحة الوطن، وطارت الفراشات بعيداً، فـ "أنت منذ الآن غيرك" يا درويش.

رأيتك في قاهرة المعزّ تُنشد شعراً مجروحاً في خاصرة الزمن، ورأيتك في عمان تحمل عباءة المتنبي، وتشعل شموع الفرح، ورأيتك في عيون العالم تنشد للأرض حضور السماء، كأنك "أول القتلى وآخر من يموت".

ها قد مضى درويش، وبقيت قصائده تتفتّق من سنابل القمح في مرج ابن عامر، وتمرُّ في طرقات حيفا القديمة، وتتسلل من فوق أسوار القدس، وتنام في حضن رام الله، وتطوف القرى والبيوت والشوارع، "كأنها مطرّ على جبل تصدّع من تفتّح عُشبة". فسلام عليك يا أنبل الشعراء.
قاص وناقد أردني

****

يا شاعري محمود.. وداعاً د. عادل الأسطة

صباح السبت، 9 ـ 8، اشتري جريدة، وأقرأ في الصفحة الأولى نبأ عن حالتك الصحية، عن العملية التي أجراها جراح عراقي يعد من أمهر الجراحين في العالم، الأحد، مقالي الأسبوعي، نأتي على سيرتك، على حالتك الصحية، على شاعريتك، على علاقتي بك، وسأقول للعاملين أنني، حين تعود سالما معافى، سأزورك، لأهنئك بالسلامة.

مساء السبت، أجلس على الرصيف، أجلس مع عمي، آخر من تبقى من عائلتي ممن ولدوا في يافا، يحدثني عن حنينه إليها وإلى شاطئها وبحرها ومنزل أبيه فيها، منزله الذي جرفته جرافات أبناء العمومة، وفجأة يناديني أخي، فثمة من يطلبني على الهاتف. امرأة في وكالة أنباء ذكرت اسمها لي، وذكرت اسمها هي أيضا، ولم أعد، الآن، أذكرهما، تسألني عنك، تقول لي إنك لم تمت بعد. إنك في حالة موت سريري. ستسألني وأجيب، وتسألني وأجيب. سأعطيها رقم هاتفي النقال، بناء على طلبها، وسأتابع آخر الأخبار. الحالة حرجة. مت. لم تمت. وسأصغي إلى خبر نعيك. ينعاك الرئيس.

ماذا سأكتب في رثائك يا شاعري. لم ألتق بك إلا مرات قليلة لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وهنا أحور في بعض أسطرك الشعرية، سكنتني أربعين عاما تقل قليلا. هل تذكر ما كتبته عن أحمد الزعتر الفدائي الذي سكنك عشرين عاما واختفى، وظل وجهه بارزا كالظهيرة. هل اختفيت أنت أيضا؟ أظن أن أشعارك التي سكنتني منذ العام 1973، ستظل تسكنني ما دامت لي ذاكرة ويد تكتب، ما دمت أدرس في الجامعة وأشارك في المؤتمرات، فأنت شاعري المفضل، شاعري الذي أنجزت عنه غير كتاب، وعشرات الدراسات والمقالات، حتى قال لي أحدهم، ذات نهار، لفرط ما لاحظ من اهتمامي بشعرك: سنسميك عادل درويش. بل إن أحد قراء دراساتي عنك سألني ذات نهار إن كانت لك ابنة شابة، ظانا أنني أتودد إليك حتى أخطبها.

في العام 1973 قرأتك لأول مرة. درست قصيدة "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" في الجامعة، وبدأت أتعرف إلى أشعارك وأشعار شعراء المقاومة: سميح وتوفيق وراشد وسالم. وغامرت واشتريت ديوان الوطن المحتل الذي أشرف على إنجازه الشاعر يوسف الخطيب. وسأظل أحتفظ به حتى العام 1976، أقرأ فيه وأقرأ فيه، وربما حفظت مقاطع كثيرة منه. وفي هذه الأثناء سأصغي إلى أصوات زملائي، في الجامعة، يقرأون قصائدك وقصائد فدوى. "نحن في حل من التذكار فالكرمل فينا، وعلى أهدابنا عشب الجليل". هل كنت يومها أدرك المعنى جيدا؟

تسألني مراسلة وكالة الأنباء: لم تميز محمود درويش عن رفاقه شعراء المقاومة؟ فأقول لها بسبب شاعريته. هل قرأت أنا منذ العام 1976 شاعرا كما قرأتك؟ لا أظن ذلك. لم أكن أعرفك شخصيا، لكن أشعارك وجدت صدى في نفسي، فأخذت أقرأك غالبا قراءة ناقد متعاطف. كم من مرة قرأت أحمد الزعتر التي صدرت في كراس خاص، قبل أن تصدر في ديوان "أعراس" (1977) الذي أعادت دار الأسوار في عكا طباعته وطباعة ديوانيك "أحبك أو لا أحبك" (1971) و"محاولة رقم 7" (1974)، وفي فترة متأخرة "حصار لمدائح البحر"؟ لا أدري، ولكني قرأتها كما لم أقرأ شعرا من قبل.

وسيسحرني مقالك عن غسان "غزال يبشر بزلزال". سأجري، وأنا معلم في مدرسة إعدادية، هي العقربانية، مسابقة قراءة، يتنافس فيها الطلاب، سأعطيهم نصك في غسان، وسيتعمم النص، النص الذي اندمج فيه قارئوه كما لم يندمجوا في قراءة أي نص آخر. أنت شاعر في نثرك، ونثرك لا يقل قيمة عن شعرك، وربما لم أكن مخطئا حين قلت: إن من يريد أن يفهم أشعار درويش، عليه أن يقرأها مع نثره. نثرك يضيء شعرك ويوضح بعض غموضه. لقد خسرناك ناثرا قدر ما خسرناك شاعرا.

في قصيدتك لأمك حورية "تعاليم حورية" أتيت على لقاءاتك العابرة بها. كانت لقاءاتكما سريعة، ولكن أيامك كانت تحوم حولها وحيالها. وكانت هي تعد أصابعك العشرين عن بعد. في قصيدتك هذه قلت: لم أكبر على يدها كما شئنا: أنا وهي، افترقنا عند منحدر الرخام. هل كانت علاقتي بك وبأشعارك مشابهة؟ لم أكبر على يدك، كانت مقالاتي تحوم حولك وحيالك، وكنت تعد أصابعي العشرين عن بعد. كم كنت حاضرا في كتاباتي، وكم كنت، في السنوات الأخيرة، حاضرا في بعض قصائدك وفي بعض مقابلاتك.

أحيانا كانت تأتيني تحياتك. من خلال شاعر ما. من خلال طالب ما يزورك. أحيانا تبلغني شاعرتنا المرحومة فدوى عن غضب اعتراك لدراسة لم ترق لك. أحيانا يبلغني شاعر قريب منك، كنت ألتقي به، عن رأيك فيما اكتب. أحيانا يقول لي: يخبرك محمود أن ما كتبته عنه كفاية. هل قلت هذا أم أنه من قول الشاعر نفسه، لأنه ينبغي أن أكتب عن غيرك، عن الشاعر الذي ينقل لي الكلام؟

سأتذكر قصيدتك: "حجرة العناية الفائقة" من ديوان: هي أغنية.. هي أغنية" (1986)، سأتذكر أسطرك فيها:

"هو القلب ضَلَّ قليلا وعاد، سألت الحبيبة: في أي قلب أصبتُ؟ فمالت عليه وغطّت سؤالي بدمعتها. أيها القلب.. يا أيها القلب كيف كذبت عليّ وأوقعتني عن صهيلي؟
لدينا كثير من الوقت، يا قلبُ، فاصمد
ليأتيك من أرض بلقيس هدهد
بعثنا الرسائل
قطعنا ثلاثين بحرا وستين ساحل
وما زال في العمر وقت لنشرد"

كم مرة خانك قلبك، ولكن الطب أسعفه. هذه المرة لم يسعفك أمهر الجراحين في العالم. هل خانك قلبك أم خانك الطب أم خانتك الدنيا بعد أن مر وقت كثير دون أن يأتي الهدهد من أرض بلقيس، ودون أن تأتي إجابات الرسائل، وبعد أن قطعت ستين بحرا ومائة وعشرين ساحلا. لم يعد لديك في العمر وقت لتشرد. نحن ما زلنا نشرد. الآن لا نتابع أخبار قلبك. لقد غدا قلبنا، نحن أبناؤك، يوجعنا، ولا أظن أن إجابات الرسائل ستصل.

في السنوات الأخيرة أردت الاتصال بك لأقول لك: كف قليلا عن نشر الكتب، فأنا خائف عليك. هذا النشاط أوحى لي بأنك تسابق الوقت، وأنا أريد أن تعيش فترة أطول. كلما صدر لك كتاب، منذ "لا تعتذر عما فعلت"، دون أن يمر وقت طويل، كما كانت عادتك سابقا، كنت أهجس: هل يسابق الموت؟

ربما لم ترق قصيدتك الأخيرة "سيناريو جاهز" لي فنيا. ربما، ولكنني توقفت مطولا أمام نهايتها:

"هرب الوقت منا ـ وشذ المصير عن القاعدة ـ هنا قاتل وقتيل ينامان في حفرة واحدة.. وعلى شاعر آخر أن يتابع هذا السيناريو إلى آخره".
هل كنت يا شاعري، تودعنا؟ محمود درويش.. وداعاً.

*قاص وناقد وأكاديمي فلسطيني

****

في رثاء لاعب النرد سامية العطعوط

في المشهد حمامتان بيضاوان
ترفوان ثوب الشهيد
وامرأتان تبكيان
وفراشةّ تركت أثراً
قبل أن تطير
كزهر اللوز أو أبعد

في المشهد فارسْ وسيمّ
يترجّل
ينظرُ للخلفً
يرى
طفلاً يحبو
يعبر نحو الشمس المشرقة
على وطن أجمل
وطن يتسلق فاكهةً
أجساداً ودماءً
من نور
في المشهدْ
سقط قطارّ عن خارطةْ
عمياء
تقفُ على قارعة المنفى
ليعود الشاعرُ من مشفاه
إلينا
حزناً أو ذكرى
وقصائد
لا يمحوها النسيان.

ہہ

فلسطين حزينةّ هذا المساء ...
تلوب على موت شاعرها الأجمل..
فلسطين ثكلى كأمْ فقدت أعز أبنائها..

الطرقاتُ دامعةّ تنعى غيابه.. والنسوةُ اللواتي اجتمعن هنا بالسواد، يبكين فارساً ترك الحصان وحيداً لنا..

ورحل.

وتلك الجداريات التي علّقها في فضاء حزنه العادي، طارت عالياً، ثم هوتْ علينا كصاعقة الموت الذي لم يُؤجل..
الطرقاتُ دامعةّ
والحوانيتُ مغلقةّ
والبيوتُ خفضتْ من أسقفها لتمر روحه بسلام،
والشبابيك طارت بعيداً إثر فراشة لم تمت..
والموتى بُعثوا من قبورهم لاستقباله، فقد غاب درويش الحب والنرجس واللوز والبرتقال عن عيوننا، وفي فمه كلمة:

أنت منذ الآن أنت..،،
مات الشاعر محمود درويش.. مات الرائق الجميل بلعبة نرد. بحياة لم تمهله قليلاً أو طويلاً حتى يلتقي الأصدقاء بعد يومين، كما تمنى:
ولاثنين من أصدقائي أقول على مدخل الليل:
إن كان لا بد من حلم، فليكن
مثلنا.. وبسيطاً
كأن: نتعشى معاً بعد يومين
نحن الثلاثة
مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين،
فلنحتفل بسوناتا القمرْ
وتسامُحً موت رآنا معاً سعداء
فغضَّ النظرْ،
لكن الموت لم يغضّ النظر، واستله من فراش المرض سريعاً نحو الأجل،

محمود لم تكن بالنسبة لجيلنا مجرد شاعر فقط، بل كنت البوابة التي عبرنا منها للشعر والنثر والكتابة. حفظتُ دواوينك في مراهقتي عن ظهر قلب. كنت الأنفاس التي نستنشقها في وطنْ محتل، والبحر الذي يسافر بنا نحو أحلام بعيدة وأمنيات قابلة للتحقق في وطن أجمل... كبرنا مع شعرك حتى خطّ الشيب رؤوسنا، واستلك الموت من بيننا باكراً، قبل أن يكتمل الحلم ويتحقق.. قبل أن تسمع قصيدة كتبتها لك في مراهقتي للعتاب وأنا لم أجاوز الخامسة عشرة من عمري، بعد:

لماذا غادرت الوطن محمود
وجذور عشقه حية في صدرك
لا تموت؟
وأجبتني في القصيدة ذاتها:
إصلبوني احرقوني
لكن لا تسألوني
كانت أيامي هناك تجري
دون جديد
سوى احتراف الصمت والصلب
في كل عيد
أردتُ أن أثور وأنفجر
أن أذيب عن صدرها
نار الجليد
لكن الكلمات كانت
تموت على شفاهي
وتُقيّد بسلاسل من حديد

كان يمكن أن أخبرك عنها عندما التقيتك بعد أعوام كثيرة، ولكنني لم أفعل لأنني كنتُ قد هُجرتُ مثلك، والآن، تغادرنا بجسدك العليل إلى غير رجعة.. ولكنك معنا دائما.

لأنك الهامة التي وطئت ذرى السحاب، والقلب الذي ظلّ عابقاً بعشق الحب والحياة، حتى بعد كل العمليات الجراحية.

أنت يا محمود .. أنت.

كنت تعلم أن أيامك في هذه الحياة معدودة، وأن لاعب النرد يربح حيناً ويخسر حيناً، وأن حياتك كلها مصادفة. صدفة أنك ولدت ذكراً، وصدفة أنك نجوت من موت في حادث رحلة مدرسية لأنك تأخرت عن الدوام. وصدفة صرت شاعراً. ولكن ما لم تعرفه قط، أنك لم تكن صدفة بيننا. فقد أشعلتنا بالحلم الكبير. والملايين الذين يقفون الآن احتراماً لك، هم عشاقك. إنهم عشاق الأرض وعشّاق الحياة.

فنم مطمئناً يا جميلنا، فشعبة الخلود التي فقدوها قد وجدتها أنت.

قاصة وكاتبة ارد
قريبا من محمود درويش

*****

الذاكرة الوطنية ومقاومة النسيان علي بدر

"أيها المارون في الكلمات العابرة، احملوا أسماءكم وانصرفوا، وأسحبوا ساعاتكم من وقتنا، و انصرفوا، وخذوا ما شئتم من زرقة البحر و رمل الذاكرة، و خذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
انكم لن تعرفوا، كيف يبني حجر من ارضنا سقف السماء.."

