لا تحتاج العودة الى المتنبي الى أي ذريعة أو مناسبة، فهذا الشاعر الذي وصف أبو العلاء المعري ديوانه بـ «المعجز» ما زال حاضراً بشدة على رغم مرور أكثر من عشرة قرون على رحيله، بل هو يزداد حضوراً شخصاً وشعراً، وكأن كل الشروح التي تناولت ديوانه وهي تربو على الخمسين منذ القرن الرابع هجرياً أو العاشر ميلادياً لم تتمكن من كشف معانيه كافة أو إضاءة الأسرار التي تكتنفها صفحات هذا الديوان. أما شخصيته فلا تزال ملغزة بما أحاطها من ملامح وخصال لا تخلو من الإبهام أو الغموض.
هكذا تبدو العودة الى المتنبي استعادة لشاعر استطاع ان يخرق جدار الزمن وأن يتخطى القرون المتوالية، فارضاً نفسه في المعترك الشعري الراهن، المعاصر والحداثي، ومرسّخاً شعريته التي لم تتأثر بما تعرضت له من حملات عدائية وبما واجهت من مواقف نقدية. لا يزال المتنبي ظاهرة حيّة، سرّاً من أسرار العبقرية الشعرية، شخصية اشكالية حافلة بالألغاز التي يستعصي سبرها أو إدراكها كاملة.
شاعر المتناقضات بامتياز، شاعر مجبول بالتراب والنار، حكيم لم يسقط السيف من يده إلا في لحظة موته قتلاً، عالم لغة وبيان، رجل آلام وأطماع، شاعر ادعى التنبؤ في ريعان الشباب فاقتيد الى السجن فاستتيب من ثم وتاب، رجل تأمل وثورة، يهيم في الفيافي بحثاً عن المنازعات والمغامرات السافرة، يغوص على معاني الحياة، عبقريته الشعرية لم تقنعه فراح ينشد العلياء والعظمة والسلطان والقوة والمال... متصوفٌ ولكن من غير زهدٍ أو تديّن، رثّاء، هجّاء، مدّاح، متقلّب مثل صروف الدهر، فؤاده من الملوك وإن كان لسانه من الشعراء كما يقول، حياته ممزوجة بالدم والقلق، بالحلم والخيبات، شاعر قديم وحديث يتصرّف في اللغة وكأنه مالكها...
شاعر ينظر الى نفسه نظرة متعالية تحتقر الآخرين أياً كانوا. وقد بلغت جرأته أوجها عندما سمح لنفسه ان يقول إن الأعمى نظر الى أدبه وإن الأصم أصغى الى كلماته وإن الدهر ليس إلا من رواة قصائده... الأبيات التي تفرض فيها «أنا» المتنبي سطوتها العالية كثيرة وقراؤه يحفظونها غيباً ويرددونها. مثل هذه الأبيات لم يجرؤ على قولها شاعر سواه، وقد قالها بصراحة وصرامة ولم تكن وليدة الإرتجال في لحظة من لحظات العنجهية والتبجّح. إنها «الأنا» النرجسية التي تجعل من صاحبها مركز الكون والتاريخ، والنقطة التي انطلق منها العالم. إنها «الأنا» التي حلم بها المتنبي وتخبّط في سرابها.
هل يمكن شاعراً أن يكون عنصرياً إزاء صنف من البشر قُدّر لهم أن يكونوا عبيداً؟ قالها المتنبي جهاراً: «لا تشترِ العبد إلا والعصا معه...». هل يمكن شاعراً أن يحتقر العالم وكأنه «شعرة» في مفرقه؟ إنه المتنبي نفسه الذي قال «بمَ التعلّل لا أهل ولا وطن...» مثلما قال الكثير من الأبيات المحفوفة بالأسى والألم والقلق والحيرة.
لا بدّ من العودة الى المتنبي، الشاعر الذي أراق الكثير من حبر النقاد والشعراء والذي ما زال عصيّاً على الحكم الفصل، وما برحت قصائده تثير حفيظة قرائه، تفتنهم وتخضّهم. ديوانه يتوالى صدوره في العواصم العربية ولا تمضي سنة من غير أن يصدر عنه كتاب أو تصدر له منتخبات. وأنشئ أخيراً موقع الكتروني يحمل اسمه ويضمّ ديوانه والكثير من شروحه.
إنه المتنبي، الحاضر أبداً بأسراره ومتناقضاته، يعيد قراءته شعراء الحداثة العربية، على اختلاف هوياتهم وأهوائهم وأجيالهم.
****
لن أتكلم عن شاعر المتناقضات كما يحرِّض السؤال عن المتنبي. وما دام غير ممكن أن يُهزم شعره حتى اللحظة، فمن الأفضل غض النظر عن تناقضاته (المديح، الهجاء) وتضخم أناه حتى المرض على ما تسألون. المتنبي شاعر عظيم خارج هذه الذرائع، ما دمنا الآن نتساءل عن سر أسطورته، أسطورة شعره أعني، أنا شخصياً تجذبني «أناه» المتضخمة، يجذبني مرضه في هذه «الأنا» ويجذبني انحرافه. «أنا الذي نظر الأعمى...» وحده الذي يقولها، فيما الباقون يضمرونها.
نكتب بالطبع بطريقة مغايرة الآن، سوى أننا نعود الى أبياته مع ذلك، بين وقت وآخر لنتعرف من خلالها على الشرط العالي والمحتوم لكتابة الشعر.
لا تهم هنا فروق أسلوبية، بل تهمنا تقنية أبياته وصفاتها الجوهرية، ونوع الحكمة (الجمالية) التي تصلح لكل زمان، وأيضاً تسند حزناً وصراحة وإن تعاطت الهجاء والمديح في معايير عصره (نفعلهما الآن في عصرنا وإن بطرق ملتوية) وتحت نظر حاسديه وملوكه وظُلاّمه، في الاستخدام الاجتماعي لشكل بعض شعره، وفي اختياره الذي يتحمل عواقبه!
كل الشعر ملتبس في كل الأحوال. كل الشعر مأسوي، حتى الضاحك منه. فعل الشعر بحد ذاته عمل درامي. نغفر للأنا المتضخمة عند المتنبي فهي تليق به.إنها ذاكرته الثانية الممتدة بغموض الى دلالات جديدة في كنه الشعر وأصله، والمتنبي تحديداً هو تلك التسوية بين «الأنا» والشعر. لقد كتبها من دون صبر أو دهاء، الأمر الذي يُضمره كل الشعراء. لا تُمكن تصفية ريادة المتنبي، مداحاً كان أم هجاء أم مريضاً في أناه. مفتونون به حتى اللحظة، إنها لعنة شعره المتشاوف.
****
في نهاية العصر العباسي الأول تحول الخليفة الى رمز لا حول له ولا قوة «خليفة في قفص» كما يقول الشطر الشهير. وانتقلت السلطة السياسية الى دويلات تتقاسم العالم العربي، ويمتد نفوذها وينحسر بحسب الأحوال وحسب مواهب الحاكم وقدراته.
لم يعد هناك بلاط واحد يقصده الشعراء بحثاً عن المال والمجد وتعددت القصور بتعدد السلالات الحاكمة. اضطر الشعراء الى مواجهة هذا الوضع الجديد، لم يكن من سبيل أمامهم سوى ان ينتقلوا من حاكم دويلة الى حاكم دويلة عارضين خدماتهم على من يريد شراءها. وهكذا تحول الشعراء/ الموظفون الكبار المثبتون على وظائف في بلاط أمير المؤمنين الى إجراء يبحثون عن رب العمل السخي كما يبحث البدو الرحل عن المطر.
كل خصائص الشعر العباسي في مرحلته الذهبية تبدو لنا في شعر الشعراء/ الأجراء، إلا انها تبدو مصابة بتضخم شبيه بمرض الفيل. الغلو في المديح اصبح القاعدة الرئيسة التي تقاس بها جودة الشعر، ويكفي هنا أن أشير الى هذا البيت «البشع» لا أجد كلمة أخرى، للمتنبي: «لو الفلك الدوار أبغضت سعيه/ لعوقه شيء عن الدوران».
الغزل في الغلمان أصبح القاعدة العامة التي لا يخرج عنها سوى القلة. زاد شعر الهجاء بذاءة وفحشاً كما زاد شعر المجون مجوناً.
ظهر صنف جديد من الشعراء لم يعرف من قبل وهم «شعراء الكدية» أو التسول، ولجأ هؤلاء الى سلاح الابتزاز. إذا لم يصلحوا على ما يريدون مقابل المديح لجأوا الى هجاء مقزز في إسفافه.
اتجه الشاعر/ الأجير شأنه شأن الأجراء في كل زمان ومكان الى اكثر أرباب العمل سخاء وأصر أصحاب العمل – مثل شيلوك في تاجر البندقية – على ان يتقاضوا مقابل ما دفعوه، ولنا هنا ان نتذكر أن المتنبي تلقى مقابل قصيدة من افضل قصائده ديناراً واحداً. ودخلت القصيدة التاريخ تحمل هذا الاسم: «القصيدة الدينارية» حقيقة الأمر ان المتنبي صور الكابوس الذي عانى منه الشعراء في هذه الحقبة بدقة تتركنا – وجهاً لوجه – امام الكابوس.
حاول المتنبي ان يكون شاعراً/ ملكاً – هل يوجد سبب آخر يفسر إصراره المستميت على ولاية؟ - ولم ينجح. وحاول ان يكون شاعراً/ فارساً ولم يوفق. جرب وظيفة في بلاط سيف الدولة الا انه ما لبث ان ملها. كان المتنبي – شاء عاشقوه او كرهوا – شاعراً/ أجيراً يتنقل بين مختلف أصحاب العمل. كانت النقمة المتأججة على هوان الشاعر/ الأجير هي الدافع الذي قاد حياة شاعرنا الصاخبة الى نهايتها الدامية. الشاعر الذي فشل في ان يكون ملكاً. مات وهو يقاتل كالملوك ولسان حاله يردد:
«وفؤادي من الملوك... وان كان/لساني يٌرى من الشعراء».
لولا كبرياء المتنبي الشهيرة لقال «من الأجراء» ولعل هذا هو المعنى الذي كان في بطن الشاعر. لم يكن ليخطر ببال الشاعر الجاهلي ان هناك فرقاً يذكر بين الشاعر والملك، إلا ان دوام الحال من المحال.
لا بد لنا هنا من أن نتوقف قليلاً عند ظاهرة المتنبي ما الذي حول شاعراً/ أجيراً الى اعظم شعراء العربية في نظر البعض والى واحد من أعظمهم في نظر الجميع؟ وما الذي يجعل منه، في أيامنا هذه أكثر معاصرة من معظم المعاصرين؟ ولماذا يروي الناس حتى العامة منهم، أبياته من المحيط الى الخليج؟ كتبت آلاف الرسائل والبحوث عن المتنبي، ولا تزال تكتب، ومن المستحيل في عجالة كهذه ان أضيف جديداً وان كان بوسعي ان ادلي بدلوي في الدلاء.
كان المتنبي ككل شاعر عظيم قادراً على تصوير النفس البشرية مجردة من قيود الزمان والمكان، لم يكن يصور ضياعه وحده، ولكن ضياع كل إنسان حين قال: «على قلق كأن الريح تحتي/ أوجهها جنوباً أو شمالاً».
ولم يكن يتحدث عن النهاية المأساوية لحب مر به شخصياً بل عن النهاية الفاجعة لكل حب عبر التاريخ حين أعلن: «نصيبك في حياتك من حبيب/ نصيبك في منامك من خيال».
وكان المتنبي يعبر عن شعور كل من جرب هوان الرياء عندما قال: «ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى/ عدواً له ما من صداقته بد».
إلا ان المتنبي بجانب تناغمه مع النفس البشرية المجردة، كان يملك حاسة سادسة، لا نعرف كيف ولماذا جاءت، جعلته وثيق الصلة بالنفس العربية، تحديداً، وبكل همومها وتطلعاتها (ولعل هـذا ما قـصده الأستاذ إبراهيم العريض حين اعتبره ابن العربية «البكر»).
عبر المتنبي بصدق عن ظمأ هذه النفس المتحرق الى الأمجاد. وسخر من قيادات زمنه: الأصنام التي لا تحمل عفة الأصنام، والأرانب النائمة بعيون مفتوحة، ووصف باحتقار الشعوب الخانعة التي ترعى وكأنها قطعان غنم. وتحدث بوجع عن عيش الذليل الذي يتحول الى موت أسوأ من الموت الحقيقي. ولم يتورع عن وصف الأمة بأسرها بأنها أضحوكة الأمم. هل يستطيع عربي معاصر أن ينكر ان هذه المشاهد العربية الأليمة لا تزال أمامنا بعد أكثر من ألف سنة من رحيل الشاعر؟ وهل يستطيع أحد ان ينكر أنه لا يوجد بين الشعراء المعاصرين من عبر عن الفجيعة إزاء هذه المشاهد تعبيراً يرقى الى مستوى المتنبي؟
****
- 1 –
«أنا، في أمة تداركها الله، غريب...»: ذلك هو المفتاح الأول لكي نفهم ظاهرة المتنبي، شخصاً وشعراً. مفتاح «الغربة» داخل «الأمة» – داخل «الجَمع» واللغة التي ينطق بها. غربة «لغة» تُعبر، جمالياً، من جهة على نحو يغاير ما هو مألوف في الحياة اليومية. وتحمل، من جهة ثانية، رؤية للعالم تغاير الرؤية التي تسوده. غربة مزدوجة: فكرياً وجمالياً.
- 2 –
الشاعر / «الغريب»، بدئياً، لا يقيس نفسه بالجمع الذي ينتمي إليه، ذلك أنه «غريب» فيه، وعنه. ثم إن الجمع ليس هو من يكتب القصيدة. وإنما يكتبها الفرد الشاعر.
والشاعر بوصفه خلاقاً لا «يُصلح». إنه، على العكس، «يهدم» من أجل الوصول الى ما هو أجمل وأفضل. حين يكون الشعر «إصلاحاً» يلغي نفسه. والشاعر، إذاً، ليس صوت «الجمع»، وإنما هو صوت الوجود والمعنى، وصوت نفسه عبرهما. وبوصفه كذلك، يجيز لنفسه كل ما يُجيزه فعل الخلق:الوحدة، والتميز، والفرادة. ولا «أَنَوية» فردانية في هذا كله، وإنما هي أنوية الذات الشعرية.
هكذا نرى أن الذات الشعرية التي تُفصح عن «غربتها» داخل «الجمع» وعنه، ليست «تضحية» فردية، أو أنانية، أو «فحولية»، لكي نستخدم المصطلح القديم، وإنما هي ذات «غريبة»، ذات شعرية – رؤيوية.
غير أن ثقافة الجمع، أو ثقافة القبيلة لا ترى من طبقات هذه الذات، المتعددة، المتنوعة، المتصارعة، المتناقضة، إلا الجانب الأكثر التصاقاً بالقبيلة – السطح المبتذل. ذلك أنها لا تقيس الشاعر على الشعر، وإنما تقيسه على الجمع. ولا تراه بعين «الإبداع»، وإنما تراه، على العكس، بعين «الاتباع». وفي قياس الشاعر على الجَمع لا على الشعر، ما يضمر نفيه بوصفه شاعراً، أولاً،وإثباته بوصفه، أولاً، مجرد عضو في قبيلة.
- 3 –
داخل هذه الغربة، عاش المتنبي وكتب، (وقُتل): في الترحل، الى الأمام، في المخيلة. لا لكي «يصل»، بل لكي لا يصل. لكي يخلق دروباً يمحوها، فيما يخلق غيرها. لكي يرى، لكي يظل يقظاً، لكي يحلم، لكي يبقى نبضاً، توتراً، استبصاراً واستقصاء. لكي يلمس، ويُحيط، ويستدرك، ويتقدم. لكي يُغل في فهم الأشياء، في حطام البشر ورُكام العالم، في بهاء البشر وبهاء العالم. لكي يضع السماء والأرض في ثوب واحد. لكي يرتدي هذا الثوب. لكي يزاوج بين المرئي واللامرئي، ويحضر أعراس هذه المزاوجة. لكي يزرع اللغة فتنبت في كل شيء، كأنها عشب الأرض. لكي يقشر اللغة كأنها البصلة الكبرى: البصلة – الوجود. لكي يوحد بين الظل والضوء، النهار والليل، ويكون كمثل إيقاع ينسكب في هذا التوحيد. لكي يستأصل الجدران التي تحول دون الرؤية، والسير، والتحرر. لكي يبقي الفضاء مفتوحاً، والكون بلا حدود. لكي يرفض أن يكون «الجمع» فوق كل شيء. لكي يقول: الانسان الفرد هو سيد نفسه، ووجوده، ومصيره. لكي ينفصل عن عمال القبلية عمال «العقيدة» و «التمذهب» و «التسيس». لكي يضع هو نفسه شروطه غير قابل إلا بها (ألم يشترط ألا يقرأ شعره أمام سيف الدولة إلا جالساً، فكيف، إذاً، لا نرى في «مدحه» له، إلا مجرد المدح له؟ ألم يقل مزدرياً أولئك الذين انتقدوا علاقته مع كافور: «وما كان شعري مدحاً له ولكنه كان هجو الورى» – هجو «الجمع» الذي دفعه لكي يذهب الى كافور). لكي يلغي الخضوع الى ما يقوله «الجمع». لكي يلغي نفسه، إذا ضعفت وخضعت. لكي يلغي الآلة الاجتماعية: السيد/ العبد، العبد/ السيد. أحميك إذا خدمتني/ أخدمك إذا حميتني.
