رحلت في زمنٍ لا يليق بها

منال الشيخ

منال الشيخنعم لقد رحلت متأخرة ، ما كان يجدر بها أن تنتظر حتى هذا الوقت .. ولأنها فهمتنا ولأننا لم نفهمها قط .. ولأنها تكهنت بالآتي . ولأنها لا تملك قرار الرب في رحيلها آثرت أن ترحل إلى أعمق من ذلك. أغلقت باب توهجهها وتركت نتفة من بريقها على المقبض تخترق الأبصار بين الحين والآخر كلما مر عليها خيال ذاكرة هوجاء . الكل كتب والكل تبنى حال المواساة والبعض ذهب إلى أبعد من ذلك ، المتاجرة في السبق الإنساني لتبني مراعاة حالتها الصحية المتأخرة . نازك لم تكن بحاجة إلى رعاية أحد .. وهي بكل الطرق قالت وبصمتها المهذب ( أريد السلام لا غير ) وكان سلامها في صمتها وغيبوبتها التي اختارتها لتكون منفاها حتى ترحل إلى الأبد .

خبر وفاتها لم اقرأ عنه في الصحف لأننا صرنا شعبا بلا ثقافة ولا ورق .. ولم أتصفح النبأ في الانترنيت لأنني محكومة بانقطاع التيار المستمر .. فتحت عيني على صباح غريب لا يشبه الصباحات التي اعتدتها منذ سنين وعلى رنة هاتف يحمل رقما مجهولا أو بالأحرى هكذا ظهر عندي المتصل ( مخفي ) وإذا بها صوت زميلة إعلامية من إذاعة الجزائر تتصل بي لتسألني عن ردة فعلي لتلقي خبر وفاة الشاعرة نازك الملائكة .. ماذا أقول لها ، هل أقول لها أنني الآن أتلقى الخبر منها وهل أتحجج بالكهرباء وانقطاعنا عن العالم الآخر بشكل قسري ! ولأن الموت صار رفيقنا في الأونة الأخيرة تلقيت الخبر بكل رباطة جأش ولكن العبرة خنقتني لأنني لم اعدّ العدّة لأطلق صوتي عبر إذاعة ربما هي غير مسموعة ولكنها تطلق على الأقل ما كنت أريد قوله في حق من ادّعوا الاهتمام بهذه الشاعرة التي لن اسميها ( الكبيرة ) فهي فوق كل التصنيفات والأحجام التي نشهد ولادة جديدة لها على الساحة الأدبية . نازك لم تكن بحاجة إلى ترويج من أحد للاهتمام بحالتها ولم تكن بحاجة إلى التفاتة الحكومة أو الوسط الأدبي لمجرد العمل على إبراز أسمائهم على حساب تاريخ مدجج بالإقدام والمثابرة اسمه ( نازك الملائكة ) . هي اختارت وبملء إرادتها أن ترحل عن هذا العالم لأنها رفضت أن تكون جزءا من هذا الزمن المسخ الذي لا يليق بها وأدركت مبكرا ما آل إليه الأدب من تجاوزات في حق الإبداع والفن .

دمت مشروعها بكل إخلاص وعملت على تاريخها بكل احترام دون الإتكاء على أنوثتها في شيء وهي ليست بحاجة إلى شهادة مني أو من غيري لنقول في حقها ما يجب أن يقال . ولكنه الغيض الذي يحركنا لنتتطرق إلى أزمتنا الحالية . نحن من نستحق الرثاء ، على الأقل الملائكة امتلكت الشجاعة على الصمت في لحظة أدركت أنها نفذّت ما كان عليها ، وما كانت ستقدمه بعد ذلك ربما لم يكن ليشكل سوى مواصلة مسيرتها . فكم واحد منا يمتلك الشجاعة على الصمت وكم واحد منا سيعترف يوما انه لم يعد قادرا على العطاء لأنه لا يقدم شيئا .. كثرٌ نحن ، ولكن زمن الإرادة القوية انتهى بآخر الملائكة .

القدس العربي
29/6/2007

* * *

نازك الملائكة شاعرة أم منظرة؟

فخر صالح
(الأردن)

رحلت نازك الملائكة صاحبة أول قصيدة في الشعر الحر، ومفجرة ثورة الشعر العربي الحديث، والمنقلبة في ستينات القرن الماضي على التجارب المجايلة لها في تلك الثورة. رحلت في مقامها القاهري بعد سنوات طويلة من الصراع مع المرض، بعيدا عن عراقها الذي يحترق ويغرق في بحر من الدم، والتشظي والمستقبل المجهول.
كأن ديوانها الثاني “شظايا ورماد” كان يستبصر الحاضر، ويمثل انتقالها من تلك الرومانسية التي تتصادى مع رومانسية الشعراء الإنجليز في ديوانها “عاشقة الليل”. لقد كانت نازك الملائكة صلة الوصل بين التقليد الشعري العربي في النصف الأول من القرن العشرين وانفجار الشكل الشعري، بما يحمله ذلك من رغبة في التحرر من قيود الإيقاع الضاغطة وتطلع لحرية التعبير في شكل جديد جاهد، في تلك المرحلة من مراحل تطور القصيدة العربية الجديدة، لكي يفتح الكتابة الشعرية على آفاق التطور في مبنى الشعر ومعناه على صعيد العالم كله، لا على صعيد الشعر العربي فقط.
ومع أن ما تعارف عليه مؤرخو الشعر العربي المعاصر في ما يتعلق بريادة نازك الملائكة لقصيدة التفعيلة يغمط حق زملائها، بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وآخرين غيرهم، فإن ما يصعب محوه من الذاكرة النقدية العربية كونها أول من كتب قصيدة تفعيلة. وقد جعلها هذا السبق تفتح باب الشعر العربي خلال الستين عاما الماضية على رياح التغيير، فهي واحدة من عدد قليل من الشعراء والشاعرات العربيات الذين أطلقوا قاطرة التحديث في الشعر العربي المعاصر، ونقلوا ذلك الشعر من الزمان القديم إلى الزمان الحديث، وخلصوا القصيدة العربية من القالب الإيقاعي التقليدي الذي كان يضغط خيال الشعراء وآفاق التعبير.
لكن نازك كانت متأثرة بالرومانسية الإنجليزية فيما كان مجايلوها في تجربة مجلة “شعر” (وحتى بدر شاكر السياب، الذي نازعها ما يسمى “ريادة الشعر الحديث”، وكذلك صلاح عبد الصبور) أقرب إلى روح الكتابة الشعرية في القرن العشرين، أي أنهم كانوا يقيمون في ظلال إزرا باوند وتي. إس. إليوت وجاك بريفير.
من هنا نبع نقدها لحركة التجديد في الشعر العربي المعاصر، واتهام زملائها لها بالنكوص عن التجديد والإقامة في زمان التقليد. ولعل ما جر عليها ذلك الاتهام ما كتبته في كتابها الشهير “قضايا الشعر المعاصر”، الذي ربما يفوق في تأثيره شعرها نفسه، ففي ذلك الكتاب صبت نازك نقدها العنيف على من يتحللون من الشروط التي وضعتها معايير للتجديد في إطار ما يسمى البحور الصافية في العروض العربي. وقد وضعها تنظيرها للقصيدة العربية في مواجهة الشعراء الداعين إلى تجديد الكتابة الشعرية العربية، وفتحها على آفاق الحرية المطلقة. فهي كانت، من وجهة نظر هؤلاء، كلاسيكية في ثياب المجددين.
لقد سدت نازك أفق الحرية في وجه القصيدة العربية التي انحبست في أشكال إيقاعية محدودة رغم وجود إمكانات هائلة لتطوير البنى الإيقاعية في ميراث الشعر العربي. وأثرت هذه الرؤية النظرية، التي ما فتئت تكررها في كتاباتها، في شعرها، ودورها في حركة تجديد الشعر المعاصر، وأبعدتها عن تيار التحديث في القصيدة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، لكننا إذ ننظر إلى الخلف في محاولة لاستجلاء أبعاد تلك المعركة التي دارت بينها وبين دعاة التجديد في شكل الكتابة الشعرية العربية نقع على كثير من التجارب المشابهة، المأخوذة بالتجربة الرومانسية لكن المتحللة، في الوقت نفسه، من بعض الشروط الإيقاعية ليس إلا. لقد كان بعض منتقدي نازك الملائكة قريبين من كتابتها الشعرية لكنهم كانوا يتبنون رؤى نظرية مخالفة. ولعل باحثا في تاريخ الكتابة الشعرية العربية يعود ليقرأ تلك المرحلة مقارنا بين النصوص الشعرية والرؤى النظرية المصاحبة لها، ليكشف عن اتساق الرؤية مع النص في شعر نازك الملائكة وانشقاق نصوص بعض مجايليها عن الرؤية النظرية التي كانوا يتبنونها.
من هنا تبدو تجربة نازك الملائكة الشعرية بحاجة إلى إعادة قراءة لنتبين بعد ستين عاما من انطلاقة الشعر الحر، بحسب تسمية نازك نفسها، أو ما سماه غيرها قصيدة التفعيلة، تحولات حركة الشعر العربي المعاصر وتأثير الرؤى النظرية في شكل الكتابة الشعرية وخطابها وتوقها لتجسيد الحرية.

