ملف جريدة الاتحاد

محمود ونزار

جابر عصفور:

هل كان موت محمود درويش هو موتَ آخر الشعراء النجوم، خصوصاً بعد موت نزار قباني الذي سبقه في الرحيل؟ يبدو أن الأمر صحيح، فكلا الشاعرين كان يتميز بقدرة هائلة على حشد الآلاف المؤلفة من المعجبين الذين كانوا يحرصون على سماع شعرهما وحضور أمسياتهما.

أذكر أنني رأيت محمود درويش يلقي إحدى قصائده في قاعة أكبر مسرح بمدينة أبوظبي، كانت كراسي المسرح كلها مشغولة، وكانت الممرات مزدحمة بالجالسين على أرضيتها، بينما المئات من الواقفين يتزاحمون في الفراغ الواقع وراء الصفوف، ووجدت لنفسي، بالكاد، مكاناً أستطيع الوقوف فيه، محاطاً بحشود المعجبين بمحمود درويش، فرحاً بالصمت الذي كان يغمر المكان كله عندما يلقي، وهدير التصفيق الذي كان يندفع ما بين كل قصيدة وأخرى.
وأذكر أنني قابلت، في صباح اليوم التالي، محمود في بهو الفندق الذي كنا نقيم فيه، وقلت له ضاحكاً عليك أن تعوضني عن وقوفي، محشوراً بين معجبيك أمس، فضحك قائلاً لك أمسية كاملة، عندما تزورني في بيتي في عمّان وكان قد اتخذ عمّان مقراً أخيراً لسكناه، كي يكون قريباً من الأهل، بعد أن طاف بعواصم عربية عديدة، ورأى العواصم كلها زبداً، فيما قال في قصيدته الشهيرة عن أحمد الزعتر.

أما لماذا وصل محمود درويش ونزار قباني إلى هذه الدرجة الاستثنائية من النجومية والجماهيرية؟ فذلك لأن كلا منهما، على طريقته، اكتشف الوصفة السحرية للشعر، وهي الكتابة عما يجمع بينهما والجماهير، في شعر هو السهل الممتنع، أما نزار فقد عزف على أوتار المرأة، فاتحاً الأبواب المحرمة التي جعلته قريباً من كل القلوب التواقة إلى تحرير العواطف الإنسانية من قيود التقاليد المتخلفة، كما أنه كتب بأظافره قصائده السياسية التي انطوت على صدق جارح، يؤكد أننا لبسنا قشرة الحضارة، والروح جاهلية وهو الذي كتب، فيما بعد، عن وفاة العرب، وأنطق المسكوت عنه سياسياً بما جعله أكثر قرباً للآلاف المؤلفة التي وجدت في قصائده التعبير الخطابي المباشر عن غضبها على هوان أوضاعها، وكان محمود درويش مفرداً بصيغة الجمع لكل فلسطيني وكل عربي لا يزال مؤمناً بالحل العادل للقضية الفلسطينية، فهو لم يكن شاعراً فلسطينياً بالمعنى الضيق، وإنما كان شاعراً قومياً، يعرف كيف يمس بسحر المشاعر المتأهبة لكل العرب وكان يرى الشاعر شاهداً وعرافاً وصاحب بصيرة، لا ينظر في داخله إلا ليرى الآخرين في قلبه.

*****

لماذا أحب شعر محمود درويش

علي بن تميم:

أسأل نفسي باستمرار لماذا أحب شعر محمود درويش؟ ولماذا حينما أقرأ في مكان ما أو أسمع بصدور مجموعة جديدة له أبحث عنها لأقتنيها فورا، ولا أذكر طيلة العشر سنوات الماضية بأنني اشتريت مجموعة جديدة صدرت له، وشعرت بعد قراءتها بأنني قد أضعت وقتي. وأعتقد أنني محتاج الآن أن أعبر عن الأسباب التي قادتني إلى حب شعره.

كان محمود درويش يقدم لي الهوية بوصفها تشييدا، وهذه الفكرة تلاقي عندي اهتماما خاصا، فالهوية ليست جامدة وثابتة. وهذا الفهم جعل درويش يسعى جاهدا إلى أن يقاوم جمود صورة الذات شعريا، ولذلك حينما تقرأ عن درويش تشعر باستمرار بأنه يضيف إلى هويته تفاصيل مختلفة كل مرة، وأعتقد أن مثل هذا الفهم جعل شعره لا يقع في تمثيل فكرة سياسية ضيقة، وإنما نجح في أن يقدم هويته المتغيرة للآخر بوصفها كونية، ويبدو لي أن هذا الأمر أسهم إسهاما كبيرا في تشكيل حكاية لإبداعه جعلتني أحب شعره.