- 4 –
«مدح» المتنبي أشخاصاً كثيرين، لكن ليس لكي يُمجدهم، بل لكي يملأ فراغ الغربة والرغبة. كان في «مدحه» يستبطن تخيلاته. شهواته. ومطامحه، بوصفه رائياً، لا «مستجدياً». كان يستقصي مخيلته – يمتحنها، يرجها، فيما يزن حياته، ويعركها، ويعلو عليها. كانت «مثلنة» الممدوح وليدة البحث عما يحلم به. كانت صورة لذاته في الآخر. كان يتماهى مع الآخر، لكي يصبح هو نفسه الآخر – السيد. كان يعارض نفسه لكي يثبتها فيما يعارضها. كان يخلق فوضاه الخاصة، فيما يخلق نظامه الخاص. وفيما كانت السلطة، آنذاك، رهان العرب الأول، وفيما كان يمتدح بعض ممثليها، كان يعلن رهانه الخاص: «ولا أعاشر من أملاكهم أحداً/ إلا أحق بضرب الرأس من وثن».
في هذا كله، كان المتنبي يهدم الأنا القبلية، والأنا المذهبية. لا ينتمي إلا الى ما يتسع لتناقضاته، ويحتضنه، ويتيح له أن يقيم فيه: اللغة. كانت اللغة وطنه الحقيقي. كانت بيته الحميم. باللغة صاغ مشروعه: تحرير الحياة، جمالياً، وتحرير الإنسان، شعرياً. وكانت السياسة عنده طوباوية إنسانية تؤسس لها طوباوية جمالية – شعرية.
- 5 –
شعر المتنبي قطيعة وانشقاق. فهو مليء بالتمزق، والانتهاك، والمخالفة والحيرة، والمرارة، والتصدع، والترحل، والفسخ، والفصم. مسكون في الوقت نفسه بحسب العظمة التي يسميها بعضهم «فحولة»، فيما هي نقض كامل وجذري للفحولة. فهذه تجسيد للأنا التقليدية القبلية، وشعره هدمٌ منظم للقبيلة والقبلية. وهي، كذلك، «أنا» صغيرة أنا ارتكاس وارتداد، والأنا التي يلهج بها، عالية: انفتاح على الكون. هجوم واقتحام، نحو ما هو أعلى وأبعد.
- 6 –
ثمة ركام من الآراء حول المتنبي وشعره لا تشوه شخصه وحده، وإنما تشوه كذلك تجربته وشعره. وليس سهلاً زوال هذه الآراء. فهي تحتاج الى عمل مزدوج: القراءة – الفهم – النقد، على نحو حاذق وخلاق، من جهة. ومن جهة ثانية، الخرق الكامل للمعايير والنماذج والقواعد والضوابط العادية، المألوفة.
وهذا ما نراه في الثقافات المدنية، في العالم، عندما تدرس شعراءها. فالصفات التي تطلق على المتنبي كمثل «الفحولة»، وتضخم الذات... الخ، لا تطلق، مثلاً، على نيتشه أو رامبو، اللذين يشبهانه، من هذه الزاوية، حصراً. فلا ينظر إليهما إلا بوصفهما خلاقين. العقل هنا شعري – فني. إنه عقل إبداعي. أما العقل الذي «يحاكم» المتنبي فهو عقل «أمّيّ» (نسبة الى الأمة، ولتسمح لي اللغة بهذا «الخطأ»)، عقل فحولي، بوصف الأمة هي، وحدها، «الفحل». عقل لا يرى في المتنبي الشاعر، أولاً، وإنما يرى فيه، أولاً وأخيراً، «الجمع»، و «دينه»، و «انتماءه». عقل «جمعي» (نوع من التوهم)، لا عقل شعري – فني.
«الجمع» خندق مليء بالسلاسل، يتدوّر أو يتكوّر حول «قائده» وطبيعي أن يرفض من يخترق هذا الخندق. أو أن «يقتله»، بشكل أو آخر. وأولئك الذين يقومون بهذا»القتل» إنما هم «حراس» هذا الجمع، اللغويون، أو الناطقون باسمه – نظاماً، وقيماً.
- 7 –
في هذا السياق تقاس الأهمية الفنية والثقافية والإنسانية لشعر المتنبي وتجربته. وتقاس قوتهما وقيمتهما. لكن هذا يقتضي مستوى عالياً من الإدراك والفهم والخبرة الشعرية – الجمالية، كما أشرت، وهو ما افتقده النقد الشعري العربي، ماضياً، ويفتقر إليه اليوم. المتنبي عالم متنوع ورحب يفرض علينا أن نعيد تحديد العلاقات بين الشعر والحياة، الشعر والزمن، الشعر والتاريخ، الشعر والبشر. وأن نجدد فهمنا لمعنى الشعر، ولمعنى التجربة الشعرية.
عندما يعيش بشر في مناخ يهيمن عليه ثلج الانتماءات، وشراسة السياسات، فإن علينا أن نعطي الأولية للخرق، و «الهرطقة»، والتجاوز، للتمرد/ والخروج وما يتولد عنهما أو يصاحبهما من نشوات وانخطافات، وأن نتهيأ داخلياً، نفسياً وفكرياً، لكي نحسن فهم الطرق التي تتيح للشاعر أن يبني نقاط انطلاقه واستدلاله، وعلاماتها، وآفاقها، وكيف يعطي لهذا كله معناه، وكيف يكشف عن هذا المعنى.
ولا بد لنا، في هذا كله، من أن نتمتع بالقدرة على تخيل الشاعر منفلتاً من كل قيد إلا «قيد» الجمال، والإبداع، و «اللغة» يندرج في الكون بمتعة فكرية وجسدية بحيث يبدو كأنه يغامر في هذا الكون خفيفاً، وفي ما وراء كل حد. وفي هذا الإطار يبدو المتنبي مثالاً شعرياً لاسترداد إنسانية الشاعر العربي الذائبة في «الجمع»، و «القبيلة» و «الأمة».
- 8 –
«الكتاب» الذي كتبته مرتدياً قناع المتنبي، إنما هو نشيد داخل «غربته» القديمة وداخل الغربة الحديثة المتواصلة.
نعم، لا يزال شعر المتنبي صامتاً.
«الكتاب» محاولة أولى لجعله ناطقاً.
****
أطرح السؤال مجدداً: من هو المتنبي؟ صورة بأنف محدب، وعينين غاضبتين، وحاجبين منخفضين عند ملتقى الأنف، مرتفعين عند الصدغين. كبير العمامة. مستدير اللحية. مفتول الشاربين: العزم، والتصميم، في زعم الرسم التخيلي على معنى الفراسة العربية. والصورة نصفية، أعني الصورة المعتمدة رسماً للشخصية في متحف من متاحف أرض الشام، أنشأها حبر ملون من مطالع القرن، ثم نحا بها التعميم على سائر الأمصار اقتباساً بسواد على بياض. أما هوية الرجل الشاعر فعلى ضربين، قاسمهما الإرادة والتصميم من كرم ثابت في التصنيف الثابت كالرسم بالصورة. والضربان هما: الفخر بالذات مدحاً للنفس، ومدح الآخر وهجاؤه، وبينهما الحكم خالصاً بطموحه اللامحدود، في شهر فحل.
فلنحاول، في معرض الرواصد البينة، «تفكيك» الرسم الشخصي المدروس النسب في توزيع جوارح الشاعر، النصفية، على الخطوط التي هي إطار تخومها، وحدودها المطلق:
أ - شغف (شاغل) بمدح الآخر نزوعاً الى عطاء ما.
ب - شغف بامتداح الذات.
ج - شغف بامتداح الذات في مرآة الآخر.
د - شغف بامتداح الآخر في ذاته هو.
هذا تحصيل النظر العمومي فيه شاعراً. فهل العناصر، مجتمعة بلا «تفكيك»، يجمعها ناظم لا حدود لفخره بكيانه، أم الأمر يستوجب اعتماد تلك العناصر كما هي، على أساس ترتيب «واقعي» لمكونات المتنبي شخصياً؟
لعل الصفات، التي يحتكم اليها النظر النقدي في تعيين الموصوف، تتطهر من «خيال» النقصان، وتتراكم عناصر الشخصية على نحو يعصف بسياق العقل في المراتبة، فينعقد «المشهد» كالتالي، بالنتائج وبنفيها:
شاغل المتنبي، في مدح الآخر، ليس كسباً لعطاء، على مذاهب المشتغلين بالشعر تكسباً، بل الإقامة في ملكية يزاحم بها ممدوحيه(!). شاغل المتنبي، في مدح الآخر، هو «صقل» المشهد الأنقى معنى كي يخص به نفسه (!). شاغل المتنبي، في امتداح ذاته، «محو» مدحه الآخر بإقامته لصفات هي سقف بنائه المدح لنفسه، وما تحته لسواه (!). شاغل المتنبي، في مدحه الآخر، ميله النزق الى النقض عبر الإبرام المتواصل (!).
فما هي القراءة الواقعية، بألفاظ لا ميل في مسوغ سوقها على عاهن التوصيف الشخصاني، لكل هذا، لو تعلق الأمر بشخص غير المتنبي؟:
أ - النرجسية بإفراط.
ب - النفاق بإفراط.
ج - الانتهازية بإفراط.
د - التقلب بإفراط.
ولربما قيض للدرس ان يعيد مبالغة المتنبي، المتواصلة في توليد «المرافعات» الشعرية عن شخصه، الى شعور النقص المفرط بازاء ما يولده مدح الآخر من «مهانة» داخلية، مردها المعرفة باللاإنصاف الحاصل من قول لا يستقر على مقوله (مدح لا يستقر على ممدوح). والأرجح ان الترف المشمول بالخوض في معنى «القلق» عنده، من مقوضي الوقائع لترتيبها في سياق «الهمة الجسورة»، ونزوع النفس الى «الغامض النبيل»، لا يستقيم في بناء هذه الخاصية، لأنه - بلمس الخيال والنظر معاً - خيبة من تحصيل سلطة لا تستكمل في ظل أي ممدوح. انها معرفته الجلية، شأناً بعد آخر في المدح والتقرب من ممدوحيه الأقوياء، انه ينساق - بإرادة مفرطة في تسامحها - الى قنص في عراء النفوس (نفوس الحاكمين) لا مخرج منه الا بما تهبه متاهته من «استقواء» بالكلمات شحذاً شعرياً، كي تستقيم له أملاً يعرف العاقلون في القراءات انها متخمة باليأس، بل تصير الكلمات، وحدها، حضور ما لا يكونه هو - أي المتبني - المنجرف الى غيابه في المدائح، كونها سلطة إضافية، معنوية، الى سلطة الممدوح الواقعية، التي تحجب ما سواها، وتزدري ما سواه.
****
منذ ما قبل المتنبي حاول الشعراء التمرد بتحرير الرؤية المقيدة، أحياناً بذم الدنيا، أحياناً بعشق الغلمان، أحياناً بالخمر، وحاولوا أيضاً التمرد بإعادة تشكيل الشكل، إما بطعن الطلل، أما بطعن سلم الأغراض الشعرية، إما بجنوح البديع إلى أقصاه. لكن المتنبي لم يفعل أياً من هذه، كأنه يخفي انقلابه عن الأعين، يقوم به في المكان المظلم. كأنه لا يبحث في دولة الشعر عن أساليب جديدة لتطوير الدولة التي لن يعمل فيها، وكأن الشعر قلبه ولن يبخسه، أما عمله فشأن آخر. ألهذا يمكن أن اختار المتنبي صديقاً خصوصاً بعد أن فترت حماستي لأقاويل الحداثة ودعاواها ما دامت تحجب الشعر ذاته، ومنذ ما قبل رحلتي مع القراءة. وغالب الشعراء الذين عاصرتهم لا يميلون إلى المتنبي ميلهم إلى سواه، هكذا صلاح عبد الصبور كمثال، مثله في ذلك مثل الذين سبقوه: المازني والعقاد وزكي مبارك وطه حسين. ومثل آخرين كان المتنبي عندهم يلوح بقلب يشبه قلب نيتشه ورأس على غير مثال، رأس مشوش موتور. وقيمته، أي المتنبي، تنحصر في كونه ذاتاً محمومة وفاعلة، يقدرونها أكثر من تقديرهم لنتاجه. ألهذا يمكن أن أختار المتنبي صديقاً بعدما رأيت عينيه تعملان دائماً في خدمة قلبه، وفي سياق ثالث وجدت أن بعض الشعراء يستهجنون الإعجاب العام بالمتنبي وكثرة حفاظه وتداول أبياته في كل معرض من معارض الاستشهاد والاقتباس، لأن هذا دالة على أنه قد يكون شاعر العوام، فيما هو أيضاً شاعر المناسبة. والعبارة هكذا تخبط أحشائي لشيوعها على رغم أنها حجبت الشعر العربي كله خلف قشرة رخوة اسمها المناسبة. وإذا كان طه حسين قد كشف عن كراهية للمتنبي قابلتها محبة عند محمود شاكر، فإنني أعتقد بأن طه كان يرى في المتنبي تمثيلاً كاملاً لثقافة يشعر طه أنه محكوم بالثورة عليها، تلك الثقافة التي تحتفل كثيراً حسب لغتها برجولة الشاعر القادرة على أن تخرج البيت مخرج المثل، وأن تُحكم التسديد إلى الغاية وتقتصد إلى الحد الواجب وتحسن تخير الألفاظ التي يؤدي بها المعنى وتعرف حلاوة صوغ هذه الألفاظ، وتعليق بعضها ببعض. وكلها معاً اجتمعت في شعر المتنبي لتجعل منه المثال الكامل لثقافة سعى طه حسين إلى تبديل مساراتها ربما من الصحراء إلى البحر، ربما من الشفاهة إلى التدوين. الغريب أن شعرنا الراهن مازال شعراؤه الشفاهيون الذين خامرهم حلم المتنبي هم الأكثر حظوة وإن كانوا أقل إقناعاً من إقناع المتنبي لنا، لأن شفاهة الشاعر الآن تشبه سرج الناقة. كما أن سيف الدولة، ممدوح المتنبي، كان أكثر إقناعاً من ممدوحيهم، أو على الأقل أكثر فهماً لشعر شاعره وأكثر ملائمة، كيف يمكن، إذاً، أن نحرر المتنبي من سلفيتنا الحداثية، كيف يمكن أن نحبه ونحب تناقضاته الغنية، من دون عُقد تدل على تناقضاتنا الفقيرة؟
****
أود بدءاً أن أسجل امتعاضي من صيغة السؤال التوجيهية التواطوئية والمنحازة، معترفاً بأن هذه الصيغة التي احتج عليها، تنسجم في المحصلة مع موقفي الذي عبرت عنه قبل أعوام كثيرة في قصيدة «إعلان نوايا»، وجاء فيها: «وأنا اسألُ ربِّي/ لا تقابلني إذا جئتُ بوجهٍ مستعارْ/ وبشعْرٍ مستعار/ وبشعر مستعارْ/ وأنا أرفضُ تهريجَ أخينا المتنبي/ ورياءَ المتنبي/ ونفاقَ المتنبي/ ولجوء الملك الضليل والوغد امرئ القيسِ/ إلى أقرب غرْ بي/ نحنُ من نبعٍِ،/ ولكنّا افترقْنا .. من مصب .. لمصبِّ!».
إذاً، ثمة اعتراض واضح على مسلكية المتنبي السياسية، بمدح ملوح الفرس ثم الهجاء المرير قبل جفاف مداد المديح، ومغازلة الأخشيدي والانقلاب عليه بلا رحمة وبلا تؤدة، ولجوء الملك الضليل امرئ القيس الى قيصر الروم (أقرب غربي)... وليس في ذلك اعتراض تاريخي مبدئي فحسب، بل فيه توبيخ للكُثر من الشعراء والشعراء الافتراضيين في زمننا هذا، الذين ينافقون ويستنسخون العشر والمسلكية استمالة لأسيادهم الجدد من طغاة العرب وأجلافهم أو من غزاة الغرب وعلوجهم، والذين حوّلوا ما يسمى بالساحة الثقافية العربية الى مكلف لا يشرف أحداً الانتماء إليه، لوفرة ما فيه من رياء ونذالة وصغار.