الخليج
30 يونيو 2007

* * *

نازك الملائكة: بين التأسيس والمراجعة

جودت فخر الدين
(لبنان)

مع رحيل الشاعرة العراقية نازك الملائكة، التي توفيت مؤخراً في القاهرة، بعد مرحلة طويلة من الانعزال، أو الابتعاد الاختياري عن المشهد الشعري، يُطرح السؤال حول الدور الذي لعبته هذه الشاعرة في التمهيد لانطلاقة الشعر العربي الحديث، وكذلك حول المكانة التي تحققت لها في خلال العقود الستة الماضية، أي في مسيرة الشعر والنقد الحديثين.
يصعب علينا أن نتجاهل نازك الملائكة إذا أجرينا الحديث على انطلاقة الحركة الشعرية العربية منتصف القرن المنصرم.

وأما تقويم شعرها، فمن شأنه أن يضعنا في موقف حذر، أو لنقل في موقف “حساس” يتطلب منا قدراً كبيراً من الدقة والموضوعية، ولكن، في أية حال، كانت نازك الملائكة جزءاً من الاندفاعة الجريئة التي مثلها الأوائل من شعراء الحداثة إزاء القصيدة العمودية، أو بالأحرى إزاء التقاليد الشعرية الموروثة.

لقد تمثّلت بدايات الشعر العربي الحديث بنازك الملائكة، كما تمثّلت ببدر شاكر السيّاب وعبدالوهاب البياتي.. وغيرهما.

ولكن، بعد هذه البدايات، راحت الملائكة تبتعد قليلاً أو كثيراً عن المشهد الشعري، وراح التمثيل الأبرز ينتقل إلى آخرين التحقوا بالرَّكْب وفي طليعتهم شعراء مجلة “شعر”. ولعل أدونيس، من بينهم، هو الذي راح يبلور المفاهيم والمرامي التي انطوت عليها حركة الحداثة الشعرية، ليس في شعره فقط، وإنما، على وجه الخصوص، في مقالاته ودراساته.

لو أردنا اليوم ان نتقصى أثراً لنازك الملائكة في حركة الشعر العربي الحديث، التي مضى على انطلاقتها أكثر من نصف قرن، لربما أمكننا القول إن حضورها ليس ملحوظاً كحضور البعض من أبناء جيلها، وعلى رأسهم السياب.

يصعب علينا مثلاً أن نتكلم على اتجاه “شعري” يمكننا أن ننسبه إليها، وأن نلحظ بالتالي تأثيراً له في الأجيال التي تعاقبت على مَرِّ العقود السابقة. ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نُهمل ما قدَّمتْه الملائكة في الشعر، وكذلك في النقد، إذا ما أردنا أن نؤرخ للأدب العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
قد تكون الفضيلة الكبرى لنازك الملائكة أنها أبْقت على “الحداثة” في موضع الشك، أو المراجعة، أو النقد.

لم تندفع اندفاعاً حماسياً أو متهوراً، كما أنها لم تلتزم موقف التزمت أو الانحياز للماضي. كانت كمن يتقدَّم، ثم لا يلبث أن يستدرك، محاولاً النظر إلى ما حققه مشككاً فيه، أو خائفاً من الشطط أو المغامرة في أي جانب من جوانبه. ومثل هذا الاستدراك يبدو ضرورياً، خصوصا إذا نظرنا إلى ما آلت إليه اليوم حالة الشعر من فوضى وتخبُّط.

لقد ظلت نازك الملائكة مأخوذة بدورها التأسيسي وربما حاولت أن ترسي قواعد لاتجاه “جديد” في الشعر، وهذا ما أظهرها أحيانا في موقع المحافظ، أو المتراجع إزاء المتاهات المستجدة. لقد حاولت نازك الملائكة أن تعبِّر عن وجهة نظرها الخاصة في كتابها المعروف “قضايا الشعر المعاصر”. حاولت أن تقدم مفهومها للحداثة الشعرية، وأرادته أن يكون بسيطاً واضحاً متحرراً من تعقيدات الحياة والثقافة التي راحت تغزو واقعنا العربي على نحو كاسح.. ربما أمكننا القول إن الملائكة أرادت أن تأخذ بجوانب معينة للحداثة، وأن تُعرضَ عن جوانب أخرى. ربما أمكننا القول إنها ركزت على الجانب “العروضي” أو “الوزني” في الكتابة الشعرية، أكثر من تركيزها على الجوانب الأخرى الكثيرة. وهذا واضح في كتابها النقدي الذي أشرنا إليه، كما هو واضح في كتاباتها الشعرية.

لقد عاشت نازك الملائكة همومها الشعرية والنقدية متمسكة بدورها التأسيسي. وإذا كانت قد ابتدت في مراحل معينة عن المشهد الشعري، وإذا كانت قد استدركت بهذا القدر أو ذاك، أو راجعت، أو تحفظت أو تحيَّرت، أو شككت، فحسبها أنها ظلت جزءاً لا يمكن إغفاله من حركة الشعر، التي تبدو لنا اليوم مفتوحة على مختلف الاحتمالات والآفاق.

الخليج
30 يونيو 2007

* * *

نازك بين الملائكة والشياطين

خيري منصور
(الاردن/ مصر)

ثلاثة اسئلة أحاطت بالرائدة الراحلة نازك الملائكة منذ قصيدتها الكوليرا التي يؤرخ بها للشعر العربي الحديث، كونها امرأة، ومن عائلة محافظة، ومن العراق، ولكل من هذه الشروط الثلاثة دلالاته، فالمرأة في اربعينات القرن الماضي، وبالتحديد في عالمنا العربي كانت تعاني من اقصاء ذكوري في كل المجالات، لهذا علقت مثقفة عربية علي ريادة قاسم أمين لتحرير المرأة قائلة بأن تحريرالمرأة لا يناط بالرجل ، وتمنت لو ان امرأة عربية أخذت مكان قاسم أمين، كما ان سيدة اخري وكانت ناشطة في المجالين التربوي والاجتماعي تقدمت بطلب رسمي لحذف نون النسوة من النحو العربي.
والشرط الثاني وهو انتماء نازك الي عائلة عراقية محافظة، فهو يضاعف من صعوبة دورها، لأن الحداثة لا تفرزها بيوت الدمي اذا استعرنا العنوان الشهير لمسرحية هنريك ابسن، وقد يفسر هذا الشرط الي حد كبير تردد نازك الملائكة ازاء الحداثة الشعرية، وحرصها الاكاديمي علي ان تكون لهذه الحداثة حدود.
والشرط الثالث، وهو كونها عراقية، قد يبدو الان شاحبا، وقليل التأثير، لكن المصدات الكلاسيكية للتحديث في بعض الاقطار العربية ذات القلاع التراثية المحافظة، قد لا يعاني منها من ولدوا علي شواطيء المتوسط حيث الاتصال بالغرب بدأ مبكرا، وقبول التغيير او التأقلم معه علي الأقل أيسر من تلك العواصم التي وصف جاك بيرك بعضها بأنها غمد الصحراء...
وتشاء المصادفة ان يطول احتضار الشاعرة نازك في منفاها الذي بدأ طوعيا وانتهي قسريا وكأنه المعادل الرمزي لاحتضار الثقافة العربية والحداثة بوجه خاص، فالشاعر الذي اقترن اسمه بها وهو بدرشاكر السياب مات في السابعة والثلاثين من عمره، بعد مكابدات عسيرة للمرض، وقد عاشت نازك الملائكة بعده خمسة وأربعين عاما، لم يصدر لها خلالها ما يضيف الي تجربتها الشعرية او نظريتها الجمالية في الشعر الشيء الكثير، وتلك بالطبع مسألة أخري، نرجيء الكلام حولها الي ما بعد هذه المناسبة.