لقد اعتمدت بنية الحكاية الإبداعية في شعر محمود درويش ـ كما ذكرت ـ على الهوية المتغيرة التي ليست جامدة ومورثّة من الأسلاف، وإنما صناعة وتشييد، وهذا الأمر قاده بالضرورة إلى الالتفات للآخر في شعره، فالهوية مشتقة من ضمير الغائب، ولا يمكن بناؤها بالاعتماد على الذات فحسب، وإنما لابد من استدعاء الآخر ليسهم في تشكيل الذات. وإذا كانت الهوية معتمدة على الآخر، فإن الآخر لا يمكن اختزاله في صورة جامدة، وإنما الآخر متغير هو الآخر. ويظهر لي بشكل خاص بأن فهمه للهوية المعتمدة على الآخر جعله يقدم الآخر بوصفه إنسانا يشعر ويتألم مثله، وكم ساعدت هذه الفكرة في جعل شعره متوجها للإنسانية جمعاء.

إن فكرة الآخر في شعر محمود درويش غير منحصرة في الإنسان فحسب، وإنما في الحيوان والمكان أيضا، وطالما يحثّنا شعره على أن نرأف بالحيوان، وأن نحمي البيئة من نرجسيتنا، لأنها بشكل أو بآخر مسؤولة عن وجودنا. ولأن الآخر هو القارئ أيضا، فإن درويش كثيرا ما يحمي قارئه من التشاؤم وفقدان الأمل. فالقارئ حينما يقرأ شعر درويش يشعر بإنسانيته الرحيمة وبذاته المحبة للحياة. هل هذا الأمر جعله يختار لازمة يكررها في الجدارية، وهي: ''سأصير يوما ما أريد'' وهو يتحدث عن الموت. ولنتأمل هذا المقطع الشعري، وهو من الجدارية، يقول:

''وجدت نفسي حاضرا ملء الغياب/ وكلما فتشت عن نفسي وجدت الآخرين/ وكلما فتشت عنهم لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبة''.

يتحقق حضوره هنا في الآخر، هذا ما يشعر به درويش عندما يحاول قراءة ذاته، أما إذا ما حاول قراءة الآخرين وجد ذاته فيهم. وأخيرا فإنني أحب شعره لأنه ليس ترفا، ولا مضيعة للوقت، إن شعره مفيد بالنسبة لي، ويعلمني أشياء كثيرة، أقلها يبعث في داخلي الأمل لأحب الحياة.

*****

محمود ثانية

محمد لطفي اليوسفي:

قبل أن تجتاح إسرائيل بيروت، كتب درويش قصيدته الشهيرة ''سنة أخرى فقط''. وكان أن توسّع العديد من النقاد، لما رأوا الاجتياح فظّا كاسرا، في الحديث عن البعد الاستشرافي في هذه القصيدة التي ترجّى فيها الشاعر أصدقاءه أن لا يموتوا فجأة حتى يتمكّن من رثائهم أجمعين فافتتحها قائلا: ''أصدقائي لا تموتوا فجأة/ أمهلوني سنة أخرى فقط''. ثم كان أنْ تعوّدت العرب على المُصاب والمصائب. منذ تلك القصيدة ظل محمود يواصل كتابة الشعر الذي يفي بحاجات الفنّ وحاجات أمّة العرب المنكسرة إلى كلمة مُقاوِمة. لكن فكرة المقاومة نفسها انفتحت على بعد وجودي ذاتي خطير. صارت الكتابة تفتتح مجراها في تلك العتبة الفاصلة بين الضدّين المرعبين: الوجود والعدم. يكفي أن نقرأ ''الجدارية'' وسيتبيّن أن الكلمات جاءت محاطة بظلال هي ظلال الموت وفتنته، وصار الشعر عبارة عن منازلة عنيدة لفكرة الموت وغوايته. بعد هذه المجموعة المنعطف ستعلن منازلة العدم عن نفسها في شكل احتفاء باللغة وتمجيد للكلمات. ثمة تسليم في الدواوين الأخيرة بأن اللغة هي مأوى الكائن وهي الوسيلة الوحيدة التي تمدّه بالمقدرة على منازلة عدمه الخاص. عديدة هي القصائد التي ارتادت هذه المناخات: ''من لُغَتِي وُلدتُ/.. مَنْ أنا؟/ سُؤالُ الآخرين ولا جوابَ لَه/. أنا لُغَتِي أنا..أنا لُغَتِي. أنا ما قالتْ الكلماتُ''.

