يوسف شاهين
في مكتبه القاهري،
شارع شامبليون، العام 2004
 
يوسف شاهين
نور الشريف في «المصير»
(1997)
يوسف شاهين
ماجدة في «جميلة بوحريد»
(1958)
يوسف شاهين
سعاد حسني في «الاختيار»
(1970)
يوسف شاهين
محمود المليجي في «الأرض»
(1969)
يوسف شاهين
فاتن حمامة وحسين رياض
وماري منيب في «بابا أمين» (1950)
يوسف شاهين
هند رستم ويوسف شاهين
في «باب الحديد» (1958)

وداعاً يوسف شاهين عرّاف الوجدان المصري

يوسف شاهينشاهين في مكتبه في القاهرة عام 2005 (خالد دسوقي ــ أ ف ب)أقام مع الجماهير علاقة كرّ وفرّ... لكن المعلّم المصري الذي تنقّل بين الواقعيّة والفنتازيا، بين الالتزام السياسي والسيرة الذاتيّة، بين التاريخ والاستعراض، واختبر أشكالاً غير معهودة في السينما العربيّة، وخاض معاركه بشراسة على كل الجبهات، بقي نفسه على امتداد ستين عاماً: المثاليّ المذبوح حيّاً... مثل قرينه هاملت

بيار أبي صعب

هكذا إذاً. أغمض يوسف شاهين عينيه للمرّة الأخيرة من دون أن يبلغ آخر أمنياته. تحقيق فيلم عن هاملت وآخر عن حسن نصر الله... وكانت لديه أمنية ثالثة كشف عنها في «كان» قبل عامين: التفوّق على عميد السينما العالميّة مانويل دي أوليفيرا، المخرج البرتغالي المعروف الذي ما زال منتجاً وقد أطفأ شمعته المئة هذا العام. لكنّ صاحب «باب الحديد» و«الأرض» الذي عاش بكلّ جوارحه واستهلك صحّته وأعصابه، مضى أمس بعد أسابيع صعبة بين القاهرة وباريس ولمّا يتجاوز الثانية والثمانين... هكذا ستبقى سيرته مفتوحة إلى الأبد. سيتواصل عبث «جو» شاهين بعد رحيله، وسنتداول مشاريعه المعلّقة كأنّها أمر واقع، كما نتحدّث حتّى اليوم عن الفيلم الذي لم ينجزه لوتشينو فيسكونتي عن رائعة بروست «بحثاً عن الزمن الضائع».
هاملت وحسن نصر الله؟ نعم إنّهما يختصران وجهي يوسف شاهين بأمانة شديدة. الأوّل هو الطوطم الذي رافقه منذ مقاعد الدراسة في «فيكتوريا كوليدج» حيث احتكّ ابن المحامي اللبناني (الزحلاوي) الأصل، المتحدّر من البورجوازيّة الصغيرة، بكل الثقافات والطبقات الاجتماعيّة، في الاسكندريّة الكوسموليتيّة... البطل الشكسبيري - ذلك المثاليّ المذبوح حيّاً، صنوه وقرينه - خيّم طيفه على سينما شاهين، وكان يعود كاللازمة بين حين وآخر، ليختصر علاقته بالفنّ والحياة والثقافة... علماً بأنّه حين أتيحت له الفرصة لتقديم عمل مسرحي على الخشبة، يوم فتح له وزير الثقافة الفرنسي جاك لانغ في عهد ميتران أبواب الـ«كوميدي فرانسيز» في باريس، فضّل «كاليغولا» بطل ألبير كامو، الإشكالي هو الآخر، على أمير الدنمارك. فبقي هاملت مشروعاً مؤجّلاً. أما الثاني، فهو من دون شكّ مسك ختام الأبطال الذين سكنوا ضميره من صلاح الدين الأيّوبي إلى... جمال عبد الناصر. إعجاب شاهين بحسن نصر الله في سنواته الأخيرة، هو العلماني الذي خاض مع الأصوليّة في مصر أكثر من مواجهة - من «المهاجر» إلى «المصير» - إن دلّ على شيء، فعلى أن خياراته ومشاغله القوميّة لم تتبدّل مع تبدّل الموضة، وبقيت بوصلته تحسن تحديد الأولويّات السياسيّة والأخلاقيّة في زمن اختلاط المعايير والقيم.
السينمائي المصري الذي كان ليحتفل في العام المقبل بمرور ستين سنة على الرحلة التي بدأها في الثالثة والعشرين مع «بابا أمين»، قال لنا في السينما كل شيء عن حياته وأفكاره. حتّى ليكفي استعادة محطاته الإبداعيّة التي تختصر تاريخ مصر والعالم العربي، فكريّاً وسياسياً وجماليّاً وسينمائياً واجتماعيّاً، لنستكمل الصورة من مختلف زواياها وتدرجاتها اللونيّة. من المرحلة الواقعيّة إلى الأخرى الذاتيّة، مروراً بالأفلام التاريخيّة والرمزيّة والاستعراضيّة، كي يعود من جديد إلى الواقعيّة في آخر أفلامه «هي فوضى» (كان عنوانه الأوّل «أيّام الغضب»).
من الدراسة في «باسادينا بلايهاوس» على مشارف هوليوود، سيحتفظ بمبادئ وتقنيات وتأثرات تجذّرت في التربة المصريّة. هنا ينبغي أن نبحث عن نواة أسلوبه الخاص في التصوير واختيار الكادر، والسرد والتوليف وتقنيات الإبهار. هذا الأسلوب الذي لم يجد حرجاً في التناص مع فدريكو فلليني مرّة، ومع بوب فوس مرّة أخرى، هو علامة شاهين الفارقة، يختصر قدرته على الابتكار وخلط المصادر واللغات البصريّة والأساليب. الخاص والعام، الإنساني والذاتي، الواقعي والفانتازي، الاختباري الطليعي والميلودرامي الذي لم يتبرّأ منه يوماً. كل شاهين هنا منذ الأفلام الأولى التي تحكي صراع الفلاح، ثم العامل، مع قوى الظلم والاستغلال مثل «ابن النيل» و«صراع في الوادي» و“صراع في الميناء”، والتي ستزداد نضجاً وقوة لاحقاً مع «باب الحديد» و«الأرض».