محمود درويش
كيف نتلقى خبر وفاة محمود درويش؟

يجب أن يتمأسس موت محمود درويش على واقعة إحياء شعره، لأنه الحاضن الموضوعي لسياساتنا كأمة، يجب أن يؤخذ في إطار ما تبديه الحركات الاجتماعية والثقافية الجديدة والتجمعات السياسية التي تقاوم ضروب السطحية الزائفة، وبالتالي تصبح الممارسات الصادرة عن صناعة الثقافة توظيفات تضامن سياسي مقاوم. ومن المحقق أن الشغف الكبير بشعر محمود درويش تأتى من تلبيته حاجات المرحلة التي لم يستطع الشعر الشكلاني إخمادها. كان شعره بعيدا عن التصنع والارتباك، كان نحيفا بلا زيادة أو نقصان، وفي هذا السبيل حتى ونحن نعاين، عن قرب، العديد من قصائده الخالية من أبهة الكتابة وفخامتها، سنجد بهجة بليغة الأثر، واحتفاء بالحياة، وانغماسا في إحدى برهات الحياة الأكثر فورية، عندما لا يمكن للشعر إلا أن يكون احتجاجا شرسا على ما هو قائم.

وهكذا تموضع محمود درويش وجها لوجه أمام ميراث عتيق وانخذالي إلى حد بعيد. غير أن هذا الثقل الفائض لم يستطع تكبيله، كان يريد أن يقدم للإنسانية معنى، وهذا المعنى لا يتم إلا بكرامة الوجود، وقد افتتن هو بالحياة وبالحب والفرح وعده نوعا من المقاومة والدفاع عن الهوية بالرغم من تهديدات وانتقادات لاهوتيي الخطيئة والسقوط الذين أرادوا الحطّ من قيمة شعره المقاوم، أو الذين حطوا من قيمة شعره الإنساني البعيد جدا عن المرحلة. ذلك أنه كان شاعرا حقيقيا، والشعر كما يقول بول فاليري يتشكل مع الهوية لا قبلها ولا بعدها، ولم يكن غير مثمر هذا الهامش الذي يزخر بالأحلام والذي تثقله الاستيهامات. كان على الشعر أن يهيئ له سمة جديدة، وأن يباشر حضوره وينطوي على رغائبه، ذلك أن شعر محمود درويش ونبرته العظيمة قادمة من صميم الصنعة، ومن موضوعها، قائمة في أهمية المرحلة وفي تقنية الكتابة. إنه ينجح في أن يكون شاعرا حرا ومقاوما معا. إنه ينجح في بلورة تلك القسمات المبهرة لوجهنا الحضاري الرائع، ويطلق في الوقت ذاته صوفيته الذاتية الملغزة.

لقد كان عمله عمل شاعر مثقف مزود بإحساسه بمسؤوليته الخلاقة، والسحيقة الغور، وقد استطاع تخصيب شعره بفلكلور وطني وإنساني معا. وكان يعاني بوصفه شاعرا عظيما في أحايين كثيرة، من ثقل تاريخي يكبله، وكان يعرف أن المطمح الشعري وهو ينتصر فإنه ينتصر للإنسان وهكذا كتب عن الفراشة والحب والحياة والإنسان. أكان هذا عامل إعاقة للواقع، هذا ما كان ينظره النقاد الصغار لتجربة درويش، ولكن ألا تتوافر في هذا المطمح إمكانية الانتصار؟ واقعيا نعم، كان ينير من شعلة البشرية الكون والاندراج في رحبات الكون.

أثر الفراشة لا يُرَى، أَثر الفراشة لا يزولُ،
هو جاذبيّةُ غامضْ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديًّ في اليوميّ
أشواقّ إلى أَعلى
وإشراقّ جميلُ
هو شامَةّ في الضوء تومئ
حين يرشدنا الى الكلماتً
باطننا الدليلُ
من "أثر الفراشة"
لمحمود درويش

**

لقد كتب محمود درويش الشعر بعفوية الطفل الذي ينظر إلى العالم الذي يحيط به بعينين تخلوان من التحيز تماما، كما خلق نوعا من التوق البريء لتقديم العالم المحيط به بمشهد أسمى. لم يكن لاجئا كئيبا ومقهورا. كان واقعا على الحدود الفاصلة بين حدثين إثنين، حطام الفلكلور الفلسطيني وبروز إسرائيل، أي كان في إسرائيل الواقعة على خارطة فلسطين، ليبرز في شعره الخارطة القديمة والمهدومة في توثب محموم، ليظهر العالم المغيب بانتظار وعد آخر بالخلاص، فهذا الصنيع الأدبي جعل من الخارطة التي تبخرت في الدخان، جوهرا في الكتابة.

"لا شيء معطى، لا شيء صالح للقطاف، الحب، والفن، والسعادة هي إنتاج إنبيق".

هكذا قال جاك شاردان في زمن أبعد من هذا الزمن بكثير، أتذكر ما قاله جاك شاردان وأنا أقرأ خبر موت محمود درويش كما لو كان هذا الخبر هو النطاق الذي يتحدد فيه مكان كل واحد فينا. لم تكن واقعة الموت هي واقعته وحده، إنما واقعتنا جميعا، وأقصد بهذا هو موت شيء ما في أدبنا وتاريخنا وثقافتنا، موت ليس سهلا أبدا، ذلك أن وجودنا التاريخي يغشاه خطر جسيم هذه الأيام، وحسبنا أن نستحضر ما لحقه من إهانة، بلغت حد الزراية بروحه، في القرن العشرين، على نحو كارثي أيضا، ضياع فلسطين، نهاية وعد الأمة بالخلاص، تبدد الحلم القومي بالاستقلال، وقد ظهر محمود درويش من زمن الحداثة العربية وهو جزء من مشروع النهضة العربية، بل هو الجزء الوحيد الذي نجح منها وقطع أشواطا بعيدة، بينما بقيت مجتمعاتنا على قدمها، هذا القدم هو أحد مصادر التهديد الذي يتربص بحداثتنا.

بماذ يذكرنا محمود درويش، إنه يذكرنا بالمشروع الكبير الذي جاء ردا على تهديد هويتنا ووجودنا بالعمق، وقد سعى هو وشعراء الطليعة في الستينيات والسبعينيات إلى استكناه تجربة سياسية تامة، تستعيد روحها من خلال مقاومة دائمة، مقاومة ضارية تجد مسوغها في الأليغورة، التي شدد فريدريك جيمسون على أنها فردية بالكامل، وهي خاصة، ولكنها تشتمل أيضا وفي جوهرها على كامل الحكاية الجماعية، بل تشتمل أحيانا على كامل الفلكلور القومي، وهو أمر مهم جدا، من وجهة نظري، لا في أنساق تحولات الشعر فقط إنما في أنظمته التي قننها الفكر النقدي، وعمليات التأثير والأنظمة التي ترادف، بناء على هذه الحال، نسيان الوجود، أو نسيان الهوية، حيث يمكن للكينونات الهوياتية الأخرى أن تؤثر وتشد وتحور، عند تعطل الشعر، فالشعر هو حارس الهوية الوطنية والقومية، وهو يمارس حضوره الكامل على الجماعة من خلال إنعاش اللغة، وتجديد المعجم، وإعادة بناء الذاكرة الجماعية التي تبرع بها التمثيلات الوطنية.

ويدرك محمود درويش أن الشعر يقوم عبر اللغة بصناعة الذاكرة وطرد النسيان، إنه أداة سياسية يمنحه فضاء اللغة لإدامة وعي الإنسان بالوجود، ويباشر إقراره بالآخر، إنه تمثل تصوري للعالم، حيث تنفتح أفق كونية الذات لتلتحم بكونية العالم، يفيد الشعر هنا في تغيير العالم، ويجدد العلاقات الحياتية وينعشها، إنه سجل الكلمات التي يوظفها الشعر، وهي مستقاة من معجم الكلام العادي.

روائي وناقد ومترجم عراقي

****

لم يصغ إلى يأس الضحية ولا غرور المحتل موسى حوامدة

كان محمود درويش ينتفض في وجه الذين ينعتونه بالشاعر الرمز، أو شاعر القضية الفلسطينية، لأنه كان يدرك أن هذا المعنى يحيله إلى بعد سياسي مباشر لا يرغب فيه، وينقله إلى قصائده القديمة والأولى، سجل انا عربي، يحكون في بلادي يحكون في شجن، عن صاحبي الذي مضى وعاد في كفن، فالكرمل فينا وعلى أهدابنا عشب الجليل، وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل وإلخ.

لماذ كان ينفر من قصائده القديمة، لأنه كان يسعى ببساطة إلى تطوير قصيدته بعيدا عن تصفيق الجماهير، ولا يريد أن يظل واقفا عند حدود القصيدة البسيطة والمعبرة والمباشرة، ولذا غامر وقرأ قصيدة طباق عن إدوارد سعيد في قصر الثقافة بعمان، وكان يعرف انها ليست جماهيرية، لكنه لم يكن يركن إلى تصفيق الجمهور الذي جاء يريد سماع ما يحفظ من أشعاره، لأنه كان يجرب ولا يريد لشعره الجمود في قالب معين، وأمام إطراء المحيطين والأصدقاء الذين كانوا يكيلون المديح لكل ما يكتب، كان لا يطمئن لكل هذا التصفيق، كما يقول عبدالباري عطوان عن قلقه قبل نشر قصائده وسؤاله عن ردة الفعل بعد النشر، ولذلك كان يهرب من النمط الذي يصل إليه ويصبح معروفا لدى جمهوره إلى التجديد والتجريب، وهو الذي قال للصحفي المصري سيد محمود في البحرين:( جمهوري يتغير معي، إذ يلفت نظري الآن طريقة إصغائه لشعري، أشعر أن غالبيته تجاوز طريقته القديمة وبات معنيا بشاعرية الشعر وليس بموضوعه)

وكان معجبا بشعراء قصيدة النثر، على الأقل بعدد من بينهم، وإن صرح مرة في تونس وهاجم قصيدة النثر فقد كان يعني استسهال الكتابة فيها وتشابه القصائد، وظل يقترب من قصيدة النثر، ورغم انه لم يكتبها لكنه كتب نصوصا مفتوحة قريبة منها في كتابيه أثر الفراشة وفي حضرة الغياب، وإن بسط بعض القصائد واقترب من قصيدة النث، لكنه حافظ على الوزن البسيط فيها، حتى يمكن القول أنه صار أقرب إلى روح شعراء النثر، وتجسد ذلك منذ لماذh تركت الحصان وحيدا، والجدارية وكزهر اللوز أو ابعد، وفي أثر الفراشة، مؤخرا والذي أراده ان يكون نصا مفتوحا يختلط فيه الشعر بالنثر.

كان خوف درويش من الوصول إلى القصيدة الجاهزة، القصيدة التقليدية المعروفة التي لا تفاجئ قارئه، كان يخشى أن يتوقف عند هذا الحد، ويعتبر ذلك هو الموت للشاعر، لا موت الجسد، ولذا كان دائم القلق، دائم المتابعة والقراءة، لا يركن إلى مديح، لذلك هرب إلى الفلسفة وإلى بورخيس وصار يمشي وظله معه يحاوره ويرى دائما شبحا يطل من بعيد او شخصا ثالثا بينه وبين نفسه، كان كل همه إلا يموت شعريا وكان غزير الانتاج لانه كان يخشى ان يتوقف قلبه في أي لحظة كما أن جسده كان نشيطا في صنع الكوليسترول كما ان عقله نشيط في الكتابة، كما قال قبل رحيله.

معضلة ومصدر خوفه كان من أن التهليل والتطبيل لشعره كان يأتي من ماضيه السياسي والثوري والنضالي ربما يقول البعض ولم لا فهذه شعبية لم يحصل عليها شاعرفلسطيني سواه، لكن محمود بحسه المرهف كان يعرف ان هذه الشعبية قاتلة، وآنية وهو يطلب من جمهوره أن يرتقي معه للنصوص الجديدة والتجريبية، وفي كثير من القصائد الجديدة كان الجمهور يخذله ويطالبه بقراءة خبز امي او سجل انا عربي، أو احمد الزعتر، لكنه لم يكن يستسلم لمزاج الجمهور ولا لمديح النقاد، لانه كان يعى ان المعيار الجمالي أهم لديه من ردة فعل الجمهور التقليدي، فكان وفيا للتجريب والمغامرة.

على الصعيد السياسي كان يرى ببصيرته البعيدة والثاقبة، أن الوضع السياسي في العالم كله تغير، فمنظمة التحرير تحولت إلى سلطة وطنية، وفلسطين دخلت نفقا معتما بانهيار السلطة واقتتال فتح وحماس وزيادة المستوطنات وتكالب الإسرائيليين، ورفضهم الرضوح لصوت المنطق والسلام والاعتراف بالحق الفلسطيني، وكان يشعر بالأسى إذ كان يتوقع أن يتزحزح الاسرائيليون قليلا بعد أن دار حوار طويل معهم وبعد ان خاطبهم في الكثير من قصائده وخاطب الجندي والمثقف والكاتب فيهم، لكن كل ذلك لم يكن مجديا فلم يتزحزح أعداؤنا عن موقفهم الرافض لكل كيان فلسطيني فأحس بالتعب واليأس ليس من خلال حالة حصار التي جلس فيها يربي الأمل، لكنه اعلن في آخر قصيدة كتبها أنه سقط مع العدو في حفرة واحدة في خطاب فلسفي وسياسي في غاية الاهمية، أكثر منه شعري بأننا أسرى الحفرة الواحدة وأسرى المكان وان الخطر واحد وأننا جاران في العداوة ولأنه، كان يحس باستحالة الوصول إلى حل راهن، ولذا طلب من شاعر آخر لم يحدده جنسيته أن يواصل كتابة القصيدة.

على الصعيد السياسي تغير كل شئ وعلى الصعيد الثقافي والفني صارالناس يهربون للرواية وقل عدد القراء وهم يفضلون السرد على الشعر، وعلى الصعيد الإبداعي كثرت وتعددت تجارب الشعر والشعراء عربيا وفلسطينا ولم يكن قادرا على البقاء بعيدا عن إظهار التحولات في قصيدته، ولكن دون الانبهار التام بها.

لقد عرف ببصيرته الثاقبة أن الإصرار على الشعارات القديمة، ليس صحيحا فكيف نفسه مع المتغيرات، وقبل الذهاب إلى حيفا، وعبر عن آلام شعبه وآلامه، لكنه في المدة الاخيرة كان يريد الفصل بين الرمز الوطني والشاعر، كان يريد ان يكرس نفسه كشاعر جمالي عالمي وليس فقط شاعر قضية، وربما نجح في كتابة بعض القصائد في هذا المجال ولكن الجمهور لم يكن مستعدا لمثل هذا التحول، وكان هذا مصدر تعبه، وخشيته من تحنيطه كرمز وطني ونضالي وليس كشاعر كوني.

كان نبيها ذكيا لا يريد أن يستقر لا في مكان جغرافي محدد، ولا في نمط شعري معروف، وكان يرى المنفى منفيين، منفي خارجي ومنفى داخلي، وقد عاش كليهما، بل عاش المنفى الثالث وهو الخروج من الجسد والسفر إلى برية الروح، ومغادرة الواقع والتحليق من الشرفات والنوافذ وحتى السماء، لكي لا يصغي إلى يأس الضحية، ولا غرور الجلاد والمحتل.