ولي أن أخشى الخلط بين الموقف السياسي والقضية العشرية، فلا بدّ من التنبيه الى أن «حداثة» المتنبي وامرئ القيس من قبله، تظل أرقى وأنقى وأبقى من كل التهريج الحداثوي السائد في ما يسمى بالحركة الشعرية العربية، والتي هي في رأيي غير المتواضع، ليست حركة وليس شعرية وليست عربية!
وأسأل الله أن يحمي لنا أبا الطيب المتني وامرأ القيس ورفاقهما من فطريات (فطاريش) الشعر، ومسوخ الكلام الشعروي الأشبه بزهور البلاستيك، وقطاريز الطغاة وغلمان الغزاة الذين يوهمهم نقادهم الأميّون بأنهم مبدعون كبار وعظام، وما هم في الحقيقة سوى زبد هرائي يذهب جفاءً، فلا يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس، ويبدو أن المتنبي وامرأ القيس، على علاتهما، أكثر نفعاً من «الشعراء المعاصرين الحداثيين» المستنسخين على طريقة النعجة دوللي... وبالمناسبة، ما أخبار دوللي؟!
****
المتنبي ساحر كلمات، وعرّاف أفكار. ملحميّ اللهجة، وسمفوني التآليف. ناصع الحضور، مغرق في الغياب، جليّ وخفيّ، أليف وغريب، روح صارخة في عنفوان امتلاكها للعالم، وروح منكسرة في أسى انهيارها في مواجهة العالم. البطولة في أوجها والهزيمة في قيعانها. وفي ذلك كله يكمن سر بقائه، وديمومة فتنته للوعي العربي وللاوعي، بقدر واحد.
سره الحقيقي، للعامة، في أمرين: كان حامل القيم والمثل العليا التي تجسد بها الثقافة جوهر حضورها في التاريخ. في زمن الانهيار والتشظي العربي، كان كالحدث الحمراء في صلابة بنيانها، وموج المنايا حولها متلاطم. وأظن هذه الصورة بين أجمل ما جسَّد به المتنبي نفسه والذات العربية المتمثلة فيه وفي سيف الدولة كما ابتكره هو.
أي أن المتنبي كان من هذه الوجهة، وجهة تجسيده للمثل العليا والقيم ذات الديمومة، شاعر الجماعة، صوت الذات الجمعية في بعديها التاريخي والمستقبلي. لكنه – في اللحظة نفسها - كان أضخم ذات فردية في التايخ الشعري العربي. وسحره الحق يكمن في توحد هذين البعدين فيه، مندمجين في لغة شعرية فاتنة، وإيقاع فذ، وذكاء شعري خارق. تمثلت كلها في كونه يصهر الفكر الخالص في بركان الزخم الانفعالي. وذلك سر كل شاعر عظيم بحق: صهر الفكر في الشعور، توحيد الذات الجماعية بالذات الفردية، وتجسيد التجربة والرؤيا في لغة وإيقاع أيقونيين، كما أسميهما. الشاعر الذي يعرف كيف يصف قلعة تبنى شامخة في الفضاء، والرماح تتقاذف حولها، بلغة تقول: «بناها فأعلى والقنا تقرع القنا» فيجسد شموخ البناء وتصارع الرماح بشموخ الألفات وتضارب القافات، ثم ينتقل في الشطر الثاني إلى الواوات وصورة التموج وترطبة التاء والطاء والميم المتكررتين، فيقول: «وموج المنايا حولها متلاطمو» لا يقال فيه إلا أنه يملك عصا موسى السحرية في استحضار المكونات الصوتية والتصورية إلى جسد الفكرة والتجربة والانفعال الذي يتفجر منه الكلام.
الذكاء الشعري سر الشعر الأكبر، وقد أدرك العرب ذلك حين اشتقوا الشعر من الفطنة. والشاعر الظيم شاعر ألمعي الذكاء، والمتنبي كان ذلك، وغيره قلائل. وندرة الذكاء طابع الشعر في زماننا، ولذلك لا ننتج شعراء عظماء بحق.
كان كلٌّ من سميرَيْ المتنبي وخليليه، المعري وأبو تمام، واحد قبله وواحد بعده، مثله في بعد واحد فقط: الأول شاعر فكر وذات فردية لكنه لم يكن سار لغة، والثاني شاعر لغة مترف لكنه ضامر الذات. في المتنبي اجتمع البعدان وتآلفا وتوحداً. ونادراً ما انفصما، وحين انفصما كان شعره عادياً.
للخاصة، سحر المتنبي في لغته الشعرية، وفي اغترابه في العالم، في قلقه، وتمزقه، وإخفاقه، وضياعه، وتناوسه بين شهوة الحياة شهوة السلطة والمجد، وبين الاستجداء للعطف والحب والمكانة. مأساته في عشقه لسيف الدولة، وفي حبه لأخته، وموته التافه -هو شاعر الرماح والسيوف - ولغته المتكسرة حنيناً وتوقاً وأسى وندماً على حبيب أضاعه بصلف أو بحمق، مأساة تبقى. وانتهاكه للمألوف والسائد في اللغة والصورة والعلاقة بين الشاعر والسيد السياسي مالك القوة، وصرخته في وجه السلطة أنه خير من تسعى به قدم، مع افتقاره إلى عطاء مالك القوة، مأساة المعاصرين أيضاً.
في جانب مني، عرفت المتنبي وعشته: عشته أنا ثانية لي، أنا مندغمة بكل الاغتراب والوحشة وانتهاك السائد وعشق اللعب بالكلام وتيه الروح في عالم داكن، وعشته في علاقته السرية بعاشقه ذي السلطان وكونه في لحظة السيد وفي لحظة المستجدي. سلخت عنه قشرة البطولة والذكورة وشهوة المجد وتجسيد القيم العليا، وصوته الجماعي، وكتبته وكتبني متقاطعين متشابكين تائهين معاً، قلقين مع الريح القلقة، مبهمين لا يعرفنا أحد ولا نعرف أحداً. فيه وجدتُني، وفي أنا وجدني في وجودي له. وكنا في عذاباتنا كل منا يندب الثاني ويلوّعه، ويواسيه، وبه يتعزى وبه يستعين على براح، وله يهمس بما لا يهمس لأحد، ويبوح بما لا يباح. كتبته في لغة لينة، هشة، خالية من صراخ البطولات وضجيجها، وفي إيقاع النثر المتكسر الخافت، وبعثرت تجمّع نفسه نثاراً على الصفحات، وكتبته في صفحات سوداء لا كلام فيها. لكن كما أن أحداً لم يفقه ما هو، لم يفقه أحد ما فعلته أنا: ذاته الثانية. تركته يرسم ويدوّن مذكرات مبهمة بقلمه ويتأود في أوج الشهوة لعاشقه السلطان. أفرغته من محتواه المألوف المتوارث، من الفحولة الذكورية في المعركة، إلى الفحولة الصوتية في الكلام الشعر. قلبته عَقْساً على رَقِب. لكن، كما قال هو: لم يَقْفَهْ حَدَأٌ. وذلك أيضاً سر اغترابه في العالم، لا عنه وحسب. وقد جسد هذا الاغتراب والإبهام واللافهم في أعظم «ما» كتبت في تاريخ العربية حين صرخ:
«يقولون لي: «ما» أنت، في كل بلدة و «ما» تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يُسْمَى».
ولو قال: يقولون لي: «من» أنت، لما كان النمتبي ولا ذاتي الثانية.
وقد قلت له: جلَّ أن يُسمى؟ أم جلّ أن يكون يا أحمد؟ فقال: ومثلك يسأل يا كمال؟
وغمزني بعين فارغة ترنو إلى البعيد القصيّ الذي لم يكن هناك.
****
هو ديوان المتنبي الذي طبعه ميخائيل رحمة في الدولة العلية وشرحه اليازجيان ناصيف وإبراهيم، هذا الديوان جالسني وجالسته قبيل الغفوة في الليل شبه الهادئ في قرية بيت شباب وأنا على سريري. وكان الديوان الذي فتحته مراراً وقرأت قصائد منه مرارا،ً وكل مرة هو ملتقى المرارة والسخط على الحياة، على السياسة، على الغزل، على المجد والمناصب، وعلى السفر والترحال.
وكما قلمه جرى طويلاً فإن السيف لم يفارق المتنبي في مساره، إن في الليل وإن في النهار، إن في السلم وإن في الهيجاء، وسائر الميادين.
وها أنا أذهب إذاً إليه، وتنضح لي من الديوان أشياء وأشياء. منها أن البلاغة عند المتنبي، عارمة ومتينة الى أن تصير كتلة من الأبجدية ومن العواطف المتلاطمة، والمتشابكة. ومنها أن المتنبي ذو كبرياء لا يطيق المهانة ولا يطيق الهوان وأنه سريع في بوحه بحيث أنه يرتجل أحياناً من فرط براعته في النظم ومن فرط امتلاكه لغته، وهو أيضاً شديد الحرص على هذه اللغة، ويكاد يكون بطلاً فيها، لأنه طالما طوعها وروضها وأخذها من عمقها الى عمقه، وبها عبّر أفضل تعبير عما به وعما يخالجه من الأوجاع وعمّا يريد أن يبرهنه لمن حوله، للوسط الشعري الذي كان في عليائه وفي مداه الحقيقي وكان الشعراء يتبارون في الأحلى وفي الأجمل، وفي بلوغ القافية التي ترن رنين الإبداع.
ومن علامات المتنبي أنه شاعر السياسة كما يفهمها هو، وكما يتراءى له أنها في خدمة طموحه وما ينبغي أن يكون له من مساحة واسعة إنما تسع مغامرته في الانتقال من حاكم الى آخر، وكاد أن يكون مختصاً بهؤلاء الحكام، ولا سيما سيف الدولة، وهذا جعله ينطق بالقصائد المهيبة في إيوانه، وفي الأمكنة المختلفة والأزمنة المختلفة.
ومن علامات المتنبي أنه حين لا يرتضي الجفاء والبعد عنه والحسرات المتراكمة، يعمد الى الخلاصات، الى الحكمة والى الأمثال، ومن هنا انه في أيامه وفي العهود السياسية، قام بالتأريخ وكذلك قام بالأكثر، فكان ظاهرة في ألم الفراق وفضائل الممدوح وفي أنه يبرد قلبه أو تضربه الحرارة كلما أحس أن الشخص أمامه لا يصعد الى مستواه ولا يكون في أضوائه، في أخلاقه، في مداره الحقيقي، فكان المتألم وما عنده سوى الشعر سوى قصائد القافية التي تصعب أحياناً والتي لا تلائم سواه، بل لا تصادف من القوة والليونة أمراً سواه، وكان يصبّ في مرماه الشعري، نهراً من الغضب ومن البدائع والألوان ليشكل عندئذ خصوصية تسمح له بأن يعلو بها وأن يرتاح في فضائه الى كونه أبدع وقدّم نماذج طويلة من العذاب ومن الضروب الأدبية التي تصل الى مطارح ليست قريبة لمن يشاء.
ويسكر المتنبي بالقصيدة عنده، فهو يشغلها شغل النول والحرير ويربطها بعضاً الى بعض، وعبرها يضع لكل مقام قولاً ومعاني، فهو تارة مرتاح مطمئن، وهو تارة في مأزق العلاقة مع الغير، وحين يصطدم بالآخر غير السويّ له، يرخي قريحته ويسرد الظلم والجبانة والقوة ويرتفع الى السؤدد الى المتطلبات الإنسانية عامة، ويصعب أن نراه في موقع الخطأ أو الانكفاء، بل يلازم فضاءه النقي وحيث تموج أيضاً حشرات الحقد والتلوث، وينضم الى قافلة الشعراء الكبار الذين لهم أناهم، ولهم أنانية العيش والبقاء، ويسابق الوقت ويسابق الشعر، ومن حيث لا يدري كانت له الكلمة التي تستمر في التراث.
وكذلك له الموضوع الواحد، أو جبلة السياسة، أو كل هذه الكومة من الأنس ومن العبارات المتناثرة عنده، وهي التي تمنحه لقب الظاهرة ولقب الشاغل، ولقب المتناقض وهل من نهر يسرح في الطبيعة الا يكون متناقضاً؟ وهل المتنبي الا المتناقض؟ ولم يكن النهر الذي يتجمد، بل سار وشق الجغرافيا الشعرية الى نصفين، يملأ هو أحدهما مع قلة.
وفي الضفة الأخرى هناك العاديون، وهناك الذين ان مدحوا أو رثوا أو كان بوحهم عزيزاً وغزيراً لا يصلون الى درجة مغامرته ومعالم أسطورته. ولذلك نقبل الشاعر ونقبل الإنسان الذي، في النهاية، خطفه سيف الخصم في إحدى الليالي، أما نجمته فإنها تضيء كل التضاريس وكل الوحي.
****
لدي قناعة بأن الزمان هو المقياس الأهم عند النظر الى الإبداع في أي شكل من أشكاله، لأن الصفة الأهم في كل قيمة حقيقية هي أنها لا تسقط بالتقادم، وكل ابداع أصيل يحمل في رحمه بذوراً، تظل حية دائماً على رغم سفرها في الزمن، وهي وإن بدت كامنة إلا أنها في انتظار مياه جديدة لتكشف عن زهورها وثمارها، هذه المياه هي ما تحمله كل مرحلة تاريخية من وعي خاص ومفاهيم جديدة للأشياء.
واذا كان هذا القانون ينطبق على كل أشكال الابداع، فإن الشعر يقف في صداره هذه الأشكال، لأنه – كما يقول أوكتافيو باز – جُبِلَ من عين جوهر التاريخ والمجتمع: اللغة، واذا كان التاريخ لا يتحقق إلا على حسابنا باعتبارنا مواده الخام، فإن الشعر يغيّر هذه العلاقة تغييراً جذرياً لأنه يتحقق على حساب التاريخ، لأن للشعر مهمة واحدة: أن يحوّل (طبيعة) التاريخ.
في إطار هذا التصور، ليس غريباً ما نشهده من احتفاء الأمم العريقة بمبدعيها وفنانيها الذين أسهموا بإبداعهم في مسار حضارتها، أو ذلك الانشغال الذي تبديه تلك الأمم بالبحث في نتاج مبدعيها الكبار واعادة اكتشافهم وتسليط الضوء على مناطق جديدة في ابداعهم مرة تلو الأخرى مستعينين بما تكشف عنه العصور من قوانين وأدوات بحث.
فما من أمة إلا واحتفت بعظيم من عظمائها، تعيد اكتشافه وقراءته مرة بعد مرة، شكسبير عند الانكليز، باشو عند اليابانيين، حافظ الشيرازي عند الفرس وطاغور عند الهند، وغيرهم الكثير، والعرب ليسوا استثناء من ذلك، فلماذا ننظر بعجـب الى ما يمكـن تسميته بحالة الانشغال العربي بالمتنبي! على رغم أنني أكاد أجزم أنه على كثرة ما أنجزنا من كتابات حول شعره وسيرته، فإن المتنبي لم يحظ بدراسات قيّمة ومتعمقة كالتي حظيت بها قامات شبيهة به عند الأمم الأخرى كشكسبير مثلاً.
والغريب في الحالة العربية، هو أن البعض يعتبر الاهتمام بشاعر عظيم هو عودة غير مقبولة الى الماضي، وكأن كل عودة الى الماضي هي تخلّف، كما أن البعض يجد في الاختلاف حول شاعر أو مبدع عظيم مبرراً لرفض الانشغال به، وكأن الاختلاف فكرياً على سبيل المثل مع المتنبي ينفي عنه عظمته كشاعر، وهو أمر عارٍ عن الصحة والموضوعية، فالأصل أننا لا نتبع المتنبي، انما نتبع نهجاً علمياً في النظر الى الأمور، وأن نضع في الوقت نفسه منجزه وسيرته موضع النقاش والدراسة، وما يقره البحث الموضوعي نقره الى ان تنفيه حقائق أخرى، وأضيف الى ذلك أن تجربة صناعة المتنبي لمجده وحدها جديرة بالدرس والتأمل.
ليس الهدف إذاً من تناول المتنبي بالدرس هو إنصافه من عدمه، ولا أن نحاكيـه، بـل الهـدف هو قـراءة الزمان من خلاله والتعـرف على موقـفـنا من هذا العالم، لأن أي محاولة لإعـادة قراءة مبدع عظيم بقدر أكبر من التحرر هي خطوة في سبيل إنصاف أنفسنا، بأن نكـون أكثـر موضوعيـة في قـراءة ماضينا وذواتنا، وأن نتعلم ألاّ نثبت عند رأي ونعامله وكأنه يقين لا يقبل المراجعة، كأن نقول إن الماضي أسود أو أبيض، وانما علينا أن نجلو ما هو حميد ونفصله عما هو غث وسيئ، لنستطيع فهم دورنا في الحضارة الإنسانية.
مقطع القول هنا ان الاهتمام بالمتنبي لا يعني أن نتفق معه في كل ما جاء به، فليس منا من يوافقه مثلاً في مبالغته المرضية بالفخر بذاته، أو في عنصريته، وليس منا من يتبنى الصورة التي رسمها بشعره – على روعة هذا الشعر – لكافور الأشيدي أو لغيره من دون إعادة نظر وتفكير.