هكذا نتوقّف اليوم عند أعماله السياسيّة (رباعيّة النكسة: «الأرض»، «الاختيار»، «العصفور»، «عودة الابن الضّالّ»)، والذاتيّة (رباعيّة الاسكندريّة: «اسكندريّة... ليه؟»، «حدّوتة مصريّة»، «اسكندريّة كمان وكمان»، «اسكندريّة... نيويورك») أو التاريخيّة («الناصر صلاح الدين»، «جميلة بوحيرد»، «الوداع يا بونابرت») أو الفكريّة («المهاجر»، «المصير»، «الآخر») أو الاستعراضيّة («سكوت حَ نصوّر»)، لنجد يوسف شاهين نفسه رجلاً متعدد الوجوه والمناهل والمشاغل: يطلق لنرجسيّته العنان، فإذا به يتحدث عن وطنه وزمنه. يختار التسلية والسينما الاستعراضيّة، فإذا به يحرّك المبضع في جراح مجتمع مريض بالمخاوف والأسئلة وفقدان التوازن.
لم تدجّنه سلطة ولم يشغله شيء عن إيصال خطابه، وتسليط نظرته العابثة والمثاليّة إلى العالم، بعدما مجّد المشروع الناصري في «الناصر صلاح الدين» (٦٣)، جاء «فجر يوم جديد» (٦٤) ليصدم جمالياً وسياسياً. ثم هاجر إلى بيروت لأنّه، كما قال، مثل بطل فيلمه المذكور، ضاق ذرعاً بوحش البيروقراطيّة الذي «يقضي شيئاً فشيئاً على أحلام الاشتراكيّة». هنا حقق «بياع الخواتم» وأفلاماً أقل أهميّة، وكان لا بدّ من صدمة النكسة كي تعيده إلى القاهرة، وتفتح صفحة جديدة في مسيرته السينمائيّة. وهنا كان عليه أن يواجه رقابة يوسف السباعي، وأن يقبل الحجْر على «العصفور»، فيلم النكسة بامتياز الذي لم يعرض إلا بعد... «نصر أكتوبر»!
وسيبقى شاهين إشكالياً إلى النهاية. فها هم المثقفون يتهمونه في الثمانينيات بالوقوع في فخّ «الخواجة»، بعد قبوله لعبة الإنتاج المشترك مع فرنسا، علماً بأن «بونابرت» فيلم خاص في تاريخ شاهين، يختصر خطابه في العلاقة مع الغرب، منهل المعرفة والنهضة والتنوير من جهة، ومصدّر أشكال الاستغلال والاستعمار والعنف من جهة أخرى. لم يهادن شاهين يوماً ذلك الغرب، رغم كل التهم التي وجّهت إليه. تكفي مشاهدة فيلمه القصير عن «١١ سبتمبر»، وتكفي معاينة مقدار الغضب والخيبة والقسوة التي ترشح من فيلمه ما قبل الأخير «اسكندريّة - نيويورك»، الذي يشكو من مبالغات أيديولوجيّة ونرجسيّة مسلّية.
منذ الثمانينيات اتهم أيضاً بالانغلاق في شرنقة الذاتيّة، وإرضاء مزاجه وأذواق الجمهور الغربي، موغلاً في القطيعة مع جمهوره الحقيقي. لكنّه واصل معاركه من دون اكتراث بأحد. زار بيروت خلال الحصار الإسرائيلي، وبغداد تحت الحصار الأميركي. نزل إلى الشارع ضدّ توريث الحكم في بلاده، كما فعل قبل سنوات بعيدة حين وقف في وجه سعد الدين وهبة أيّام معركة اتحاد الفنانين الشهيرة والقانون ١٠٣. شاهين لا يهادن في مسائل الديموقراطيّة... لقد انتقد مراراً قانون الطوارئ في بلاده، وقوانين الاستثمار في مجال السينما التي تعفي المنتجين الكبار من الضرائب وتعاقب المنتجين المستقلّين الصغار... هذا هو أيضاً يوسف شاهين، كما يمكن أن نجده بأشكال مختلفة في أفلامه.
المعلّم الذي أطلق عدداً من أبرز الممثلين، وتفتّح في جواره بعض أهم مخرجي السينما المصريّة، يتركنا بعد ٣٦ فيلماً روائيّاً و٤ أفلام قصيرة وثلاث عمليّات جراحيّة، ومعارك فكريّة ووطنيّة وسياسيّة لا تحصى، رفع خلالها راية التنوير والحوار مع الآخر، مع تمسّك شرس بالدفاع عن الحقوق الوطنيّة والقوميّة. وإذا استعدنا آخر أفلامه «هي فوضى» (مع خالد يوسف)، ننتبه كيف أن السينمائي الذي طالما أقام مع الجماهير علاقة كرّ وفرّ طوال العقود الماضية، عاد في النهاية إلى نقطة البداية: إلى الواقعيّة. لقد ضرب موعداً وداعيّاً لجمهوره الذي خرج ذات يوم قبل أربعين سنة، من صالة تعرض «جميلة الجزائريّة» في القاهرة إلى السفارة الفرنسيّة لإحراقها. لقد عاد ليجسّ - مرّة أخيرة - نبض المجتمع المصري، ويضع يده على الجراح المفتوحة في زمن الفساد والتسلّط والاستبداد البوليسي. وداعاً يوسف شاهين!

***

يوسف شاهين«قوانين الاستثمار المصريّة في مجال السينما (1996)، تعفي من الضرائب شركات الانتاج التي يزيد رأسمالها على مئتي مليون جنيه، فيما تحكم الخناق على المنتجين الصغار... أي أولئك الذين صنعوا مجد السينما المصريّة طوال العقود الماضية. إن الدولة المصريّة تحكم بالاعدام على السينما المصريّة الجادة والمستقلّة من حيث تدري أو لا تدري.
يوسف شاهين