شاعر من اسرة الدستور

Musa.hawamdeh@gmail.com

****

تجليات الحساسية الشعرية في فضاء الحرية : محمود درويش في «أثر الفراشة» د. محمد عبد القادر

يهيأ إلي أن الإنجاز الأبرز الذي حققه الشاعر الكبير محمود درويش في "أثر الفراشة" (1) يتمثل في تلك الشجاعة الأدبية أو الثقة الفنية التي وظفها للخروج من القفص. والقفص الذي أعنيه هنا هو مجموعة المسؤوليات والالتزامات التي وجد الشاعر نفسه محاصراً بين جدرانها. وإذا كان هو ذاته قد اختار جانباً منها، فإن الجانب الأكبر أسقطها عليه جمهور شعره، علاوة على الطبيعة الوطنية والأخلاقية للقضية الفلسطينية. وإذ يقوم القفص على جدران أربعة، فإن الجدار الأول الذي واجهته تجربة دوريش يتمثل في المسؤولية الوطنية والتاريخية، وشكّل القراء والجمهور الشعري جداراً ثانياً للقفص، فيما شكلت التزامات الإبداع والقول الشعري ثالث الجدران، أما الجدار الرابع فقد أنشأه نقاد لا يستطيعون كشف العلاقة المتجددة للشاعر مع النص الشعري ولا يستسيغون اقتراحاته الشعرية الجديدة، حسب قول درويش.

في "أثر الفراشة" لا يكسر درويش جدران القفص، ولا يشي بالقطيعة معها، لأنها في الأصل منبعها المحبة والاعجاب والالتزام والوفاء، ولكنه امتلك هنا من الشجاعة ما يكفي لأن يفتح كوة في كل جدار، يخرج منها متى شاء مثل دوري ويعود من خلالها إذا أراد. ومن هنا بدا لي درويش في هذا الكتاب مثل دوري يشدو من فوق القفص، لا من داخله، ولا من خارجه تماماً، إذ ما تزال ساقاه تلامسان القفص دون انفصام، وفي الوقت ذاته يكون قادراً على ملء رئتيه بهواء أكثر نقاء وحرية، ما يساعده على التغريد بما شاء من الغناء.

اشتمل "أثر الفراشة" على ما يقرب من مائة وثلاثين نصاً ابداعياً وصفها دوريش ب"اليوميات" وجمعت في ثناياها أنواعاً شعرية ونثرية مختلفة ذات أبعاد إبداعية وجدانية وفلسفية، علاوة على صياغات أسلوبية مكثفة تتقطر فيها حكمة التجربة وخلاصة الخبرة. وتختلف يوميات درويش في هذا العمل عن يومياته السابقة في أنها ليست نصوصاً إبداعية تسجيلية لأحداث ولا توثيقاً أدبياً لتطورات سياسية، بقدر ما هي حالات تأمل عميق يدوّن فيها الشاعر تفاعلاته الذاتية مع الإنسان والأشياء والزمان والمكان بصورة شخصية ويومية، وبأسلوب سلس متخفف من أحمال اللغة المرهقة. فقد تنوعت الموضوعات الى حد كبير، فإذا كانت في جانب منها تدون خواطر الشاعر أو فلسفته تجاه القتل، العبث، الألم، الموت، الحرب، العدو، الجدار، لبنان، العراق، بوش، الخوف، العزلة، فإنها في جانب آخر تتناول موضوعات في: المعنى، السفر، المشي، الطريق، اللاشيء، الحنين، التأمل، الحياة، الصمت، الحكمة، السخرية، علاوة على خواطر حول ذكريات للمدن والأماكن والأصدقاء، إضافة الى شيء من فلسفة السعادة وشيء من الحب، ورؤى في الإبداع.

وأستطيع القول أن التنويع في الحساسية الشعرية والنثرية بعامة تجلى بالتعدد في مناحي اللغة والأسلوب والشكل، والموضوع، والبناء الفني، والنوع الأدبي، والايقاع، وبالتالي تنوع الرؤى الوجدانية والفلسفية، وهو ما سيتضح في سياق هذه الدراسة. وكأن درويش في نصوص البوح الذاتي هذه يواصل رحلة كشف الذات للقارئ واكتشاف الذات للشاعر بالغوص في مناطق لم يتعود الشاعر ارتيادها ولم يتعود القارئ الاطلاع عليها إلاّ في أعمال درويش الأخيرة، ومنها "أثر الفراشة".

ومن المداخل الهامة لقراءة الكتاب، ما أورده الشاعر من إشارة سبقت النصوص ذاتها لتقول إن هذه اليوميات "صفحات مختارة من يوميات كُتبت بين صيف 2006 وصيف 2007". وهي إشارة ذات دلالة من شأنها أن تلفت نظر القارئ إلى أحداث بارزة جرت خلال الفترة ما بين الصيفين المذكورين منها - على سبيل المثال - واتصالاً بالنصوص المدونة في الكتاب - حرب تموز الاسرائيلية على لبنان وحرب الإخوة - الأعداء في غزة، علاوة على استمرار العدوان الأمريكي على العراق وطناً وشعباً وحضارة.

ولابد لعنوان الكتاب - "أثر الفراشة" - أن يستوقف القارئ لبلوغ المعنى أو في أقل تقدير سعياً لبلوغ معنى عرفاناً بما قاله درويش "نمشي ونمشي الى المعنى ولا نصل".

في القصيدة التي حملت عنوان "أثر الفراشة" يقول الشاعر:
أثر الفراشة لا يُرى ـ أثر الفراشة لا يزولُ
ويخيل إلي أن رمزية الفراشة أو صورها أو دلالاتها في قصائد درويش السابقة من شأنها أن تلقي الضوء على دلالات الفراشة وأثرها في هذا الكتاب. في ديوان "أعراس"(2) استخدم درويش صورة تقول "وتحمل عبء الفراشة" ومثلت هذه الكلمات عنواناً دون أن ترد المفردة في سياق القصيدة، لكن الصورة تعود في "سرير الغريبة"(3) في السياق التالي:
يغني المسافر في سره ـ لا أعود من الشام ـ حياً ـ ولا ميتاً ـ
بل سحاباً ـ يخفف عبء الفراشة ـ عن روحي الشاردة

ولعل "عبء الفراشة" في الحالتين إنما يمثل رمزاً على رهافة الحس لدى الشاعر وسرعة تأثر روحه بأي حدث أو قصة أو حنين.

وفي "ورد أقل" (4) يقول درويش:

"نؤرخ أيامنا بفراش الحقول"، لتكون الفراشة هنا مكوناً من مكونات ذاكرة الطفل ـ الإنسان، صورة من صور الوطن. وفي "جدارية"(5) يقول الشاعر "نهر واحد يكفي ـ لأهمس للفراشة: آه، يا أختي" لتصبح الفراشة توأم الروح للشاعر في وحدته. في ديوان "لا تعتذر عما فعلت"(6) يقول درويش:

هل أضاءتك الفراشة ـ عندما احْتَرَقَتْ ـ بضوء الوردة الأبدي؟

وهنا تصبح الفراشة، التي من طبعها أن تبحث عن الضوء وتحوم حوله، هي مصدر النور والحياة لدى احتراقها المجازي. وفي "حضرة الغياب"(7) تجيء الفراشات معنى واضحاً لا يحتاج الى تفكيك:

الفراشات هي الذكريات
لمن يتقنون الغناء قرب
نبع الماء

***

الفراشات خواطر مبعثرة

ومشاعر طائرة في الهواء

فالفراشات هنا ذكريات الطفولة في حياة أبناء القرى، وقد تكون الصبايا الحبيبات، ما يعني أن الفراشات ليست كائنات منفصلة عن الإنسان وروحه، بل تحمل ذكرياته وخواطره ومشاعره.

أردت من هذا العرض لبعض تمثيلات الفراشة في قصائد درويش أن أشير الى أن دلالات "الفراشة" كمفردة ورمز وصورة تتمحور حول معاني الطفولة والذاكرة والضوء والحياة والخفة والجمال وما إلى ذلك. و"أثر الفراشة" في الكتاب إنما هو الخواطر السريعة التي تحل فجأة أو تحضر بالتداعي والتأمل وتكون قادرة على أن تستولد معنىً عميقاً وتترك أثراً قوياً وصورة لا تمحى من الخيال.

وإذا كان بإمكاننا أن نقول إن يوميات درويش في هذا العمل أشبه بغناء من فوق القفص، فإن ذلك يعني بالنتيجة أن المرحلة الجديدة في شعر درويش ونثره تقتضي بالضرورة أن يتجاوز الأشكال والموضوعات والمعاني والصور المستقرة، فالذين يبحثون عن وحدة عضوية في "أثر الفراشة" سيصابون بخيبة أمل ويتمنون لو انفرد الكتاب بشكل محدد من الأشكال الأدبية. ومن يبحث عن موضوعات ملحمية قد يجد موضوعات تصلح لذلك، لكنه لن يجد معالجة ملحمية، بل سيجد نصوصاً فنية بسيطة، وقصائد قصيرة بعيدة عن المطولات الشعرية الملحمية. أما من يبحث من النقاد عن "تعاليمه" الفنية فلن يجد منها الكثير. منذ زمن درويش يقول "أنظف لغتي من جمالياتها الزائدة" وأن "التقشف الجمالي جزء من جماليات جديدة"، ولكن النقاد - أو بعضهم - يطالبونه بالعودة الى الوراء. في هذا الكتاب يعود درويش لإثارة القضية مرة أخرى في واحدة من قصائده:

"يغتالني النقاد أحياناً ـ يريدون القصيدة ذاتها ـ والاستعارة ذاتها"

***

"يغتالني النقاد أحياناً ـ وأنجو من قراءتهم ـ وأشكرهم على سوء التفاهم ـ ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة".

في هذا الصراع بين "قارئ قديم مخلص لذاكرته القديمة" وشاعر يبحث عن لغة جديدة وموضوعات لم يطرقها من قبل ولم تألفها الذائقة التي اعتادت قراءة درويش ضمن إيقاعات معينة، يتتصر الشاعر لفنه ولغته وإيقاعه مؤكداً أن جمهوره من القراء الجدد لا يقلون وعياً وعدداً عن جمهوره القديم.

في غنائه من فوق القفص يلتقط درويش مشاهد أو خواطر أو مواقف أو رؤى في حقول إنسانية عديدة ويعبر عنها بشعر ونثر بسيطين في الشكل عميقين في المضمون. مثال ذلك القصيدة ـ المفتتح التي جاءت في مستهل الكتاب تحت عنوان "البنت ـ الصرخة"، والتي تصور المشهد التلفازي (خبر عاجل) لعائلة فلسطينية على بحر غزة ذهبت أملاً في سويعات من الاستجمام، فعاجلتها البارجة الاسرائيلية بقذيفة قاتلة، فيما بقيت على قيد الحياة تلك البنت التي كانت تواصل الصراخ بهستيريا طفولية غير مسبوقة وتنادي "يابا .. يابا".

فكيف عبّر درويش عن هذا المشهد الذي جاء في خبر عاجل. كان يمكن له أن يكتب قصيدة ملحمية، لكنه في مرحلته الجديدة آثر أن يكتب قصيدة مشهدية قصيرة تُقرأ في أقل من دقيقة وبكلمات يقل عديدها عن مائة، وبايقاع هادئ يعكس ايقاع القتل بدم بارد، وبلغة لا تتجاوز وعي الطفولة، بل تصلح نصاً شعرياً في كتاب مدرسة ابتدائية.

والشاعر في مرحلته الجديدة يقف أمام الطبيعة ويتعلم منها، في الفصول تغير الطبيعة شكلها وايقاعها وألوانها فتصبح في رؤية الفنان تجربة فنية تشكيلية تثير شهيته للتعلم من الجماليات الخاصة للطبيعة. وفي بعض نصوص "أثر الفراشة" يلحظ القارئ المتأمل تلك المزاوجة المبدعة بين جماليات الطبيعة وجماليات اللغة الشعرية ـ النثرية التي يحققها الشاعر في هذا الكتاب، يقول:

"والعشب المائل الى الاصفرار ـ صور تتقشف وتغري البلاغة بالتشبه بأفعالها الماكرة ..... والطبيعة جسد يتخفف من البهرجة والزينة".

ولا يتردد درويش في القول أن "كسر الايقاع بين حين وآخر ضرورة ايقاعية"، وهو الذي أشار الى الغاية من ذلك في زمن مضى حين قال في "الجدارية" "لم أغيّر غير ايقاعي لأسمع صوتي واضحاً".

واذا كان كتاب "أثر الفراشة" نموذجا لتعدد الحساسيات الفنية لدى درويش ما بين شعر ونثر، فإن قارئ النصوص سرعان ما يعثر على القصيدة الحرة، والقصيدة النثرية، والقصيدة العمودية، وفي النثر يقرأ نصوصاً أدبية وجدانية، وأخرى فلسفية دون تجريد، وصياغات أدبية مكثفة أشبه "بالتوقيعات" المعروفة في الأدب العربي القديم، لكن أبرز ما يلفت الانتباه في النصوص النثرية هو توافر عدد من النصوص التي تنتمي الى نوع "القصة القصيرة جدا"، أو "الأقصوصة". قد لا يتوقع قارئ درويش أن ينحو الشاعر نحو كتابة الأقصوصة، كأنه ليس من حق أحد أن يسائل الشاعر ما إذا كان يرتاد عالماً جديداً من النثر الفني، فتلك مسألة تخص القارئ والناقد أولاً وأخيراً. إن قراءة متأنية للنصوص النثرية تشير الى أن العديد منها في الكتاب إنما هي أقاصيص بامتياز، وقد أحصيت منها تسعة عشر نصاُ هي كما يأتي: (العدو، البعوضة، واجب شخصي، ماذا ... لماذا كل هذا؟، موهبة الأمل، جار الصغيرات الجميلات، يرى نفسه غائباً، قال: أنا خائف، حنين الى نسيان، وقت مغشوش، واحد .. اثنان .. ثلاثة، شال حرير، ما يشبه الخسارة، غيمة ملونة، كما لو كان نائماً، ثلج، مواعيد سرية، كابوس، مسافران الى نهر). ويمكن بمزيد من التسامح الفني لمن يريد، أن يضيف الى هذه القائمة نصوصاً أخرى تنتمي الى نوع الأقصوصة.

ولست أقول بهذا التصنيف من منطلق الرغبة أو التذوق الأدبي، بل أرى ذلك استناداً الى سمات القصة القصيرة جداً(7)، فهي نصوص ذات بنى سردية بالغة الدقة في التركيب، شديدة التكثيف للغة والمشهد الوصفي، لغة إبداعية تميل الى البساطة وتحذف الزوائد والتفاصيل، وهي لغة إيحاء وترميز يتجلى فيها الايجاز والاختزال. كما أنها نصوص ذات ايقاعات متنوعة، متفاوتة في الطول نسبياً، لكنها قصيرة جداً قياساً بمواصفات القصة القصيرة. وتنطوي عناوينها على ايحاءات ودلالات فنية ثرية، حديثة الفكرة والموضوع، وفيها استخدام ماهر للمفارقة، وتوظيف مثير لجماليات السخرية والتورية، كما تتمتع بقفلات شديدة الادهاش، وهذه سمة رئيسة من سمات الأقصوصة. والسرد قائم في جانب على أفعال التأمل الذهني والوجداني، لكن أفعال الحركة والاداء تمثل الجانب الأبرز في السرد القصصي القصير جداً في هذا الكتاب. على أن التدليل على ذلك من خلال تناول نقدي لبعض هذه الأقاصيص يحتاج حقاً الى دراسة مستقلة.