إلا أن هذه الصورة لا تكتمل من دون أن نقف على تفاصيل المفارقة الضخمة التي تتجلى لنا عند الإلمام بطبيعة العصر الذي عاشه هذا الشاعر، بما ساده من ترد وتقلب أحوال، وغياب لمنطق الأمور، ووصول نكرات الى سدة الحكم عبر البطش وسفك الدماء وظلم الناس وإشاعة الخوف والرهبة بين الرعية، وهو جو في اعتقادي له أثره في من عاش فيه، وينبغي أن نضعه في اعتبارنا ونحن نعيد قراءة المتنبي لنتعرف على طبيعة الدوافع التي حركته في إطارها الزمني، وهو تحديداً ما قمت بفعله في «يوميات دير العاقول» التي حاولت أن تكون موسوعة شاملة عن القرن الرابع الهجري زاوية انطلاقها ومرتكزها سيرة حياة الشاعر العربي الكبير أبو الطيب المتنبي، لأعيد من خلالها «تركيب العصر» بحيث لا يعود الزمان مفككاً كما ورد في الكتب، السياسة في جانب، والأدب والاقتصاد والمجتمع والشارع كل في جانب، بل تتبعت تلك الخيوط التي صنعت ذلك النسيج.
يبقى السؤال: ولماذا المتنبي؟ لماذا هو الشاعر على رغم ما أثاره من جدل وما حظي به من اتهامات! ولا أجد رداً على ذلك سوى اقتباس ما قاله أوفيد في خاتمة رائعته «التحولات» مخاطباً جوبيتر، لأن المتنبي سيظل حياً بشعره مهما اختلفنا معه أو حوله. يقول أوفيد في خاتمة رائعته «التحوّلات»:
«أتممتُ الآن عملاً/ ليس في مقدرو جوبيتر هدمه،/ لا اللّهب، ولا الحديد، ولا الزمن الذي لا يشبع./ فليأتِ اليوم المحتوم متى شاء،/ لن تكون له حقوق إلاّ على جسدي،/ فليضع حدّاً لمجرى حياتي الغامض:/ الجزء الأنبل فيّ سينطلق، خالداً، سيسمو على الكواكب، وسيكون اسمي عصيّاً على الفناء./ وأينما توغلت روما،/ بعيداً في الأرض التي تسودها،/ ستقرأني الشعوب،/ أنا الذائع الصيّت./ ولئن صدق حدسُ الشعراء،/ سأحيا على مدى الزمان».
****
تتلخّص مفارقة المتنبّي المأسويّة بعدم اكتفائه بفرادته الشعريّة وإصراره العنيد والمُهين على إردافها بمكانة في السّلطة السياسيّة. هي حالة أنموذجيّة، بما تتمتّع به المفردة «أنموذجيّ» من ازدواج تأسيسيّ أشار إليه دريدا في غير موضع. فهو أنموذج فريد في التّعبير عن حالته الخاصّة، ولكنّه يطرح أيضاً نفسه قدوة تُحتذى ومثالاً يُنسَج على منواله. وبالفعل، طالما تكرّر مثال المتنبّي في تاريخ الأدب العربيّ القديم والحديث، ونحن نجد بين معاصرينا من تبلغ لديهم حالة المتنبّي، حتّى لا نقول عقدته، حدوداً من التّكرار واقتفاء الأثر تُشعر المراقب بأسف ورأفة عميقيَن.
مبعث الأسف والرّأفة هو أنّ هذا التّكرار يحاكي بما يشبه الملهاة سلوكاً شكّل في حدوثه الأوّل، بحسب عبارة ماركس، حالة مأسويّة. ينبغي أن نحشّد كل معارف التّحليل النفسيّ، في صيغته الفرويديّة الأرثوذوكسيّة أو في صيَغه المنقَّحة، على يد رنيه جيرار مثلاً، لنفهم سرّ هذا الانجراف وراء سلطة متلمّصة وزمنيّة ينجرّ إليه كائن أسلسَ له الفنّ قياده بصورة مدهشة.
ذلك أنّ في طمع المتنبّي بمنصب يأتيه من سيف الدّولة أو من كافور عمى عن قوّته الشعريّة وطمعاً بقوّة الآخرين. إنّ ذكاء مختلاًّ وموهبة فاسدة يصوّران له أنّ «سعادته لن تكتمل إلاّ متى باركتْها نظرة الآخرين» (ريلكه). شهوة السّلطة كمناسبة لنيل الاعتراف تجد في نظرنا أحد تنويعاتها في شهوة الاعتراف الكونيّ والإقرار العالميّ التي يجنّد لها بعض الأدباء العرب اليوم طاقاتهم، وتجبرهم على إسداء خدمات معلنة أو مخفيّة لأكثر من سلطة، وعلى أن يتحوّلوا هم أنفسهم إلى سلطة أدبيّة أو إعلاميّة أو مؤسّساتيّة تهمّش المتمرّد وتستعبد القريب. وكلّما اتّسعت رقعة الاعتراف المرحليّ تعمّقت المسافة بينهم وبين الفنّ، بصورة تبشّرهم بزوال قريب ومأسويّ يعملون هم كلّ شيء لإزالة شبحه ولا يفعلون في الحقيقة إلاّ أن يزيدوه قرباً. ذلك أنّ ما فاتَ ماركس أن يلتفت إليه في عبارته الشّهيرة هو أنّ الملهاة تتحوّل بتكرارها إلى مأساة. ووراء هذا كلّه (وليس يتّسع المجال لبلورة هذا التّحليل) يقف فقر قديم لم يقبل به صاحبه أو مَن كان ضحيّته، وعمى عن سلطان الفنّ وإهانة له على أعتاب سلطات أخرى.
هو مسار متعثّر يتبعه محرومون كثيرون من أعياد الطّفولة ووجاهة الأصول. يرى فرويد أنّ تكرار المأساة - الملهاة وتفاقم الجراح النّاجمة عن هذا الوهم المضني يهبان المرء الواقع في هذا الفخّ الأليم، إذا كان فطناً وفنّاناً حقّاً، صحوة تدفعه إلى تغيير مساره والاضطلاع بفقره والاكتفاء بالحظوة التي يقيمها له الفنّ في حاضره وفي ضمير الأجيال. لا نعرف إذا كان المتنبّي، لو طال به العمر وأخطأه سيف ابن أخت فاتك الأسديّ، مهجوّه القديم، سيحقّق مثل هذه الصّحوة ويطلق العنان لعاطفته التي بقيت ملجومة في مجمل شعره، لا تتفتّق عنها إلاّ أبيات معدودة. لكنّ في البطء الذي يبديه بعض معاصرينا في تحقيق مثْل هذه الصّحوة ما يجعلنا نأسف لعالَم الأدب ونأسى لأنّ درس فرويد الأساسيّ هذا لا يلقى تطبيقه إلاّ في ما ندر.
****
إذا كان من سر لأسطورة المتنبي فهو لا يعود الى عنصر التفوق الفني. فأبو تمام مثلاً كان الأفضل في نصاعة التعبير الشعري ودقة أدائه والقدرة على إغنائه بروح التجديد والاغتراب، والبحتري كان الأحسن في السبك الغنائي الجامع بين الرقة والسهولة والجزالة، حتى لقد اعترف المتنبي نفسه بذلك حين قال: «أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري»، فبماذا إذاً تجاوز المتنبي هذين بل كل أقرانه من الشعراء العرب؟
السر في اعتقادي كامن في الطاقة الشعرية التي استطاعت أن تتمثل الى حد بعيد الروح الوجدانية العربية كخصوصية جماعية كونتها منذ القدم عناصر الحياة البدوية في الجاهلية والتي بدا المتنبي حيالها وكأنه الشاعر الوحيد الذي استطاع أن يمتص هذه الخصوصية أكثر من غيره بعد ثلاثة قرون ونيف من تحولات الحضارة الجديدة لمجتمع التمدن الإسلامي ويعبر عنها بأسطع تجلياتها في موضوعي «البطولة» – كما لدى الشعراء الفرسان في الفخر بالذات أو بالقبيلة – و «الحكمة» الناجمة عن الخبرة الحياتية والممارسة أكثر من الثقافة الفلسفية. وحده المتنبي هو الذي حافظ على هذا الرمز التقليدي للبطل العربي للبدوي العريق، والحكيم الخبير حتى في سياق مدائحه ومراثيه وأهاجيه وكأنه يلخص في شخصه، وسيرة حياته وموته، وفي شعره البداوة الجاهلية التي لم تفارقها روحها في أعماق اللاشعور الوجداني العربي. إن العرب لا يسحرهم شيء مثل كاريزما البطل في السياسة كما في الشعر. فلا الأخطل ولا الفرزدق ولا بشار ولا ابن الرومي ولا أبو تمام ولا البحتري أو المعري وأبو فراس والشريف... ليس أي من هؤلاء وغيرهم كان يمثل الرمز الذي قدمه المتنبي عن نفسه شاعراً وشخصاً... إنه باختصار الخلاصة المكثفة لأعمق ما في ذائقتنا الشعرية الجماعية وخصوصيتنا القومية ذات الطابع البدوي وقد واتتها الموهبة الكبيرة كي تجد تعبيرها الأفضل عن وحدة لا مثيل لها بين الجماعة والفرد أو بين الأمة والشخص الموهوب فنياً.
****
لا أعـرف إذا كان المتـنبـي ما زال يـشغل السـاحة الشعرية العربية، في هذا الزمن الذي تراجع فيه كل شيء، وتقطعت أوصال الثقافة بأزمنتها وسيرورتها. والسؤال لو طرح استطلاعاً حتى على الشعراء والمثقفين والطلاب وبعض الدكاترة: من قرأ أو من يقرأ المتنبي، وحتى من «يعرفه» أو يتذكره؟ وقد تكون النتيجة كارثية! بعضهم حفظ للامتحان، وآخر للتدريس، وآخر احتفظ بصورة من الكليشيات المعروفة عن المتنبي، ومن ضمن وضع الشاعر خارج القراءة النقدية، المتحراة، المتفحصة، المنقبة.
لكن افتراضاً ان المتنبي ما زال يشغل الساحة العربية من خلال مقولة «مالئ الدنيا وشاغل الناس» (ولكن أين)، لا سيما عند قلة القلة، فإن ذلك يعود بالدرجة الأولى الى قوة شعره من ناحية، والى شخصيته «الدرامية»، المتقلبة، النرجسية المدفوعة بالطموح الشخصي. ولهذا فالكلام على «مشروع» سياسي عند المتنبي كلام ربما أبعد منه. ذلك أن الشعر السياسي هو من صلب الشعرية العربية منذ الجاهلية (النابغة، عمرو بن كلثوم... امرؤ القيس...) وحتى العصور العباسية مروراً بالراشدية والأموية وبعض الهوامش كالخوارج والصعاليك... ولهذا من الطبيعي أن يشتغل المتنبي في السياسة من ضمن سقوف الموروث والبلاط أو السلطان أو من ضمن هاجس التكسب، والارتزاق، وليس ممارسة لمشروع. فالمتنبي كان مشروع نفسه، عمل كل شيء لتحقيق مشروعه: الإمارة هنا أو السلطة هناك أو المال هنالك. ولا نظن أن الأمر يختلف في هذا المجال إلا نسبياً بين تعاطي شاعرنا مع سيف الدولة ومع كافور... مع تفاوت «التقدير».
من هنا نفهم نرجسيته أيضاً. وهي من ناحية كانت جزءاً من شعرية «الفخر» وهي كانت باباً من أبواب الشعر، (من الفخر الجماعي (القبلي) الى الفخر الفردي). على ان نرجسيته هذه كانت أيضاً جزءاً من النرجسيات العمومية عند الشعراء. ولكن المتنبي ذهب أبعد من ذلك. ذهب أبعد من «أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي...» الى «ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود»، فهو يتماهى مع المتنبين، (تيمناً بلقبه)، ولا ننسى تماهي أو ذوبان أو حلولية الصوفيين بأمته أيضاً.
ومن ضمن الشعرية العربية كانت المناسبات أيضاً (أصلاً كل شعر هو مناسبي بشكل أو آخر). كل الشعر العربي القـديم تقريـبـاً مناسبي. وهذا لا يغير المتنبي، سواء في مدحه، أو هجائه... أو رثائه لأنه كان من ضمن الموروث السـائـد. لكن تكمن قوة المتنبي انه شحن المناسبة بأبعد منها. ربما تحولت معه، من أفقها الخاص (النرجسي) الى ما هو أبعد منها وصولاً الينا (والعكس صحيح). وهذا تحديداً ما يـشيـر الى ان شعرية المتنبي هي التي ميزته أو أفردت له الحيز الخاص بين الشعراء، مئات الشعراء مدحوا، ورثوا، وهجوا، وتكسبوا. لكن كانت «المناسبة» أو الوسيلة دون شعـريـة المتنبي، كل ذلك يـعني ان سر أسطورته يوحي أبعد من شعره الى شخصه؟ ربما!
فالطريقة التي قتل فيها المتنبي كانت «مفارقة» تدل أكثر من سواها على متناقضاته: فهذا الشاعر الطموح، المتزلف، المتكسب، المتقلب، (والعظيم في تقلباته)، قتلته قولته «الخيل والليل والبيداء تعرفني...». فهذا الذي لم يعن دائماً ما يقول لا سيما في مديحه (مدح كافور بأكثر من 12 قصيدة!)، ها هو ينضم الى قوله (النرجسي) وهو يفتخر بنفسه. ربما كانت رسالته الأخيرة هذه ان الشاعر تحييه قولته وهي تميته. وهذا يعني، بشكل أو آخر، نوعاً من «التزام» الذات، والتزام قيم متصورة أو وهمية عن الذات. (فالكلام عن الذات قد يكون كله مجرد تخيل لا سيما السر الذاتية). لكن الثمن هنا كان فادحاً! حيث ارتجل المتنبي فكرة عن نفسه وكان ضحيتها. بمعنى كأنما ارتجل نصاً مسرحياً عن نفسه، وأراد أن يلعب الدور حتى النهاية «كناطح صخرة». هنا بالذات يمكن ان نحار في أن نرى هذا الشاعر «ميلودرامياً» أو تراجيدياً! ربما يكون الاثنين معاً! وربما عبرهما أقرب الى العبثية. ونظن ان المتنبي على رغم كل شيء هو شخصية عبثية بامتياز. وهنا المفارقة أو سواها: يجسد الشخصية العبثية التي تحركها تراجيديا سياسية أو ذاتية أو حتى وجودية، فهذا ما يقربنا من المتنبي. فلا فخره، ولا مديحه، ولا تقلباته، إنما هذا الحس المتلاشي حتى العدم بالأشياء.
وربما مبرر هذا الحس العبثي كل تصرفاته، ذلك انه ما كان ليرى في هذا العالم سوى شخوص وديكورات وأدوار زائلة غير معقولة لا أكثر ولا أقل. لكن عبثيته من النوع الذي يضع صاحبه دائماً على حافة الهاوية. أي على حافة التراجيديا... أي مصارعة واقع عبثي بسلاحه أحياناً، وبالتواطؤ أحياناً أخرى، ومواجهته وإن عرف أو أحس بأن المواجهة خاسرة سلفاً.
المتنبي، اليوم، كأنه سر من أسرار التراجيديا التي تلازم الشعراء والكتاب والناس الكبار.
أو ليس هذا ما يفسر ان المتنبي لم يكن يجد نفسه (في حقائقه الداخلية) إلا في لحظات الهزيمة... ورثاء الذات والعالم والخيبات؟
فلنتذكر «عيد بأية حال...» ونتحرى هذا النص لنجد كم كان المتنبي كائناً تراجيدياً حتى الغربة أحياناً... لكن حتى الهاوية أكثر فأكثر!
بهذا المعنى لا يمكن إلا أن أرى المتنبي شاعراً ملعوناً... بكل ما تعني العبارة من تفلّت وعدمية ونرجسية وجنون وسخرية حتى الانتحار!
ألم يكن عصره (العصر العباسي الرابع) يطل على آخر الهزائم العربية، وسط التفكك الشامل، والسير نحو التلاشي والهزيمة!
فلماذا لا يكون المتنبي نيغاتيفاً لهذه الصورة العمومية المتفككة، المتلاشية، العبثية لكن من ضمن مواجهة دونكيشوتية تضاعف عدميته... وتراجيديته ونرجسيته!
أوليست هي حالنا جميعاً في هذه المرحلة؟ أوليس لأننا نعيش ما عاشه المتنبي في أزمنة «الأفول»، والانهيارات، نتماهى به، بكل تناقضاته، وشغفه وجنونه وأنانيته كشروط ما... لحماية الذات أو لعنة العالم! ولا جدوى... هذا الكائن الهش؟
****
لست مطمئناً لما تعودنا أن نقوله عن المكانة التي يحتلها المتنبي في الشعر العربي، خصوصاً حين يعتقد البعض أن هذه المكانة ثابتة، وأنها لم تتغير في هذا العصر عما كانت عليه في العصور الماضية.