إن الاحتماء باللغة على هذا النحو يعني الانتقال من العالم المعيش إلى دنيا الكلمات. وهذا ما يجعل من كل كتابة إبداعية أصيلة مفتوحة على العدم. ذلك أن الخروج من الزمن الواقعي إلى زمن الكتابة سعادةٌ مضنيةٌ معذِّبة. تتأتّى السعادة من كون زمن الكتابة هو الزمن الذي يغادر فيه الشاعر العالم المعيش العدائي الذي ينعته بكونه ''عالما لا يردّ التحية''. لكن الهجرة من الواقع إلى عالم اللغة سرعان ما تتحول إلى عتبة مفتوحة على فكرة الغياب ذاتها. فالموجودات التي يبني بها الشاعر نصّه لا تحضر في النص إلا بعد أن تغيب في الواقع. إن الشاعر يعيد تشكيلها ويقيم بينها علاقات نصية ليست موجودة في الواقع. وبذلك يصبح تحققها في النص مشروطا بغيابها في الواقع. من خلال الحضور يتراءى الغياب كاسرا. والراجح أن درويش ظلّ مسكونا بهذا الهاجس الوجودي منذ دواوينه الأولى. ففي الدواوين الأولى كان الموت حاضرا، وكان التغني بالطفولة بقهوة الأمّ، ولمسة الأم، وخبزها بمثابة محاولة لصعود الزمن عكسيا إلى الوراء لأن العودة إلى الطفولة تكسر تعاقبية الزمن؛ فكلما تقدم الزمن كان التقدم باتجاه المنفى الأبدي. أما في الدواوين الأخيرة فإن الاحتفاء باللغة هو البعد الوجودي الحقيقي الذي يمدّ الشعر بناره ولهبه. لقد نام محمود ملء جفونه، كما المتنبّي نام، لكن هذا الصوت باقٍ كي يحرس اللغة ويربك النقد:

''يا لغتي! هل أكون أنا/ ما تكونين؟ أم أنت يا لغتي/ ما أكون.''

*****

القاهرة - رام الله
وكالات:

جاءت الوفاة غير المتوقعة للشاعر الفلسطيني محمود درويش مفاجأة غير سارة على عكس مفاجآته السابقة كلما تجاوز أزمة صحية أو أصدر ديواناً جديداً كان النقاد والقراء يعتبرونه حدثاً ثقافياً. ويمثل درويش ظاهرة شعرية لم تتكرر كثيراً إذ جمع بين النجومية على المستوى الجماهيري والعمق الفني الذي يبهر النقاد لأنه هضم التاريخ والفلسفات والأديان والأساطير ليصنع منها سبيكة ينتصر فيها لفن الشعر حتى إنه استطاع تحرير الشعر الفلسطيني من وطأة الأيديولوجيا.

وكان درويش الذي أجريت له عمليتا قلب مفتوح عامي 1984 و1998 قد خضع الأربعاء الماضي لعملية قلب مفتوح بمستشفى ميموريال هيرمان بولاية تكساس الأميركية لكن مضاعفات العملية أدت إلى جلطة دماغية خفيفة وخضع للتنفس الاصطناعي وتدهورت حالته الصحية. والعملية الأخيرة لن يتاح لدرويش أن يكتب عنها كما كتب عام 1988 عن عملية مشابهة قصيدته ـ ديوانه (جدارية) وفي بعض سطورها قال: ''هذا هو اسمك/ قالت امرأة وغابت في الممر اللولبي/ أرى السماء هناك في متناولِ الأيدي/ ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى/ ولم أحلم بأني كنت أحلم/ كل شيء واقعي/ كنت أعلم أنني ألقي بنفسي جانباً وأطير'' .