ويواصل درويش، في غنائه من فوق القفص، إطلاق حرية حساسياته الشعرية من خلال الاخلاص لما هو شعري في اللغة والايقاع وشكل القصيدة، دون أن يقيد نفسه بلون محدد طالما أن الابداع من جانب، والحداثة من جانب آخر، لا يتوقفان على عنصر واحد من عناصر القصيدة، بل على تكامل العناصر الشعرية المستندة الى رؤية حداثية للتجربة الشعرية المحددة. وبدا واضحاً أن لا مشكلة لدرويش مع القصيدة الحرة، أو العمودية، أو القصيدة النثرية طالما أن الابداع هو محك التجربة الشعرية. يتمنى أنصار القصيدة التقليدية (العمودية) أن يكتب درويش كل قصائده على أوزان الخليل، وبالمقابل يسعى أنصار "قصيدة النثر" الى استدراج درويش للغناء في حديقتهم التي لا يرون حديقة غيرها. يعترف الشاعر المبدع أمجد ناصر بأنه "كان هناك موقف متواطأ عليه بين شعراء "قصيدة النثر" من شعر محمود درويش، موقف مضاد. فهو كان سيد التفعيلة ونجم "القصيدة الوطنية" بلا منازع، ونحن كشعراء جدد كان علينا أن نحارب التفعيلة وأن نطرد "القصيدة الوطنية" من جنة الحداثة(8). وفي مقدمة العدد الذي خصصته مجلة "نقد": لدراسة تجربة درويش، نقرأ شيئاً من فقرة تقول "بعد "كزهور اللوز أو أبعد" (2005) بات انتقال محمود درويش الى كتابة قصيدة النثر أكثر سلاسة، وربما أكثر حتمية. لقد أظهر درويش في هذا الديوان قدرة (رغبة ؟) كبيرة على "تمويت" الوزن وإدخاله في غيبوبة".(9)

يتضح هنا مدى الرغبة أو التمني أو السعي لحشر شاعر كدرويش في لون شعري واحد وحصره في ذائقة شعرية محددة، مع العلم أن درويش قد اتخذ منذ زمن موقفاً إيجابياً من قصيدة النثر وهو الذي قال "خلافي ليس مع قصيدة النثر التي أحبها كثيراً، خلافي هو مع الادعاءات النظرية التي تقول أنه لا شعر ولا حداثة خارج قصيدة النثر" ثم يضيف "أنا من أكثر المعجبين بها" (10).

في "أثر الفراشة" يوسع درويش من نطاق حريته الفنية بين شعر ونثر ويواصل رحلة الغناء من دون قيد أو "تحزب" أو إخلاص لنوع أدبي على حساب نوع آخر، ويجاور ما بين نثر وقصيدة حرة، ونثر وقصيدة عمودية ونثر وقصيدة نثرية كما لو كانت مرايا متقابلة أو متجاورة. يكتب طليقاً مثل بروميثيوس، وللقراء والنقاد أن يواصلوا ذائقتهم كما يرغبون.

ويمكن لنا أن نتلمس تجدد الحساسية الشعرية لدرويش تجاه قضية الموت في "أثر الفراشة". فالمعروف أن لدرويش مع الموت علاقة "شخصية" تبدو واضحة. في أعماله السابقة كان الموت حالة استشهاد مقدسة، أو حالة نفسية، وجودية، أو فراقاً يستدعي الألم والوفاء والرثاء، وسوف يبقى في بعده الإنساني بعامة وفق هذا المنظور. لكن القضية المثيرة هنا هي موقف درويش من الموت كحالة شخصية، أو كموقف ذاتي، هذا الموقف الذي لا نستطيع رؤيته بدقة ووضوح دون العودة الى موقفه من الموت في "جدارية". انطلاقاً من تجربة شخصية مباشرة مع الموت (في مرحلة المرض والعلاج في باريس) ومعانقته للحياة من جديد، تحولت مسألة الموت من حالة ذهنية وجودية مجردة، إلى حالة حقيقية ومجابهة واقعية بين طرفين: الشاعر والموت. دخل درويش حلبة الموت كشاعر يواجه خصمه وجهاً لوجه. دخل ما أسماه "الأبدية البيضاء"، ووقف على "باب القيامة" حين كان "الوقت صفراً". وقف أمام موت مسلح بالمصير المطلق والقدرة الأزلية، وشاعر مريض - يريد أن يحيا - ومسلح باللغة التي بدت مثل أداة يوظفها الشاعر لمناكفة الموت عبر "الإحساس" بالخلود. وكأن درويش يقول للموت: تستطيع أن تختطف مني الجسد لكنك لن تفتك باللغة ـ الفن ـ الابداع:

هزمتك يا موت الأغاني في بلاد ـ الرافدين. مسلة المصري، مقبرة الفراعنة ـ
النقوش على حجارة معبد هزمتك ـ وانتصَرَتْ، وأفلت من كمائنك ـ الخلود ..
يخرج درويش من مجابهته مع الموت كمن أبرم عقداً للصلح مع عدو الحياة، يتيح الموت بموجبه للشاعر أن يكمل ما تبقى له من حياة، فيما يتعين على الشاعر أن يحترم الموعد الأخير:

أيها الموت انتظرني خارج الأرض ـ انتظرني في بلادك، ريثما أنهي ـ حديثاً عابراً مع ما تبقى من حياتي ـ قرب خيمتك.

في "أثر الفراشة" يستدعي الشاعر الموت مرة شعراً ومرة نثراً في سرحتين خيالتين افتراضيتين وقد بات واضحاً - منذ الجدارية - أنه قد تخلص من رهاب الموت (ورهاب الموت على أي حال هاجس يقلق المبدعين على الدوام). في "بقية حياة" يقول درويش:

إذا قيل لي ستموت هنا في المساء ـ

فماذا ستفعل في ما تبقى من الوقت؟ ـ انظر في ساعة اليد ـ أشرب كأس عصير ـ وأقضم تفاحة ـ أجلس حتى الظهيرة حياً الى مكتبي ـ أعد غدائي الأخير ـ أمشط شعري ـ ........... ـ ثم أمشي الى المقبرة.

الشاعر يستقبل الخبر ببساطة بالغة، يواصل حياته كالمعتاد، ويتعامل مع "الدعوة" كما يتعامل مع موعد أو شخص محدد، وفاء بعقد المصالحة المؤقت.

في النص الثاني "الحياة حتى آخر قطرة" يقول:

"وإذا قيل لي ثانية: ستموت اليوم، فماذا تفعل؟"

يقول درويش أنه سيواصل حياته دون تغيير ـ ويعلق قائلاً:

"ماذا بوسعي أن أفعل غير ذلك، حتى لو كنت أشجع من أحمق وأقوى من هرقل"

على أن في الموقف من الموت الشخصي عند درويش يتمثل في أنه في "الجدارية" أقام حواره مع الموت، لكنه في "أثر الفراشة" ينشئ حواره مع الحياة. فبعد أن قال في "الجدارية": "يا أيها الموت انتظرني"، نراه يقول في هذا الكتاب:

لم أسدد أي دين للحياة ـ قالت ـ تعلمني تجدني في انتظارك
قلت: شكراً للحياة، فإنها هبة وموهبة ـ تعلمت الحياة بما استطعت من الشقاء وعلمتني كيف أحياها لأنساها

وسوف يتضح هذا الحوار أكثر في قصيدته الأحدث "لاعب النرد" حيث يتجاوز حوار الموت ليوجه نداءه للحياة:

للحياة أقول: على مهلك انتظريني ـ إلى أن تجف الثمالة في قدحي ـ في الحديقة ورد مشاع، ولا يستطيع الهواء ـ الفكاك من الوردة ـ انتظريني لئلاّ تفر العنادل مني ـ فأخطيء في اللحن ـ.

"أثر الفراشة" عمل أدبي يؤكد ثقة الشاعر بتجربته الفنية والانسانية وأهمية الحرية الابداعية في التعبير عن هذه التجربة. إنه يواصل تجاوز ذاته في كل عمل جديد، مثلما يواصل كسر الايقاع القديم بايقاع جديد. هو شاعر يستعصي على الحشر في قالب محدد، فهو ما يزال يتعلم شيئاً عن نفسه، ويتعلم أشياء من الطفولة (البراءة) والطبيعة (الأم) والحياة (التجربة). شكراً لموت أمهل درويش عمراً سيأتي، وشكراً لحياة علّمته كيف يعيش ليعرف كيف يبدع المزيد.

كاتب وناقد أردني

هوامش

(1) محمود درويش، أثر الفراشة، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ,2008
(1) محمود درويش، أعراس، ديوان م.د، المجلد (1)، دار العودة، بيروت، ,1994
(2) محمود درويش، سرير الغريبة، رياض الريس، بيروت، ,1999
(3) محمود درويش، ورد أقل، رياض الريس، بيروت، ,1994
(4) محمود درويش، في حضرة الغياب، رياض الريس، بيروت، 2006
(5) محمود درويش، لا تعتذر عما فعلت، رياض الريس، بيروت، ,2004
(6) يمكن في هذا الصدد مراجعة ما كتبه د. أحمد جاسم الحسين، وجميل حمداوي، ود. حسين المناصرة على المواقع:

1)www.ofouq.com
2)www.adabfan.com
3)www.aljazeerah.com

حيث يتوافر شرح واضح لمفهوم القصة القصيرة جداً وأساليبها وخصائصها، وقد استفاد الكاتب من الخصائص التي أوردوها في دراساتهم.

(7) أمجد ناصر، "اعتراف متأخر"، في كتاب: محمود درويش - المختلف الحقيقي دراسات وشهادات، دار الشروق، عمان، 1999، ص ,219
(8) موقع (www.kikah.com).
(9)لقاء حواري مع محمود درويش، 27 ـ 4 ـ 2007 على www.fatehforum.com

****

الى قاطف اللوز : في وداع شاعر الامة محمود درويش سعد الدين شاهين

لم يعلق نياشينه
وهو يدخل في غرفة الاحتضار
حطها جانبا
ثم اوصى بموته.. ان غفا
وأسلمنا الانتظار

كان يمضي بنا كي نؤلف جيشا على مهلنا
من فلول القصائد وهي في طور أفكارنا

منذ غزو التتار

كان يمضي بنا الى ما نحب ونهوى
إنه الواله الذي
لا يجيد الردى والفرار

كيف يمضي بنا الى موسم الحتف
في ثياب الوقار

كيف يغفو
ولوز البساتين من طبعه أن يعيش طويلا
ويكبر بين عصافيره فجأة

يعقد ما بين ازهاره لوزة لوزة
على سُنة الحبًّ
يحمل ليلكة النبض
ويكفيه ان يسهر في مرج احلامه

ليلتين من العمر
ويغمض عينيه يوما ولكن على مهله
يشيب لهول طويل اذا ما أراد

ويغضب إن لم تزره ثلوج كوانين
مرة كل عام
ويسأل كل حواشي الكلام
عن الوطن المبتلى
عن جريرة ابنائه

عندما يهدلون به في المنام
عن مصير الخيام
عن حقيقة هذا السلام

عن حقيبة آدم ماذا يخبىء فيها
إذا مر يقتضيه السفر
لم يكن وحده في السفر

في الحقيبة..
كانت قصائده
عناوين أصحابه..
عندما يلزم الامر
أو يستشف الخطر

في القميص الذي تعود أن يرتديه
على شاطىء الامسيات
ويفتح شباكه
لهواء قليل المطر

كي يرى قلبه ما يجيز التقاء حبيبين خلسة
كان جيش من الشعر ينتظر
من فلسطين عبأ أنفاسه

كي يكشف البنج عما يخبئه وهو يهذي
بما لم يقله بتاتا الى أمه وما يستتر

خلف نظارة للزجاج
تحت ظل المديح وأوسع من كوة للسراج
كان سرب اليمان الذي دل زرقاءه كي يلوّح منها
الى وطن من بقايا الصور

لم يبدل هواه
ولم يرجم الخيل والليل
وهو يمشي وراء فراشاته

في الاثر
بعينين جاحظتين قليلا
ونظارة لم تتب عنه لحظة في تقصي العبر

بألماسة القول
يكتب احلامه
ثم يجزم أن بأحلامنا ننتصر

لم يشاهد بلاداً يفيء اليها
سوى قطعة من حجر

سادن للرؤى
يتشظى كما يريد..
ثم يبدي...
ثم في القلب كما النبض يعود
ليهز المدى والوتر
كان يقطف لوز البلاد الذي كان يشتهي أن يراه
وقد مر من حطب العمر بطور الزهر

مرّ من غرفة الاحتضار

دون سيف وترس وجيش كبير
لم يكن في النشيد سواه
هزم الموت وحده
عندما جاءه الموت
يحمل موتاً غفيرا
يواجه قلبا بحجم فلسطين ولون القمر

مؤمن بالقدر

ولذا فإن الردى قد انتصر..

كان ينسى بأن يموت
عندما كان ما على الارض

لا يستحق السكوت

أعلم الآن أن كل البيوت
سوف ترثيك
لتبقى سدرة الكلام وتعلو
شجر القول سادراً

في العناد

يقدح الغيمة الكؤود لتهمي
كلما جف قشها
بقدحة من زناد

لست أنعيك إنما
أنت من تذكرت أخيرا كيف أن علينا
أن نؤدي مماتنا باعتداد

عندما تصبح القضية ثأرا
بين بيتين في قصيدة الحب
لم يفيضا ببحر وواد
عندما يصبح الشعر في بلادي
حياد...

Saad eddshahin@yahoo.com

شاعر اردني

*****

التنوع الأسلوبي والبنية التعبيرية للقصيدة : قناع أحمد الزعتر عواد علي

حين أعدت قراءة قصيدة "أحمد الزعتر" لمحمود درويش، بعد مرور ثلاثة عقود على نشرها في ديوانه "أعراس"، وجدتني أحفظ عن ظهر قلب مقاطع عديدة منها، وأرجعتني الذاكرة إلى ربيع العام1977 لأستحضر الأيام التي كنت فيها أمثّل شخصية "أحمد" في مسرحية معدة عن القصيدة، وتحمل اسمها نفسه.

كان معد المسرحية ومخرجها أنور محمد رمضان واحداً من رواد المسرح المشهورين في مدينتي "كركوك"، وأنا طالب في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية، أهيئ نفسي للتقديم إلى كلية الفنون الجميلة ببغداد لدراسة المسرح. وكنت مثلت قبلها في مسرحيات أخرى جرى توليفها من شعر المقاومة الفلسطيني، وخاصة من قصائد لدرويش وتوفيق زياد ومعين بسيسو وسميح القاسم. وطوال أيام البروفات على مسرحية "أحمد الزعتر" كانت صورة درويش لا تفارقني، وهو يلقي قصائد من دواوينه "حبيبتي تنهض من نومها"، و"محاولة رقم 7"، و"تلك صورتها وهذا انتحار العاشق" على حشد كبير من محبي شعره في أحد مسارح بغداد، يوم كانت حماسة الشارع العراقي للقضية الفلسطينية لا تعادلها إلا حماسة أبناء فلسطين داخل الأرض المحتلة وخارجها.