* * *

ان لي قصة مع كتاب الرائدة الراحلة نازك قضايا الشعر المعاصر ، ومعها ايضا لا بد ان تروي في هذه المناسبة، فحين قرأت كتابها لأول مرة وكنت طالبا في الجامعة استوقفتني فيه مقاطع من قصيدة لشاعر لم أكن اعرفه، وكان المقصود باستشهاد الشاعرة بتلك المقاطع فك الاشتباك نقديا وجماليا بين الشعر والنثر، وانتهت بعد تعليق قصير علي تلك المقاطع باعتبارها من خارج ملكوت الشعر، وانها مجرد نثر قد يكون فنيا او جميلا لكنه لا يرقي الي الشعر...
كانت تلك المقاطع من قصيدة لمحمد الماغوط من ديوانه الأول، واذكر ان مقطعا من تلك القصيدة الآسرة والذي يتمني فيه الشاعر لو انه حانة من خشب يرتادها المطر والغرباء.. او لو انه صفصافة ترقص قرب الكنيسة، حال دون اكمالي قراءة الكتاب، ورحت ابحث عن ديوان الماغوط الي ان وجدته بل وجدت ضالتي فيه يومئذ...
هنا كانت المفارقة، وهي ان الشعر الذي يقدم نقديا علي انه نقيض الشعر، يتحول الي دليل للشعر، كي لا نقول الي فخّ جميل لاستدراج قاريء في بواكيره...
بعد تلك الايام التي كان السجال فيها حول الحداثة يحتل المقاهي، والارصفة بخمسة عشر عاما علي الاقل التقيت الشاعرة الراحلة نازك في جامعة الكويت، واعربت لها عن رغبتي في اجراء حوار مطول حول كتابها وتجربتها الشعرية والحداثة بصورة اعم، لكنني اخطأت مدفوعا بعنفوان الصّبا عندما رويت لها حكايتي مع كتابها، وكيف انني انصرفت عنه للبحث عن ديوان الماغوط، فقد أغضبها هذا بحيث رفضت الاستمرار في الحوار، وقد يكون هذا من حقها، لكن ليس من حقي علي الاطلاق اخفاء هذه الواقعة، خصوصا ونحن نودع الرائدة التي ندين لها بالكثير من الفضل حتي لو اختلفنا مع أطروحاتها المحافظة !

* * *

ان ما يغفله مؤرخو الادب هو من صميم مهنة نقاده، والاختلاف حول ريادة الشعر الحديث كان يتطلب اعادة تعريف للريادة والحداثة معا، خصوصا بعد ان تفلطحت المصطلحات وأتاحت ترجمتها واحيانا تعريبها فرصة للتلاعب بدلالاتها، والتعامل معها علي نحو اجرائي.
فالحداثة الشعرية ليست بعثرة للعمود واعادة انتاجه ايقاعيا، انها رؤيا بامتياز، وقد تكون لدينا غابة من القصائد ذات المعمار الشكلي الحديث، لكنها عمودية في الرؤيا والوعي.
وعندما تجري المقارنات بين الثالوث الشعري الذي تنافس النقاد في المفاضلة بين اضلاعه وهو نازك والسياب والبياتي، وأيهم الأجدر بلقب الريادة، تتسلل الي المشهد كوميديا من طراز خاص، ذلك لأن الخطأ المنهجي مزدوج، فالريادة ليست لشاعر أو شاعرة وليست لقصيدة بالتحديد.
انها منجز جيل، بشّر بحساسية جديدة، وتفاوتت أساليب شعرائه ورؤاهم فكريا وفنيا، وهنا أميل الي الدعوة مجددا لاعادة قراءة الشعراء الثلاثة... وذلك دفاعا عما اسميته حداثة الرؤي مقابل حداثة المعمار، لكن لماذا تقدمت نازك خطوة ثم نكصت خطوتين؟ هل كان ذلك احترازا من تحمل المسؤولية عما يقترف باسم الشعر الحديث من نظم رديء؟ ام ان طبيعة التكوين النفسي والاجتماعي والثقافي لشاعرة فرضت عليها مثل هذا التردد والنكوص؟
الاجابة متروكة بالطبع لكل مجتهد في النقد، ولكل من ينزع الي الحفريات كمقابل للنزوع المدرسي للتوصيف والقراءة الأفقية كبديل أدني للاستقراء!
وقد يكون من الادق البحث عن ريادات للشعر العربي الحديث وليس عن ريادة واحدة شاملة، لأن هذا يحررنا اولا من شَخْصَنة الظواهر ومن البطل الوحيد المشجب.
فالبياتي بشّر بحداثة غير تلك التي بشرت بها نازك او السياب، وهذا ما قاله د. احسان عباس في دراسته المبكرة عن البياتي، واذا كانت الريادة ريادات، فإن الحداثة ايضا تقبل مثل هذا التنوع، فهي حداثات حتي داخل الثقافة ذاتها وباللغة ذاتها ايضا، والسؤال الذي يفرض نفسه الآن بعد عدة عقود من رحيل السيّاب وصدور كتاب نازك الملائكة هو علي أي جذر من تلك الحداثات نبتت الشعرية العربية الجديدة، خصوصا بعد ان تعددت التيارات وتخللها هاجس التجريب، وأصبح كل شاعر معنيا بهذا القدر او ذاك بذكر اسم ابيه الذي أطاعه او سعي الي قتله!

* * *

الشاعرة نازك باغتها الخريف المبكر جسديا وعانت من مرض فرض عليها عزلتين، عزلة ثقافية ابداعية، وأخري اجتماعية حياتية، وكان غيابها الطويل مأساويا حتي بالنسبة لمن توقعوا منها في سنوات النضج اضعاف ما أنجزت في اعوام الصّبا، وحين رحلت نازك كانت بغداد أبعد ما تكون... لا عنها فقط بل عن بغداد ذاتها، فالعراق الذي قال السياب ان شمسه اجمل، وكذلك ظلامه لأنه يحتضن العراق، احتجبت خلف الغبار والدخان المتصاعد منه مشاهد ثقافية وابداعية في مختلف الفنون، وحين أحصي خبراء الموت خسائر العراق، حذفوا منها نازل الملائكة وجواد سليم وبدر السياب وسلالة لا آخر لها من المبدعين، حتي ان مؤسسة ثقافية عربية اصدرت موسوعة عن الفن التشكيلي خلت من رواده العراقيين، فالزمن تفترسه ثقافة الاقصاء والابادة الرمزية، وما كان للتو جريمة قتل الآباء تحول بفضل الكومبرادور الجديد الي جريمة قتل القبيلة كلها ثم ابادة الدولة!

ولم تكن نازك وحدها التي اغمضت عينيها لآخر مرة علي غير شمس العراق وليله، فقد سبقها السيّاب الذي عاد في تابوت من أحد مستشفيات الكويت، وصلي عليه اثنان او ثلاثة في أحد مساجد البصرة، في اليوم الذي كان أثاث منزله قد طرح للبيع في المزاد...
وقبل عامين من رحيل نازك، قُتل محمود البريكان في بيته وهو قد تجاوز السبعين، مثلما مات شعراء آخرون في المنافي علي اختلافها وكان البياتي الذي حوّل المنفي الي موضوعة شعرية بامتياز قد رحل هو الآخر ليدفن بالقرب من ابن عربي، الذي قال له قبل اللقاء بعقود:

بعيدة دمشق
قريبة دمشق
من يوقف النزيف في ذاكرة المحكوم بالاعدام قبل الشّنق؟

* * *

قد يختلف النقاد تبعا لثقافاتهم وتعريفاتهم للحداثة حول المنجز الجمالي والشعري لنازك الملائكة، لكنهم قد يأتلفون حول كونها علامة بارزة في تاريخ الشعرية العربية، فهي ذات اسهام جذري في الريادة ان لم تكن الرائدة، وقدمت في أربعينات القرن العشرين مثالا ساطعا لامرأة تعاني من عدة حصارات استطاعت ان تتجاوز وتتخطي، وان تخرج من بيت الدمية لا من خلال الجامعة فقط، بل من خلال احداث تغيير في ديوان العرب الذي كان قبلها ذكوريا بامتياز، الي الحدّ الذي دفع احد الشعراء الجاهليين الي أن يزهو علي سواه من الشعراء بأن شيطانه الذي يلهمه الشعر ذكر، وشياطينهم إناث!
واذا كانت نازك قد قاومت المرض لعقود فإن عراقها يقاوم أيضا، ولا يمكن لمؤرخ او شاهد أن يحذف الشعر العراقي من خلايا المناعة التي تتصدي للوباء.