***

سيرة

ولد يوسف جبريل شاهين عام 1926 في الإسكندرية، من عائلة لبنانية الأصل انتقلت للعيش في مصر في نهاية القرن التاسع عشر. بعد دراسته الابتدائية والثانوية في الإسكندرية، انتقل إلى كاليفورنيا حيث درس صناعة الأفلام والفنون المسرحية. ثم عاد إلى مصر، منارة السينما العربية يومها، وعمل مساعداً للمصور السينمائي الفيز أورفانالي الذي مهّد لإخراج باكورته «بابا أمين». وبدأ تصويره عام 1949 وعرض في العام التالي، ولم يكن شاهين تجاوز الثالثة والعشرين. وبعد عام، شارك بفيلمه الثاني «ابن النيل» في مهرجان «كان» السينمائي مطلقاً شهرته كمخرج يفارق اللغة السينمائية المصرية المعروفة يومها.
منذ ذلك الوقت لم تتوقف مسيرته التي بلغ رصيدها أكثر من 40 عملاً. تتلمذ على يده العديد من المخرجين مثل يسري نصر الله والراحل رضوان الكاشف وعلي بدرخان وخالد الحجر وخالد يوسف ومجدي أحمد علي وعماد البهات. وقدم وجوهاً مهمة في السينما المصرية أهمها عمر الشريف في «صراع في الوادي». وهو أحد السينمائيين القلة الذين اعتمدوا على أنفسهم في تمويل أفلامهم، وخصوصاً بعد توقف دعم الدولة له بعد «العصفور» الذي هاجم فيه السلطة، محمّلاً إياها مسؤوليّة الهزيمة في حزيران (يوينو) 1967. أسّس شاهين شركته، وعمل على الإنتاج المشترك لتمويل أفلامه، وخصوصاً مع جهات ومؤسسات فرنسيّة.
حصل خلال رحلته الفنية على العديد من الجوائز، أهمها التانيت الذهبي في «أيّام قرطاج السينمائيّة» عام 1970 عن فيلمه «الاختيار»، وجائزة «الدب الفضي» في برلين عن «إسكندرية ليه» عام 1978... وهذا الفيلم هو أول أفلام سيرته الذاتية التي قدمها في أربعة أفلام إلى جانبه «حدوته مصرية» و«إسكندرية كمان وكمان» و«إسكندرية نيويورك».
وتُوِّج عمله بفوزه بجائزة اليوبيل الذهبي لمهرجان «كان السينمائي» عام 1997 عن مجمل أعماله. منحته الحكومة الفرنسية وسام شرف من رتبة فارس عام 2006، وحصل على جائزة مبارك للفنون عام 2007.

مواجهة التزمّت بين «المهاجر» و«المصير»
حسين السكاف

يوسف شاهينفي الشكل، كما المضمون، هو الذي يشبهنا كثيراً، نحن البسطاء... هو من غاص داخل أرواحنا البسيطة ليكون صوتها كما صورتها التي تجاهلها كثيرون... ألم يكن هو من صوَّر عشق المعدم المعتوه، في «باب الحديد»؟... وهو من منح أجنحة لصوت الأرض العطشى، والفلاح الفقير في «الأرض»...
يوسف شاهين، المخرج الإشكالي المتمرد الذي حرص منذ أعماله الأولى، على أن لا يمثل الممثل، وأن لا يكون الحوار إلا بلغة الشارع وبسطاء الناس... هو الراصد لكل أمراض المجتمع ومشاكله وصرخاته وأفراحه، حتى ضحكاته المرّة وسط المأساة: «زرعنا الأرض عشر مرات، وخابت أربعين مرة»... منذ بداياته، آمن أن المبدع مشروع سجين أو منفي أو معدم، حين يكون ضمن مجتمعات ابتليت بالأمية والجوع وسلطة فاسدة. كان يعي ذلك الصراع الطويل بين المبدع وأصحاب القرار... الشاعر والصحافي والكاتب والمفكر، والفلاح المبدع كما الموسيقي والمطرب، كل تلك الشخصيات كانت أبطالاً لأفلامه، ومن أحلام هؤلاء ومآسيهم صنع مذاقها الفريد.
إنّه رائد السينما العربية الحديثة بامتياز. ضحك كثيراً على مزاعم بعض الجماعات ممن اتهمته بسذاجة فاضحة، تناوله قصة النبي يوسف في فيلمه «المهاجر». كان حريصاً على فضح ظاهرة نفي المبدع في مجتمعاتنا، معتبراً أنها بدأت منذ القدم بالنبي يوسف ولم تتوقف حتى يومنا هذا. فعودة الفيلم إلى يوسف كانت غوصاً في أرض المجاز، للتعبير عن المجتمعات المتخلفة التي دأبت على التخلص من كل فكر عقلاني أو نزعة تجديد. «رام» الذي كان يفكر بنباهة وذكاء، كان يشكل خطراً على إخوته المتّسمين بالغباء والتوحش، تماماً كما هو مبدع عصرنا الحالي الذي يشكل الخطر عينه على مواطنيه وأفراد جماعته ممن يشبهون إخوة «رام»...
الصراع مع الجماعات المتشددة لم يقف حائلاً أمام مشروع الفنان المتمرد المؤمن بالإبداع. لقد ذهب إلى عقر دار الذين كفّروه، وردّ عليهم بفيلم آخر، هو «المصير» الذي أعلن فيه موقفه الجريء إلى جانب الاجتهاد والتنوير، وضدّ ذهنيّة التكفير التي تتخذ من القتل والإرهاب منهجاً لها، وغالباً ما يكون المبدع أو المثقّف ضحيتها الأولى. صوَّر شاهين المفكّر ابن رشد، كأنه واحد منا يعيش في نهايات القرن العشرين، مأساته وحرق كتبه هي المأساة نفسها التي يعانيها المثقف والمبدع العربي في وقتنا الراهن. ستون عاماً من السينما... 60 عاماً، والإنسان البسيط يسير إلى جنب المبدع. تلك هي مسيرة شاهين الذي كان يعرف دواخلنا بدقة طالما أدهشتنا، حتى بات واحداً منا!