جاءت وفاة درويش مثل (سيناريو جاهز) لم يتوقعه قراؤه. وكان درويش قد منح آخر قصائده عنوان ''سيناريو جاهز'' وهي دراما بين شخصين يقول فيها ''لنفترضِ الآن أَنا سقطنا أنا والعدو/ سقطنا من الجو في حفرة.. فماذا سيحدث''. وللخروج من هذه المحنة يضع عدة محاولات للخروج: ''في البداية ننتظر الحظ/ قد يعثر المنقذون علينا هنا/ ويمدون حبل النجاة لنا/ فيقول.. أَنا أولاً/ وأَقول.. أَنا أولاً/ ويشتمني ثم اشتمه/ دون جدوى/ فلم يصل الحبل بعد.. أَنا وهو خائفان معا/ ولا نتبادل أي حديث عن الخوف أَو غيرِه/ فنحن عدوان. ماذا سيحدث لو أن أفعى أطلت علينا هنا من مشاهد هذا السيناريو/ وفحت لتبتلع الخائفين معاً/ أَنا وهو؟. يقول السيناريو.. أنا وهو سنكون شريكين في قتل أفعى/ لننجو معاً/ أو على حدة/ ولكننا لن نقول عبارة شكر وتهنئة على ما فعلنا معاً/ لأن الغريزة ـ لا نحن ـ كانت تدافع عن نفسها وحدها/ والغريزة ليست لها أيديولوجيا/ ومع الوقت والوقت رمل ورغوة صابونة/ كسر الصمت ما بيننا والملل. قال لي.. ما العمل.. قلت.. لا شيء/ نستنزف الاحتمالات. قال.. من أين يأتي الأمل.. قلت.. يأتي من الجو/ قال.. ألم تنس أني دفنتك في حفرة مثل هذى.. فقلت له.. كدت أنسى... شدني من يدي/ ومضى متعباً. ولد محمود درويش في فلسطين في قرية البروة في الجليل الغربي العام 1942 ودمرت قريته العام 1948 وأقيمت مكانها قرية زراعية يهودية باسم ''احي هود''، ونشأ وترعرع في القرية الجديدة المجاورة لقريته. التحق في شبابه بالحزب الشيوعي الإسرائيلي وعمل في مجلة ''الجديد'' وصحيفة ''الاتحاد'' ولاحقته أجهزة الامن الاسرائيلية ثم فرضت عليه الإقامة الجبرية اعتباراً من العام 1961 حتى غادر العام .1972 قام بدورات حزبية في الاتحاد السوفياتي ثم لجأ الى مصر العام 1972 والتحق في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية وشغل فيها عضوية اللجنة التنفيذية وعاش فترة في بيروت.

قام درويش بكتابة إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي تم إعلانه في الجزائر العام .1988 عمل رئيساً لتحرير مجلة ''شؤون فلسطينية''، وشغل منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين.

أسس مجلة ''الكرمل'' في بيروت العام 1980 والتي انتقلت الى قبرص قبل ان تستقر اخيراً في رام الله، وظل يشغل رئاسة تحريرها حتى الان. ولفتت قصائده الأولى ومنها ''بطاقة هوية'' الناقد المصري الراحل رجاء النقاش فأصدر كتابه ''محمود درويش شاعر الأرض المحتلة'' عام 1969 في مبادرة جريئة حيث كان كثيرون في ظل المد القومي العربي ينظرون بريبة إلى من يحمل الجنسية الإسرائيلية من فلسطيني .1948 وكان كتاب النقاش بوابة درويش إلى المثقفين والقراء العرب ففي فترة لاحقة كانت دواوينه تصدر على نطاق واسع وحظي باهتمام كبير من معظم التيارات النقدية حتى إنه أطلق مقولته ''ارحمونا من هذا الحب القاسي'' داعياً النقاد إلى النظر إلى الشعر الفلسطيني باعتباره فناً أولاً بدلاً من تفسيره والتعاطف معه على خلفية التعاطف العربي التلقائي مع القضية الفلسطينية.

وكان درويش من الشعراء العرب القلائل الذين يكتبون نثراً لا يقل في صفائه وجماله عن الشعر ولا تخلو نصوصه من روح الشعر وخاصة ما كتبه في رثاء الشاعر المصري صلاح جاهين والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

ومنع درويش منذ السبعينيات أن يعود إلى الأراضي الفلسطينية وعاش بين القاهرة وبيروت وتونس وباريس التي كان يحرر منها مجلة ''الكرمل'' ثم عاد 1994 إلى رام الله. وانتخب درويش عضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1988 وعمل مستشاراً لعرفات لكنه استقال عام 1993 من اللجنة التنفيذية احتجاجاً على توقيع اتفاق أوسلو.