القدس العربي
1 يوليو 2007

***

نازك الملائكة بين عزلتين

عرفات فيصل

يبدو أن رائدة الشعر الحر قُدِّر لها أن تعيش في عزلتين اختارتهما، عزلة في الطفولة بعد أن صدمت بقريناتها ، فهنَّ لا يطالعنَّ ولا يعبأنَّ بالفن ، وهزلهنَّ أكثر من جدهنَّ ، وهذه الصفات لم تعهدها نازك الملائكة البنت الكبرى لعائلة عرفت باهتماماتها الأدبية، فامها في سنواتها المبكرة كانت تكتب الشعر وتنشره في المجلات باسم أدبي، وهو " السيدة أم نزار الملائكة" وكانت الشاعرة تعرض عليها قصائدها الأولى وتناقشها فيها، وأبوها كانت له درسات كثيرة أشهرها موسوعة" دائرة معارف الناس" في عشرين مجلدًا، وكان ينظم الشعر أيضًا، وخالها الدكتور جميل الملائكة الذي ترجم رباعيات الخيام عام 1957م كان شاعرًا، وأخوها نزار كتب شعرًا وإن كان قليلًا.
إنَّ هذا الصراع الذي تولد في داخل الشاعرة والناتج عن اختلاف المناخين، مناخ الأسرة الأدبي الذي يميل الى الجد كما بينا، ومناخ الشارع ، والمدرسة ، والمنطقة التي تحيط بها والذي يميل إلى الهزل قد صدمها فقررت الابتعاد لتقرأ وتكتب القصائد ، تقول: " كنت ميالة إلى الانعزال منذ طفولتي بسبب احساسي الدائم بأنني أختلف عن سائر البنات اللواتي في سني ، فأنا كثيرة المطالعة، محبة للشعر والغناء، جادة، قليلة الكلام، بينما هنَّ لا يطالعنَّ، ولا يعبأنَّ بالفن، وليس لهنَّ من الجد في الحياة إلا يسير، كما انهنَّ كثيرات الكلام لا يسكتن ابدا، وكان كل هذا يصدمني وكنت اعتزل المجتمع لكي اقرأ وانظم القصائد المتتالية"، وهي القائلة:

كل يوم أرى شباب حيـــاتي   في حمى الوحــدة المريرة يذوي
وأراني أسير مرغمــة الأقـ   ـدام في عاصف الزمـــان المدوي
لست ألقى حولي سوى عالم يشـ   قى ويلقى عـــــزاءه في الشرور
ويبيع الحيــــــاة بالمتع الحم   قاء والأثم والأذى والغـــرور
ويرى اللهـو فــي الحياة أمانيـ   ـه ويدعو الخيـــال والشعر حمقا
يالجهل الانســـان فليبق حيرا   ن اذن وليظـــل يأسى ويشقى
ولأعش في ظــلال وحدتي الخــر   ساء أبكي ولا مصيـــــخ إلينا
     

وعزلة ثانية بعدما كبرت ونضجت عقليتها نتيجة لاطلاعها على اللغات: الانجليزية، والفرنسية، واللاتينية، فقرأت لشكسبير، وترجمت إحدى سونيتاته، كما قرأت لشيلي، وكيتس، و
بيرون، وتوماس غري، وغيرهم.
هذ الاطلاع الذي جعل الشاعرة تبني لها عالمًا مثاليًا خاصًا بها تهرب به من العالم الحقيقي بواقعه المرير إذ يشهد العراق والوطن العربي والعالم باسره صراعات على السلطة وحروب وواقع فاسد أجبرها أن تتمنى حياة الطفولة البريئة :

ليتني لـــم أزل كما كنت قلبـا   ليس فيه إلا السنا والنقــــاء
كل يوم أبني حيـاتي أحـلا   ما وأنسى إذا أتاني المســاء
أبدأ أصرف النهار علـــى التل   وأبني من الرمـــال قصــورا
ليت شعري أين القصور الجميلا   ت وهل عدن ظلمــــة وقبــورا؟
أيه تل الرمــــال مـــــاذا ترى أب   قيث لي من مدينـــة الأحـــــلام؟
انظر الآن هل ترى فـــــي حياتي   لمحة غير نشوة الأوهــــام؟
ذهب الأمس لم أعد طفلــة تر   قب عش العصفور في كل صباح
لم أعد أبصر الحيــــاة كمــــا كنـ   ت رحيقا يذوب في أقداحـــــي
لم أعد في الشتاء أرنو الى الأمـ   طار من مهدي الجميل الصغير
لم أعد أعشق الحمامـــة ان غنـ   ت وألهو على ضفـــاف الغدير
..........
.........
   
آه ياتل ها أنــا مثلمــــا كنــــ   ت فارجع فردوسي المفقــــود
أي كف أثيمـة سلبت رمـ   لك هذا جمالـه المعبــود

تنويه:

ارتأت هيئة تحرير مجلة القلم الأدبي أن يكون عددها القادم مخصصًا لدراسة شعر وحياة الشاعرة/ الناقدة نازك الملائكة لما قدمته من إبداع طيلة مسيرة حياتها القاسية استحقت أن تكون رائدة الشعر الحر في العالم العربي، لذا فان المجلة تدعو الباحثين والاكاديميين من الكتاب في أقطار الوطن العربي كافة للمشاركة في العدد القادم .

E-mail: Arafat_faisal2007@yahoo.com

www.alqalamaladabi.com

* * *

نازك.. من أُسرة لها طِباع الملائكة

رشيد الخيُّون
(العراق/لندن)

لو عاصرت نازك الملائكة أبا الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور (ت 280هـ)، صاحب «كتاب بغداد»، لكان اسمها أول المترجمات في كتابه «بلاغات النساء»، حالها حال امرأة أبي الأسود الدؤلي، ونائلة بنت القرافصة. فهي ما زالت الصدى المحكي من صوت الأنوثة الضارب في أسماع الرجال ببغداد، وسيرتها الأدبية واحدة من المعزيات بما يجري من خراب. أترى من السهولة أن يعترف الشاعر الشرقي، العربي على وجه الخصوص، بأن شعره سليل إبداع امرأة؟! هذا ما اعترف به أكثر مؤرخي الشعر الحديث لنازك الملائكة (1923 ـ 2007)، عندما عدوها ملهمته بالعراق، على الرغم أن الخلاف جارٍ، لكن قطعاً هي واحدة من المؤسسين.

ليس بين أجداد وآباء عائلة آل الملائكة البغدادية من اسمه ملائكة، أو ملاك، بل عرفوا بذلك لأن أقدامهم كانت تحف الأرض حفا دون ضجيج، يمرون وأفواههم مغلقة، تصوم عن كلام أو ثرثرة الطريق، فأصواتهم لا تخرج إلا أبيات شعر أو نثر أدب أو همسات لا تتعدى الشفاه. وأول من أطلق عليهم هذا الاسم الرومانسي الشاعر العراقي المعروف الأخرس، حيث محلة العاقولية، وقيل سكان جادة أبو أقلام من حي الكرادة داخل، من الجيران. فبعد جيرة طويلة لم يسمعوا صراخ الأطفال نازك وإحسان ونزار وعصام وسُها ولبنى يمارسون طفولتهم في البكاء والضوضاء، فكانوا يدلفون إلى بيتهم بعد عودتهم من المدارس مثلما تدلف الطيور إلى أوكارها، وتنقطع مع آخر خيط نور من النهار.

جاءت التسمية اسماً على مسمى لهذه العائلة الحالمة. ولم يكن اللقب وصل إلى نازك، من عشيرة أو مدينة أو عمل سحر وكرامات، بل جاء من طبع همس وهمهمة الكلام نثراً وشعراً، فكم الأُسرة كانت مفرطة في هدوئها، وكانت من قبل ذلك تُعرف باللقب الأرستقراطي آل الجلبي. كان ذلك في القرن التاسع عشر. وهو لقب له دلالاته، ليست الأخلاقية حسب بل الإبداعية أيضاً، فالأُسرة كانت أُسرة علم وأدب، الأم هي الشاعرة أم نزار سلمى، والأب هو الأديب والشاعر صادق الملائكة (ت 1969)، ونشأت نازك في تلك البيئة، حتى شقت طريقها إلى المجد الأدبي داخل العراق وخارجه.