جنازته اليوم ... وبعده «الشارع لمين»؟
محمد عبد الرحمن

يوسف شاهينمن الاسكندرية وإليها يعود. هكذا، اختصرت وفاة يوسف شاهين رحلته الطويلة التي بدأت من الاسكندرية قبل 82 عاماً ويعود إليها بعد الصلاة عن راحة نفسه ظهر اليوم في كاتدرائية «القيامة» للروم الكاثوليك في الظاهر في القاهرة. ثم يوارى جثمانه في الثرى في مقابر العائلة في الاسكندرية. وتلقى محبّو شاهين وجمهوره بارتياح نبأ جنازته في منطقة قاهريّة عريقة، بعدما خشى بعضهم من «جنازة رسمية» تُبعد عنه البسطاء والناس الذين خاطبهم طوال حياته. إذ إنّ شبح ما حدث في جنازة نجيب محفوظ الذي عُزل جثمانه عن الناس من أجل المراسم العسكرية ظهر جلياً بعد إعلان وفاة جو.
لكن شاهين لم يخيّب أمل أصدقائه وتلاميذه ومحبّيه. وحتى في وفاته الهادئة، لم يشأ أن يزعجهم بالرحيل في فرنسا فعاد إلى مصر، ليقيم في مستشفى القوات المسلحة على نيل المعادي قرابة عشرة أيام قبل أن يعلن التلفزيون المصري صباح أمس وفاته. وفي وقت لاحق من عصر أمس، عقد أحمد عبد الحليم مدير المستشفى مؤتمراً صحافياً سريعاً، أكد فيه أن شاهين توفي بعد هبوط حاد في الدورة الدموية أدى إلى توقف التنفس، ولم يكن هناك من إمكان لأيّ تدخل طبي لإنعاش القلب، بسبب ما حدث للمخ من آثار سلبية عقب النزف الذي داهمه قبل ستة أسابيع والعملية الجراحية التي خضع لها في فرنسا. ورفض عبد الحليم التصريح بما يخصّ تفاصيل الجنازة. في الوقت عينه، أدى التأثر البالغ برحيل الخال إلى عصبية في ردود ماريان وغابي خوري على الصحافيين. إذ طالبا بالرجوع إلى شركة «أفلام مصر العالمية» حيث كان موظفو قسم الإنتاج يوفّرون المعلومات المتعلقة بمكان القدّاس والدفن. وحتى الآن، ليس مؤكداً مكان العزاء وتوقيته، وإن كانت المؤشرات تؤكد أنّه سيكون مساء غد لتتاح الفرصة لمن لم ينجحوا في حضور القداس اليوم الاثنين، وخصوصاً أن شاهين - خلال مشوار عمره ستون سنة ـــ شهد ولادة عشرات الفنانين، وساهم في اكتشاف عدد كبير من الممثلين المصريين والعرب. لهذا ترددت الأسئلة طوال أمس عن مدى قدرة عمر الشريف على حضور الجنازة أو العزاء، وهو المشغول بتصوير فيلم أميركي في أوروبا. الأسئلة نفسها طالت زملاء البدايات: فاتن حمامة وأحمد رمزي... وصولاً إلى الجيل الجديد. فمنهم من أكّد حضوره بالطبع مثل خالد النبوي وخالد صالح، فيما ليس مؤكداً إن كانت لطيفة مثلاً ستقطع رحلتها الفنية وتشارك في جنازة الأستاذ الذي قدمها كممثلة لأول مرّة (الوحيدة حتّى الآن) في «سكوت هنصوّر». أسماء أخرى مثل لبلبة وهالة فاخر وهالة صدقي ومنّة شلبي وحنان ترك سينتظرهنّ المصوّرون على باب الكنيسة اليوم، إلى جانب قائمة شاهين التي شاركته رحلته الطويلة، وفي مقدّمهم الفنانة رجاء حسين وزوجها سيف عبد الرحمن والمطرب محمد منير الذي ظهر مع شاهين في فيلمي «اليوم السادس» و«حدّوتة مصرية»... الأغنية الأبرز في مشوار «يوسف شاهين» السينمائي والتي تستعين بها القنوات الفضائية حالياً في البرامج التي تودع صاحب «الأرض».
وينتظر شاهين نفسه حضور الممثل المعتزل محسن محيي الدين الذي غاب عن الأضواء منذ عشرين عاماً. لكن شاهين لم ينس أبداً «عبقرية» الممثل الشاب الذي قدّمه في «الوداع يا بونابرت» و«اليوم السادس» و«اسكندرية ليه» قبل أن يختار محيي الدين التديّن والاعتزال. لكن شاهين تمنّى أن يسير تلميذه السابق في جنازته، فهل يلبّي محسن محيي الدين اليوم أمنية أستاذه؟ وقد امتنع خالد يوسف، التلميذ المقرّب من شاهين في سنواته الـ15 الأخيرة، عن الرد على هاتفه بعد إعلان الخبر.
رد الفعل الفضائي على رحيل شاهين، أمس، لم يكن على مستوى الحدث. الفضائية المصرية اكتفت ببث الخبر في الشريط الإخباري، فيما أعادت «النيل للدراما» عرض برامج وثائقية عن الراحل، وهو ما كررته فضائيات «الحياة» و«دريم» وotv. أما أولى ردود الأفعال على المستوى الدولي، فجاءت من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي وجّه تحية تقدير إلى المخرج الكبير، واصفاً إياه بأنّه «مدافع كبير عن حرية التعبير وبشكل أوسع عن الحريات الفردية والجماعية». بينما احتل نبأ وفاة جو مواقع الصحف الفرنسية على الإنترنت، مثل «لوموند» و«ليبيراسيون».
لكنّ صاحب النصيب الأكبر من الخسارة مع رحيل شاهين سيكون فيلم «الشارع لمين» الذي كان يعدّ شاهين لإخراجه قبل أن يصاب بالنكسات الصحّية المتتالية منذ العام الماضي، «الشارع لمين» اسم فيلم لن يجد مخرجاً بشجاعة شاهين ليقدمه على الشاشة الكبيرة. هكذا، تركنا جو لنتساءل: بعده «الشارع لمين»؟

يوسف شاهين: حدّوتة مصريّة
كنا نتوقّع انتصاره هذه المرة أيضاً... ولكن

يوسف شاهين
شاهين في لقطة تعود إلى العام 1977
(أ ف ب)
المراهق الذي كان يخجل من رفاقه الميسورين في «فيكتوريا كوليدج» بسبب حذائه البالي، بات مخرجاً في الثالثة والعشرين، وجسّد أحلامه على الشاشة الكبيرة. الفنّ صار طريقته في اثبات الوجود