وأثارت بعض قصائد درويش غضباً في إسرائيل ومنها ''عابرون في كلام عابر'' التي أطلق عليها ''القصيدة التي وحدت الكنيست'' وفي بعض سطورها يقول: ''أيها المارون بين الكلمات العابرة/ خذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا/ وادخلوا حفل عشاء راقص وانصرفوا/ وعلينا نحن أن نحرس ورد الشهداء/ وعلينا نحن أن نحيا كما نحن نشاء.. آن أن تنصرفوا/ ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتو بيننا .

آخر أماسيه الشعرية في أبوظبي

استضافت جائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها الأولى العام الماضي الشاعر الراحل محمود درويش في أمسية شعرية رائعة أقيمت في المسرح الوطني بأبوظبي حضرها حشد كبير من محبي شعره.

وألقى الشاعر قصائد من شعره الجديد والقديم الذي ألهب حماس الجماهير وحظي باحتفاء واستقبال واسعين حين أطلق مشاعر الحب للوطن والأمة، حيث كانت ليلة درويش من أعذب ليالي الشعر العربي.

ترجمة وجوائز

ترجمت أعمال الشاعر الراحل محمود درويش إلى أكثر من 20 لغة. وكرم في دول عربية وأجنبية.

ونال جوائز منها درع الثورة الفلسطينية عام 1981 ولوحة أوروبا للشعر عام 1981 ومن الاتحاد السوفياتي جائزة ابن سينا عام 1982 وجائزة لينين عام .1983 كما فاز عام 2007 بجائزة ملتقى القاهرة الأول للشعر العربي حيث ضمت لجنة التحكيم شعراء ونقاداً عرباً قالوا في بيان الجائزة إن درويش نالها ''بإجماع نقدي لافت على تعدد مشارب أعضائها وتمثيلها لكل التيارات الفاعلة في الحياة الأدبية.. درويش رمز للقدرة على تطوير الذائقة العربية ويمثل الحيوية الدافقة في أعلى ذروة بلغها الشعر العربي كما أنه لا يكرر نفسه انطلاقاً من ثقافة موسوعية ورؤية كونية حتى استطاع أن يعرج بالقصيدة العربية إلى أفق إنساني رحيب''.

وجه فلسطين الجميل

اعتبر النائب العربي في الكنيست الإسرائيلية محمد بركة أن الشاعر الفلسطيني محمود درويش كان ''شاعر كل الفلسطينيين والوجه الجميل والمقنع لفلسطين''. وقال تعليقاً على وفاة الشاعر الفلسطيني ''محمود درويش شاعر كل الفلسطينيين من الأمي حتى اكبر متعلم، يشكل لهم حالة خاصة وهو الوجه الجميل والمقنع لفلسطين''.

سميح القاسم: أنا مصدوم

وقال الشاعر الفلسطيني سميح القاسم: ''اعذروني لا استطيع الكلام، انا مصدوم، انا موجود بين اشقائي، اشقاء محمود درويش ووالدته، معنوياتهم عالية وهم مؤمنون، الوضع صعب علي''.

أعمال درويش بين الشعر والنثر

آخر كتاب صدر لمحمود درويش هو ''أثر الفراشة'' وهو كما يعرفه صفحات مختارة من يوميات كتبت بين صيف 2006 وصيف .2007

وللشاعر الراحل مجموعة من الدواوين الشعرية من أهمها: أوراق الزيتون، عاشق من فلسطين، آخر الليل، حبيبتي تنهض من نومها، العصافير تموت في الجليل، أحبك أو لا أحبك، محاولة رقم ،7 تلك صورتها وهذا انتحار العاشق، أعراس، مديح الظل العالي، حصار لمدائح البحر، هي أغنية.. هي أغنية، ورد أقل، مأساة النرجس ملهاة الفضة، أرى ما أريد، أحد عشر كوكبا، لماذا تركت الحصان وحيدا، لا تعتذر عما فعلت، كزهر اللوز أو أبعد.