كتب الأديب المصري، صديق العائلة، بدوي طبانة، كتاباً عنونه بـ«أدب المرأة العراقية في القرن العشرين»، كان لبيت الملائكة حصة كبرى فيه، فمن هذا البيت هلَّ على العراق ثلاث شواعر هنَّ الأم أم نزار (سلمى) وأبنتاها: نازك وإحسان. ويكتب لنازك أن تكون رائدة من رواد الشعر الحديث في الشعر العربي. مع أن الأخيرة نشأت على يد أبيها وأمها وبمكتبة العائلة على نمط الشعر الكلاسيكي، وظلت تقوله بين الحين والآخر. وبالنسبة للأم كانت درجة الشعر عندها تتراوح بين الجزالة والركاكة. لكن امرأة عراقية في العقود الأولى للقرن العشرين قالت الشعر وزاحمت الرجال في مجالس الأدب وظلت وفية له، وغذت صغارها به لم يكن أمراً هيناًً، وحصل أن حققت أم نزار مستقبلها في الرقي الشعري بابنتها نازك، التي ذاع صيتها شاعرة مطبوعة، تجاوزت نظم والدها ووالدتها إلى عالم الموهبة الرحيب.

الأم هي سلمى بنت عبد الرزاق، التي توفيت سنة 1953، نشر ديوانها بعد وفاتها، وكان قد تضمن مناجاة إلى الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي بقولها:

أيها الراحل الذي أختار دار الخـ
لد مأوى نم وليطب مأواكا
إن قبراً حللت فيه مقيماً
قد حوى الشعر والنهي مذ حواكا

وأشارت إلى نصرته للمرأة في وقت مبكر، يتراوح بين نهاية الدولة العثمانية وبداية العراق الحديث، فقالت:

من لليلى؟ وكنت ناصر ليلى
ما عهدناك ناسياً ليلاكا
كنت حتى الجماد توحي إليه
حين تشدو الشعور والإدراكا

خلت الدار في جادة أبو أقلام وخلا العراق من نفس آل الملائكة، فنازك أقامت وماتت بمصر، بعد تعب بشيخوخة ممزوجة بالغربة، رغم أن المصريين أحاطوها بألفة ومودة، مثلما أحاطوا قبلها الشاعر العراقي عبد المحسن الكاظمي، وابنته الشاعرة رباب. لكن ذلك لا يمنع تسرب شعور الغربة إلى أعماقها، فعاشت وزوجها هناك، وقد فارقها قبل سنوات، ولسان حالها يقول:

تائهة والحياة بحر
شاطئه مبعد سحيق
تائهة والظلام داج
والصمت تحت الدجى عميق
يا زورقي آه لو رجعنا
من قبل أن يخبو البريق
أنظر حواليك أي نوء
تجمد من هوله العروق

ليس الأسى في وفاة نازك الملائكة، فهي أعطت وأجادت وأسست ونالت حظوتها من تعليم وثقافة وشهرة، ولو أُتيحت الفرص لبقية نساء العراق، اللواتي يحاربنَّ اليوم من أجل رفع الحيف عليهنَّ في قانون أحوال شخصية، وأشعرهنَّ بالثقة والإنسانية بحذف موافقة (المحرم) على سفرهنَّ، لظهرت بينهنَّ نوازك ومالكات ناصية الأدب والشعر. لكن، الأسى أن تقضي رائدة الشعر الحديث شيخوختها تحت نجمة قصية من نجوم منافي ومهاجر العراقيين، وان لا يعرف عنها حفيداتها وأحفادها الشعراء الشباب أخبارها إلا عبر ما تتنعم به الجرائد الثقافية من نقل أخبارها. إن عائلة مثل آل الملائكة تستحق التخليد بتمثال يقام في جادة محلتهم، يجاورون دجلة، ويلبسون ثياب الملائكة. أقول وأتمنى هذا، وليس في ليل بغداد الطويل من سامر يرد على قول أو همس أمنية!

الشرق الأوسط
27 يونيو 2007

****

مرّ القطار

نازك الملائكة

الليل ممتدُّ السكونِ إلى المدَى
لا شيءَ يقطعُهُ سوى صوتٍ بليدْ
لحمامةٍ حَيْرى وكلبٍ ينبَحُ النجمَ البعيدْ،
والساعةُ البلهاءُ تلتهمُ الغدا
وهناك في بعضِ الجهاتْ
مرَّ القطارْ
عجلاتُهُ غزلتْ رجاءً بتُّ أنتظرُ النهارْ
من أجلِهِ .. مرَّ القطارْ
وخبا بعيداً في السكونْ
خلفَ التلال النائياتْ
لم يبقَ في نفسي سوى رجْعٍ وَهُونْ
وأنا أحدّقُ في النجومِ الحالماتْ
أتخيلُ العرباتِ والصفَّ الطويلْ
من ساهرينَ ومتعبين
أتخيلُ الليلَ الثقيلْ
في أعينٍ سئمتْ وجوهَ الراكبين
في ضوءِ مصباحِ القطارِ الباهتِ
سَئمتْ مراقبةَ الظلامِ الصامتِ
أتصوّرُ الضجَرَ المريرْ
في أنفس ملّت وأتعبها الصفيرْ
هي والحقائبُ في انتظارْ
هي والحقائبُ تحت أكداسِ الغبارْ
تغفو دقائقَ ثم يوقظها القطارْ
وُيطِلُّ بعضُ الراكبين
متثائباً، نعسانَ، في كسلٍ يحدّق في القِفارْ
ويعودُ ينظرُ في وجوهِ الآخرينْ
في أوجهِ الغُرَباء يجمعُهم قطارْ
ويكادُ يغفو ثم يسمَعُ في شُرُودْ
صوتاً يغمغمُ في بُرُودْ
" هذي العقاربُ لا تسيرْ !
كم مرَّ من هذا المساء؟ متى الوصولْ ؟"
وتدقٌّ ساعتُهُ ثلاثاً في ذُهُولْ
وهنا يقاطعُهُ الصفيرْ
ويلوحُ مصباحُ الخفيرْ
ويلوحُ ضوءُ محطةٍ عبرَ المساءْ
إذذاكَ يتئدُ القطارُ المُجْهَدُ
... وفتىً هنالكَ في انطواءْ
يأبى الرقادَ ولم يزلْ يتنهدُّ
سهرانَ يرتقبُ النجومْ
في مقلتيه برودةٌ خطَّ الوجومْ
أطرا فَهَا .. في وجهِهِِ لونٌ غريبْ
ألقتْ عليه حرارةُ الأحلام آثارَ احمرارْ
شَفَتاهُ في شبهِ افترارْ
عن شِبْهِ حُلْمٍ يفرُشُ الليلَ الجديبْ
بحفيفِ أجنحةٍ خفيّاتِ اللُحونْ
عيناهُ في شِبْهِ انطباقْ
وكأنها تَخْشَى فرارَ أشعةٍ خلف الجفونْ
أو أن ترى شيئاً مقيتاً لا يُطَاقْ
هذا الفتى الضَّجِرُ الحزينْ
عبثاً يحاول أن يرَى في الآخرينْ
شيئاً سوى اللُغْزِ القديمْ
والقصّةِ ا لكبرى التي سئمَ الوجودْ
أبطالها وفصولها ومضَى يراقبُ في برودْ
تَكْرارَها البالي السقيمْ
هذا الفتى.....
وتمرُّ أقدامُ الَخفيرْ
ويطل وجهٌ عابسٌ خلفَ الزُجاجْ،
وجهُ الخفير!
ويهزُّ في يدِهِ السِراجْ
فيرى الوجوهَ المتعَبة
والنائمين وهُمْ جلوسٌ في القطارْ
والأعين المترقبة
في كلّ جَفْنً صرخةٌ باسمِ النهارْ،
وتضيعُ أقدامُ الخفير الساهدِ
خلفَ الظلامِ الراكدِ
مرَّ القطار وضاع في قلبِ القفارْ
وبقيت وحدي أسألُ الليلَ الشَّرُود
عن شاعري ومتى يعودْ ؟
ومتى يجيء به القطارْ ؟
أتراهُ مرَّ به الخفير
ورآه لم يعبأ به .. كالآخرينْ
ومضى يسيرْ
هو والسِّراجُ ويفحصانِ الراكبين
وأنا هنا ما زلتُ أرقُبُ في انتظارْ
وأوَدُّ لو جاءَ القطارْ ....