تلك الصورة الرمز، وأنا المغرم بصاحبها، كانت تؤرقني، وتجعلني أمام مسؤولية كبيرة: كيف أستطيع أن أرتقي بأدائي لشخصية "أحمد" المركبة، العربي الفلسطيني، المنفي والمقاتل البسيط المنذور للشهادة، الإنسان العادي، والعلامة المحملة بدلالات يصعب على غير الفلسطيني تحسسها على نحو عميق؟ وكنت ألجأ إلى بعض أصدقائي الفلسطينيين لأستوضح منهم عن وقع أو إيحاء هذه المفردة والعبارة أو تلك في نفوسهم، مثل: "الزعتر"، "الصفيح الضيق"، "سلم الكرمل"... إلخ، وأقرأ قصائد أخرى للشاعر في دواوينه التسعة السابقة لأستوعب معنى "المقاومة" في شعره. لكني كنت أزداد حيرةً، ويملؤني الغموض، فتلك القصائد موجهة ضد الاحتلال، وتؤصل لمقاومته، وللبقاء في الأرض، وتؤسس للهوية الوطنية والقومية في تحد للهوية الصهيونية التي يحاول المحتلون فرضها على الفضاء الفلسطيني، في حين أن قصيدة "أحمد الزعتر" تكشف عن سفالة الأشقاء، وكأنهم أبناء يعقوب، وغدرهم بشقيقهم الرهينة، الفلسطيني المحاصر، والمنسيّ بين فراشتين، وتدعوه إلى الصمود بوجه الردة، ومقاومتها، رغم أنه وحيد أعزل إلاّ من طلقته الأخيرة، وإلى أن يكون شاهداً على الزمن العربي الرديء، الذي يكرر، بنذالة، ارتكاب اثم كربلاء.

اليوم تتسع الرؤيا أمامي وأنا أقرأ القصيدة، متسلحاً بوعي نقدي، واستبصار لمشروع محمود درويش الشعري ببعديه الجمالي والتراجيدي، وإدراك تاريخي لمرجعية القصيدة، أو المذبحة التي خرجت من أهوالها.

يصنّف الناقد صبحي حديدي ديوان (أعراس) ضمن مرحلة البحث الجمالي، وهي المرحلة التي سعى فيها درويش إلى الانعتاق من الصورة النمطية التي رُسمت له، صورة شاعر المقاومة فقط، وتطوير موضوعاته وأدواته ولغته الشعرية على نحو يتفاعل مباشرةً مع حركة الحداثة الشعرية العربية، ويغني تيّاراتها. ويرى حديدي أن قصيدة "أحمد الزعتر"، التي يضمها الديوان، ذات طابع تسجيلي كونها ترتبط بوقائع محدّدة في الزمان الفلسطيني. إلاّ انني أخالفه في رؤيته هذه، لأن ارتباط أي نص إبداعي بوقائع تاريخية محدّدة، بمعنى استيحائها، أو صياغتها في عمل تخييلي، لا يمنحه، وحده، صفة وثائقية، ولو صح ذلك لكانت كل النصوص الإبداعية التي أعادت إنتاج الوقائع التاريخية، كحرب طروادة، والحربين العالميتين، والحروب العربية الاسرائيلية مثلاً، نصوصاً تسجيليةً.

إن من الطبيعي أن تشكّل الأحداث الكبيرة التي تعيشها الشعوب مصدراً، أو إطاراً مرجعياً لأعمال أدبية أو فنية، وحين يحاول النقاد والدارسون تصنيف تلك الأعمال، ووضعها في سياق اتجاه أو تيار أدبي معين فإن معيارهم يقوم أساساً على بنائها الفني ورؤية منتجيها. هكذا صُنّفت مسرحيات أسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس ضمن المسرح الكلاسيكي، ولم يقل أحد إنها ذات طابع تسجيلي، فقط لأن معظمها أعادت إنتاج حرب طروادة، وحرب الماراثون. وهكذا صُنّفت بعض الروايات التي تناولت موضوعة الحرب لتولستوي، وأريك ماريا ريمارك، وكوستانتيان جورجيو، وهنري ميلر، مثلاً، ضمن التيار الواقعي، في حين عًدت بعض نصوص بريخت الدرامية عن الحرب مسرحيات تعبيرية وبعضها الآخر مسرحيات ملحمية. أما مسرحيات بيتر فايس فقد أصطلح عليها بأنها مسرحيات تسجيلية لأنها حرصت على التزام الوقائع التاريخية، كما تسجلها الوثائق، بدقة.

إن قصيدة "أحمد الزعتر" تحمل جمالية شعرية حداثية بامتياز مثلما تشكّل قصيدة مقاومة استثنائية بامتياز أيضاً. وتكمن جماليتها في صورها المبهرة التي تقوم على انزياح لغوي تركيبي ودلالي، كما في المقطع الآتي مثلاً:

"نازلا من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل
البلاد
وكانت السنة انفصال البحر عن مدن الرماد"

أو هذا المقطع:

"فأرى العواصم كلها زبداً ...
وأحمد يفرك الساعات في الخندق
لم تأت أغنيتي لترسم أحمد المحروق بالأزرق"

كما تتحقق الجمالية في تقنية التداخل والتماهي بين صوت الشاعر وصورة النموذج ـ الشخصية، أي "أحمد" الرمز: الفلسطيني المنسي ـ العربي ـ الكحلي ـ الكوني ـ المكرّس للندى ـ الخريطة والجسد ـ اشتعال العندليب ـ البنفسج في قذيفة.

وتنمحي ثنائية الأنا والآخر:

"هذا النشيد .. لأحمد المنسيّ بين فراشتين
مضت الغيوم وشرّدتني
ورمت معاطفها الجبال وخبّأتني"

في هذا المقطع الذي يستهل به درويش القصيدة يشير إلى النموذج الذي سيكرس له النص الشعري أولاً، ثم يلتفت فجأةً إلى ذاته، مزيحاً قناع النموذج. وأذكر أن المخرج، الذي مثلت معه المسرحية، جسد هذا المقطع بوضع مرآة كبيرة أمامي لأشير إلى نفسي حينما أقول "هذا النشيد .. لأحمد المنسيّ بين فراشتين"، وأبتعد عن المرآة لألقي المونولوج الذي يليه "مضت الغيوم وشرّدتني...". وفي مقطع آخر يعكس درويش آلية تبادل الآدوار، فينتقل من البوح الذاتي (بضمير المتكلم) إلى رسم ملامح النموذج كما يراه هو (بضمير المخاطب) ليكشف عن الجوهري فيه:

"كم أمشي إلى حلمي فتسبقني الخناجر
آه من حلمي ومن روما،
جميل أنت في المنفى
قتيل أنت في روما"

ولا يكتفي درويش بعرض صورة "أحمد" وتفاصيل مأساته، في سياق التماهي معه، بل يعمد في مقاطع أخرى من القصيدة إلى إعارة رؤيته له حيناً، ومنحه وجوداً مستقلاً عن ذاته (أي عن درويش) حيناً آخر، تاركاً إياه يتحدث بلسانه وصوته (ضمير المتكلم):

"أنا أحمد العربيّ
أنا الرصاص البرتقال الذكريات
وجدت نفسي قرب نفسي
فابتعدت عن الندى والمشهد البحريّ
تل الزعتر الخيمة
وأنا البلاد وقد أتت
وتقمّصتني
وأنا الذهاب المستمرّ إلى البلاد
وجدت نفسي ملء نفسي ..."

لكنه سرعان ما يعود إلى دور الراوي، متخذاً (ضمير الغائب) ليضيء معاناة النموذج، ويكشف عن بؤس الواقع العربي، وزيف المدعين، المتاجرين بالقضية الفلسطينية:

"راح أحمد يلتقي بضلوعه و يديه
كان الخطوة - النجمة
ومن المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط
كانوا يعدّون الرماح"

وقد حققت هذه التقنية تنوعاً أسلوبياً في البنية التعبيرية للقصيدة، يمكن إدخاله في ما يعرف بالالتفات في حقل البلاغة، وهو تقنية معروفة في الشعر العربي القديم، تسهم في خلق ما يسميه كمال أبو ديب بالفجوة: مسافة التوتر في جسد النص، وتمنح الشاعر حرية كبيرة في "المناورة" الشعرية، و"التبئير"، حيث تتعدد زوايا الرؤية الموجهة إلى النموذج، وتكتسب "رؤيا" الشاعر بعداً موضوعياً متماسكاً على نحو ما نجده في بعض النصوص السردية الحديثة التي يجري فيها تبادل المواقع بين (السارد) و(الشخصية) في تحريك عجلة "الحكي"، أو "الفعل السردي"

ويشترك درويش في هذه التقنية مع شعراء عرب آخرين، منهم عبد الوهاب البياتي، كما في قصيدته "عن وضاح اليمن والحب والموت" التي يستخدم فيها الضمائر الثلاثة (الغائب - المتكلّم - المخاطب) منتقلاً من صوته هو (الشاعر) إلى (صوت النموذج) على طريقة تبادل الأدوار في المسرح الانعكاسي (الميتا - ثياتر).

ومن عناصر جمالية القصيدة، أيضاً: ذلك التجاور المتوازن الذي يبتكره درويش بين المنحى الغنائي العذب والمنحى الملحمي، بين التكثيف الشعري والتفاصيل السردية. والثنائيات العديدة التي تتخلل النص من بدايته إلى نهايته، مثل: "اليدان من حجر"، بوصفهما علامة للقوة والصلابة والمقاومة، و"الزعتر"، بوصفه رمزاً للحياة والاستمرار والخصوبة، و"البحر" الذي يشير إلى الحرية، ونقيضه "مدن الرماد"، و"الهوية" بوصفها إطاراً للخصوصية داخل الوجود، و"البركان" الذي ينسف تلك الهوية ويلغيها من الوجود.

ناقد وكاتب عراقي

****

احتجاج : الى محمود درويش عبدالله رضوان

هل غادر الشعراء؟
.. هم غادروا
.. وبقيت أنت
«درويش» يغزونا كبرقْ
خاطفْ،
سرقَ المنيّة،
وانتمى للَّون في
الكلمات،
أو في مهرجان الحبّ،
في التكوين،
.. في الفوضى.

ہہ

«درويش»
أنت الشعر حين
يجيء منبَعه،
ويأخذه الفضاءُ العذبُ،
يأخذه خريرُ الماء،
عشبُ الجدول النعسانً
مهرُ الحبً
تأخذ5 الحصى،
«درويش» ما أبقيت لي؟
عجزي عن اللغةً الحرام.
وكسر هذا الحاجز المرجان بين المفردات.
تشكيل السياسة،
لعنة النفط،
البكاء على الوطن.
«درويش» ما أبقيت لي؟
هم غادروا وبقيت أنت،

ہہ

أحب حُمّى الشعر فيك
تواشج الوطن،
.. الحلم.
وتواصل العشاق،
تكبير الاهلّة،
كسر هذا الحاجز العربي
بين المفردات وبين أشكال السياسة،
فأحمل الشعر الذي حَمّلْتني...
... وأضيع فيك.
فتوهَجي يا أحرف الضاد الصغيرة.
كوني البديل عن الموات اليعربي،
... وعن قطيعتنا مع البترول،
... والوطن البديل.
توتّري أعصابنا...
صيري جحيماً ضد هذا الرقص فوق الموت،
فوق »الكرنفال»،
توتّري...
هل كُنتَ أنت تصوغني لغةً فأغفو فوق مطلعها..
... وأهجرها.. وأمضي،
هل كنت أنت؟
هل كنت أنت تجيئني في لحظة الابحار بين
المفرداتً، فتهرب اللغة الجميلة من يدي
هل كنت أنت؟
«درويش» يسكننا جميعاً،
فابحثوا بين العبارةً عن ملوك الشعر،
... تَلْق الشعر منه.
وابحثوا بين السياسة
عن وجيب القلب،
... يأتً القلب منه،
وابحثوا بين الحروف عن النشيج،
عن النشيد،
عن القصيدة، ... واهربوا
ستجيء منه.
«درويش» لعنتنا،
وفرحتنا،
... جدار الاستناد.
«درويش» حب الشعر،
والكلمات،
... فوضى المفردات،
«درويش» نحن،
... لم القصيدة.

شاعر وناقد اردني

****

أثر الفراشة لا يرى.. أثر الفراشة لا يزول د. محمد عبيد الله

"يقولون لا تبعد وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا"

بهذا البيت لمالك بن الريب افتتح الراحل محمود درويش كتابه (في حضرة الغياب ـ )2006 في هيئة عتبة دالة يتبنى معناها، ويتطابق مع وعيها، كما تمثل العتبة تناصا اتفاقيا على توحد نهاية الشاعرين أو مصيرهما من ناحية إمكانية أن يرثي الشاعر نفسه قبل أن يكتمل موته وغيابه، مالك بن الريب وفق الرواية المشهورة لدغته أفعى وهو غريب عن موطنه، وحينما بدأ السم يسري في جسده لجأ إلى الشعر ليسجل تجربة رفيعة يختلط فيها الموت بالحياة والغربة بالحنين.

أما درويش فقد واجه الموت وجها لوجه مرارا، ورثى في رحلته الشاقة كثيرا من أصدقائه شهداء الثورة الفلسطينية، كما كتب شعرا ونثرا ذا طابع تأبيني عن بعض الراحلين من الشعراء أو الشخصيات الفكرية والسياسية ممن ربطته بهم أسباب الحياة، فالموت بصيغه المختلفة ليس شيئا مفاجئا في المعجم الفلسطيني، وليس جديدا على درويش وحياته الكثيفة، بل إنه اكتسب عند درويش وفي الإبداع الفلسطيني إجمالا كثيرا من التجميل والتزيين بوصفه سبيلا إلى الحياة الحرة المأمولة. ولكن تحول الموت إلى تجربة شخصية أمر مغاير مختلف عن وظيفته العامة وعن المنظور الفلسفي والثقافي له، ولذلك أخذت تجربة درويش منحى جديدا عن تراثه السابق في الكلام على الموت أو مساءلته، عندما خضع مضطرا لعملية قلب مفتوح نهاية التسعينيات في باريس، وقد مكنته نجاته من مخاطر العملية أن يكتب كثيرا مما يرغب فيه ضد الموت فكتب جداريته ونشرها عام (2000) وكتب أيضا كتابه أو نصه: (في حضرة الغياب) إلى جانب كتابات ونصوص أخرى متناثرة في إصداراته الأخيرة.