ولدرويش أيضا أعمال نثرية منها ''وداعا أيها الحرب.. وداعا أيها السلم'' و''يوميات الحزن العادي'' و''في حضرة الغياب'' و''الرسائل'' التي كانت حصيلة رسائل متبادلة مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم ونشرت في مجلة ''اليوم السابع''، و''ذاكرة للنسيان''، و''عابرون في كلام عابر''

*****

أثر الفراشة آخر ما كتب
محمود درويش رسم صورة الإنسان والوطن

عمر شبانة:

هل رحل حقاً صاحب ''أثر الفراشة''؟ لا أصدق ذلك. من الصعب تصديق رحيله. ولكن دعوني أقف مجدداً معه، حيث ينفصل الشاعر محمود درويش في كتابه هذا عن تجاربه السابقة، ليقدم تجربة جديدة تمزج الشعر بالنثر، والخفة والثقل، في كتاب يحمل على غلافه صورة لدرويش وقد بدا متأملاً في أفق ما، بملامح جديدة بدأت تشهد تغضنات الوجه وذهول العينين الناجم عن خمسة وستين عاماً يحملها على كاهله وتحفر في وجهه آثارها، الأمر الذي يؤشر على تحولات الروح والجسد معاً، نقصد إمكانية الربط ما بين صورة غلاف الكتاب وما يقع بين دفتيه من نصوص، خصوصاً أن درويش بدأ يوسع مساحة المزج بين شعره ونثره، بل راح ينوع في أساليب كتابته، فهو واقعي حيناً، سوريالي حيناً آخر، ذاتي/ أنويّ في بعض النصوص، جماعي/ وطني في نصوص أخرى.

في نصوص هذا الكتاب يتقدم السؤال الإنساني على السؤال الوطني الفلسطيني، لكن السؤالين الوطني والإنساني يشتبكان في الكثير من النصوص، فدرويش بات متمرساً في الجمع بين هذين السؤالين، لكنه هنا يتألق في استنباط الوطني من الإنساني واستخلاص الإنساني من الوطني. تلك هي المعادلة التي توصل إليها درويش بعد ما يقارب نصف قرن من الشعر والكتابة. وقد بات يتقنها منذ ''الجدارية'' تقريباً، ومروراً بمجموعته ''كزهر اللوز أو أبعد'' التي بدأت نثريته الشعرية تطغى على شعره، واقترب أكثر من تفاصيل حكايته وسيرته الذاتية- سيرة شعبه المشرد واللاجئ والمعذب.

في ''أثر الفراشة'' خفة وسخرية سوداء، حكاية شخص وشعب، حكاية ذات أبعاد تشبه المأساة بقدر ما تعانق الملهاة، يسجلها درويش في صورة ثنائية تحمل القاتل والقتيل، الجلاد والضحية، حيث الجلاد يبني جدار عزلته الخانق للضحية، وحيث الجلاد يقتل لمجرد كونه خائفاً كما يقول هو وكما يقول ''بعض المدربين على تفضيل التحليل النفساني على فقه العدل: إنه يدافع عن نفسه. والبعض الآخر من المعجبين بتفوق التطور على الأخلاق يقول: العدل هو ما يفيض عن كرم القوة. وكان على القتيل أن يعتذر عما سبب للقاتل من صدمة''.

بمثل هذه السخرية السوداء يصور درويش العلاقة بين الجلاد والضحية، وهو في نص يعود إلى الطفلة ابنة غزة التي قتل والدها أمام عينيها على شاطئ غزة، فيسخر من المشهد في قصيدة موزونة هذه المرة قائلاً: على شاطئ البحر بنت/ وللبنت أهل/ وللأهل بيت/ وللبيت نافذتان وباب/ وفي البحر بارجة تتسلى بصيد المشاة على شاطئ البحر/.../ والبنت تنجو قليلا/ لأن يدا من ضباب/ يدا ما إلهية أسعفتها/ فنادت: أبي/ يا أبي!/ قم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!/ لم يجبها أبوها المسجى على ظله/ في مهب الغياب''. هذه القصيدة الموزونة التي احتلت فاتحة الكتاب تجسد- على قِصَرِها- ملحمة الإنسان الفلسطيني الذي يعتبر النزهة على شاطئ البحر أمراً خارج إمكاناته. إذ ما معنى أن تدرك طفلة أن ''البحر ليس لأمثالنا''، لولا هذا الإحساس المبكر بالتفرقة والتهميش؟ وهو ما كان قد عبر عنه غسان كنفاني في كتابه ''عالم ليس لنا''.