****

نازك الملائكة: الشعر يغسل الأدران والوعي التام لا ينتج شعرا ذا قيمة

هاتف جنابي
(العراق/صوفيا)

 منْ لايعرف الشاعرة نازك الملائكة عن قرب، لايمكن أن يدرك حتى النهاية إلى أي مدى ينطبق شعرها على حياتها وتجربتها، وكم تنطبق الأسماء على مسمياتها أحيانا. شاءت الصدف والأقدار أن تكون أستاذتي في مادة الأدب العربي المعاصر في جامعة بغداد –كلية التربية الملغاة أواخر الستينيات. على أنني لا أنوي في هذه العجالة أن أتحدث عن حياتها الغنية كاملة، فهذا ليس من دواعي هذا النص، إنما بودي التنويه إلى مثابرتها وصفائها الذهني وشفافيتها المفرطة ورهافة سمعها الموسيقي –أحد أهم أعمدة الشعر. علينا أن نتذكر دائما ولعها بالموسيقى، ولنتذكر دور اللون والصمت والتأمل والحزن والضياع في شعرها.
حدثتنا ذات محاضرة، عن غفلة المرء عما قد يلحق الضرر به في يومه الذي يتراءى أنه طبيعي. فمثلا، كيف يبدو لمس النقود والتعامل بها بريئا وعاديا، إلا أنه قد يسبب في نقل العدوى ومنها الحساسية والأمراض الجلدية وما شابه. أنا، مثلا، أضافت قائلة: أغسل يدي بعد كل مرة ألمس فيها النقود. لقد تسمّرتُ شخصيا بعد سماعي ملاحظتها الحياتية المذكورة، واستغربت منها تضييع وقتها ووقتنا بلا طائل. لكنني أدركتُ حماقتي، حينما سمعت جملتها الأخيرة: كل هذا الدرن بإمكان الشعر أن يغسله!
لايمكنك إلا أن تنصت لها، لأنها وببساطة أستاذة الهمس والشفافية والرهبنة.  صوتها رقيق، نظراتها شبه حالمة وساهمة، ذهنها متوقد وخيالها بلا حدود، لم تكنْ تؤمن بالكتابة الشعرية الواعية حتى النهاية، "لأن الوعي التام قلما ينتج شيئا ذا قيمة"(مقدمتها للمجلد الثاني من ديوانها).

 لم تكنْ تتحدث كثيرا عن نفسها وهذه من أجمل خصالها. لكنها كانت تتحدث عن ضرورة الشعر، وأهمية الحياة في إغناء التجربة الفنية ودور القراءة المتأنية والمزاج والاجتهاد الفردي في صياغة الشاعر وعالمه التولدي. كانت في أشعارها الأولى حتى منتصف الستينات، تكدح شعريا، رغم تشاؤمها ورومانسيتها البينة،  مصوبة هذا البيت ومراجعة تلك القصيدة، والدليل على ذلك، أن إحدى قصائدها ذات الطبيعة الرومانسية قد كتبت ثلاثَ مرات بشكل مغاير، في غضون عشرين عاما، وعلى البحر الحادي عشر - الخفيف(فاعلاتن مستفع ِ لنْ فاعلاتنْ فاعلاتن مستفع ِ لن  فاعلاتن) والغريب في الأمر أنها اتبعت هذا الوزن في القصائد الطوال الثلاثة. كانت أجواؤها متشائمة وحزينة في الأولى فانفراج نفسي وقبسات من الأمل والفرح في الأخريين. ونظرا للأختلاف الذي حصل بمرور الوقت فيما بين القصائد قامت بنشرها كلها في الجزء الأول من ديوانها الصادر عن دار العودة في بيروت. متسلسلة هكذا: "مأساة الحياة"(1945-1946 )، "أغنية الإنسان-1"(1950) و"أغنية الإنسان-2"(1965). إن إصرارها على تنقيح القصيدة الأولى أعطاها على مدى عشرين عاما ثلاثة نصوص متباينة. كان الأحرى بها أن تكرس وقتها في مواصلة مسعاها التجديدي حتى النهاية.

 لم تكن هذه القصائد بالنسبة لتطور الشعر الحديث تعني شيئا، لكنها ذات قيمة من حيث المجهود والمثابرة والتجربة الشخصية، وعلاقتها هنا وهناك بأجواء مماثلة في الشعر الإنجليزي، خصوصا لدى (جون كيتس) الذي سبقها في تجربة مماثلة باعتراف الشاعرة ذاتها. هذه التجربة المضنية، قد ساعدتها قبل كل شيء على الابتعاد ، ولو إلى حين، عن مواصلة كتابة المطولات الشعرية التي كانت تميل إليها في البداية، ودفعتها إلى بلورة آرائها حول طبيعة الشعر الجديد"شعر التفعيلة" أو كما أسمته خطأ "الشعر الحر" ، الذي دعت إليه ودافعت عنه في مقدمتها لديوانها وفي كتابها الهام"قضايا الشعر المعاصر"(1962). لكنها أيضا بمنظار الآتي، قد ضيقت من مساحة ثقلها التجديدي الذي كان من الممكن أن يذهب إلى أبعد مدى.

 هل كان لموهبة نازك أن تمضي باتجاه التجديد بدون الاطلاع على تجارب الشعر العالمي الجديد آنذاك؟ للأفق المفتوح على الأدب العالمي والتفاعل معه بروح نقدية دور مهم حيوي في تجربة وآراء نازك الشعرية والنقدية. ألم تدْرس الأدبَ المقارن؟ كانت تقرأ بالإنجليزية بنهم. تكثفت مطالعاتها أكثر في الثلاثين سنة ونيف التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، أثناء دراستها في دار المعلمين العالية في بغداد، والأدب المقارن في الولايات المتحدة الأميركية، كما وأشيع عن كونها ملمة باللاتينية والفرنسية. لولا تلك الفترة لما وصلنا شعر نازك الملائكة بهذه الأهمية. إذن لكانت شاعرة عادية أسوة بالآخرين ممن علاهم الغبار.

 رغم نزوعها نحو التجديد ودعوتها لتخليص الشعر العربي من التقليدية والماضوية، يعني من"الرقدة الطويلة التي جثمتْ على صدره طيلة القرون المنصرمة الماضية"(نازك الملائكة 1949)، إلا أنها أوحت لنا بأن قسطا  من الردة والتخاذل في مسعاها التجديدي قد تلبسها في الثلاثين سنة الأخيرة التي سبقت موتها، وكأنها انعكاس للردة الماضوية الناغلة في الجسد العربي منذ سنوات طويلة. وإلا فمباذا نفسر عودتها لكتابة الشعر العمودي الذي خرقت قواعده بنفسها؟ ألم تقلْ من قبل: بأن مزية شعر التفعيلة"أنها تحرر الشاعر من طغيان الشطرين"، و"أن الأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعا، والألفاظ ستتسع حتى تشمل آفاقا جديدة واسعة من قوة التعبير...".

 في الحقيقة، كانت نازك تعتقد بأن مسعاها وزملائها هو بمثابة "تعديل" للخليل بن أحمد الفراهيدي، وليس "خروجا" عنه.  من هنا، يبدو لنا، أنها كانت في شعرها وأرائها النقدية وسلوكها تحاذر من المبالغة في التجديد ولا ترغب في رؤيته مُتفرعنا في الساحة كشكل أدبي فريد لما يزل غير مضمون. وهذا يعني أن سطوة التراث الشعري في أعماقها أعلى من مساعي الحاضرالتجديدية. هذا التصور وتأثير المحيط المحافظ عليها وشخصيتها الميالة إلى الترهب هو الذي أوقف مسعاها التحديثي ووضعها خلف السياب من حيث المواصلة والبحث عن الحلول التقنية والجمالية في شعرنا المعاصر. على أية حال، نحن إزاء حساسيتين ومجهودين شعريين مختلفين.

إن ما قدمته نازك لحركة الشعر العربي المعاصر، يجعلها، باعتقادنا، أكثر الشواعر حضورا وتأثيرا في تاريخ الشعر العربي الحديث برمته.

 إن حالة التردد وعدم الثقة الكاملة بمنجزات شعر الحداثة ليست بالغريبة على أوساط الشعراء بمن فيهم الأجانب. على أن هذا الأمر المتمثل بانتكاس الشاعرة على صعيد التجديد في سنواتها الأخيرة وانكفائها على نفسها، لايغير شيئا في كونها سواء بمسعاها التجديدي أو بتنظيرها لحركة الشعر العربي الجديد قد فاقت الكثيرين من الشعراء العرب أفقا واجتهادا وجرأة.

هذه الشاعرة الوجلة الدؤوبة بحساسيتها العالية أطلقت هي والسياب بدون شك شرارة التجديد في شعرنا المعاصر بخرقهما للقواعد التقليدية التي كانت سائدة لقرون. سوى أن المفارقة تكمن في أنها لم تجعل الخرق هو القاعدة السائدة. على أنها، سعت لإقناعنا أكثر من ذي قبل بفكرة أن "الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها، ولا نماذج معينة للألوان التي تتلون بها أشياؤها وأحاسيسها" على حد تعبيرها.