وأنا لا أشك في شاعرية المتنبي، ولا أنكر شهرته العريضة، لكني أنكر مبالغات المتحدثين عنه، وأشك في ما يدعونه عن إعجابهم به ومعرفتهم إياه؛ لأن معرفته تتطلب علماً وذوقاً لا يتوافران دائماً ولا يجتمعان إلا للقليل النادر من الناس، وأغلب الظن أن أكثر من يتحدثون عن هذا الشاعر يرددون ما يسمعون، ولا يرون ضيراً في هذا، لأنهم يشهدون للمتنبي بالفضل، ويشهدون لأنفسهم بمعرفته.
وقد سمعوا بالطبع أن المتنبي ملأ الدنيا وشغل الناس، فهو إذن أكبر شاعر عربي ليس في الماضي فحسب، بل في الماضي والحاضر والمستقبل أيضاً؛ لأن الماضي في نظر هؤلاء - كما في نظر المتنبي - هو شباب الزمان، أو هو العصر الذهبي الذي لا يفوقه ولا يساويه أي عصر لاحق، والظروف التي ساعدت على ظهور المتنبي لن تتكرر، والأسطورة تكتمل بهذا الاسم الفريد الذي رضيّ الجميع بأن يحمله المتنبي، كأنما هو حق له وحده أن يدَّعي النبوة!
وشكي في حقيقة المكانة التي يحتلها المتنبي في الشعر العربي ليس مرده الشك في قدرة الكثيرين على قراءته فحسب، بل مرده أيضاً الشك في قدرة المتنبي على أن يفوز بإعجاب الجميع وخصوصاً المعاصرين. لأن المتنبي يقدم لنا في معظم قصائده نوعاً من الشعر لم يعد قادراً على مخاطبتنا في هذا العصر. نوع من الشعر يقوم على حفظ المسافة الفاصلة بينه وبين موضوعه وبينه وبين قائله، فمن الطبيعي أن يقيم هذه المسافة بينه وبين القارئ في هذا العصر.
الموضوع في شعر المتنبي - وفي معظم الشعر القديم - هو الآخر البعيد بوجوهه المتعددة الإيجابية والسلبية التي يكون فيها مرة ممدوحاً، ومرة مهجواً، ومرة مرثياً. وهو بوجوهه كلها ليس شخصاً بالذات، وليس حتى إنساناً، وإنما هو نموذج، نموذج للخير والنبل والجمال إذا كانت القصيدة مديحاً، أو للشر والخسة والقبح إذا كانت هجاءً.
والمتنبي لا يتورع عن أن يجعل ممدوحيه آلهة قادرين على كل شيء. وأن يجعل مهجويه أرانب وغنماً وكلاباً. وبما أنه لا يتحدث غالباً عن إنسان ولا يتعاطف معه وإنما يتتبع صفات النموذج المقررة سلفاً فهو قادر على أن يهجو من مدحه من قبل وأن يمدح من هجاه.
شعر المتنبي شعر محفوظ أخذه المتنبي عن الذين سبقوه. لأن الإبداع في زمنه لم يكن خلقاً جديداً، وإنما كان إعادة صياغة. والشعراء والبشر عموماً في زمنه لم يكونوا أفراداً وإنما كانوا عشائر وقبائل تنتمي لأصل أسطوري يراه أهله نموذجاً في النبالة، ويراه أعداؤهم نموذجاً في السفالة. هذا النموذج بوجهه هو موضوع الشعر القديم، وهو لغته أيضاً التي لا تنسب لشاعر فرد، وإنما تنسب لكل من يحفظونها ويعيدون إنتاجها. فإذا أردنا أن نضع أيدينا على سمات فردية في الشعر القديم فلن نجدها إلا عند الشعراء الذين انفصلوا قليلاً أو كثيراً عن جماعتهم وتحدثوا عن عوالمهم الخاصة كأبي نواس والمعري، والصعاليك والفُتاك، والخوارج، والمُجان، والمتصوفة.
وأجمل ما في ديوان المتنبي وأبقاه تلك المقاطع والأبيات المتناثرة والأمثلة السائرة التي يحب فيها ويكره ويتأمل ويتذكر، ولا شك أن هذا الجانب من شعره يضعه في منزلة رفيعة بين الشعراء العرب، لكنه لا يجعله أكبرهم.
****
تنتابي مشاعر متناقضة حيال المتنبي، إدراك عبقريته الشعرية وغموض مقاصده، وضيقي بما يمكن أن نسميه «تسوله» بالشعر، ووضع عبقريته الشعرية في خدمة أغراض وممدوحين لم يكن يمكن ان يذكرهم التاريخ لولا انهم وردوا في شعره. انسوا سيف الدولة، كافور، أبا العشائر، هؤلاء كبار قياساً بـ «مختاري» قرى ودساكر مر بها المتنبي في رحلته الغامضة وترك لنا أسماءهم في مدونته الشعرية المبكرة.
يأخذ السؤال على المتنبي وضع طاقته الشعرية في ما هو «غير شعري». ولكن هذا فهم يحاكم منجز الأمس بمفاهيم اليوم. وذلك لا يجدي نفعاً في فهم ظاهرة المتنبي ولا الشعر العربي القديم. فنحن نملك اليوم مفهوماً للشعر يبدو الشعر العربي القديم، في منظوره، متخلفاً، بعيداً من مقاصد الشعر الكبرى، مجرد مهارات لغوية وبلاغية. لكن العرب لم يفهموا الشعر على هذا النحو. علينا ان نتذكر ان العرب، بعد قيام امبراطوريتهم الممتدة من الهند الى جبال البرانس اقبلوا على نقل علوم السابقين من دون شعور بالنقص، بإحساس حقيقي الى حاجتهم لتلك العلوم والفلسفات ولكنهم، قط، لم ينقلوا شعر غيرهم. كانوا يرون ان الشعر لعبتهم وفنهم. انه، في نظرهم، الابن الطبيعي للغتهم. لغة الشعر. فالعربية، في ذلك الفهم، كانت هي لغة الشعر، والعرب هم أمته. هذا يفسر لنا، ربما، لماذا نقلت فلسفة اليونان ولم ينقل الشعر اليوناني... لذلك كتب الشعر العربي في ذلك الفضاء. انه سابح وحيد في فضاء شاسع.
وجود المتنبي على قائمة القراءة والتداول العربيين طوال هذا الوقت ليس بلا وجاهة، وليس بلا سبب. أحتار، شخصياً، في فهم حضور المتنبي عربياً في كل العصور التي تلت ظهوره كالبرق الخاطف في التراث الشعري العربي: هل هو تلك اللغة المنحوتة، قوة الصوغ، تبلور الشخصية واعتدادها، الغموض الذي يطبع المقاصد «الحقيقية» لشعره ومسعاه، حكمته حيناً، حزنه حيناً آخر، اختراقاته النفسية الساطعة، الفخامة المخيفة لبلاغته؟
قد تكون كل تلك العناصر مجتمعة. قد تكون، أيضاً، وقع شعره على واقع حال لم يتغير كثيراً. مناسبة بعض شعره لواقع متلقيه في لحظات تخلخل كيانية كبرى. لعله، كذلك، تضارب الروايات حول شخصه. لكن المؤكد ان شاعراً عربياً غيره لم يحظ بهذا الحضور قط. ولا يمكن ان يكون كل هذا الحضور مجرد صيت أجوف. المؤسف ان الدراسات العربية التي تأخذ بالمناهج النقدية والمعرفية الحديثة قليلة عن المتنبي. شخصياً لم أجد (وقد أكون مخطئاً وغافلاً) دراسة عربية تتجاوز ما جاء به الفرنسي بلاشير. من الممكن ان تكون مثل هذه الدراسة موجودة ولكنها لم تستطع ان تكون، في فضاء التلقي العام، صورة أخرى عن المتنبي.
****
لا أفهم لماذا هذا التساؤل بالصيغة التعجبية الاستنكاريّة أحياناً عن ديمومة شاعريّة أبي الطيّب قرابة عشرة قرون! وكأن العرب وحدهم يملكون ظاهرة كهذه، أليس هناك شكسبير الذي لا يزال يُمثّلُ ويُحفظُ على الغيب لدى طلبة المسارح والأدب في كل أوروبا والعالم أجمع؟ أليس هناك سرفانتس في اللغة الاسبانيّة وهل أتوقف عند هذين الاسمين لكي لا أملأ الصفحة بأسماء رديفة من كل ثقافات ولغات العالم؟ أم تراني بمثل هذا التساؤل أعود إلى شعر أبي الطيب نفسه الذي يقول: «وتعظم في عين الصغير صغارُها وتصغرُ في عين العظيم العظائم...».
إنها مسألة طبيعية في تعريف الشاعر العظيم، إنه الشاعر الذي يخترق اللغات والأزمنة والأمكنة وبهذا المعنى فإن عظماءَنا الأقدمين هم من وصلوا إلينا وما أكثر من سقطوا أمام ممحاة الزمن وعوارض التعرية المكانية والتأريخية التي تحفل بها ثقافتنا. وإذا أردنا أن نقترب أكثر من نص المتنبي لنعرف سببَ عظمتِه وسرَّ تَجدُّده فإنني أعتقد أن الأمر يكمن في أن الشعر العربي بعد المتنبي لم يعد كما هو وذلك لأنه عرف كيف يتمثّل الفكر والمنطق اليوناني التي كانت حديثة الترجمة ويمزجها بعنفوان العاطفة والغنائية البدويّة ولا علاقة لكل هذا بالغرض الشعري مدحاً أو ذمّاً، غزلاً أم عتاباً. إنّ أيّ موضوع مهما كان مبتذلاً أو مطروقاً يمكن أن يكون مادّة لنص عظيم إذا كان المبدع قادراً على بعث كينونة جمالية بدمها وروحها عبر اللغة وحسب. ألم يعشْ الفن الأوروبي منذ القرون الوسطى في أحضان الكنيسة والملوك والأمراء ولكن هل مَنعتْ الكنيسة أو الملكيّة من بزوغ ميخائيل إنجلو وهل اعترض بلاط فرانسوا الأول ملك فرنسا عبقرية ليوناردو دافنشي؟ ثم القول «إن المتنبي يفخر بنفسه لدرجة تخرج عن المنطق» أجل ولكن ذلك شأن الكبار كل الكبار، ألم يكتبْ هوغو عن ميلاده بأنه جاء مثل الزمن بكامله وأن القرن التاسع عشر ولد قبلَهُ بـ «عامين»؟ ثم ألم يكتب هيدجر عن هولدرلين قائلاً «إنه يتحدث عن الجبال والأنهار مثل إله»... والكوميديا الإلهيّة لدانتي أين نُصنّفُها في فن الكتابة من حيث وصفِها الدقيق للعالم الآخر وأين نضع دانتي «خالق» هذا العالم في اللغة الايطالية؟
وأخيراً، المتنبّي متناقض لأنه حقيقي.. إن من لا يتناقض هو الزائف الذي يظنّ أنه يملك الحقيقة أو يُموَّهُ لذلك لأن الحقيقة ليست في متناول إنسان قط. وعلى أي حال ليس على الدوام. وكما قال لي بيكيت في لقاء أخير معه قبل أن يموت «إنني صامت الآن أو أكاد، ذلك لأنني أقترب من الحقيقة.. وعندما أدركها أو تدركني سيحل الصمت المطبق». ولهذا فإن المتنبي بالنسبة لي هو كما قال نيتشه، «لا شيء غير شاعر» وفي هذه «اللاشيء» النيتشويّة يَكمُنُ كل شيء.
****
لا أوافق على أن المتنبي كان شاعر المتناقضات بامتياز، بل أراه شاعراً قرر ان يبحث عن حقيقته الإنسانية عبر شعريته المتقدة والتي أرهقت طموحاته المستحيلة في السياسة والحياة في خضم واقع تاريخي مرير عاش تفاصيله المتناقضة مرغما في كثير من الأحيان.
وما بيته الشهير: «أنام ملء جفوني عن شواردها / ويسهر الخلق جراها ويختصم...» إلا تقرير لتلك الحقيقة الخالدة إلى الأبد ليس بوصفه الشاعر الأكثر خلوداً في تاريخ الأمة التي تباهي الأمم ببلاغتها الشعرية وكأنها لا تملك سواها مادة وحسب، بل أيضاً بوصفه الشاعر الأكثر احتفاء بتلك الشعرية والأقدر على ترسيخها في الوجدان العام سلوكاً وقصيداً.
قال المتنبي هذا البيت تحديداً، كما أرى، ليدفع به مظنة الآخرين، وشكوكهم التي أرهقت إنسانيته الطموح، وعطلت الكثير من مشاريع حلمه المستحيل والذي قاده في النهاية نحو الهلاك المنتظر والمتوقع من قبله حتى قبل أن يتوقعه الآخرون المنتظرون بدورهم لنهاية غير نهائية. فقد بقي المتنبي، رغماً عنها، شاهداً على ملامح الساسة الخفية وهم يتداولون حيواتهم على كراسي الحكم متقلبين في المواقف ومنقلبين على الأعراف والموروثات.
لقد نام المتنبي ملء جفونه عن شواردها فعلاً، ولكنها لسوء حظه آنذاك فقط، وحسن حظه وحظنا، دائماً، كانت مجرد لغة، أو مجرد كلام، لم يتعد حدود ذلك الحلم الجميل والنبيل، والذي لم يتحقق كما رسمته الأبيات الشعرية الكثيرة، وكما فصله الشاعر الذي ملأ الدنيا العربية وشغل ناسها بقصده وقصيده. وظلت تفاصيله القاتلة زاده وزواده في وحشة الطريق الذي قطعه ماضياً نحو لذة السلطة المشتهاة منغمساً في تفاصيلها السرية وذاهباً ضحية لمكائدها ودسائس أهلها، غير مدرك، أو لعله أدرك متأخراً أن جمر الشعر لا يمكن أن يدفئ كهوف الساسة الجليدية.
لا انظر لمديح أناه على أنه أنانية، ولكنني أراه جهاده الشخصي في سبيل تحقيق شخصيته وفقا لحدودها الشعرية والإنسانية، والذي لم يكن في حاجة اليه في كثير من الأحيان، وهو يملك هذه الشعرية الفذة والتي حققت شخصيته الشعرية والإنسانية أخيراً على رغم أنه مات على تخوم بيت شعري، كما تقول حكاية موته، وحيداً، شريداً، مرهقاً، متعباً، ذاهلاً عن بقايا الحلم، مندهشاً بالمآل الأخير... وربما يائساً من هذه الأمة برعاتها ورعيتها..
المتنبي الذي «تجرأ» - وفقاً لسؤال الحياة - على القول: أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي، كان ينبغي له أن يتجرأ، هنا، في حدود هذا القول تحديداً، أي أن يخالف المألوف، فهنا سره وشعره وملاذه والطريق الى خلاصه الأبدي شاعراً ذاهباً في معاني القول من دون أن يكون لتناقضاته الظاهرة سوى معنى واحد فقط.. المعنى الأكثر توحداً في سر الشاعر... أنه المتنبي.
****
سيظل المتنبي الشاعر المختلف عليه في العصور المقبلة مثلما كان مختلفاً عليه في العصور الماضية، البعض يراه مبدعاً عظيماً جاوز كل الآفاق بدءاً من أبي العلاء و «معجز أحمد» وانتهاء بمريدي المتنبي من الطلاب الريفيين في أروقة الكليات. والبعض الآخر يراه شاعراً منتفخاً مريضاً بحب ذاته، مداحاً لكل من يملك أو يحكم وانتهازياً كبيراً يأكل من كل الموائد. لكن المختلفين عليه عادة ما يلجأون الى الطعن في شخصه وأخلاقه من دون المساس بقيمته كشاعر عظيم. حتى الذين رأوا فيه النموذج الخالص للشاعر المتنبي المستقر ذهنياً وجمالياً، الشاعر المنشد خلافاً لأبي تمام مثلاً، الشاعر البنّاء المفكر. هؤلاء قدموا توصيفهم له الذي لم يهز مكانته المركزية في الشعر العربي. وفي ظني أنه نال هذه المكانة المتميزة، ليس فقط لجمال عبارته وجزالة ألفاظه وحسن سبكه وإنما لأنه كان النموذج الأول للمثقف المعتز بنفسه أمام الحاكم، والذي رأى في الموهبة الإبداعية مؤهلاً للحكم وامتلاك السلطة في مقابل المؤهلات التقليدية للحاكم من وراثة أو اغتصاب. هذا الموقف كان رهناً بنفس المتنبي العالية ووعيه بموهبته الكبرى واعتزازه بها في مواجهة سلطة الحاكم الغاشمة التي قد تقترن بالحماقة والسفه والطيش والغباء لتكون المفارقة أنكى وأمرّ. حق له إذاً ما دام امتلك الوعي «بولاية الشاعر» أن يقعد لطموحه الهائل الذي يشبه طموح المماليك في الخلافة بحسب الأعراف المستقرة، بأن يعلنها: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم».