وائل عبد الفتاح

اكتملت سيرته إذاً. غرق يوسف شاهين في نوم عميق، وغالباً سيشعر بالاستفزاز لأنه لن يحوّل أحلامه إلى فيلم جديد. هو الذي اخترق أكبر تابو في السينما العربية، وهو الحكي عن الذات: سيرته وأحلامه، نزواته ورغباته. جو يبتسم الآن ويتمتم بكلمات غاضبة في الوقت نفسه. وهو يحاول أن يحكي أحلامه ويرسمها على شاشة السماء الكبيرة، ولا يجد دار عرض. لن يسمح لجنازته بأن تكون مشهد النهاية. سيبحث عن قفزاته على سلم الحياة خفيفاً.
كان يوسف شاهين يخجل من حذائه المقطوع. هو الفقير بين أرستقراطية الإسكندرية في مدرسة فيكتوريا كوليدج (تخرج فيها ملوك وتجار ونجوم من الملك حسين إلى ادوارد سعيد مروراً بعمر الشريف). أحلامه كبيرة. متعثرة. لا يقدر على شراء بدلة على الموضة ولا حذاء أبيض. يملك فقط خفة الدم. ومهارة الرقص مع البنات في كوكتيلات الطبقة العليا. هذه أدواته في لفت الانتباه وسط محيط الأغنياء المتعجرفين.
ولد يوسف شاهين يوم 25 كانون الثاني (يناير) 1926 في الإسكندرية في عائلة مهاجرة وتحلم بهجرة أخرى. الأجداد تركوا زحلة النائمة في أحضان جبل لبنان وأبحروا إلى الإسكندرية، مدينة «العالم» التي كان يعيش فيها 600 ألف «خواجة». تمتزج ثقافاتهم... وأفكارهم وتتصارع رغباتهم في ملعب الطموح السياسي والمالي، بينهم كان يوسف: نصف خواجة. بربع إمكانات مالية. وعناد شخصي لا حدود له. أبوه المحامي يحلم له بالعبور من خندق الفقر إلى عالم الأثرياء. العائلة متوترة. على سطح من رغبات مكتومة في هجرة ثانية... إلى درجة أعلى في سلم البورجوازية. كان الشاب مرتبكاً دائماً، ويتكلم بسرعة لكي لا يلحظ أحد توتراته الداخلية. ظل معذباً برغبات العائلة وأحلامها في الصعود. وبمحاولة إقناع المحيط الغريب من حوله بإمكان قبوله. مرةً، كان عليه أن يذهب إلى حفلة ولم يستطع لأنّ الاختيار كان إما أن يشتري بدلة مناسبة، أو تشتري أخته فستاناً جديداً.
لم يذهب. لكنه عاد في اليوم التالي إلى المدرسة بفكرة اكتشف معها طريقة جديدة لاستعراض مواهبه. وإثبات أنّه متفوق. يستطيع السيطرة على الانتباه. وقف أمام فصل من 30 تلميذاً «همج كما وصفهم»، وألقى مونولوج الملك «ريتشارد الثاني» أحد أبطال تراجيديا شكسبير. المونولوج كان لحظة حُكِم على الملك فيها بالتنازل عن كل شيء. مصير قاسٍ لشخص يهوي من على عرش إمكاناته وجبروته إلى التسليم. والشاب لعب بكل أعصابه للسيطرة على المشاعر الهائجة والساخطة وأنهى المشهد بدموع ساخنة. وهم استقبلوه بتصفيق حاد.
يومها، اكتشف الفن طريقة من طرق إثبات الوجود. واكتشف المسرح. وشكسبير. هنا تحول الحلم من اللحاق بطابور الجامعة (والتخرج محامياً مثل والده أو موظفاً في بنك ينتظر المرتّب أول كل شهر كما قالت أمه) إلى التمثيل. النجومية. هوليوود. وهنا جمعت العائلة كل طاقاتها المالية (باعوا قطعاً من الأثاث والبيانو..) ليسافر الشاب الطموح ويركب السفينة إلى «باسادينا» في العالم الجديد (أميركا). هناك، اكتشف أنّه لا يصلح ليكون ممثلاً.
هذا قبل أن يعود (يحب جو أن يشبِّه عودته إلى مصر ببطل فيلمه «ابن النيل» المغامر الذي اكتشف وجه المدينة الشرير وعاد ليبحث عن تحقّق في بلده. هو عاد ليكون مخرجاً مصرياً. وليس فقط لأنّ أحوال عائلته المالية تدهورت بعد موت الأب). المهم عاد يوسف وقابل المصور الإيطالي الفيزي اورفانيللي الذي فتح الباب أمام أول تجربة له: «بابا أمين» ليصبح مخرجاً وعمره 23 سنة فقط.
حكى يوسف شاهين حلم الخروج من الاسكندرية في «اسكندرية ليه» الذي انتهى بمشهد اللحاق بالسفينة في اللحظة الأخيرة. أكمل الحكايات في «حدوتة مصرية» و«اسكندرية كمان وكمان» لتكون سيرته على مرآة السينما. حكى فيها بلا رقابة أقرب إلى أسلوب المحاكمة لا الاعترافات. في لعبة يستمتع بها وحده غالباً. يلعن فكرة العائلة. ويكشف مستورها. حتى إنّه في «حدوته مصرية»، يلمّح إلى مغامرات أمه الجنسية، هي التي حكى عنها أكثر من مرة «فكر بأمي وبغيرها. كانت صبية جميلة جداً وكان والدها يقفل عليها في الغرفة ويمنعها من الخروج. زوّجوها برجل بشع يكبرها بحوالى 25 سنة هو والدي. عندما دخل عليها لم تكن تعرف ما هو شكل الرجل. ولا يمكنك أن تطلب منها أكثر مما فعلت».
محاكمة استعاد فيها أسئلة زمن المراهقة. استعادها وهو يضحك على الموت. كما توقّع محبّوه أن ينتصر هذه المرة أيضاً ليستمر علامةً كبيرةً على البهجة في السينما. وأول من أحدثَ نقلة ارتباط الفيلم باسم المخرج. والقادر على صناعة مغامرات كبيرة. كنا ننتظر انتصاره هذه المرة لنرى شوطاً آخر من مغامرات جو المتمرد المشاغب القادر على إثارة المفاجآت، منتقماً من أول مرة فشل فيها فشلاً ذريعاً حين تحول عرض مسرحي أخرجه وهو طالب بكالوريا إلى فوضى كاملة.