 لقد رحلت شاعرة مجددة هامة وحاضرة بمضاء في شعرنا المعاصر، خرقت صنمية القصيدة العربية وجعلتنا أقرب إلى الحداثة من ذي قبل. على صعيد المعاناة، كانت حياتها في السنوات الأخيرة تمثل وجه العراق الطموح العصامي المعذب الذي تلاحقه لعنة الآلهة.

"البيان"الإماراتية
1/7/2007

****

جثمان نازك الملائكة استقر بجوار محفوظ

حسن عبد الموجود
(مصر)

استقر جثمان الشاعرة نازك الملائكة في مقبرة مجاورة لمقبرة أديب نوبل نجيب محفوظ بمدافن مدينة 6 أكتوبر.
من ناحية أخري تحول عزاء نازك الملائكة بمسجد عمر مكرم مساء الأحد الماضي إلي جلسات ذكريات، حيث تحدث المثقفون عن علاقتهم بها ورؤيتهم لإسهاماتها الشعرية والنقدية..
فاروق شوشة تحدث إلي جمال الغيطاني وصلاح فضل ومحمد إبراهيم أبوسنة والشاعر العراقي أمجد محمد سعيد ووديع فلسطين وآخرين مشيرا إلي أنها كتبت في عشق محمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه باعتبارهما 'إلهي الشعر' في العالم العربي.. مضيفا انها كانت دائمة التأكيد علي أن هذا ليس رأيها وإنما هناك اتفاق من جميع العراقيين علي هذا.. ووصف إحساسها العالي بمصر والمصريين، الإحساس الذي دفعها لكتابة رائعتها 'الكوليرا': .. كانت تستمع إلي الإذاعة المصرية التي تبث تفاصيل الكارثة، مات 300، ثم أصبح العدد 600، ثم ألفا، قفزت من سور منزلها وجرت إلي عمارة مجاورة، وصعدت إلي السطح تبكي حتي جاءتها القصيدة'..
واضاف شوشة: 'له ديوان جميل.. الصلاة والثورة' أعتبرها بحق أعظم شاعرة عربية في القرن العشرين، وكما انها شاعرة كبيرة هي ناقدة كبيرة، كتابها عن النقد المعاصر وعلي محمود طه درس في الكتابة النثرية كما ان ترجماتها كذلك ،قدمت لنا دروسا في الشعر، ثم انها عازفة عود بامتياز، والدها كان يحب فكرة ارتباطها بالعود ويخشي علي هذا الارتباط من الشعر، تخيلوا كان يقول لها خايف عليك من الشعر، لن تخلصي للعود لأنك شاعرة'!

جمال الغيطاني سأل وديع فلسطين: انت قابلتها ولك ذكريات معها؟

وابتسم وديع فلسطين وابتعد حاجباه دلالة علي انه يتذكر وان مشهدا مؤثرا قفز إلي مخيلته: 'قابلتها في مكتبي بالمقطم، جاءت بصحبة سلامة موسي، كانت فتاة جميلة تخيلتها ابنته، ولكنه فاجأني حينما قدمها إليٌ ، كنا ننشر سويا أنا وهي في مجلة الأديب'..
وقال محمد أبوسنة: كانت كالطيف تشع بوهج الشعر.. وسألت الشاعر العراقي أمجد سعيد: كيف تراها؟ فقال لي: لاشك أنها تعد واحدة من الأصوات الشعرية الأصيلة ، ذائقتهاجعلتها تمتلك الرؤية التفكيكية والتركيبية التي مكنتها من إعادة صياغة الشكل الموسيقي الشعري المستقر منذ مئات السنين'.. وأضاف : ورغم ان جهدها انصب في البدايات علي محاولاتها الشعرية، إلا أن كتاباتها النقدية وترجماتها أحدثت طفرة هائلة في مسيرة الأدب العربي'..
وطرحت السؤال نفسه علي إبراهيم داود فقال: 'أهمية نازك الملائكة ليست في كونها من رواد الشعر الحديث فقط، ولكنها قدمت نموذجا للمرأة العربية التي اختارت 'الحداثة' في زمن كانت المرأة بعيدة عن المشاركة في العمل العام'..
وقال: 'نازك الملائكة شاعرة حرة، وكانت عنوانا لزمن حر، زمن الخمسينيات والستينيات، ماتت وبلدها لم يعد حرا، ولم تعد قصيدة الرواد تعبر من المشهد، ولكن عندما يتحرر العراق (الجديد) من الاستعمار سيكون صوتها في المقدمة...
حضر العزاء عدد من المثقفين المصريين. فبالإضافة إلي الاسماء السابقة هناك بهاء طاهر، عماد أبوغازي ،شعبان يوسف، احمد بهاء الدين شعبان، جورج اسحق، إيهاب الدكروري، كما حضر عدد كبير من المثقفين العراقيين المقيمين بالقاهرة. 

اخبار الأدب
1 يوليو 2007

***

إطلالة علي بيت جارتنا نازك الملائكة

علاء الدين الأعرجي
(العراق/ أمريكا)

في أيام صيف بغداد القائظ اعتاد أبي أن يقضي معظم وقته في الحديقة الواسعة الملحقة بالمنزل تحت عريشة العنب الوارفة. (نسميها قمرية، باللهجة العراقية الدارجة) وظلال النخيل الباسقة المكللة بعثوق' التمر الذهبية والفضية. يزوره غالبا أصدقاؤه المقربون من أمثال المؤرخ العراقي عبدالرازق الحسني صاحب سلسلة كتب 'تاريخ الوزارات العراقية' و'تاريخ العراق الحديث' وغيرها، والأستاذ/ الدكتور عبدالحميد الراضي، صاحب المسرحية الشعرية 'ثورة العرب الكبري' و'ثورة العراق الكبري'.

والدي، الذي كان لا يكاد يقرأ إلا في المجلدات الضخمة مثل تفسير ابن أبي الحديد أو تاريخ الطبري أو ديوان المتنبي، لاحظته ذات يوم يقرأ كتابا صغيرا كأنني أعرفه. فسألته عنه، قال إنه ديوان شعر حديث لجارتنا نازك الملائكة.

قلت فخورا:
اطلعت علي هذا الكتاب منذ أيام، فقد أهداني نسخة منه أخوها نزار.

قال معاتبا:
إذن أنت اطلعت عليه قبلي ولم تخبرني عنه.

قلت معتذرا ومفسرا:
أنت تعلم يا أبي أنني لست شغوفا بالشعر، ومن جهة أخري، أنت لا تقرأ الشعراء المحدثين، وهذه أول مرة أراك تقرأ لشاعر حديث، فما بالك بشاعرة؟

ولكن هذه الشابة الشاعرة تنبهت إلي ما لم يتنبه إليه أحد من قبل.
وفي هذه اللحظة رأيت عبدالحميد الراضي قادما من مدخل الحديقة البعيد نسبيا عن عريشة العنب التي كانت في الطرف الآخر من الحديقة بعد أن تجاوز ذلك الباب الأثري المتهالك الفضي الي الشارع العام مباشرة، وكان مفتوحا دائما تقريبا، يستقبل من يشاء بدون استئنان، لاسيما الأصدقاء المقربين. ولئن استقر بالزائر المقام علي كرسي مصنوع من جريد النخل، وضعت عليه وسادة رقيقة نسميها 'منذرا'. وبعد تبادل التحيات، لمح عبدالحميد الكاتب فقال:
أراك تقرأ كتابا حديثا!!

يا أخي، يبدو أننا، أنت وأنا، متأخرون عن الاطلاع علي حركة الشعر المعاصر، فقد قرأ علاء هذا الكتاب الهام للشاعرة الشابة نازك الملائكة، قبلنا. وكنا بصدد الحديث عن الكتاب.
فلنستمع إذا إلي رأي علاء في هذه الشاعرة، التي سمعت عنها مؤخرا. قال الراضي.
أحرجني الطلب، ولكنني تمالكت نفسي وجمعت شجاعتي وشحذت فكري، للتخلص من هذا التحدي بلباقة علي الأقل، فأجبت بما معناه:

وكيف للتلميذ أن يتحدث عن قضايا الشعر في حضرة أساتذته، وقطبين من أقطابه؟!!
أبدي الراضي اعجابه بحسن التخلص، ولم يعلق والدي بشيء ربما لأنني عجزت عن الاجابة، ثم ساد الجلسة قدر من تجاذب أطراف الحديث، الذي تشعب وتناول عبقريات أسرة الملائكة، ابتداء من الشاعرية المتميزة لوالدة نازك، ثم طموحات والد نازك، الأستاذ صادق الملائكة، الذي كان بصدد كتابة مشروعه الخاص بموسوعة تحت عنوان 'دائرة معارف الناس'. وتحدثت أنا عن اهتمامات وطموحات الزميل نزار الذي كان يدرس لغات متعددة، والذي أتقن الانجليزية والفرنسية وهو يدرس اللاتينية، ثم عدنا الي نازك، فقال والدي:

في هذا الكتاب الذي أهداه الي والدها الأخ صادق الملائكة، لاحظت أن الشاعرة تحلل، في مقدمته المسهبة أن الشاعر العربي اليوم، كما كان في الماضي، يبذل جهده في تكملة البيت الشعري بكلمات قد تزيد غالبا عن مقتضيات المعني المراد، في الغالب، حفاظا علي الوزن وتكملة للشطرين، كما قد يتكلف وضع الكلمة الأخيرة لمراعاة القافية. والطريقة التي تقترحها نازك تجنب الشاعر هذا التكلف الذي قد يضر بالشعر العربي بوجه عام.