وهذا ليس فخراً قبلياً من قبيل ما لحق به من بقايا البداوة وإنما هو «ميكانيزم» دفاعي في مواجهة تيه أصحاب السلطة والحكم بما يملكون من قوة مادية، بل إننا لا بد من أن نتوقف أمام بيته الشهير، بيته التميمة الدعاء الذي يقول فيه مدعما نفسه ومؤكداً لها حتى وإن توجه بالخطاب الى غيره: «عش ابق اسم سد قد جد مر انه رف اسر تل/ غظ ارم صب احم اغز اسب رع زع دل انثن نل». هذه تميمة المتنبي التي عاش يرددها لنفسه كمن يتلو «ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون».
كان لا بد من أن يقدم شاعر مثل المتنبي على كسر التابو الاجتماعي الذي يحرم على الشاعر أن يتجاوز منزلة المهرج، بأن يؤمن أولاً بنديته للأمير وأحقيته بالإمارة، فإن لم يكن فبالمنزلة الرفيعة التي تليق بشاعر مثل.
****
ولد أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي في الكوفة سنة ثلاثٍ وثلاثمئة في محلةٍ يقال لها كِندة وقدم الشام في صباه وبها نشأ وتأدب. ولقي كثيرين من أكابر علماء الأدب منهم الزجاج وابن السراج وأبو الحسن الأخفش وأبو بكر محمد بن دريد وأبو علي الفارسي وغيرهم وتخرج عليهم فخرج نادرة الزمان في صناعة الشعر ولم يكن في وقته من الشعراء من يدانيه في علمه ولا يجاريه في أدبه، وانما لُقِب بالمتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وهي أرضٌ بحيال الكوفة مما يلي الشام. ولما فشا أمره خرج اليه لؤلؤ أمير حمص نائب الأخشيد فاعتقله استتابه زماناً ثم وأطلقه، ولبث المتنبي بعد ذلك يتردد في اقطار الشام يمدح امراءها وأشرافها حتى اتصل بالأمير سيف الدولة علي بن حمدان العدوي صاحب حلب سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة فحسن موقعه عنده وأحبه وقربه وأجازه الجوائز السنية وكان يجري عليه كل سنة ثلاثة آلاف دينار خلا الاقطاعات والخلع والهدايا المتفرقة. ثم وقعت وحشةٌ بينه وبين سيف الدولة ففارقه سنة ست وأربعين وثلاثمئة وقدم مصر ومدح كافوراً الأخشيدي فأجزل صلته وخلع عليه ووعده أن يبلّغه كل ما في نفسه. وكان أبو الطيب قد سمت نفسه الى تولي عمل من أعمال مصر فلما لم يرضه هجاه وفارقه في أواخر سنة خمسين وثلاثمئة وسار الى بغداد وفيها كانت له مع الحاتمي القصة المشهورة. ثم فارق بغداد متوجهاً الى بلاد فارس فمر بأرجان وبها ابن العميد فمدحه وله معه مساجلات لطيفة يشار اليها في موضعها من هذا الديوان. ثم ودّع ابن العميد وسار قاصداً عضد الدولة بن بويه الديلمي في شيراز فمدحه وحظي عنده. ثم استأذنه وانصرف عنه عائداً الى بغداد فالكوفة في أوائل شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمئة فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعةً من أصحابه ومع المتنبي جماعةٌ من أصحابه أيضاً فقاتلوهم فقتل المتنبي وابنه محمد وغلامه مفلح بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد. وكان مقتله في أواخر رمضان من السنة المذكورة.
----------
* من «العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب» لناصيف اليازجي.
****
أظن أن من المبالغة في عصرنة المتنبي محاسبته على أماديحه وأهاجيه فهذه سنة الشعر في أيامه. الشاعر آنذاك كفنان عصر النهضة يعمل لملك أو أمير أو وال ولا يجد غضاضة في أن يرتزق من شعره. دعونا من محاكمة المتنبي على ذلك ولنتذكر أن المتنبي وهذه أيضاً ميزة لعصره لم يقف شعره على ملك بعينه أو أمير وانما أمضى حياته سائحاً في البلاد متنقلاً من راعٍ الى راع، كانت الامبراطورية قد تفتتت واستقل المغامرون السياسيون والعسكريون كل بدويلة أو قلعة أو امارة فلم يعد الشاعر تابعاً ولا مسمى على أحد، صار هو نفسه يزجي خدماته لمن يشاء ويرحل عمن يشاء ويقبل على من يشاء. ذلك ظرف تفتحت فيه فردية الشاعر وأناه فصارا موضوعاً مثابراً في شعره حتى ولو كان ذلك مضمراً أو عن طريق مديح أو رثاء. علينا أيضاً أن لا نبالغ في محاكمة أخلاقية للمتنبي فنلومه على طلبه لولاية أو ملك ففي محاكمة كهذه نعصرن الشاعر وننظر اليه في زمننا.
لنذكر ان العصر كان عصر المغامرة وأتيح فيه لأناس بلا أصل وفصل كالمتنبي أن يسودوا وأن يحكموا. أما ان يحلم المتنبي بإمارة أو ولاية فهذا يعني أنه لم يكتف بأن لا يكون تابعاً، وانما تطلع الى أعلى من ذلك، الى أن يكون سيداً، اذا تذكرنا ما تعنيه أخلاقية السيد عند نيتشه من دون أن تستطرد في المقارنة السخيفة المعتادة بينهما، ليس طلب الملك هنا سوى طلب السيادة والانعتاق في زمن كان الشعراء فيه اتباعاً ولا حرية فيه الا لمن كان سيد نفسه، أي لمن كانت له سلطة وسيادة على غيره. يقول المتنبي «وفؤادي من الملوك وان كان لساني من الشعراء»، وفؤاد الملك هذا أي نفسه وعقله هو فؤاد سيِّد، روح حرة منعتقة مستقلة بنفسها.
من المبالغة في اعلاء الشعر ان نفصله عن السلطة أو السياسة ونقيمه نقيضاً لهما. من سينكا حتى ماو مروراً بلامارتين وانتهاء بسنغور وميلوسوفيتش لم يكن الشعر عدو السلطة. واذا تذكرنا ان الديكتاتوريين اعتبروا أنفسهم دائماً خلاقين ومبتكرين لا اجرائيين ومدبرين فهمنا أنهم يجدون أنفسهم أقرب الى الفنانين وقد قيل أن صدام حسين قضى اخريات أيامه في سجنه ينظم الشعر.
أقول هذا لأذكّر بأن السلطة ليست عاراً على الشعر ولا السياسة، أما الأنا المتضخمة لدى المتنبي، فلا ننسى أنها فتنتنا دائماً وكانت بالتأكيد من جواذب شعره. وما ذلك إلا لأن هذه «الأنا» المغالية لم تكن في يوم جوفاء ولا سخيفة. فنحن نقرأ أبيات المتنبي في فخره فنجد منها نفساً بروميثياً متحدياً متمرداً، بل نجد فيها معادل ذلك السيّد الذي أراد أن يكونه في طلبه للملك، بل نجد فيها ذلك الطموح الى أن يكون المرء ندّاً لقدره ولمصيره، وذلك وحده كما تعلمنا الأسطورة اليونانية يضع الانسان وجهاً لوجه أمام الآلهة، ولنتذكر أن هذه الأسطورة الذاتية التي صنعها المتنبي لم تأتِ من الغيب. ولا ننسى اسماعيلية المتنبي والدعوة الغامضة التي اتهم بها وثورة القرامطة التي لم تحترم مقدساً آنذاك. لا ننسى نظرية الإمام الشيعية ونظرية القطب لا ننسى الكثيرين الذين زعموا تلك الآونة أنهم تجليات إلهية ووجدوا من يسير وراءهم ومن يصدقهم وكانوا في الغالب يصدقون أنفسهم. اذا تذكرنا ذلك فهمنا أن أسطورة المتنبي الذاتية لم تكن في عصره عجيبة بل كانت جزءاً من رؤية ذلك العصر ومن ثقافته، وان ترجمة المتنبي الشعرية لها كانت في صلب تلك الرؤية وتلك الثقافة.
****
قبل ثلاثين عاماً تقريباً كتب أحد الشبان دراسة مطولة يهاجم فيها المتنبي ونشرها على حلقات، ولم يترك تهمة من التهم المحفوظة في الكتب القديمة أو الحديثة إلا وألصقها بالشاعر الكبير، وأقلها وصفه بأنه ليس اشتراكياً وشعره لا يهتم بالفقراء وأقساها وصفه بالمداح والعنصري والمرتزق... الخ، حاولت – يومئذ – أن أتدخل في الأمر انطلاقاً من أن لكل عصر قيمه وتقاليده، وأن المتنبي ينبغي أن يحاكم وفق مفاهيم عصره لا عصرنا، ولأنه لم يكن يستطيع أن يكون استثناء من القاعدة السائدة في زمانه، وحتى أبو العلاء المعري الضرير الذي اعتزل الناس والحياة لم يسلم من مؤثرات عصره، وديوانه لا يخلو من المدائح ولا من مجاملة المتنفذين في شؤون زمانه. وذلك لا ينتقص ذرة من احترام الناس له وتقديرهم لاختياراته ومواقفه.
ما آلمني في موضوع المتنبي أن تتم محاكمته بأفكار عصرنا وبقيم هذا العصر ومفهوماته في الحرية والاعتزاز بالكلمة، كما يؤلمني دائماً الصمت عن المداحين المعاصرين، وهم كثر، وفيهم شعراء كبار ينثرون جواهر شعرهم – بعد أن يدنسوها بالمديح – تحت أقدام من هب ودب ولا يجدون من النقاد من يقول لهم إن الزمن قد تغير ولو رجع المتنبي الى عصرنا لما كتب بيتاً واحداً من الشعر في كبير أو صغير لأنه بإحساسه الوجداني والفني وبكبريائه العالي سيكون أول من يدرك أن الزمن اختلف وأن الارتزاق بالكلمة جريمة يجب أن يعاقب عليها القانون ويتصدى لها النقاد. وربما لن يتردد في إدانة نفسه أكثر مما يحاول الآخرون أن يدينوه لا سيما على مدائحه الإشكالية في كافور وقصائده في ابن العميد وغيرهم ممن لم يقدموا خدمة تذكر للعروبة والإسلام.
لقد كان المتنبي شاعراً متناقضاً من دون شك، وكان تناقضه مع نفسه أكثر من تناقضه مع عصره تشهد بذلك مطالع قصائده، والسبب راجع الى تناقضات عصره والى بداية أفول الدولة العربية، وطموحه اللامحدود الى استعادة بعض أمجاد الأمة الغاربة، وكم أوجعه أن لا يحكم العرب أنفسهم بأنفسهم، وكأنه بهذا المفهوم شاعر معاصر بكل ما في الكلمة من معنى. لقد حاول أن يقف في خندق المقاومة لكنه حاول وفشل، وكان الحاسدون وضحايا الغيرة تجاه موهبته الكبيرة. وما أحرزه من شهرة واسعة كانوا وراء ذلك الفشل إضافة الى الظروف العامة وما رافقها من انكسارات أدت الى تخبطه السياسي ومن ثم الى نهايته التراجيدية. ومع ذلك يبقى واحداً من أهم شعراء العربية عبر العصور.
****
التقيت ذات مرة في بلغراد عام 1980، بالشاعر الأميركي اليهودي ألن غينسبرغ في مهرجان الشعر العالمي، وكنا في فندق واحد.
سألته آنذاك: يقولون: إن شعرك (سياسي) بامتياز، وأن الدعاية لحركة الـ «بيت»، دعاية سياسية، لا شعرية. فأجابني: لقد جاءت حركة الاحتجاج السياسي والاجتماعي، ملائمة للزمن الشعري، خذ مثلاً: شكسبير، فهو سياسي بامتياز، لكنه عبر عن زمنه تعبيراً شعرياً ناجحاً، ولم نعد نهتم لما هو وراء هذه القصائد من القصص السياسية والاجتماعية.
حسناً، سآخذ من غينسبرغ، (مبدأ التلاؤم مع العصر)، لأفكك المتنبي: على رغم أن المتنبي، وقف ذليلاً أمام كافور، ومارس النفاق أمام سيف الدولة، إلا أن حركته السياسية كانت تحمل مبدأ (الشطب)، بحسب دريدا، أي (النفاق، والنرجسية الداخلية)، أمام كافور، ومبدأ (المديح، والعشق السري لخولة)، أمام سيف الدولة. وبما أنه كان يقول الشيء ونقيضه، فقد أثارت هذه التناقضات، جدلاً واسعاً، وضعه تحت أضواء ذلك الزمان. وهكذا لعبت (الإثارة السياسية)، دوراً في شهرته. هو أيضاً (شاعر ملخصاتي) لشعراء آخرين، أي (شاعر سارق)، مما أثار الجدل حول أصالة شعره أو عدمها، وفي المقابل، هو شاعر ذكي موهوب، مصقول الصيغة الشعرية. هذا التناقض، جعل النقاد يهتمون بشعره.
أسطورة (النبوّة)، في حداثته، أثارت جدلاً في عصره، أيضاً، كان ملتبساً بغموض، وساهمت في أسطرة صورة المتنبي مع أسطرة قصصه مع سيف الدولة وكافور، وحتى موته قتيلاً في سن الخمسين. وبالتالي، كسب المتنبي، شهرته في حالة التطابق مع السلطة، وفي حالة التناقض معها. لقد كان المتنبي، شاعراً انتهازياً، عرف كيف يدير شهرته، وكانت شهوته للسلطة واضحة، لكن مع كل ذلك، هناك نبع آخر لشهرته، هو النبع الصافي، فإذا كان (الحدث السياسي)، بتناقضاته، منحه شهرة، لا تنكر، إلا أن سر النبع الصافي، يكمن في جهة أخرى.
نحن عندما نقرأ شعره، نجد فيه مستويين: مستوى قشرة الحدث السياسي، الشائع بنسبة عالية في شعره، ومستوى النبع الصافي، وهما يتجادلان ويتصارعان، ويشطب أحدهما الآخر أحياناً، بحسب عصور الأدب، وبحسب الأمكنة. فالبنية التقليدية في زماننا، لا تزال تعجب بالمستوى الأول. أما المستوى الثاني، الذي أعجب به، فهو النبع الصافي، الذي أرى أنه:
- قدرته على الصوغ القوي اللافت والمبهر.
- تعبيره عن العواطف البشرية التي لا تتغير: الحب، الكره، الغيرة، الحسد، شكوى الزمان، التعبير النرجسي، وهي قضايا سيكولوجية أبدية وجودية، مما يجعل بعض قصائده، أو أبياته المفردة، تناسب حالة ما عند القارئ المعاصر. مثلاً: بقيت أسبوعاً أردد بيته: «... وحالات الزمان عليك شتى... وحالك واحد في كل حال»، لأنه يناسب حالة ضيق نفسية، صاحبتني في لحظة ما. ولا تعجبني أبيات الحكمة المنظومة، والمسروقة أحياناً في شعره. أي انني كشاعر، أحب ما أسميه «شعر الحالة» في شعره.
نعم، يمكن أن أشير الى نسبة (30 في المئة من شعره)، تحمل مثل هذه المواصفات الشاعرية، أما شهرته السياسية، فهي نابعة من انتهازيته وتناقضاتها، بسبب الجدل حولها، لأن هذا الجدل، تلاءم مع عصره.
****
تمتلك الثقافات الكبرى في العالم عادة أساطيرها الخاصة بها، كجزء من آلية عملها الداخلية، ولكن أيضاً كانعكاس متجل إبداعياً لمنظومة القيم التي تشكل هوية أمة ما من الأمم في فترة تاريخية معينة قد تمتد طويلاً. فالمتنبي بهذا المعنى هو المقابل العربي لشكسبير الانكليزي ودانتي الإيطالي وغوته الألماني وسرفانتس الإسباني وبوشكين الروسي. ولكن الفارق يظل كبيراً. فالأسطورية الرمزية التي يمتلكها المتنبي تظل خاصة بالعرب وحدهم، في حين تشع الأسطورية الرمزية لشكسبير وغوته ودانتي وسرفانتس داخل الثقافة الانسانية كلها.
إن ما يعادل هؤلاء في نظر العالم ليس المتنبي وإنما كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي يشكل هدية العرب الى العالم. ولهذا الأمر اشكاليته التي تدفعنا الى تأمل الظاهرة: لماذا يكون المتنبي أسطورة عند العرب في حين أنه يكاد يكون مجهولاً عند الآخرين؟ لماذا يعتبر العرب المتنبي القمة التي ما بعدها قمة في حين لا يجد العالم في شعره ما يمكن أن يثير اهتمامه؟
لقد تعرض المتنبي كثيراً للنقد، غالباً من جانب حساده، وهو نقد تقليدي شكلاني تركز دائماً تقريباً على أخطائه اللغوية أو سرقاته الشعرية، ولكن ما من أحد تعرض لمفاهيمه الفكرية أو الأخلاقية بالنقد، لأنها كانت مفاهيم سائدة لا يكاد يفكر أحد في احتمال ضلالها. فالمتنبي لا يدعو الى العبودية فحسب وإنما أيضاً الى ضرب العبيد بالعصي، ولم يكن بالتأكيد من دعاة السلام، فالسيف يشكل في نظره قيمة عالية جداً والحرب تملأ نفسه بالهوى، وهو يرتزق بشعره من دون خجل، شاتماً من كان قد امتدحه قبل ذلك... الخ.