(في حضرة الغياب) أقرب إلى كتاب سيرة ذاتية توازي المراحل الكبرى في حياة الشاعر، لكن هذه السيرة تبدأ من النهاية قبل أن تعود للبدايات والطفولة، وقد صاغ درويش هذه الكتابة في شكل صعب يتداخل فيه الشعر بالنثر والحقيقة بالمجاز، والخاص بالعام. واختار راويا داخليا مشتقا منه، أو من نفسه، ليتمكن من معاينة صورته وحياته وروحه في حضور سطوة الموت - الضيف الذي هيأ له كأس نبيذ أحمر استعدادا لزيارته. وعلى هذا النحو من السرد المشعرن يبدأ الكتاب: "سطرا سطرا أنثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلا في المطالع ـ وكما أوصيتني، أقف الآن باسمك كي أشكر مشيعيك إلى هذا السفر الأخير، وادعوهم إلى اختصار الوداع، والانصراف إلى عشاء احتفالي يليق بذكراك. فلتأذن لي بأن أراك، وقد خرجت مني وخرجت منك، سالما كالنثر المصفى على حجر يخضر أو يصفر في غيابك. ولتأذن لي بأن ألمك، واسمك، كما يلم السابلة ما نسي قاطفو الزيتون من حبات خبأها الحصى. ولنذهبن معا أنا وأنت في مسارين:أنت إلى حياة ثانية وعدتك بها اللغة، في قارئ قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض. وأنا، إلى موعد أرجأته أكثر مرة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد".

بهذا النثر - الشعر وبمقاطع وقصائد تتداخل مع النسيج النثري حاول درويش أن يصوغ محطات من سيرته الشخصية المختلطة بسيرة عامة هي سيرة الشعب الفلسطيني في كتاب واحد تتداخل فيه الأنواع ولكنها تظل بنبرة واحدة: مواجهة الغياب والتأكد أو التوثق من مراوغة الموت الشخصي عبر اللغة الحية الأمارة بالحب والشعر. إنها محاولات إبداعية لتوطين النفس على القبول بمصيرها ضمن أفق إنساني رحب يسمح للشاعر أن يعاين تفاصيل الحياة والموت، وهو الذي ارتهن زمانا طويلا للصوت العام أو الصوت الوطني الذي لا يتيح للذات أن تشكو أو تظهر معه على نحو جلي أو مؤثر.

وأما (الجدارية) فعمل شعري نادر يشرح درويش نفسه سبب كتابته وتسميته فيشير "إن الجدارية هي العمل الفني الذي ينقش أو يرسم أو يعلق على جدار ظنا ممن يفعل ذلك أن هذا العمل جدير بأن يحيا، وبأن يرى من بعيد.. مكانيا وزمانيا. فهل أصابني مس من هوس البحث عن الخلود حين اخترت هذا العنوان الذي يذكّر، في سياق الشعر العربي، بمكانة المعلقة؟" يجيب درويش: "كلا، لقد استبد بي هاجس النهاية، منذ أدركت أن الموت النهائي هو موت اللغة. إذ خيل لي -بفعل التخدير - أنني أعرف الكلمات، وأعجز عن النطق بها. فكتبت على ورق الطبيب: لقد فقدت اللغة..أي لم يبق مني شيء. من أنا بلا لغة؟؟ لذلك لم أتوقع لهذا العمل أن ينجز. كان المعنى الوحيد لوجودي هو أن أتمكن من الكتابة للمرة الأخيرة، وحين كتبت هذه القصيدة استبد بي هاجس نهاية أخرى: لن أحيا لأكتب عملا آخر. لذلك سميته (جدارية) لأنه قد يكون عملي الأخير الذي يلخص تجربتي في الكتابة، ولأنه نشيد مديح للحياة. لكنه وما دام قد كتب فإن عليه أن ينسى قصته وإدراكه أن الموت هو عذاب الأحياء، وما دمت قد عشت مرة أخرى، فإن علي أن أتمرد على كتابي هذا، وأن أحب الحياة أكثر وأحبكم أكثر".

ويتداخل في هذا العمل الخيط الشخصي المتمثل في المواجهة الشخصية تماما مع الموت وجها لوجه، مع الموت بأبعاده الفلسفية والوجودية، وذلك عندما يصعد الشاعر الراحل هذه التجربة الشخصية لتغدو متقاطعة مع الوجود والعالم كله. ومن أشد المقاطع تأثيرا تلك الفقرات التي ترسم سيناريو محتملا لجنازة الشاعر وتدابيرها كما يتصورها بوعي الشعر ومخيلته :

"فيا موت، انتظرني ريثما أنهي تدابير الجنازة في الربيع الهش حيث ولدت، حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه. سأقول: صبوني ـ بحرف النون، حيث تعبّ روحي سورة الرحمن في القرآن. وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي ووقع الناي في أزلي. ولا تضعوا على قبري البنفسج، فهو زهر المحبطين يذكّر الموتى بموت الحب قبل أوانه. وضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء إن وجدت، وبعض شقائق النعمان إن وجدت. وإلا فاتركوا ورد الكنائس للكنائس والعرائس".

بعد هذه المجابهة الصعبة مع الموت عاش درويش قرابة عشر سنوات أخرى، واصل فيها الكتابة والحياة والدفاع عن مكانة الشعر وخصوصيته، فكتب دواوينه: حالة حصار، لا تعتذر عما فعلت، كزهر اللوز أو أبعد. وجمع مقالات مختارة صدرت باسم: حيرة العائد، وختم حياته بيوميات شعرية - نثرية تحت عنوان: أثر الفراشة، ليميل فيها إلى الصوت الهامس الخافت، وإلى الإيقاع الخفيف الذي يمر على القلب سهوا بلا صوت، كأنه يقطر معناه شفافا رقيقا دون أي ضجيج بحثا عن إيقاع غائر يطابق ما دعاه بـ"أثر الفراشة" ذلك الأثر الخفيف الممعن في خفة ربما تشبه خفة الروح وهي تصعد من جسد الكائن، ولقد قدم الشاعر تمثيلا لذلك الأثر في قصيدة قصيرة حملت العنوان الدال (أثر الفراشة) ومنحت الكتاب عنوانه وإيقاعه الكلي:

أثر الفراشة لا يرى ـ أثر الفراشة لا يزول
هو جاذبية غامض ـ يستدرج المعنى ويرحل ـ حين يتضح السبيل
هو خفة الأبدي في اليومي ـ أشواق إلى أعلى ـ وإشراق جميل
هو شامة في الضوء تومئ ـ حين يرشدنا إلى الكلمات ـ باطلنا الدليل
هو مثل أغنية تحاول ـ أن تقول، وتكتفي ـ بالاقتباس من الظلال ـ ولا تقول
أثر الفراشة لا يرى ـ أثر الفراشة لا يزول

لقد رحل درويش لكن كلماته لم ترحل، بل هي باقية خالدة، وليس أفضل من استعارة جملة قالها درويش في رحيل إسماعيل شموط "هو الآن في غيابه أقل موتا منا وأكثر منا حياة" وهو حال درويش أيضا وحال الراحلين العظام الذين لم يكن مرورهم عابرا في الحياة العابرة.

شاعر وناقد وأكاديمي أردني

*****

أطياف محمود درويش د. هيثم سرحان

إلى الأقدار

صيفًا واحدًا هًبيني، أيـَّتُها القوى الـمُتجبـًّرة،
وخريفًا واحدًا كي ينضج الغناء،
عندها، مُشْبَعًا باللَّعب الحلو،
جاهزًا يكون القلبُ للموت.
الشاعر الألمانيّ هلدرْلًن

بدا محمود درويش في السنوات الثمانية الأخيرة كمسافر يحزم أمتعته في عُجالة تبعثُ على الشك والارتياب. فالرجلُ "سئم تكاليف الحياة"، وأصبح ضجرًا من مآلات النهايات وإيقاعها القاتل، لقد كان يشتهي موتـًا مؤجّلاً يأتي بعد عناق أحلام طالما عانقها وانتظر قدومها بعد أنْ كان قد رسم ظلالها بعناية فائقة استمدّتْ ألقها من روح مشرئبة وإرادة سامقة.

هو الموت إذن حيث الحضور في الغياب وطول الانتظار. هكذا راودت محمود درويش فكرة الموت ودفعته إلى التعايش معها ومجابهتها وجهًا (هو القصيدة) لوجه (هو الموت المخاتل). وإذا كان درويش قد عاين الموت وساكـَنه وعقد معه صفقةً مُجزيةً إلاّ أنّ الموت لم يكفَّ عن الحضور والمطالبة باستحقاقاته القاسية المتمثّلة في منح محمود درويش الغياب وسلبه الحياة التي يحبّ. ورغم ذلك فإنّ محمود درويش ألحَّ على الحياة وتمسّك بتلابيبها كطفل يُمسك بثوب أمه، ويدرك معنى الابتعاد عنها وفقدها.

وكأنني قد متُّ قبل الآن...
أعرفُ هذه الرؤيا، وأعرفُ أنني
أمضي إلى ما لستُ أعرفُ. رُبَّما
ما زلت حيًّا في مكان ما، وأعرفُ
ما أريدُ (1)

لا يملك درويش إلا الشعر لمواجهة الموت، وقهر سطوته. وعندما أدرك درويش أنّ الموتَ لا مفرّ منه فقد لجأ إلى طريقة أخرى تتمثـّلُ في أنسنة الموت ومصاحبته، وهنا يَرًدُ الموت مقترنًا بالفرح والاحتفال الـمُنتظر: إنه يؤنسن الموتَ ويُرجئه لإطالة أمد الفرح والوداع وطمعًا في كتابة القصيدة الـمؤجلة التي كان قد واعدها باللقاء.

أصدقائي يُعدًّون لي دائمًا حفلةً
للوداع، وقبرًا مُريحًا يُظللّه السنديانُ
وشاهدةً من رُخام الزمنْ

فأسبقهم دائمًا في الجنازة:

مَن مات ... مَنْ؟(2)

وتمسُّكُ درويش بالحياة تمسّك العارف بهبات الشعر وما يفيء عليه من قدرة على إدراك الوجود الـمُبهَم ومعاينة غموضه الكثيف. وهنا تظهر النزعة الصوفية في حوار الموت الدرويشيّ حيث تتبدى فكرة الأزل والـ"لا نهاية" والـ"لا موت".

وقعت مُعلّقتي الأخيرةُ عن نخيلي
وأنا الـمُسافرُ داخلي
وأنا الـمُحاصر بالثنائيات،
لكنّ الحياة جديرةّ بغموضها
وبطائرً الدوريّ...
لم أُولدْ لأعرفَ أنني سأموت، بل لأحبّ
محتويات ظل الله (3)

ويُظهرُ إلحاحُ محمود درويش على الحياة قلقـَه من المصير الفلسطينيّ، فهو يريد أنْ يبقى حيًّا ليرى ماذا سيحلّ بالأرض الفلسطينية التي تمثل البداية والنهاية: فهي بداية الولادة ونهاية الموت.

وأريد أن أحيا...
فلي عملّ على ظهر السفينة. لا
لأُنقذ طائرًا من جوعنا أو من
دُوار البحر، بل لأُشاهد الطُوفانَ
عن كثبْ: وماذا بعد؟ ماذا
يفعل الناجون بالأرض العتيقة؟
هل يعيدون الحكايةَ؟ ما البدايةُ؟
ما النهاية؟ لم يعد أحدّ من
الموتى ليخبرنا الحقيقة...(4)

وعبر حوار دراميّ يفيض هذيانًا يبدو درويش مستخفّا بالموت: لأنه لا يتمتع بالنـُّبل والفروسية، فهو عندما يباغت الشاعر يعرف أنه لـمَّا يُنـْهً أعماله وكتابة قصائده وشرب نبيذه. لذلك يعمد درويش إلى فضحه وكشف جُبنه.

وأنا أريدُ، أريد أنْ أحيا، وأنْ
أنساك... أنْ أنسى علاقتنا الطويلة
لا لشيءْ، بل لأقرأ ما تُدوّنه
السماوات البعيدةُ من رسائل. كلّما
أعددتُ نفسي لانتظار قدومك
ازددتَ ابتعادًا. كلما قلت: ابتعد
عني لأكمل دورة الجسدين، في جسدْ
يفيضُ، ظهرتَ ما بيني وبيني
ساخرًا: "لا تنس موعدنا..."(5)

لقد وعى محمود درويش سؤال الموت عند فاتحة عمره الستين، فقد بدأ يشعر أنّ الاحتفال بأعوامه الستين يُنذرُ بفاجعة الموت. لذلك يحضر الموتُ، في الـ"جدارية" بوصفه منفىً أبديًّا يَعًدُ بخسارات لا متناهية وغياب أزليّ، ورغم ذلك فإنّ محمود درويش لا يملك إلاّ أنْ يعلًّلَ نفسه، وأنْ يبتهج بنجاته من فخ الموت. يقول محمود درويش:

الآن، في المنفى... نعمْ في البيت،
في الستين من عُمرْ سريعْ
يوقدون الشمع لكْ
فافرحْ، بأقصى ما استطعت من الهدوء،
لأنّ موتًا طائشًا ضلَّ الطريقَ إليكَ
من فرط الزحام... وأجـَّلكْ (6)

إنّ هذا المقطع الشعريّ يتأسس على مبدأ تضاديّ: فالموت يحمل للشاعر نفيًّا وبكاء وسلبَ العمر المديد في حين أنّ الشاعر يتقيه بالإقامة والفرح والرغبة في اقتناص مزيد من العمر. بيد أنه يُدركُ أنّ العمر مهما امتدّ وطال فإنه لن يفيَ برغباته ورغائبه التي تتسامق لتصبح أطول من الزمن وأعتى من قواه السرمدية. يقول درويش:

خضراءُ، أرضُ قصيدتي خضراءُ
لا عمر يكفي كي أشدّ نهايتي لبدايتي (7)

هكذا يقاوم محمود درويش الموت من خلال الشعر فعندما يتيقّن من أنّ الموت مدركـُه فإنه يستعين عليه بالأساطير، التي تقلل من وحشته، والشعر الذي يخفف من اغترابه الطويل.

فلنذهب إلى أعلى الجداريَّات:

أرضُ قصيدتي خضراءُ، عاليةّ،
كلامُ الله عند الفجر أرضُ قصيدتي
وأنا البعيدُ
أنا البعيدُ (8)

ويشكل اللون الأخضر معادلاً موضوعيًّا للحياة في حين أنّ الموت معتمّ ومظلم، وهذا يُفسًّرُ اقتران الشعر بالاخضرار حيث يعمد محمود درويش إلى المزاوجة بينهما ليمنح موته حياة مفعمة بالحضور والولادة المتجددة. يقول درويش:

خضراءُ، أرض قصيدتي خضراء عاليةّ...
تُطلُّ عليّ من بطحاء هاويتي...
غريبّ أنت في معناك. يكفي أنْ
تكون هناك، وحدك، كي تصيرَ
قبيلةً...(9)

إنّ الحياة التي يشتهيها محمود درويش لا تتمثل في بقائه الفيزيقي حيـًّا بل في ولادة الأحلام وعودة الأرض الفلسطينية بهية كالمولود الجديد. يقول درويش:

سنكونُ يومًا ما نريدُ
لا الرحلة ابتدأت، ولا الدرب انتهى (10)

فالموت لا يمكن له أنْ ينال من محمود درويش وأحلامه فهو حاضر رغم الغياب وباقْ رغم العدم، ليس هذا فحسب بل إنّ محمود درويش يجد في الموت كائنًا كريمًا: فهو عندما يمنحه الغياب الجسديّ فإنه يُغدقُ عليه الحضور الأسطوريّ حيث الفيض الوجوديّ الذي لا يعترف بالعدم الميتافيزيقيّ.