'وماهي الطريقة التي تقترحها؟' قال عبدالحميد، مستفسرا.
'أن يراعي الشاعر الجرس (بسكون الراء) الشعري، ملتزما بالوزن الخليلي، ولكن ليس من الضروري أن تكون الفعليات كاملة، ولا يلتزم لا بوحدة الشطر ولا استقلال البيت، فتأتي الأبيات أو بالأحري مقاطع الأبيات متكاملة متدفقة، بلا قطع معنوي في آخر كل بيت، بل في آخر المقطع.

والتفت الي صديقه عبدالحميد، قائلا:
اقرأ لنا، بإلقاء المتميز يا عزيزي سيد حميد، هذه القصيدة الجميلة وعنوانها 'الكلمات'، التي خصني بها والدها.

لم يقرأ مباشرة، بل أخذ يتأمل الأبيات والكلمات باستغراق عميق. واحترمنا هذا الصمت، ولم يطل هذا السكوت، فقال الراضي معلقا:
'لسان الفتي نصف ونصف فؤاده'، وكنت أراجع فؤادي قبل أن ينطق فمي بهذه الكلمات الحلوة والعميقة، وأدعو الله أن يجعل عنقي كعنق البعير.
وطفق يتلو بإلقاء شعري ساحر: بنبرة رقيقة تناسب سياق موضوع القصيدة وجرسها الموسيقي المتميز.

فيم نخشي الكلمات
وهي أحيانا أكفٌ من ورودِ باردات العطر مرت عذبة فوق خدود
وهي أحيانا كؤوس من رحيق منعش
رشفتها ذات صيف، شفة في عطش
الي آخر القصيدة الجميلة والبليغة. قال الأستاذ الراضي معلقا: 'حسن رقيق وفكر عميق، وأداء يدل عن شاعرية ملهمة صقلتها الحياة والدراسات. مع ذلك كنت أفضل أن تتحاشي استخدام لفظة 'أحيانا'، في بداية القصيدة، فهي ثقيلة علي السمع في الشعر'. فوافقه والدي وأضاف:
ألا تعتقد أنك استخدمت تقريبا نفس القواعد التي استخدمتها حين نظمت مسرحيتيك الشعريتين ثورة العراق الكبري وثورة العرب الكبري.
حقا، فلم ألتزم بوحدة البيت لأن طبيعة الحوار تقتضي تدفق الحديث وترابط المعني، بل حذفت أحيانا بعض التفعيلات لانتهاء الكلام، وأكملتها في البيت التالي. ولكن لم يخطر ببالي أن أطور هذا الأسلوب للتعبير الشعري عموما. ومع ذلك أري أن هذه الدعوة الجريئة التي تطلقها نازك الملائكة سوف تواجه معارضة شديدة وهجوما عنيفا من جانب بعض الشعراء التقليديين، ونحن منهم، ولكن قد لا نتفق معهم.
أري أن هذه الشاعرة ستفتح آفاقا جديدة في الشعر العربي وتحقق تحولات شعرية وأدبية غير مسبوقة.

***

كنا نعتبر بيت صادق الملائكة من بيوت الجيران لأنه لا يبعد عن بيتنا إلا دقائق قليلة. لذلك فإن 'مغنية الحي لا تطرب'. ومن جهة أخري، كنت في ذلك الوقت شابا ناشطا ومجاهدا مقتحما، في ميدان النضال السياسي والطلابي، من خلال تعاطفي مع التقدميين أو الشيوعيين (علما بأنني لم أنظم اليهم يوما)، الذين كانوا من أكثر الفئات السياسية حماسة في مقارعة النظام العراقي الحاكم الخاضع للانجليز. فضلا عن أن اهتمامي بالشعر كان منصبا علي القصائد الوطنية التي كنت ألقيها في المناسبات الطلابية والوطنية. وكان والدي يشجعني ويعلمني منذ صغري طرق الإلقاء، فكنت ألقي قصائده الوطنية والقومية في المدارس والمساجد، بل من إذاعة بغداد في بعض المناسبات. لذلك فإن اهتمامي بالشعر الإنساني والعاطفي كان محدودا، لأنني أعتبره غير هادف في معالجة قضايانا الساخنة. بل ربما كنت أعتبره مثبطا أو محولا الهموم الواقعية والسياسية للجماهير العربية، إلي موضوعات مثالية هلامية، لا تخدم الواقع المعاش، ولكن عندما طالعت بعض قصائد نازك، واستمعت الي هذه القصيدة الرائعة، بإلقاء هذا الشاعر الجليل، فضلا عن شرح والدي لبعض من أفكار الشاعرة العبقرية، وهو الشاعر العمودي المحافظ، والذي لم أسمعه مرة يعجب بشاعر حديث من قبل، كل هذه العوامل أثارت اهتمامي، فحرصت علي مطالعة أعماله بعناية. لذلك ذهبت في اليوم التالي لشرائها من شارع المتنبي، شارع سوق الكتب والثقافة في بغداد، الذي فجرته أياد خبيثة مؤخرا. (انظر مقالة الكاتب حول هذا الحدث بعنوان 'أمة 'اقرأ' تقتل من يقرأ، ذكريات بغدادية عتيقة: بعد تفجير شارع المعرفة والثقافة'، المنشور في هذه الصحيفة، بتاريخ 19/4/.2007

***

أهمية الريادة التي حققتها الشاعرة نازك، حسب اعتقادي، لم تنبثق من كونها سبقت الآخرين في تاريخ نشر أول قصائدها الحرة فحسب. فهي تعترف أن بدر شاكر السياب نشر أول انتاجه في الشعر الحر في وقت يتأخر أسابيع فقط عن نشرها قصيدة 'الكوليرا'. كما تعترف بأن هناك عددا من الشعراء الذين سبقوها في نشر قصائد ومقطوعات تعتبر من فصيلة الشعر الحر، مع أنها لم تكن مطلعة عليها إلا بعد نشر كتابها 'شظايا ورماد'، الذي يتضمن عددا من القصائد الحرة. فضلا عن أنها لاحظت أن أسلوب البندي البغدادي الذي كان معروفا في العراق قبل ذلك التاريخ بفترة طويلة، يتسم بما يمكن اعتباره من قبيل الشعر الحر. والخلاصة فإن الجدل القائم منذ أكثر من نصف قرن حول أحقية نازك الملائكة في الحصول علي شرف الريادة للشعر الحر، ليس له معني، إذا قام علي مجرد تاريخ نشرها أول القصائد الحرة، والتساؤل عمن سبقها في هذا الشأن، ذلك لأننا نعتقد أن هذا المعيار بمفرده لا يؤدي معني الريادة إلا إذا اقترن بمعايير أخري أهم وأجدي منها الوعي بالمبادرة الإبداعية بالإعلان رسميا عن عصر افتتاح الشعر الحر، ووضع نظرية جديدة متكاملة في الشعر العربي الحر.
ومن جهة أخري، فإن كون نازك الملائكة 'امرأة' يثير إشكاليات، كما أري، علي صعيد 'العقل المجتمعي' العربي والاسلامي الذكوري، المتعصب للمحافظة علي مركز الرجل المتفوق علي المرأة في جميع الميادين، ولاسيما ميدان الابداع الأدبي والشعري. لذلك قوبلت دعوة نازك الملائكة الابداعية بالرفض والنقد والهجوم من جانب الكثير من الأدباء والشعراء والنقاد من الرجال. إن هذه النقطة جديرة بمزيد من التحليل والتعميق، في مناسبة أخري.

اخبار الأدب
15 يوليو 2007