وهنا ينبغي القول إن هذه القيم التقليدية ظلت قائمة حتى الآن، ولو جزئياً داخل الثقافة العربية. فقد اعتبره بعض القومانيين العرب الممثل الأفضل للروح العربية. كما لا يزال ثمة حتى اليوم شعراء يعتاشون على امتداح كبار القوم، بطريقة أسوأ مما فعلها المتنبي نفسه.
ومع ذلك فإن المتنبي يملك ما لا يملكه الشعراء الآخرون من صنفه: قدرة مدهشة على استخدام اللغة وكشف لتفاصيل تتفجر شعراً ومعرفة عميقة بالإنسان ونقبل كل شيء بنفسه. فهو ينقل لنا دائماً الشعور بأنه يتحدث عن نفسه حتى عندما يتعلق الأمر بالآخر. ومديحه في واقع الحال لسيف الدولة أو لغيره هو مديح موارب لنفسه. وما يمكن أن نعتبره اليوم تضخماً مرضياً للذات هو بالذات ما يشكل جوهر أسطورته. فقد مثل المتنبي نموذجاً للشاعر الذي يدرك فرادته، ولكنه يعاني في الوقت ذاته من الموقع الذي وجد نفسه فيه، وهو نموذج لا يزال قادراً على إثارة المخيلة العربية.
****
لا يرى الى المتنبي من خلال أي مشروع سياسي، وإن كان قد خاض السياسة. ولا يرى إليه من خلال أي تصنيف عقائدي أو مذهبي، وإن كان ولا يزال محور اجتهادات وتكهنات حول انتمائه وفكره. ولا يرى إليه من خلال أي تصنيف أدبي يجعل الشعر في أغراض كالمديح والهجاء والفخر والغزل... وغيرها، وإن كان من الممكن أن نوزع قصائده على تلك الأغراض. إن عبقرية المتنبي – في نظري – تتجلى في كونه خاض السياسة وعبرها الى ما يتعداها بكثير، وخاض العقائد والفلسفات والأفكار وعبرها الى ما يتعداها بكثير، وخاض المواضيع والأغراض الأدبية على أنواعها وعبرها الى ما يتعداها بكثير. وبكلمة أكثر تعميماً وتكثيفاً، يمكننا القول إن المتنبي الذي استوعب تراثه وثقافة عصره على نحو فريد، استطاع أن يجعل في قصائده أعماقاً وتجليات لتلك الثقافة وذلك التراث، ولكنه استطاع في الوقت نفسه أن يتعداهما الى تحقيق إنجازه الشعري الباهر، الذي يتمثل في الدرجة الأولى بلغة شعرية صقيلة نافذة متألقة. بهذا الإنجاز الشعري، ربح المتنبي معركته مع الزمن، الذي كان في شعره أبرز الخصوم.
أظن أن التباس المتنبي بأسرار لغته هو أساس الموقف الذي صدر عنه في شعره كله. إنه موقف الشعور بالتفوق، الذي يضع المشروع الشعري – اللغوي فوق أي مشروع آخر، والذي يتراجع إزاءه كل غرض وكل موضوع وكل موقف آخر. إزاء هذا الموقف، لا يكون المديح سوى ذريعة أو فرصة. وكذلك الهجاء أو الغزل... أو غير ذلك من الأغراض. لا أظن أن الدارسين قد ذهبوا بعيداً في الكشف عن أسرار اللغة الشعرية للمتنبي. وعلى رغم الدراسات الكثيرة والسجالات والمعارك النقدية التي دارت حوله، فإن شعره لا يزال يغري بالمزيد من البحث والتعمق. لقد أهدر الدارسون، قديماً وحديثاً، الكثير من الجهد في الكلام على جوانب سطحية أو ثانوية لظاهرة المتبني، ولا نستثني من ذلك المعركة النقدية الكبرى التي دارت بين أنصار وخصوم له، من النقاد والبلاغيين في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري. لم يتعمق الدارسون في سبرهم أغوار هذه الظاهرة، وتاهوا في البحث عن سرقات المتنبي، أو في البحث عن أصله العائلي وظروف نشأته، أو في البحث عن معتقده أو مذهبه أو هواه السياسي. وربما صح القول إن الدارسين كانوا، في القديم والحديث، قاصرين عن مقاربة المتنبي مقاربة فنية حقة.
كيف نقف على سر التجدد الدائم للغته الشعرية؟ نعيد قراءة المتنبي، فيتراءى لنا العالم جديداً. يتجدد العالم من أمامنا، والزمن يتراءى لنا مهزوماً، أو واقعاً في الأسر، في أسر تلك اللغة. أليس ذلك لأن هذه الأخيرة تنطوي على أسرار تجددها المستمر؟
****
أعتقد أن «الصفة» النقدية التي تمتع بها المتنبي حتى يومنا هذا هي غياب مثل هذه الصفة. فنحن إذا قلنا: أبو تمام وبشار بن برد، قصدنا التجديد، وإذا قلنا: أبو نؤاس، قصدنا التمرد، وإذا قلنا: البحتري، قصدنا الوصف... لكننا إذا قلنا: المتنبي، فلن نجد سوى صفات تعظيمية لا تندرج في أي سياق نقدي: «الشاعر» (بـ أل التعريف) كما كان يسميه المعري، و «مالئ الدنيا وشاغل الناس» كما سمّاه ابن رشيق القيرواني... الخ. غياب هذه القدرة على القبض على المتنبي «متلبساً» في «صفة» نقدية بارزة هو ما يجعل من المتنبي استثناء. وللذين يفنّدون ذلك بـ «أنا» المتنبي نقول إن تلك «الأنا» هي أحد أسباب ذلك الحضور غير المسبوق، ولو أردنا تعداد أسباب أخرى لتحصّل لنا الآتي:
1 – كان المتنبي الموازي الشعري لشخصية سيف الدولة الحمداني التي عاصرها ومدحها وحاكاها، هذه الشخصية التي تحولت رمزاً في وصفها السيف العربي الوحيد الذي سد ثغور الروم. في هذا المعنى كان المتنبي سيف الدولة الشعري، الذي تجلّت «المقاومة» في عروبة شعره («ولكن الفتى العربي فيها/ غريب الوجه واليد واللسان»)، و «العنفوان» في مديح نفسه من خلال سيف الدولة، أو مديح سيف الدولة من خلال نفسه... حتى بات في وسعنا الحديث عن حكاية حب بين رجلين. لكنه حب من معدن المرايا. حب المثال والصورة (هل ننسى أن حلم المتنبي لم يكن سوى اقتطاع إمارة، في معنى التشبّه بما كانه سيف الدولة؟). على كل حال، قصة الحب بين الفروسية والشعر هي علامة تضاف الى شعبية الشاعر في منظار الذائقة العربية.
2 – علاقة المتنبي بسيف الدولة، تحيلنا على غياب المرأة عن شعره، على خلاف ما اعتاد الشعراء العرب. حتى أن ناقداً، أظنه الدكتور شاكر مصطفى، قام بتأليف كتاب يحاول فيه، في شكل افتعالي، إثبات عشق المتنبي لأخت سيف الدولة. هذا الغياب للمرأة ساهم في تسليط الضوء أكثر على نقاط أخرى، أبرزها العنفوان الذي كانت الجماهير تحتاجه في ذلك العصر الذي أعقبته حقب الانحطاط والتردي، في معنى دوام هذه الحاجة الجماهيرية الى مثل ذلك العنفوان. وهذا بالضبط ما جعل الذائقة العربية «تغفر» للمتنبي وقف شعره على المناسبات، وهذا ما جعلها أيضاً «تصفح» عن قصائد المديح الصريحة لكافور مكتفية بالتركيز على بيت يحتمل الذم في وجهه الآخر («وما طربي لمّا رأيتك بدعة/ لقد كنت أرجو أن أراك فأطربُ») لتؤكد أن كل مديح المتنبي لكافور هو في أصله هجاء.
3 – «التعاطف» التاريخي، إذا صح القول، الذي حملته الأجيال لهذا الشاعر هو دليل على كون المتنبي شخصية شعبية، في معنى المماهاة بين البطل الشعبي والشاعر الشعبي.
وفي وسعنا إضافة سبب غير أخير هو التناقض والتقلّب: الأنا هي الثابت، والآخر هو المتحوّل (هل تلاحظون أن النقطة التي يمكن احتسابها سلبية في حالة شاعر آخر أصبحت إيجابية في حالة المتنبي؟).
هذه «السلطة المتعددة تعدد الشياطين»، والتعبير لرولان بارت، هي ما جعلت المتنبي حراً خارج قفص نقدي نستطيع أسره فيه.
****
يكمن سر المتنبي أولاً، في قوته الشعرية الاستثنائية، في طاقتها المدهشة وجموحها وتدفقها. هنا يكمن سر أسراره وفرادته التي كانت جوهرياً هي الأساس في صنع أسطورته وتعميمها على هذا النطاق الواسع الذي لم يحظ أحد من أقرانه الكبار بمثله، وإن تقاطعوا معه في الموهبة الفذة وعلو الهامة الشعرية.
من هذا المنطلق الشعري الذي غذته التفريعات والوقائع الحياتية والتاريخية الملتبسة التي زادت بالطبع في ذيـوع صيـته وشهـرته، دافـعـة إيـاه الى هذا الأفق الأسطوري الايقوني أكثر من غيره، إضافة الى كثرة اللغط واختلاف الآراء النقدية الكثيرة حوله.
حياته المليئة التي تختلط فيها الوقائع بالخرافات والأحلام التي لم تتحقق على مستوى طموحات المكانة والمجد من خارج الشعر ومجده وسلطته، على رغم وعيه انه الأبقى من الأباطرة والدول، لكن الشعر ظل كأثر يخترق الأزمنة والأجيال والأماكن المختلفة، نبع هذه الأسطورة وفحواها، حتى ولو كانت تلك الوقائع والخرافات التي أحاطت بشخصه وحياته وبصلاته بأصحاب الحكم والأمر، في مرحلة شهدت أفول الإمبراطورية العربية في شكل مأسوي مدوٍ.
ربما هال الشاعر هذا الأفول وهذا التشظي والانحطاط الذي آلت إليه أحوال الأمة، فدخل في استيهامات الطموح والسلطة والنفوذ. وربما رأى في سيف الدولة الحمداني بقايا كرامة وضوء فشكل له المثال الأرضي المفتقد، في أمة هذه حالها، فتوحد المادح بالممدوح على ذلك النحو الشعري الآسر والعميق.
قصيدته الملحمية على سبيل المثل في واقعة «الحدث الحمراء» التي خاضها سيف الدولة، هي ربما من القصائد الخالدة، في تاريخ الشعر البشري برمته، حتى ملاحم الإغريق الشهيرة ستحتاج الى إسنادات كي تستطيع أن تجاري هذا العلو والإعجاز النادرين.
تلك الملحمة التي توزعت فيها المعارك على جبهات شتى، جبهة اللغة بما تنتج من الدلالة والمعنى، الزمان والمكان، البطولات، كلها تنصهر في أتون تلك الملحمة التي تتوحد فيها اللغة الشعرية بالحدث والمعيش توحد الموت بالحياة في ذلك المشهد المتلاطم الرهيب.
مديحه المبالغ فيه لنفسه صادر من نفس نرجسية متعالية، وعودنا الكثير من الكبار على هذه النرجسية حتى في العصر الحديث (نيتشه) مثلاً. وسبق للويس عوض أن عمل مقارنة في هذا المجال بين الشاعر العربي والفيلسوف الألماني: إنها «أنوية» المبدع وليس غيره، وإن أسفّت أحياناً في ردود فعل عابرة مع الخصوم.
هذا فضلاً عن أن أشكال المديح والهجاء ليست من الصفات المذمومة في معايير تلك الأزمنة، وهي صارت كذلك مع بزوغ الأزمنة الحديثة و «ميلاد الإنسان الحديث»، فلم يعد باستطاعة شاعر حقيقي أن يتصور أن ثمة شعر مديح لحاكم أو دولة مهما كانت قوتهما.، إلا من بعض الكسَبَة أو الكتَبَة. أبو العلاء المعري الشاعر ذو المنحى الفلسفي العدمي غالباً، يقول عن نفسه «وإني وإن كنت الأخير زمانه... لآت بما لم تستطعه الأوائل».
طموح المتنبي أو سعيه الى مناطق النفوذ والسلطة في غير الحالة الخاصة لسيف الدولة لا شك جره الى مواقع لا تليق بمكانته، وجره الى شعر ضعيف في الكثير منه لأنه لم يصدر من أعماقه الروحية وسحيق نفسه القلقة المعذبة، بل قيل لأهداف محددة سلفاً. هناك قصائد كثيرة في هذا المجال لا تختلف عن مديح الآخرين عاديةً وتداولاً وربما تبقى مطالعها وتورياتها مثل مديح كافور «كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً».
وحين ارتد المتنبي على كافور كان هجاؤه القاسي أقرب الى التعبير الإبداعي الشعري من مديحه، لأنه يعود الى عرينه الأساس، التمرد والنقمة على المحيط والعالم.
كتب الكثير شرقاً وغرباً وقيل الكثير عن مالئ الدنيا وشاغل الناس. فالأسطورة التي اكتنفت المتنبي جعلته على هذا النحو الضبابي المربك المتناقض، والتناقض في جانب أساسي صفة ليست مذمومة في الشاعر كما في الفيلسوف، فهو خريطة متناقضات شاسعة ومحتدمة بالملائكة والشياطين، بالخير والشر، بالقبح والجمال، بكل ما تمور به الحياة والتاريخ والنفس من زخم متناقضات تشكل معين تأمل وإبداع لا ينضب.
التناقض بهذا المعنى شرط إثراء وإبداع مقابل الانسجام البراني، شرط العقم والإفقار. حتى التقلبات المزاجية تحمل بداهة الشاعر ذي المزاج المتوتر العصبي تجاه كل ضعة وبشاعة في الوجود.
طبعاً ليست كل تناقضات المتنبي تنتمي إلى الشرط الأول، لكن جوهر روحه المعذبة، أو شاعريته الفذة تندرج في هذا السياق، حتى ولو قصد أو خطط لشيء يجافي هذه الروح.
يبقى المتنبي بإنجازه الشعري الكبير أولاً، ووقائع حياة ومرحلة مفصلية، مثيرة وغامضة ثانياً. وبسبب قدرته في التعبير الذاتي عن زمنه وعصره على نمط أولئك العباقرة في تاريخ الإبداع، استطاع أن يجعل من الأزمنة والمخيّلات، بيته الأبدي.
****
يكمن مشكل المتنبي - شخصه وشعره - في قراءته نمطياً ضمن شعرية سائدة تتبوب وتتنضد في أغراض وموضوعات تؤدي معاني ودلالات تقليدية، وضمن صلة متخيلة بين الشاعر وممدوحيه تلخصها التبعية والتصاغر، فيما يقترح المتنبي نفسه أن يُقرأ لا على مثال أو نموذج، كما أن صلته الندّية بممدوحيه تقترح صورة أخرى لشاعرٍ قلقٍ لا يستريح ولا يهدأ بما يرضى به الناس ويستريحون.
وفي القليل الذي يُنسب الى المتنبي من تفوهات وأقوال خارج متنه الشعري تتضح خصوصيته – المشكلة، فقد صرّح بضجره من الإقامة مستقراً في مكان، وقال: إنه ملقى من هؤلاء الملوك الذين يعطونه عرضاً زائلاً مقابل النفيس الذي يمنحهم إياه شعره، كما يقيدونه من الترحال والتنقل. ولما كانت له (ضجرات واختيارات) كما يسميها، فإنه يضطر إلى مفارقتهم على أكره الوجوه وأقبحها.
تلك الضجرات والاختيارات هي التي سقطت من برامج قراءة المتنبي المتعاقبة، فتسلط الضوء على أناه المتضخمة، أو تقلباته من مدح الشخص إلى هجائه بشدة، وحماسته في الحالين، والإلحاح في طلب الجاه والمال، أو الطموح المسرف – في أخف الأوصاف - وما يتبع ذلك من تفسير شعره وإدراجه نمطياً بتسطيح أبنيته ودلالاته.