***

من الغريب أن تكون ردود الفعل الرسميّة الأولى على رحيل شاهين، بل الوحيدة حتّى كتابة هذه السطور، آتية من فرنسا، وليس من العالم العربي. فقد وجّه الرئيس ساركوزي تحيّة إلى الراحل الذي «عمل كل حياته على محاربة الرقابة والتطرف». كما حيّاه كل من رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون والرئيس السابق جاك شيراك.

صاحب مدرسة من طراز خاصّ
خليل صويلح

يوسف شاهينهناك علامات فنية مفردة تشبه الطفرة في تاريخ الإبداع، لا يمكن النظر إليها في سياق الجموع أو محاكمتها ضمن السائد. لاشك في أنّ سينما يوسف شاهين واحدة من هذه العلامات. صاحب شيفرات سرّية تحتاج إلى تفكيك في مختبر الذاكرة أولاً: ذاكرة المتلقي وذاكرة يوسف شاهين نفسه. فهذا السينمائي المتمرد، بات يصعب تأطيره في تيار أو مدرسة سينمائية. إنه مدرسة من طراز خاص، ابتكر منهجاً ذاتياً وسار عليه، وكان هو أول من يقوم بتحطيم هذا المنهج برؤية مغايرة يفرضها الوعي والقلق اللاحقان. «باب الحديد» (1958)، المغامرة الصعبة والمغايرة التي جاءت في أوج صعود موجة الرومنسية في السينما، كانت صفعة في وجه الذوق السائد: هذا هو سينمائي يدير ظهره لقصص السينما التقليدية، ويباغت مشاهد ذلك الحصر، معلناً أن السينما ليست حكاية مسلية وحسب، بل هي مادة للسجال والجدل والتنوير وتمارين على الحرية والتسامح.
في «باب الحديد»، يتجه إلى قاع المدينة ليحتفي برجل الشارع، ويميط اللثام عن شخصيات تعيش في الظل، لطالما كانت مجرد كومبارس صامت في أفلام الآخرين. هكذا يتوغل في أسباب العيش في «محطة مصر» المكان الذي يعبره الآخرون بوصفه محطة سفر لا أكثر. وإذا به يضج بالحياة والأسرار، وها هي هند رستم في رداء آخر: «هنومة» بائعة المياه الغازية، وعلى الجهة الأخرى من سكة القطار، نلتقي شخصية «قناوي» الفتى الأعرج والمرتبك والمتلعثم والمحروم جنسياً في وليمة من الإثارة المحرّمة (يلعب دوره يوسف شاهين). الفيلم الذي صار اليوم واحداً من تحف السينما العربية، فشل في عرضه الجماهيري الأول. لكن يوسف شاهين في الواقع لم يُصب بالإحباط، بل ازداد ضراوة في مقاربة موضوعات أكثر إشكالية، من «الأرض» مروراً بـ«الاختيار» إلى «العصفور» ليفضح في الأول عبودية الفلاح في ظل نظام إقطاعي مستبد... وليشتبك في الثاني مع علاقة المثقف بالسلطة، وليكشف في الثالث أسباب الهزيمة والأحلام المجهضة.
لكن الانعطافة الحقيقية في سينما يوسف شاهين جاءت مع فيلم «اسكندرية ليه؟» (1978) في أول مقاربة في السينما العربية للسيرة الذاتية، وهو بذلك فتح الباب على مصراعيه أمام تجارب سينمائية أخرى، لم تكن تجرؤ قبله على كشف المستور ونبش المسكوت عنه من دون مواربة، في ما سمي «سينما المؤلف» أو سينما السيرة الذاتية. الشريط الذي مزج ذاكرة المدينة بالذاكرة الشخصية لفتى اسكندراني يحلم بالسفر إلى أميركا لدراسة السينما سوف يتحوّل إلى رباعية، تنتهي بـ«اسكندرية/ نيويورك»، مروراً بـ«حدوتة مصرية» و«اسكندرية كمان وكمان». ولعل هذا الأخير يبلور تصورات شاهين عن تشظّي الذات وتجاور أساليب السرد البصري بأقصى حالات الارتجال. بينما يقوم «اسكندرية/ نيويورك» بجردة حساب شاملة لعلاقته الملتبسة بأميركا والآخر عموماً. هكذا ينبغي النظر إلى موجة من الأفلام العربية خرجت من عباءة شاهين: «أحلام المدينة» للسوري محمد ملص، و«حلفاوين أو عصفور السطح» للتونسي فريد بوغدير و«ريح السد» للتونسي نوري بوزيد و«سرقات صيفية» ليسري نصر الله.
لنتذكر أيضاً أنّ مغامرة يوسف شاهين في سينما السيرة الذاتية قد واكبتها تجربة روائية لافتة. إذ ليس من الجائز في هذا المقام عزل «الخبز الحافي» للمغربي محمد شكري عن المناطق التي اقتحمها شاهين، وربما بجرأة أكبر. ومن ثم ستطرق الرواية العربية دائرة المحرم لتختبر بؤراً سردية كانت خارج المتن الروائي، وسوف تمتد هذه الموجة إلى اليوم عبر عشرات التجارب التي قد لا تنتهي عند رشيد الضعيف مثلاً. أمثولة شاهين تتجلى أيضاً بخلخلة قداسة الصورة في الثقافة الإسلامية وتظهيرها بشفافية عالية، بصرف النظر عن موقفه السياسي من قضايا كانت تلحّ عليه في مراحل سينماه المختلفة والتي قد لا تجد صدى لدى المتلقي على الدوام. إذ إن الفكرة وحدها، كما في «المصير» أو «المهاجر» غير كفيلة بإيصال الشحنة كاملة إلى المتلقي. يكفي أن هذا المخرج الطليعي والتنويري أطاح صورة النجم التي استعارتها السينما المصرية تاريخياً من مصنع هوليوود، واشتغل على انفعالات الممثل في المقام الأول. سعاد حسني في «الاختيار» مثلاً غيرها في أفلام الآخرين، والأمر ذاته بخصوص محمود المليجي ومحسنة توفيق أو يسرا، وحتى لبلبة ونبيلة عبيد.
هذا سينمائي زرع بذور التمرد والغضب في السينما العربية فأزهرت أشجاراً عالية تعاند اتجاه الريح. واجه الرقابة بعنف ففتح عدسة الكاميرا على اتساعها لتؤرشف أوجاع ومصائر وعواطف وشجون بشر وبلاد.
ستفتقد السينما العربية بلا شك الرجل الثمانيني المشاكس الذي ظل طوال نصف قرن يصنع سينماه بقوة الضمير وصلابة الموقف، ولغة الذات. ألم يقل مرةً «لستُ مسلواتياً؟»