فيا موتُ، انتظرني ريثما أُنهي
تدابيرَ الجنازة في الربيع الهشّ،
حيث وُلدتُ...
... سأقول صُبّوني
بحرف النون، حيث تعبُّ روحي
سورةَ الرحمن في القرآن. وامشوا
صامتين معي على خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي. ولا
تضعوا على قبري البنفسجَ، فهو
زهرُ المحبطين يُذكًّرُ الموتى بموت
الحُبّ قبل أوانه. وضعوا على
التابوت سبعَ سنابلْ خضراء إنْ
وُجدت، وبعضُ شقائق النُعمان إنْ
وُجدت. وإلاّ فاتركوا وردَ
الكنائس للكنائس والعرائس (11)

هكذا اختار محمود درويش مدفنه وقبره: هناك على سطوة السوسن، وعلى تخوم الكرمل حيث نشيد الأعالي، وذاكرة القرنفل، ولذائذ الحلم. يقول درويش: "أمّا الموت، فلا شيء يُهينُه كالغدر: اختصاصًه الـمُجرَّب. فلأذهب إلى موعدي، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه أحدّ من غير أسلافي بشاهدة من رخام لا يعنيني إنْ سقط عنها حرفّ من حروف اسمي..." (12).

إنّ الموت الذي يهادن الشاعر موت سخيّّ: فهو يقدّم له ضماناتْ ووعودًا لمواصلة كتابة الشعر آناء الموت وبعده. يقول درويش:

أرى ما أُريدُ من الموت: إنّي أحبُّ، وينشقُّ صدري
ويقفزُ منه الحصانُ الإروسيُّ أبيضَ يركضُ فوق السَّحابْ
يطيرُ على غيمة لا نهائيةْ ويدورُ مع الأزرقً الأبديّ...
فلا توقفوني من الموت، لا ترجعوني إلى نجمة من تراب ْ(13).

آنَ لمحمود درويش أنْ يستريح ويخلُدَ في حضوره البهيّ، وآنَ لنا أنْ نُعيد التأمل في حضوره الذي لا يمكن أنْ ينال منه الغياب. وآنَ للقصائد أنْ تهذيَ بعد رحيل محمود درويش الذي طالما روّضها وناغاها. ولنا أنْ نستعيرَ من الطـًّرمَّاح بن حكيم قوله:

إًذا قُبًضَتْ نَفسُ الطًرًمّاحً أَخلَقَت عُرى المَجدً وَاًستَرخى عًنانُ القَصائًد
آنَ للقصائد أنْ تبكي وتنحب
وآنَ لمحمود درويش أنْ يخلدَ في الحضور
وآنَ لأطيافه أنْ تعانق الجليل...

 

ناقد وباحث أكاديمي ـ جامعة فيلادلفيا.

1 جدارية، ط2، ضمن الأعمال الجديدة، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ص ,444
2 حالة حصار، ط2، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2002، ص ,84
3جدارية، ص ,468
4 نفسه، ,480
5 نفسه، ,491
6 كزهر اللوز أو أبعد، ط2، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2005، ص ,17
7 جدارية، ,465
8 نفسه، ص ,449
9 نفسه، ص ,454
10 نفسه، ص ,448
11 نفسه، ص,471
12 في حضرة الغياب، ط1، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2006، ص ,10
13 أرى ما أريد، ط1، دار عين جديدة لقراءة درويش

خليل قنديل ہ

*****

إلى درويش عبر بريد الموت جمال ناجي

كنا نعرف بأن جسدك سيخذل روحك إلى أن ينال منك، وكنت تعرف ذلك مثلنا، لكننا كنا ولا زلنا نعرف بأنك لن تفنى كالمخلوقات التي ما ولدت إلا لكي تفنى، فأنت حاضر حاضر حتى "في حضرة غيابك" .

سنكون أنانيين فنقول: ليس المهم أين يرقد الجسد، فوق التراب أم تحته، فالأهم بالنسبة لشاعر مثلك هو سؤال الفناء، هل ستفنى أم ستظل تجول على شواطئ عكا ويافا وحيفا وتحت زيتون الجليل وفي كل مساحات عالمك العربي.. أجل عالمك الذي أعلنت انتماءك إليه منذ بداياتك حين صدحت (سجل .. أنا عربي).

يوم أبعدوك عن أرضك، فوجئوا بأنك ازددت التصاقا بها، وأن روحك ظلت تجوب ترابها ورمال شواطئها وحجارة بيوتها وشذى بياراتها وأزهار لوزها، وأن جسدك وروحك لا يتواجدان معا في مكان واحد دائما.

يوم أنشدت (عابرون في كلام عابر) تذكروا الحقيقة التي يعرفونها ولا يريدون الإفصاح عنها، لأنها تعني النهاية، لذا علا صياحهم واحتجاجاتهم ضدك، مع انهم لم يحتجوا ولم يصيحوا ألما منذ تأسيس دولتهم: إنه سلاح أشعارك، وسلطة معانيها التي امتدت لتطال أعماقهم المظلمة.

يوم استضافك الفرنسيون في فضائيتهم قبل أكثر من عشر سنوات، وضعت فلسطين مثل أيقونة على طاولات العالم، وأثرت غيظهم فهاجموك وشتموا مستضيفيك، لكنك حققت لقضيتك - عبر تلك الحوارية - ما لم تحققه التنظيمات والأحزاب والحركات المدججة بالأسلحة الأخوية الفتاكة.

وفي رحلة وداعك الأخير لحيفا، حيث الأرض التي باركتك وهجعت في حضنها مثل طفل أحرقه الحنين إلى حضن أمه، قامت الدنيا عليك، لأن لا أحد يعلم بما أسرت لك به روحك، بعد أن تلقت إشارة موتك قبل حدوثها بكثير، فاقتادتك إلى ذلك الحضن الدافئ، بعد أن استمهلت الموت الذي تهيب من هالة روحك.

ماذا نقول للملايين الذين يعثرون في قصائدك على ما لا يعثرون عليه في صحوهم ونومهم وكل يومياتهم؟ ماذا نقول لحقول النرجس التي استيقظت في جبال الكرمل من دون أن تسمع ترويدتك الصباحية التي تتفتح أزهارها معها؟ هل كنت تهدهد تلك الأزهار وتهيئها لاستقبال خبر موتك حين كتبت "ورد أقل" ثم عدت وأنشدت لها "مأساة النرجس"؟ وماذا نقول لأطفالنا وشبابنا وصبايانا في فلسطين؟ أولئك الذين أشعلوا الشموع كي يستقبلوا جثمانك، بعد أن أضأت لهم الطريق في أشعارك؟

لن ينفعك حديثنا عنك، فأنت تحلق الآن في عوالم أخرى لم تطأها من قبل، لكنك حلقت في حياتك، حلقت بعيدا وتجولت في عوالم لا يعرفها سواك ومن أحسنوا قراءتك. أخالك تعرف طريقك في الآخرة، مثلما عرفتها في الدنيا، وأرى أن لا شيء سيحرقك حيث أنت الآن إلا حنينك إلى قرية البروة التي شهقت أرضها وارتعشت حزنا عليك، وأطلت حجارة بيوتها المدمرة لأول مرة كي تراك قبل أن يدفنوك.

لكن خوف المحتلين من عودتك ميتا لم يكن أقل من خوفهم من عودتك حيا، لذا لم يسمحوا لتراب قريتك باستردادك، ولم يأذنوا لأبناء شعبك بأن يشيدوا مزارا لشاعر عاشق، غاب عن أرضه قهرا، وعاش في منافيه دهرا، ثم عاد في كفن،

jamalnaji@gmail.com

****
لا مراثي للراحل الجميل د. إبراهيم خليل

ترى بأيّ نوع من الكلمات يستطيع الكاتب أن يعبّر عن فيض خواطره، وصادق مشاعره، حزناً، وكمداً، على شاعر العربية، وغريدها الأول، في هذا العصر، محمود درويش؟ هل تستطيع العباراتُ، أيا كان نوعها، ومستواها، أن تنقل ما في الأعماق من ألم، وما في القلب من وجع، وما في النفس والروح من أسىً ومن شجن، على صوت فلسطين المدوّي، وضميرها الحي هنا وهنالك في المحافل الدولية، واللقاءات الوطنية، والإقليمية. فخسارتنا فيه، وفيمن يرحل من أدبائنا وكتابنا ومفكرينا ومثقفينا المبدعين، خسارة كبيرة لا تعوض، وفراغ لا يستطيع أحدّ من الباقين على عظيم أقدارهم، وجليل موقعهم، أن يملؤوه. ودرويش، الذي تمرد عليه قلبه، لا مرة، ولا مرتين، بل أكثر، فأجرى ما أجراه من جراحة ظل لسانه هو الناطق الرسمي والشرعي الوحيد باسم جراحاتنا، وباسم جراح فلسطين، فلسطين الأرض، وفلسطين الإنسان، والتاريخ.

دعوني أقل : إنّ من واجبنا ألا نعلن الحداد، على الرغم من أنه يليق بنا، في هذا الزمن البخس. وألا نعلن الحزن في عصر يضنّ علينا بالبسمة، وأن لا نذرف الدموع في وقت جفت فيه المآقي، ونضبت المحاجر عن أن تجود بدمعة واحدة، ولو على راحل في مثل موقع درويش، ومنزلته الكبرى.

إن درويشاً - الإنسان - فارقنا غير راغب عنا بالفراق، للأسف، لكن الشاعر فيه لم يفارقنا، ولن يفارق الأجيال الحاضرة، أو القادمة، وهذه هي الحقيقة التي نستطيع أن نتكلم عنها بشيء من يقين، فيما الأمور الأخرى يكتنفها الريب، وتحيط بها علامات الاستفهام الكبيرة. هذا هو شعره موجوداً، وصوته مسموعا، فليدو في الأودية والشعاب والرحاب مثلما تدوي حناجر البارزين النابهين من شعراء العالم : ابتداءً بالمتنبي، ومرورا بشكسبير، وملتون، وبايرون، ونيرودا، ولوركا، ومايكوفسكي، وآخرين كثيرين يعز علينا ألا نسمع منهم ما يتردد في خلد الدهر، وفق ما يقول أبو الطيب المتنبي:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً

لمَ إذاً نتوجّع، ونتنافس على اختيار عبارات العزاء، والحالُ أنّ الراحل الجميل، ما يزال قائما بين ظهرانينا، حيا أكثر من الأحياء منا، بشعره، ونثره، اللذين يعبر فيهما عن أدق المشاعر، وأعمق الهواجس، والخواطر، لا مشاعره وحده، ولا خواطره وحده، بل عن مشاعري وخواطري، وعن مشاعرك وخواطرك، عزيزي القارئ، في حين أن الكثيرين منا ممن يملؤون الساحة بالضجيج، والفضاءَ بالزعيق، والنعيق، لا يستطيعون التعبير عن مشاعرهم، وخواطرهم، وهي لا ترقى عن مشاعر الإنسان العادي البسيط، فما بالنا بما يعبر عن خواطر نابغة نابه مثل محمود درويش؟

لا أحد يستطيع أن ينكر ما لدرويش من جاذبية شخصية إنْ كان ذلك على مستوى اللغة: المفردة، العبارة، الجملة، البيت، البنية الكاملة للقصيدة، الجرس الموسيقى، والاحتفاء بالإيقاع الداخلي، والتناغم اللافت بين المعنى والمبنى، ولا يستطيع أحد أن ينكر ما لديه من مزية في الإلقاء تبهر الحضور، وتمتلك أسماع جمهوره، فيتأثر به أيما تأثر، على الرغم من تطاير المعاني، في بعض الأحيان، كتطاير الفراشات في الحقل المزهر غبَّ الربيع. وهو مع ذلك رائد التجريب في القصيدة العربية، لم يبق تركيب من تراكيب القصيدة لم يعتمده في شعره، ولم يعمّده بماء النظم الدرويشي المقدس: القصيدة القصيرة، القصيدة المباشرة التي لا تبلغ حد التسطيح، والإغراق في الشعارات. القصيدة الدرامية التي تتعدد فيها الأصوات، وقصيدته الموسومة بالعنوان "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" قصيدة مشهورة. والقصيدة ذات الشطرين أو ما تسمى خطأً (عمودية) والقصيدة التي تعتمد الاقتباس من الغناء الشعبي، والمواويل الدارجة والقصيدة المركبة التي يجنح فيها للصورة، والأحلام، والتشخيص، مثل سرحان يشرب القهوة في الكفتيريا، وغيرها . وقصيدة القناع مثل القصيدة المطولة التي استبطن فيها شخصية أبي عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس. وهي قصيدة قدم لنا فيها رؤية ثانية مغايرة لشخصية هذا الأمير المنكود. إلى جانب ما طلع علينا به في"سرير الغريبة"من محاولات لتجريب كتابة السونيت، وهو نوع من الشعر اشتهر في الأدب اللاتيني القديم يعزى إلى الشاعر بترارك وازدهر على يدي وليم شكسبير. وأخيرا قصيدة السيرةعلى النحو الذي نراه في ديوان لماذا تركت الحصان وحيداً؟

وقصيدة درويش تجمعُ، في جل الأحوال، والظروف، والأنماط، بين الغنائية العالية النبرة، والنفس الدرامي أو الملحمي، مع التبسيط في الرموز لكيْ ينفذ بتأثيره في السامع والقارئ العاديّيْن فضلا عن القارئ المهتم والقارئ الدارس الممحّص.

رحم الله محمود درويش، فقد كان بشعره ونثره شاهد عصره، ووحيد دهره.

ناقد وكاتب وأكاديمي أردني

****

اللقاء الأخير مع محمود درويش د. فيصل درّاج

في العام الأخير، كان بين الشاعر والمقرّبين منه تواطؤ نزيه، يطمئنون عن صحته باقتضاب، ويطمئنهم باختصار تخالطه السخرية - لم يلتفت الكثيرون إلى السخرية في قصائدي، كان يقول - . كنا نتكلم عن الصحة ولا نكثر الحديث عن المرض، وكان يتحدث عن مكر الحياة ولا يتطرق إلى الموت. "خدعتني الحياة فانخدعت". وظلّت مشاريع كثيرة مؤجلة التحقق. كان محمود، في ساعات الصفاء الحزين، يذكر أشياء عن جمال الهدف ومحدودية الحياة، ويرى إلى جزيرة بعيدة لا يراها غيره.

فتح الباب مرحّباً كعادته، كانت السادسة مساء في الخامس والعشرين من تموز، الجو حار والشاعر يتأهب لرحلة صعبة غامضة. "صاحبنا شاهين لم يحضر بعد". وأخذني، على غير عادته، إلى مكتبه، فهو أكثر إلفة قال."كيف أحوال الدنيا؟"، قلت: مع الخبرة نتكيّف مع وجوه الحياة المختلفة. قال : إن الحكمة تعالج الإخفاق. بعد عبثْ بالكلمات قلتُ : "الحكمة هي استئناس الخيبة"، قال : الأدق أن نقول : "إن الحكمة هي استقبال مصاعب الحياة ببشاشة"، ثم : لو كان الصديق شاهين معنا لمنع عن العبارة إمكانية الهرب. كان د. شاهين يسجّل، أحياناً، في دفتر صغير ما يسمعه من محمود درويش أثناء اللقاء - الحوار.