تلك الفرادة ستدفع ثمنها النصوص التي فات قراءه ما فيها من مخبوء ومسكوت عنه، فهو شاعر حرب وفروسية كما تقدمه القراءات المدرسية، فيما نستطيع الاستدلال على أنه شاعر سلم بامتياز ليس فقط في لوحته الوصفية لشعب بوان وشكوى حصانه من مفارقة هذه الجنان إلى الطعان جرياً على معصية آدم ووراثةً له في مفارقته الجنة، بل في تصويره لبشاعة الحرب حتى في حالة النصر، فقلعة الحدث البيضاء المسقية بالغيم السخي تعود حمراء من دم القتلى بعد أن نزل بها سيف الدولة: «سقاها الغمام الغرّ قبل نزوله/ فلما دنا منها سقتها الجماجمُ».
وإذا كان الممدوحون يغترون بقوتهم، فإن الموت يقهرهم في قصائد المتنبي، لأنه يصول بلا سيف ويمشي بلا قدم كعدوٍ لا مرئي يفوق قدراتهم، بل هو ينوب عنهم في قهر أعدائهم ويسلبهم نشوة النصر عليهم: «فما لكَ تختار القسيَّ وإنما/ عن السعد يرمي دونكَ الثقلانِ».
وهكذا يتوقف عند الغزل مترفعاً يطلب الوصال من المرأة قبل أن يتحول حسنها بالموت ويلوم العشاق مراراً لأنهم لم يتفكروا في مصير من يحبون ومنتهى أمرهم بالموت.
المرأة والحرب والإقامة في وطن أو أسرة أو بلاط هي بعض مشكلات المتنبي التي لم تترسخ كمفاتيح لقراءةٍ توائمُ تناقضاته الظاهرية أو تفسر شعره بهدي ضجراته واختياراته التي كانت وراء غربته وغرابته وتغريبه.
****
المتنبّي شاعرٌ كبير، وفي اللغة العربية هو الأكبر من دون شك. صحيحٌ أننا يمكنـنـا لومـه على أشيـاءٍ كثيرة، ولكن بالقياس إلى شعره وإلى ما استطاع إخراجه من ذاته ومن اللغة في أعلى لحظات وحيه، كل ما يؤخذ عليه يظل تافهاً. الشعراء هم أشخاصٌ مثل سائر البشر، وبالتالي يخضعون لأهواءٍ كحب السلطة والنفوذ والتبجّح والنرجسية والانعطافات السياسية الانتفاعية.
عند كثير من الشعراء، العرب وغير العرب، لاحظنا مثل هذه الانحرافات وأخطر من ذلك. في فرنسا مثلاً، ما علينا إلا تأمّل الإسراف والطيش في حياة الشاعر فرانسوا فييون، أو مدى تأثير المصائب المالية التي عرفها بودلير على حياته.
نعرف أيضاً أن راسين، الكاتب المسرحي الكبير ولكن أيضاً الشاعر الممتاز، كان جليساً (courtisan)، الأمر الذي لم يمنعه من الانسحاب من بلاط الملك لويس الرابع عشر، وهو في السابعة والثلاثين من عمره، للاهتمام فقط بأبحاثه حول الدين. الأمر الذي شكّل خسارة كبيرة للمسرح وللشعر الفرنسيين.
يمكن منتقدي المتنبّي أن يقولوا ما يريدون عنه، لكن، مهما كانت هويتهم، سيظهرون دائماً كأقزامٍ أمام هذا العملاق.
وأعتقد بأن سر أسطورة المتنبي يكمن أولاً في ذلك الادعاء المدهش، في اختياره «المتنبّي» كاسم مستعار، أي ذلك الذي يتوق إلى التنبؤ. يا للغرور! يا للمغالاة النيتشوية! يا للثقة بالذات أيضاً وبقوة كلمته! وحده، المتنبّي يختصر الصحراء العربية برمّتها وكل الإرادة العربية في السيطرة على مكان التجرّد هذا، الذي وصفه المستشرق الكبير جاك برك بـ «العالم المحروم». الشاعر الكبير يحيا بحدةٍ كبيرة ويبقى كامل الوعي والحضور لوضعه كإنسان. الحياة هي نسيجٌ من التناقضات والتمزّقات. في الأتون الموحِّد للغته المبدعة. أحرق المتنبّي كل تناقضاته وحوّلها إلى مادة صافية لنشيده.
****
في مقـولة تحتـفـظ الذاكرة بـها منذ زمن تصور معنى الخلود والتــواصل مع الحيـاة إلى ما لا نهاية: «إذا أردت أن تحيــا بعد الموت، فاكتب شيئاً يستـحق القـراءة، أو أعمل شـيـئاً يـستـحق الكتابة».
والشاعر أبو الطيب المتنبي كتب ما يستحق القــراءة على مر الزمـــن، فبقــي في الذاكــرة الثقــافــية العربية ومن يتعامل معها لأنه شــاعر عرف أن يتفاعل مع الحياة بشعره، إذ جعله جزءاً منها يتحرك بتحــركاتها في الوقت الذي عاش كشاعر، ومعرفته التعامل مع الشعر والحياة بالتفاعل بينهما، إنه كان يدرك معنى الفن ومعنى الحياة وكيفية المزج بينهما إلى حد الانــدماج في شريحة واحـدة متكامــلة، منها يمكــن النظر إلى الحدث الآني واللاحق في فترته، فهو قد امتاز عن سواه بالذوق، وحدة الذكاء، وسعة الاطلاع على فنون الحياة وآدابها مما هو موضــوع وما هو معرب، خصوصاً التاريخ والفلسفــة، إذ اشتهر بأنه من كبار المثقفين في عصره، وحبه للقراءة يجسده قوله:
«أعز مكان في الدنا سرج سابح
وخير جليس في الأنام كتاب».
وقد رافقت ثقافته طموحاته المتعددة وتنقلاته بحثاً عن المجد وعن مساحات الحرية التي يقول فيها مادحاً من يرى انه كفوء لذلك على أن يكون مدحه لذاته متماهياً مع ممدوحه فهو حاضر في نصه الذي يتقنه كصانع، إضافة إلى موهبته الفذة في تفصيل الحدث بالمقاسات اللازمة التي لا تحتاج إلى أي «رتوش» على أن (أناه) لا تغيب لأنها من صنعت له مكانة:
«أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
واسمعت كلماتي من به صمم».
فثقافة الشاعر وحرصه على تحديد الزمكانية مع تفرده بخاصيته التي خلفها لنفسه بكده وجهده وقوة شخصيته مع فرضه إيقاعه الخاص على فترته، جعلته صورة ذات أبعاد مخترقة للآتي كمثال على الشاعر الذي يشعر بأنه شاعر فقولب نفسه في دائرته الشعرية حيث لم يبرح الشعر، ولم يذهب إلى فنون أخرى قد تؤثر على عطائه وتشغله عن شغله الشاغل (الشعر)، على رغم من قوله:
«الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم».
وسر بقائه يكمن في أنه نسيج وحده بحرصه على شعره ورفعه لنفسه، واعتزازه بها ويجيء ذلك بحكم ثقافته الواسعة، وتفرغه لشعره، واستفادته من الاطلاع على الثقافات الأخرى، وقدرته الخارقة على الهضم على تطعيم ذلك بسخرية لاذعة إذا اقتضى المقام:
«وما طربي لما رأيتك بدعة
لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب».
ويكفي أن فيلسوف عصره أبو العلاء المعري وصف شعره في كتابه الضخم (معجز أحمد)، الذي توجه إلى أن المتنبي بزّ من قبله وأحرج من بعده، إذ استطاع مخاطبة الخاصة والعامة بأسلوب راق واصل للجميع.
****
أهم ما يجعل المتنبي لقراء العربية مبهراً ومحط شغف كبير وتحيز يصل لحد الهوس أحياناً، إتيانه بإعجاز شعري في هذه اللغة، مؤسس على ضغط المعنى المحكم أو المتناقض بصيغ لغوية وشعرية، استطاع من خلالها كتابة أبيات شعرية وقصائد تكشف عما في النفس البشرية (وهي نفسه هو بالذات) من قلق وغربة وحكمة وعبث واستعلاء وشغف بالمجد واستخفاف بالناس أجمعين (حكاماً ومحكومين، ملوكاً وسوقة) وتحقيق ذاته العظمى المنتخبة على امتداد السلالات والأعراق وملء العالم بها من خلال الشعر. هو إنسان خارق شعري».
وأقول «قراء العربية» لأن شعره متصل اتصالاً عضوياً باللغة... ومن حيث ينزل المعنى في الصيغة والكلمات والإيقاع نزول الروح في الجـسد. فهو تـلميذ بـاديـة السماوة حيث العربية البكر، وتخرج على الزجاج والأخفش وابن دريد وأبي علي الفارسي كما تحزّب له أكبر فقهاء اللغة الذين عاصروه.
مشروع المتنبي ليس سياسياً، السياسة لديه جزء وتفصيل. مشروعه وجودي قائم على أنه هو السوبرمان المتحدر من قوم وأعراق ونفوس كأنها تأنف سكنى اللحم والعظم، وأنه من أجل ذلك لا بأس من تقتيل الناس (الذين يناديهم بهذا استخفافاً: «غيري بأكثر «هذا» الناس ينخدع...» وأن المجد هو القوة المطلقة «وتضريب أعناق الملوك»... وأنه هو السابق الهادي لما يقوله، وكأن جبران خليل جبران أخذ منه قوله في «السابق»: «أنت سابق نفسك يا صاح» فالمتنبي يقول:
«أنا السابق الهادي الى ما أقوله
إذا القول قبل القائلين مقول».
لم يمدح المتنبي سوى المتنبي... كل ممدوح آخر مستعار لأناه... حاول أن يكون نبياً فلم يستطع لأن ذلك لا ينبغي له أو لسواه بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلّم)... فكان شاعراً. لا ينبغي للنبي أن يكون شاعراً (تبعاً للنص القرآني) ولا ينبغي لأبي الطيب الشاعر أن يكون نبياً. هذه المناظرة تذوب في جسد النص اللغوي ذاته (سواء كان نصاً مقدساً كآيات الذكر الحكيم) أم قصيدة من قصائد المتنبي... ولكن ثمة ما يصل بين الحالين: النفس المصفاة والمختارة. قوة الكلمات. وبعد القرآن الكريم، من نعم وأعطيات العربية المتنبي.
ثمة في شعر المتنبي ما يخترق المناسبات، وتظهر أبياته على حد تشبيه الطيب الصالح لها، بمثابة كرات من نار تجتاز الآفاق والأزمنة.
وعلى رغم موت بعض أدواته، بفعل تطور التاريخ ومعه المفردات، فإن الرمز يبقى سارياً ولا ينتكس. لو أخذنا بيتاً من أشهر أبياته في الفخر: «الخيل والليل والبيداء تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم» ودققنا في كلماته اليوم كلمة كلمة لقلنا: الخيل اليوم للاسطبل أو لميدان السباق، ولم تعد للمعركة، والليل لم يعد ليل الستر والبوادي، كذلك البيداء، والسيف والرمح لمتاحف الآثار وحتى القرطاس والقلم تغيرا بفعل تطور التكنولوجيا والانترنت... ومع ذلك يبقى رمز الاعتداد بالنفس سارياً والبيت يذكره المعتدون بأنفسهم.
التناقضات جزء من عبقرية المتنبي. يضاف لذلك إحساسه المتفرد والحاد بالعظمة والغربة معاً. قطفه البلاغي العبقري للحكمة. تلاعبه بالمعاني تلاعباً يجعل قارئه دائم التأهب للمفاجآت والتوليد.
وهنا بعض ما يحضرني:
* «مَن لو رآني ماء مات من ظمأ
ومَن عرضت له في النوم لم ينم».
* «وإن أسلم فما أبقى ولكن
سلمت من الحِمام الى الحِمام».
* «صحبت في الفلوات الطير منفرداً...».
* «فشرّق حتى ليس للشرق مشرق
وغرّب حتى ليس للغرب مغرب».
****
قبل عشرين سنة كتبت مقالا عنوانه «ما الذي يريده الشعراء؟» وكان مكرساً للمتنبي في شكل خاص، واليوم أجد نفسي أمام السؤال نفسه من جديد، لأن ظاهرة المتنبي تجاوزت حدود الماضي لتصبح ملمحاً أساساً في حياتنا الثقافية العربية المعاصرة في شكل واسع، ولذا، فبقدر ما يتعلق الأمر بالمتنبي وعلاقته بالسلطة، فإنه أحد أهم مظاهر الثقافة العربية اليوم، في حالة حيادها، إن لم نقل في حالة صمتها وركضها المحموم نحو الوصول لامتلاك السلطة، أي سلطة.
مما لا شك فيه، أن المتنبي كان المثال الأكبر الذي يجمع في داخله بين الشاعر الكبير والشخص الساعي لمنصب أقل من شعريته، وهو بذلك وجه من وجوه التراجيديا، حيث السلطة تتحول إلى عَقب، كما حدث مع آخيل ذات يوم. لكن المتنبي رغم ذلك لم يمت، بل عاش، لأنه في ظني أكثر تعقيداًً من الأمثولة الإغريقية، لا لشيء إلا لأنه مكوّن من طبقات كثيرة من النقائض الإنسان والمثقف مجتمعين، وهو بذلك صورة لنصه، الذي كلما وصلنا إلى طبقة جديدة من طبقاته، تبين لنا أننا لم نكتشف الطبقة التي سبقتها تماماً. إنه بعبارة أخرى شخصية روائية مثالية خارج التنميط المبسط، وهو بذلك ليس شاعراً فقط، بل سؤالا إنسانياً لم يزل يطرحه البشر على أنفسهم وهم يسعون بكل ما لديهم للوصول إلى السلطة، أي سلطة يعتقدون أن كينونتهم لا تتحقق وتكتمل إلا بوصولهم إليها.
هل كان المتنبي يريد حماية نصه وهو يسعى لامتلاك السلطة، أم كان نصه الذريعة التي لا بد أن يملكها وهو يرى أن السلطة من حقه هو أكثر من سواه؟
أما لماذا عاش كل هذا الزمن، فلعل ذلك يعود إلى سببين، الأول أننا لا نستطيع الاختلاف على شعره كثيراً، والثاني أن هناك ثقافة تَعبرُ فكرة الاختزال، لأن الاختزال يعني اكتفاءها بالواحد ويريحها من السعي للبحث عمن سواه، حتى وإن كان بمستواه أو ربما أفضل. هل تغير الزمن كثيراً؟ لا أظن ذلك.
****
كان شوقي في مقدمة ديوانه، التي كتبها سنة 1898، ذكر أن المتنبي مات «عن نحو مئتي صفحة من الشعر تسعة أعشارها لممدوحيه». مر أكثر من قرن على هذا القول الصادر عن شاعر شاب، عاد من باريس بثقافة شعرية ابتدائية. ما ترسخ في الذهنية العربية هو هذه الرؤية القدحية التي اختتم بها شوقي كلامه على المتنبي. صورة ثبتت ونعمل يوماً بعد يوم على تخليدها، بما هي قراءة العرب الحديثين للمتنبي.
لكن لماذا غابت عن ذهنيتنا الثقافية «معجز أحمد» التي وصف بها أبو العلاء المعري ديوان المتنبي؟ ولمَ تناست هذه الذهنية ما كتبه ابن خلدون عندما وضع أبا تمام والمتنبي والمعري في مرتبة الحكماء؟ وأين ما كتبه ابن جني عن المتنبي؟ مجرد أسئلة.
صورة وضعها شاعر تقليدي. ثم جاء بعده مبتدئون في تطبيق معطيات عامة من علم النفس على الأدب فاكتملت الصورة بتضخم الأنا. وها هو المتنبي شاعر التناقضات في الحياة السياسية. كأن ما كتب من قبل أو ما كتب من بعد لغو. أو كأننا لا نريد للمتنبي إلا ما يعيده إلى الأحكام المتعجلة، التي هي صورة عن صنف من الثقافة العربية الحديثة قبل أن تكون قراءة حديثة للمتنبي، الذي لا يزال شاعر الكلمة الكبرى.
لا يمكننا أن نعيد قراءة أمداح المتنبي إلا في ضوء هذه الوظيفة الإبداعية للشاعر في الحضارات الشرقية القديمة، كالصينية مثلاً. أو في ضوء رسامي بداية الحداثة الأوروبية لصور الشخصيات، كما لدى ليوناردو دافنشي ورامبرانت على الأقل. أعني تغيير مكان القراءة. لكن المتنبي هو صاحب تجربة المطلق الشعري في زمن انهيارات الحكم العربي في المشرق. وقد وجد عاشقاً له في المغرب، من أقصى الجنوب، المهدي ابن تومرت، الذي يعتبر نفسه محققاً لحلم المتنبي بإقامة دولة الموحدين. القدماء كانوا أقرب منا إلى فهم المتنبي. ولم يخطئوا. وذلك العلو الذي أقام فيه كان علو التائه، الذي أنشأ للعربية أرضاً شعرية في أقصى القول. أنا العلو، الذي للشعر. قديماً أو حديثاً. المتنبي، شاعر يبعد في القول حتى تبقى للعربية حياة، بها نتعلم من جديد كيف نكتب.
شاعر وناقد مغربي
الحياة - 26/05/07- 30 مايو 2007