طيف عبد الناصر: عن الزعيم والمخرج والممثل المفقود
محمد خير

يوسف شاهينأغرب ما في علاقة يوسف شاهين بعبد الناصر، أنّها امتدت إلى ما بعد وفاة الزعيم العربي، بأكثر ممّا امتدّت قبل وفاته! لا شيء بالمصادفة، واللقطات التي تثير دموع العرب في الجنازة المهيبة لجمال عبد الناصر، هي لقطات تنطق بحرفية على يوسف شاهين الذي صوّر الجنازة الشهيرة واستطاع أن يلتقط - في غمار حزنه - الوجوه الملتاعة ودفقات الهلع التلقائية التي فاض بها البسطاء وفاضت بهم.
بعد سنوات طويلة، يعترف شاهين في حديث صحافي بأنّه فشل في تحقيق حلم إنجاز فيلم عن «ناصر» لأنّه لم يجد «ممثلاً عنده كاريزما ناصر ولا حتى نظرة من عينيه... فين الممثل اللي عنده عيون عبد الناصر؟». لكن مَن قال إنّه لم يقدم هذا الفيلم فعلاً؟ من قال إنّ فيلم «الناصر صلاح الدين»(1963) لم يكن في جوهره فيلماً عن عبد الناصر، عن أفكاره وطموحاته وآماله؟ تحرير القدس ماضياً وحاضراً، مواجهة الإمبريالية (الصليبيين)، حلم توحيد الشعوب العربية. وهو بالتأكيد لم يكن حلم السلطان الأيوبي الذي جعله يوسف شاهين يتحدث العامية المصرية في الفيلم العروبي، على لسان أحمد مظهر الذي كان بدوره أحد رجال تنظيم الضباط الأحرار.
لكن سياسات ناصر الاجتماعية كانت سبباً في التضييق على عشق يوسف شاهين، السينما. فتأميم السينما عام 1962 أطاح دينامية السينما المصرية وتطوّرها الصناعي والتجاري، على رغم ما قدمه القطاع العام من أفلام هامة. هكذا وبعد سنتين من التأميم، وبعدما أفلست المنتجة آسيا داغر من جراء فيلم «الناصر صلاح الدين» الذي أنتجته بالاشتراك مع المؤسسة المصرية العامة للسينما، حمل شاهين كاميراته وذهب الى لبنان. 4 سنوات كان أبرز ما قدمه خلالها «بياع الخواتم» مع فيروز، يعود من جديد عام 1969 ويبدأ مشروع فيلم «الأرض» ويقدم فيلم «الناس والنيل» (1968). ويستعين فيه باللقطات التي صورها لضغطة الزر التاريخية التي حوّل بها عبد الناصر مجرى النيل، أثناء إنشاء السد العالي. ولكن لا يقدَّر للفيلم أن يعرض سوى بعد وفاة عبد الناصر بعامين.
عاد شاهين في أفلامه إلى ناصر مرتين بعد ذلك، في «العصفور» (1972) وتظاهرات رفض التنحي، ثم «عودة الابن الضال» (1976) حيث جنازة الأب الذي لم يعد الوطن بعده كما كان.

35 شارع شامبليون
محمد شعير

يوسف شاهينمع خالد يوسف وخالد صالحيحكي رسام الكاريكاتور المصري عمرو سليم قصة ذات دلالة، عندما كان طالباً في معهد السينما، كان شاهين يدرّس مادة الإخراج وقد طلبت منه إدارة المعهد أن يجهّز «امتحاناً» للمادة، رفض شاهين بإصرار. إذ إنّ أساس المادة هو الإبداع والابتكار. ولا يمكن امتحان الطلبة فيهما. وأمام إصرار إدارة المعهد على «الامتحان»، اشترط «جو» أن يسلّم الأسئلة فى يوم الامتحان لا قبله كما يفعل بقيّة الأساتذة، وفي يوم الامتحان دخل الطلبة القاعة، وانتظرت إدارة المعهد الأسئلة، لكنّ شاهين لم يحضر، ولا الأسئلة أيضاً. كان قد حجز على الطائرة المتجهة إلى فرنسا!
هكذا هو يوسف شاهين، أستاذ في مدرسة بلا أسوار وفصول دراسية، ولا يقف على بوابتها حراس، وليس لها مواعيد تفتح وتغلق فيها. إنها مدرسة «35 شارع شامبليون» أو مكتبه في وسط القاهرة الذي مرّ عليه جميع متخرّجي مصر مع استثناءات قليلة، بل تخرّج في هذه المدرسة التي تجاوز عمرها 60 عاماً، كوادر سينمائية ليس فقط في الإخراج أو التمثيل، بل في الديكور، والموسيقى...

«العين اللاقطة» هي الشرط الوحيد للالتحاق بهذه المدرسة. عين - حسب تعبير شاهين نفسه - قادرة على التقاط ما هو مبهر وطريف. وثمة شرط آخر وضعه مبدع «الاختيار» لمن يريد أن يكون تلميذاً له: «أن يكون التلميذ عارفاً بلغة أجنبية ومنفتح الآفاق. يلتحق من يختارهم جو بالمدرسة ويعطيهم مرتّباً شهرياً ثابتاً». ويظل يدخل في مناقشات معهم حول «لعبة السينما» حتى يختار منهم مَن يصلح مساعداً له. وهنا تكون البداية دائماً.