لم يكن "اقتصاد اللغة الحكيمة" أمراً طارئاً أثناء اللقاء مع درويش، منذ أن كتب "في حضرة الغياب". سألني وشاهين مرة: ما هي السلالة الكتابية التي ينتمي إليها كتابي هذا؟ قلت لا أرى له مرجعاً عربياً، فلا هو قريب من بلاغة طه حسين الأزهرية - الحديثة في كتاب "الأيام"، وليس له مع نثر جبران خليل جبران علاقة، ولم يكن يحب جبران كثيراً. فيه شيء من نثر أندريه مالرو، قال: ليس بالضبط. وواقع الأمر أن الشاعر كان مفتوناً، في سنواته الأخيرة، بشخصين هما: فالتر بنيامين ونيتشه، ويردّد بإعجاب تمازجه الغبطة بعض أقوالهما مثل: الحقيقة تضيق بالبراهين، كل حقبة تحلم بحقبة لاحقة، وكل كلمة نجيبة تنظر إلى غيرها، والتاريخ كائن هائل أعمى لا يضبط خطواته، ... كان حوارنا عن "الحكمة البشوشة" استئنافاً لحوار سبق. ولهذا قطع محمود الكلام وقال: هل انتبهت إلى تعريفي للقصيدة في أمسية "بيت لحم"؟ - القصيدة رمية نرد على بقعة من ظلام - الحظ نصيب الموهبة إذ تجتهد، ... ولعل من يرجع إلى كتاب "في حضرة الغياب" يعثر، بلا مشقة، على هذا اللون من الكتابة، الذي دعوته بـ "الكلمة الجامعة" وعاد محمود، لاحقاً، وقال من الأفضل أن نقول "جوامع الكلم".

"تأخر شاهين"، تواطأ مع شروده وانزلق إلى شارع آخر. قال محمود ضاحكاً. كان الشرود صفة ملازمة للصديق الذي تأخر. حين نظرت إلى يميني وقعت عيني على "لسان العرب" لابن منظور، قال الشاعر: لا أستغني عنه أبداً، إنه مرجع عظيم الشأن، أو أنه "كتاب نفيس فخيم"، كما كان يقول صديقنا الراحل سعيد مراد، الذي تعرّفت عليه مع سعيد حورانية في موسكو. ثم أكمل: سعيد مراد أنيس كريم بشوش اختصاصه حل مشاكل الآخرين. وبالمناسبة أودّ مرة أن أذهب إلى دمشق لأزور زوجات الأربعة الراحلين: عبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس وسعيد حورانية وسعيد مراد، في الخريف القادم، ربما. استعاد مرة أخرى "استراتيجية جوامع الكلم" وقال: الخريف فصل الحكمة الأنيقة، والشتاء فصل الحكمة المتداعية، والربيع فصل عابر مجازه الفراشه. وتابع فرحاً: المجاز طريق مظلم إلى حكمة مضيئة. وقُرع الباب: صحا محمد شاهين من شروده. كان محمود يحب شاهين رغم شروده، أو بسبب شروده ويرى فيه مغترباً، تصرّفت به الحياة ومنعته عه التصرّف بحياته كما يشتهي.

أحضر شاهين بعض الفاكهة من مزرعته، حمل محمود حبة كمثرى وأعادها إلى الكيس، ثم حملها من جديد وقال: ماذا تشبه الكمثرى؟ في شبابي كنت أرى فيها صورة عن ثدي الأنثى الشابة. والآن؟ لا تزال الثمرة كما كانت، ولا تزال في أكثر من مكان أنثى تحمل الكمثرى، لم أعد شاباً، وأطلق ضحكة: كلنا لم نعد شباباً، فنحن على مستوى العمر جيران. سأله شاهين بحرص ومحبة: ما هي الأخبار وماذا ستفعل؟ الأخبار كما هي، سأسافر بعد غد إلى باريس ومنها إلى بوسطن. الرحلة مرهقة والعملية كالقصيدة: رمية نرد فوق بقعة مظلمة، ولي مع العمليات تاريخ طويل. وما هي أخبار الفيزا؟ حصلت عليها بعد أكثر من شهرين من السؤال، يبدو أنني إرهابي دون أن أدري، وأن "الآخر" يعامل العرب باسترخاص كبير. غداً راحة، وبعد غد سفر يتلوه سفر، وبعد ذلك سنرى ما تأتي به الأيام.

كانت من عادة الشاعر، ذاك المبدع القلق المتطلّب النزيه الصادق المتواضع، أن يتصل بأصدقائه بعد كل أمسية شعرية متلفزة، يسألهم عن رأيهم في القصائد التي ألقاها وعن شكل الإلقاء ومدى تفاعل الجمهور معه. ومع أنه كان قد تحدث معنا، وتحدثنا معه، بعد أمسيته الأخيرة في "بيت لحم"، عاد وسأل: كيف كانت الأمسية؟ قلنا له: أمّا عن القصائد فقد مثّلت السهل الممتنع والمعقد البسيط والواضح الغامض... قال: وأنا كيف كنت؟ قلت له: جرت العادة أن تبدأ بإلقاء القصيدة مفرداً ثم تتكاثر، يخرج منك أكثر من شاعر، أحدهم يلقي والآخر يمثّل الإلقاء وثالث يبرهن عن المهارة ورابع يستثير الإعجاب وخامس يختصر محمود جميع الأزمنة. في هذه المرة بقيت مفرداً، شاعراً مطمئناً يلقي بإلفة قصائد أليفة، أمام نفسه وأصدقائه وأمه وأهل قريته وجمهور قصيدته، كما لو كنت تقول: أنا محمود درويش عمري سبعة وستون عاماً أقرأ القصائد التي أريد بالشكل الذي أريد أمام الجمهور الذي أريد، لا ضرورة للإضافة وتبيان المهارة، ولا ضرورة لما لا يدع الروح طليقة متحررة من الصنعة وطقوس الشطارة. قال بعد شرود: أخيراً أصبحت أنا، كما أرادتني الخبرة أن أكون، وكما أرادني الجمهور أن أكون أيضاً. إنها الحياة وتعرفان رأيي في الحياة: ورقة نصيب تربح بعد موت صاحبها.

إنه وقت القهوة، أظنك يا شاهين لم تعد تحب "القهوة الدرويشية"، كما تقول، وإلاّ لما تأخرت. سأله الأخير عن أمسيته الشعرية الأخيرة في جنوب فرنسا (نانت)، قال: فاقت ما توقعته: غروب وهدوء وموسيقى وجمهور أنيق ومدرّج روماني وشخصيات ثقافية غير عربية وعربية. تقدم مني في النهاية الناقد الشهير تودوروف وقال بالإنجليزية: "هذا سحريّ"، لم أتوقع هذا. كان هناك الناقدان صبري حافظ ومحمد برّادة، وكانت الأمسية بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على إنشاء دار النشر "أكت سود". وبدا محمود راضياً فرحاً، وكان من عادته أن يوزّع الفرح على اصدقائه، كما لو كان قد ظفر بجائزة نيابة عنهم جميعاً. لم يكن في ذاك الفرح ما يشي بالفخار والإعجاب الذاتي أو بالرضا الممتلئ الذي يأخذ شكل البداهة ولا بتوقعات "الشاعر الكبير"، بل كان فرحاً عفوياً تكسوه البراءة. وكثيراً ما بدا محمود، وهو يتحدّث عن أمسياته صبياً، حصل على جائزة غير متوقعة وابتهج، أو جاء بنتيجة مزهرة ولم يخذل أصحابه. ومع أنه كان في حياته اليومية متعدد الوجوه والأطوار، فقد كان "نجاحه غير المتوقع" يجعل منه، كل مرة، إنساناً شفافاً، فيذكر فرًحاً التفاصيل ويشدّه الرضا البريء إلى الوقوف على تفاصيل التفاصيل. كان يعبّر عن موقفه من "النجاح اللامتوقّع" بصيغ كثيرة: أحلم بأن اصبح الشاعر الذي أريد، هناك كثير ما يجب قوله بشكل آخر، إنني لست راضياً عن نفسي ولا أعرف إن كنت سأرضى عنها ذات يوم، الرضا هو البلادة الباحثة عن منفعة، الإبداع قلق متجدد ومضيُّ الرضا، وأكثر ما أعجب من هؤلاء الذين ينشرون الرضا بمناسبة وبغير مناسبة. كان يشير دائماً إلى ت.س. إليوت الذي أصبح مرجعاً شعرياً في القرن العشرين وكتب من الشعر حوالي مائتي صفحة لا أكثر.

ولتعبير "غير المتوقع" عند محمود أكثر من قصة: حين زار كوريا، في العام الماضي، بمناسبة مؤتمر ثقافي وبدا الشخصية الأكثر أهمية وجاذبية قال: لم أتوقع هذا، لم أتوقع أن أكون معروفاً في كوريا وأن يقدّمني كبير شعرائها، هذه مسألة حظ وليست مسألة موهبة. وحين زار إيطاليا، مؤخراً، والجو ممطر تواطأت معه "مباريات كرة ا لقدم"، قال: لم أتوقع هذا الحضور، وحين ظفر باستقبال مهيب في مسرح "الأوديون" في باريس قبل عام، قال: فاق عدد الحضور ما توقعت. لم يكن محمود يتوقع إلا ما تقضي به روح رحبة عفيفة زاهدة أو أقرب إلى الزهد، روح شفافة تأمر بالتواضع، ترى إلى كرم الآخرين قبل أن تنصف موهبة متجدّدة دؤوبة مقاتلة جعلت من صاحبها أسطورة على قيد الحياة. قال مرة بعد أن استمع إلى قصائده في دمشق جمهور "غير متوقع": هل أنا شاعر جدير بجمهور كبير أم أن الجمهور يظنني شاعراً كبيراً؟ ولهذا كان يكره الدعاية ويحتقر الإعلان، فالمبدع بما هو دون زيادة أو نقصان، والمبدع هو الذي يتواصل مع أجداده من المبدعين، والمبدع هو الذي يحاور الإبداع في كل مكان. وهذا ما جعله قارئاً مواظباً: معجب هو بـ "أوكتافيو باث"، ومفتون بما قاله بول فاليري عن الشعر، وقارئ أكثر من مرة لبعض دراسات الألماني أدورنو، وعارف بالشعر الإسرائيلي ورموزه الكبار، ومتابع لما يكتبه الفلسطينيون والعرب، كأن يثني على شعر السوري الكردي سليم بركات وقصائد نزيه أبو عفش، وأن يعبّر عن تقديره لأعمال الفلسطيني عز الدين المناصرة ومريد البرغوثي في طوره الأخير، ...

سألناه: لماذا أكثرت من نشر قصائدك الأخيرة ولم تنتظر إصدارها في كتاب كما تفعل عادة؟ قال: هذا أمر لم يأتً بتخطيط، جاء هكذا لأنه جاء، لا يمكنك أن تضبط كل شيء على المسطرة، لا القصيدة ولا النشر ولا الحياة. وقال كعادته: هل هناك من كتب عربية جديدة جديرة بالقراءة؟ وكان محمود ناقداً ثقافياً وأدبياً بامتياز، يعطي أحكامه وتأتي صائبة: طه حسين أهم مثقف عربي في القرن العشرين، وعبد الله العروي يمثل استئنافاً وتجاوزاً له في آن، الأول أكثر جرأة والثاني أعمق وأعقد ثقافة. ونجيب محفوظ بصير جلود أقرب إلى الندرة، أجمل أعماله "الحرافيش" ولا أحب كثيراً "أولاد حارتنا"، وأحب رواية هدى بركات "أهل الهوى"، ومن المؤسف أن لا تأتي رواية علوية صبح "دنيا" في مقدمة روايات جائزة البوكر بعد رواية بهاء طاهر، وجمانة حداد موهبة كبيرة ومبدعة حقيقية لو تحررت من بعض القيود، ورواية الغيطاني "آثار المحو" عمل فاتن وهو خليفة محفوظ ... وإلياس خوري موهوب وأنيق الموهبة، وعباس بيضون شاعر عالي الثقافة، وإبراهيم الكوني ساحر في لغته العربية، وأمل دنقل شاعر خصب، وأحمد شوقي كلاسيكي عظيم، وإبراهيم طوقان أفضل شاعر فلسطيني قبل النكبة، وحسين البرغوثي لم يكتشف موهبته النثرية المدوّية إلا متأخراً، وأعمال صنع الله إبراهيم الأخيرة أفضل مما سبقها، ... والجملة الأخيرة دائماً: كل مبدع على صورة أستاذه، وكل أستاذْ أستاذّ إلى حين ...

بعد القهوة وأحاديث متناثرة عن الكمثرى والمدرّج الروماني ولغة الكوني وسليم بركات وجمالية الرمان في الكروم الفلسطينية المطاردة، جاء طبيب صديق مشهود له بالكفاءة والمعرفة قال: العملية خطرة لكنها مضمونة النجاح، هناك كل ما يلزم لتكون ناجحة، لا لزوم للقلق أو ما يشبه القلق. ما كنا نقوله بكلمات تشجيعية سريعة ملتوية القوام، قاله الطبيب بلغة علمية ـ أخلاقية صارمة. لم نقل شيئاً ومسح محمود وجهه بمنديل ورقي وقال: "إنشاء الله". انصرف الطبيب مخلّفاً وراءه القليل من الطمأنينة والكثير من مالصمت.

كسر محمود الصمت قائلاً: اسمعوا هذه الحكاية: قال لي أحد الأصدقاء أنه سمع مثقفاً عابراً بجوار "المدرج الروماني"، وأنا ألقي قصائدي، سمعه وهو يشتمني ويشتم فلسطين والفلسطينيين. يا أخي يمكنه أن يشتمني كما يشاء"، فمن الممكن أن أكون قد أسأت إليه، ولكن لماذا يشتم جميع الفلسطينيين بلا تمييز؟ هذا موقف لا يختلف عن الطائفية، قال، طائفية في المدن وطائفية في البلدات الصغيرة، وطائفية في العراق ومصر ولبنان، وطائفية خاصة بالمثقفين... لا شيء يدعو إلى الأمل، وأحوال فلسطين لا ترضي العقل ولا تسرّ القلب، وأنا متشائم وأرفض تصدير الآمال الزائفة، ... نظرنا إلى بعضنا، كانت الساعة تقترب من التاسعة، ونطقنا بكلمات أشبه بالغمغمات، وبدا محمود في حال حسن، ووعد شاهين بحفلة عامرة قادمة، وتابع التواطؤ الكلامي اجتهاده، وغلبت النظرات الكلمات، وبقي قاموس "لسان العرب" في مكانه، و لم يلق أي منا نظرة على المكتب أو الصالون أو المطبخ الذي جثمت فيه حبات كمثرى ذكّرت الشاعر بشبابه البعيد. بدا اللقاء شبيهاً باللقاءات السابقة، وكان غير ذلك.

أوصلنا محمود إلى "المصعد"، تواعدنا على لقاء قريب أكيد، رفع يده مودعاً، وغطت وجهه ابتسامة أقرب إلى السؤال.

ناقد ومفكر فلسطيني

الدستور- 4 الجمعة 15 اغسطس

يتبع