وفي مقابل هذه التراجيديا الوطنية يتخفف درويش، في أحد نصوصه، فيصارع بعوضة مثلما يصارع الفدائي دبابة، فيطاردها بعد أن تمص دمه وتزعجه بطنينها، وحين تقف على صفحة كتاب يطالعه يطبق الكتاب معتقداً أنه تخلص منها، لكنه يجد أنه قد اصطاد الفراغ، وأفلتت البعوضة من المصير الذي أراده لها. فهل في هذه الحكاية أية رمزية أراد درويش التعبير عنها، أم أنها مجرد بعوضة فعلاً؟

وعن جدار الفصل العنصري يكتب مشبهاً الجدار بالأفعى المعدنية ''تلتف حولنا. تبتلع الجدران الصغيرة الفاصلة بين غرفة النوم والحمام والمطبخ وغرفة الاستقبال. أفعى لا تسعى بخط مستقيم لئلا تتشبه بنظراتنا إلى أمام. تتلوى وترفع كابوسها المصنوع من فقرات إسمنت مقوى بحديد مرن.. يسهل عليها الحركة إلى ما تبقى لنا من فتات جهات وأحواض نعناع''. على هذا النحو من استخدام المفردة اليومية يخلق درويش جملته ضمن تركيبة عالية الشعرية، مستفيداً من تجربته الشعرية والنثرية في المزج بين العالمين.

وتبدو تجربة درويش في هذا الكتاب أكثر تنويعاً وتجريباً على غير صعيد، فمن جهة يكتب القصيدة الكلاسيكية بالوزن والقافية، كما هو الحال مع قصيدة ''كم البعيد بعيد'' التي يكتبها في صورة قصيدة حرة تفعيلية، لكن القصيدة موزونة ومقفاة حيث يقول:

كم البعيد بعيد كم هي السبل
نمشي ونمشي إلى المعنى ولا نصل
هو السراب دليل الحائرين إلى
الماء البعيد هو البُطلان.. والبطل

وكذلك الأمر في قصيدة بعنوان ''على قلبي مشيت''، التي يكتبها في الصورة الكلاسيكية للشعر الموزون المقفى، ولكن بلغة عالية وحوار حميم مع القلب:

على قلبي مشيت كأن قلبي
طريق أو رصيف أو هواءُ
فقال القلب: أتعبني التماهي
مع الأشياء وانكسر الفضاءُ

ومن جهة موازية لا يكتفي درويش بالوزن والقافية لبناء قصيدة، فهو في نثره لا يقل شعرية، حيث يختار عبارته بقدر كبير من الرعاية والعناية لرسم عوالمه وأفكاره وخيالاته وأحلامه حيث تحتشد نصوصه بالقلق والأسئلة ومواجهة الخوف والموت في صوره المختلفة، لكنه في المقابل يعرف كيف يمجد الحياة والحب في نصوص مكثفة كما في قوله ''جمال الطبيعة يهذب الطبائع، ما عدا طبائع من لم يكن جزءاً منها. الكرمل سلام. والبندقية نشاز''.

إلى أمي

أحنُّ إلى خبز أُمي.. وقهوة أمي
ولمسة أُمي .. وتكبُر في الطفولةُ
يوماً على صدر يومِ..وأعشَقُ
عمرِي لأني إذا مُتُّ،
أخجل من دمع أُمي !
خذينيِ إذا عدتُ يوماً
وشاحاً لهُدْبِكْ
وغطّي عظامي بعشب
تعمّد من طهر كعبك
وشُدي وثاقي .. بخصلة شَعر..
بخيطٍ يلوِّح في ذيل ثوبك
عساني أصير إلهاً
إلهاً أصير....إذا ما لمستُ قرارة قلبك !
ضعيني، إذا ما رجعتُ..وقوداً بتنور ناركْ ..
وحبل غسيل على سطح دارك..
لأني فقدتُ الوقوفَ..بدون صلاة نهارك
هَرِمْتُ فردّي نجوم الطفولة
حتى أُشارك صغار العصافير
درب الرجوع .. لعُش انتظارِك
الجدارية
سأصير يوماً ما أريد
سأصير يوماً فكرة.. لا سيف يحملها
إلى الأرض اليباب، ولا كتاب.
كأنها مطر على جبل تصدع من
تفتح عشبة،
لا القوة انتصرت.. ولا العدل الشريد
سأصير يوماً ما أريد
سأصير يوماً طائراً، وأسل من عدمي
وجودي.. كلما احترق الجناحان
اقتربت من الحقيقة، وانبعثت من
الرماد، أنا حوار الحالمين، عزفت
عن جسدي وعن نفسي لأكمل
رحلتي الأولى إلى المعنى، فأحرقني
وغاب.. أنا الغياب. أنا السماوي
الطريد.
سأصير يوماً ما أريد .. سأصير يوماً شاعراً
والماء رهن بصيرتي.. لغتي مجاز
للمجاز، فلا أقول ولا أشير
إلى مكان.. فالمكان خطيئتي وذريعتي
أنا من هناك، ''هنا'' يقفز
من خطاي إلى مخيلتي.. أنا من كنت أو سأكون
يصنعني ويصرعني الفضاء اللانهائي
المديد.
أيها المارون بين الكلمات العابرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا

واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
انكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى- ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص.. وانصرفوا
وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء
وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
كالغبار المر مروا أينما شئتم ولكن
لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
خلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا قمح نربيه ونسقيه ندى أجسادنا
ولنا ما ليس يرضيكم هنا
حجر.. أو خجل
فخذوا الماضي، إذا شئتم إلى سوق التحف
وأعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، إن شئتم
على صحن خزف
لنا ما ليس يرضيكم، لنا المستقبل ولنا في أرضنا ما نعمل أيها المارون بين الكلمات العابرة
كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية العجل المقدس
أو إلى توقيت موسيقى مسدس
فلنا ما ليس يرضيكم هنا، فانصرفوا
ولنا ما ليس فيكم: وطن ينزف وشعب ينزف
وطنا يصلح للنسيان أو للذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة آن أن تنصرفوا.

**********

تشييع درويش غداً في رام الله أو الجليل
عباس ينعى رائد المشروع الثقافي الفلسطيني الحديث

رام الله-الضفة الغربية
ا ف ب-وام:

نعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي توفي في الولايات المتحدة، وأعلن الحداد العام ثلاثة أيام في الأراضي الفلسطينية.

وقال عباس في كلمة بثها تلفزيون فلسطين الرسمي: ''كم هو مؤلم على قلبي وروحي أن أنعي للشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية وكل محبي السلام والحرية في العالم، رحيل نجم فلسطين وزينة شبابها وفارس فرسانها، الشاعر الكبير محمود درويش الذي انتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها الساعة التاسعة والنصف مساء اليوم بتوقيت فلسطين''.

وأضاف عباس أن ''غياب شاعرنا الكبير محمود درويش، عاشق فلسطين ورائد المشروع الثقافي الفلسطيني الحديث والقائد الوطني اللامع والمعطاء، سيترك فراغاً كبيراً في حياتنا الثقافية والسياسية والوطنية''، وتابع: إن ''هذا الفراغ لن يملأه سوى أولئك المبدعين الذين تتلمذوا في مدرسته، وتمثلوا أشعاره وكتاباته وأفكاره، وسيواصلون حمل رسالته الإبداعية لهذا الجيل وللأجيال المقبلة''. وقال أيضاً: ''كان صوت محمود درويش وسيظل عنواناً لإرادة شعبه في الحرية والاستقلال، وسيبقى إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي صاغه شاعرنا العظيم عام 1988 مرشداً لنا ونبراساً لكفاحنا، حتى يتحقق حلمه في أن يرى وطنه مستقلاً ومزدهراً بعد أن يرحل الاحتلال عن أرضه''. وتابع عباس: ''إنني أعلن الحداد العام في الوطن لمدة ثلاثة أيام تكريماً لروح فقيد الشعب والأمة والإنسانية، وتعبيراً عن حب هذا الشعب لابنه البار والمميز محمود درويش''.

وذكرت مصادر فلسطينية آمس أن جثمان الشاعر الفلسطيني محمود درويش سيصل الى رام الله اليوم من الولايات المتحدة .
وأضافت المصادر أن القيادة الفلسطينية قررت دفن الشاعر في رام الله حيث كان يقيم فيها ،في حين تطالب عائلته بدفنه قرب قريته البروة .
وتقوم السلطة الان بالبحث عن قطعة ارض في رام الله لدفنه وإقامة نصب تذكاري له وفي حالة اصرار عائلته على دفنه في الجليل فأن السلطة ستكتفي يإقامة نصب تذكاري له في رام الله.

الاتحاد
الإثنين 11 أغسطس 2008

يتبع