أول تلامذة شاهين وأحد أقرب اثنين إليه المخرج علي بدرخان. بينما كان والده المخرج الشهير عبد الوهاب بدرخان، عمل علي بدرخان مساعداً لعدد من أفلام شاهين قبل أن يستقل في 1973 بفيلمه «الحب الذي كان»

جيل السبعينيات السينمائي الذي أسس لاحقاً لتيار «الواقعية الجديدة في السينما»، تخرّج أيضا فى مدرسة «جو»: داود عبد السيد، خيري بشارة، محمد شبل، أسماء البكري. وقد أصابتهم جميعاً لعنة شاهين التي كانت تضع الجمهور في مرتبة أقل، باعتبار أنّ أفلامهم أفلام «مثقفين». ربما حاول بعضهم الخروج من الأزمة بتقديم أفلام تحمل الطابع الجماهيري (داود عبد السيد مثلاً في «مواطن ومخبر وحرامي»).
في المرحلة الأخيرة، كان خالد الحجر، يسري نصر الله، وخالد يوسف الأبرز في متخرّجي المدرسة، ولكل منهم أسلوبه الخاص. خالد يوسف الأقرب إنسانياً لشاهين. وقد اختاره شاهين ليستكمل معه فيلمه الأخير «هي فوضى» بعد مرضه، رغم أن مشروعه يكاد يكون مغايراً لشاهين. خالد نفسه يؤكد أنّ أستاذه «لا يترك تلاميذه يسعون في سوق السينما بدون دليل» موضحاً: «أول أفلامي «العاصفة» كان من إنتاجه، لم يتركني كالقطّ الضّالّ». واستمرت مدرسة شاهين في تقديم المختلف وكان آخر التلامذة: أمير رمسيس وعماد البهات الذي يؤكد «نحن جديرون بالنجاحنتدرب في مدرسة سينمائية فريدة من نوعها، نتدرب عملياً ونظرياً حتى نصل في النهاية إلى ما لم يكن ممكناً أن نصل إليه: إنّنا تلامذة يوسف شاهين»!

مواهب عدّة في رجل واحد

يوسف شاهينشاهين في كان عام 2004 (بسكال غيو ــ أ ف ب)«الأرض» (1969) يعدّه كثيرون أعظم فيلم مصري على الإطلاق، و«باب الحديد» (1958) كان ثورة سينمائية في زمانه... إذا اخترنا قائمة أفضل عشرة أفلام في السينما المصرية، فربما احتل يوسف شاهين نصفها على الأقل

محمد خير

في لحظة الفوضى الشاملة، اختار يوسف شاهين أن يغيب. فيلمه الأخير لم يحقق رضى النقاد، لكنه نجح في شباك التذاكر لأول مرة في تاريخ «جو». مجنون السينما الذي كثيراً ما أفلس المنتجين بأفلامه العظيمة، يبدو أنّ النجاح التجاري كان الأمنية الدفينة التي أخذ يؤجلها مراراً. وما إن حققها في «هي فوضى» حتى غاب، أم تراه صنع فيلم الفوضى عندما استشعر قرب الغياب؟ لم يعتد يوسف شاهين أن يقدم الأجوبة، الرجل الذي ظل يفجر بجنونه، اعتاد أن يفجر الأسئلة باستفزازية لا تلين.

من يريد تلخيص «شاهين» في أرقام فليبحث عن مراده في الموسوعات، هي مليئة بالمعلومات عن إنجازه السينمائي. نكتفي هنا بأهمّ الأهم، 12 فيلماً من إخراجه في قائمة أفضل 100 فيلم مصري. احتل بذلك المركز الأول في القائمة متقدماً على صلاح أبوسيف، لكن الأرقام لا تعبّر دائماً عن الحقيقة. إذ إن تلك النسبة (12 في المئة) تعطي دلالات غير دقيقة تماماً، فلو اختيرت قائمة أكثر «تلخيصاً» ولتكن أفضل عشرة أفلام في السينما المصرية، ربما احتل يوسف شاهين نصفها على الأقل. يكفي للتأكد من ذلك، أنه رغم ارتباط شهرته بأفلام سيرته الذاتية (حدوتة مصرية/ اسكندرية ليه/ اسكندرية كمان وكمان)، فإن تلك الأفلام على أهميتها، لا تتضمن الروائع الأخرى، وعلى رأسها «الأرض» (1969) الذي يعده كثيرون أعظم فيلم مصري على الإطلاق. «باب الحديد» (1958) الذي عدّ ثورة سينمائية في زمانه، « الناصر صلاح الدين» (1963) الذي لا يحتاج إلى تعريف، وكذلك «عودة الابن الضال» (1976) «العصفور” (1972) و«الاختيار” (1970) كل ذلك دون أن نُدخل في الحسبان أفلاماً أخرى رائعة مثل «اليوم السادس» (1986) «الوداع يا بونابرت» (1985).

في الواقع، روائع شاهين احتلت نسبة كبيرة من إجمالي أفلامه (41 فيلماً)، حتى مع استبعاد أفلام مهمّة مثل «صراع في الوادي» (1953) و«جميلة بوحيرد» (1958) ولم تنتقص من نسبة روائعه سوى الأفلام التي قدمها في السنوات الأخيرة، بدءاً من «المصير» (1997) عندما بدا للنقاد أن تلك ليست أفلام «جو» الذي يعرفونه. بينما كانت تلك هي المرحلة التي بدأ فيها المخرج العالمي تذوّق النجاح الجماهيري. ربما كان لجائزة مهرجان «كان» دور في ذلك النجاح، وخاصة أنّ الدعاية لم تساعد الجمهور على التمييز بين جائزة «السعفة الذهبية» وجائزة «اليوبيل الذهبي» للمهرجان. على كل حال، فإن الجائزة كرست لدى الجمهور مفهوم «عالمية» يوسف شاهين، تماماً كما فعلت جائزة «نوبل» مع نجيب محفوظ قبل ذلك بتسع سنوات، وكما فعلت هوليوود مع عمر الشريف الذي هو اكتشاف شاهين نفسه وخريج مدرسته نفسها في الإسكندرية.

لكن التجربة الشاهينية لا يمكن اختصارها في موهبة رجل واحد. فكما كانت قاهرة القرن العشرين حاضنة المواهب الفنية والثقافية العربية، وكما كانت «أم كلثوم» حاضنة تجارب عباقرة الموسيقى الشرقية، فإن أفلام يوسف شاهين لم تكن مجرد تجربة رائدة في تطوير مفهوم «الصورة» في السينما العربية، بل بدورها صنعت كيمياء بين عناصر فائقة الموهبة، إذ يكفي أنّ «عودة الابن الضال» قد شهد التعاون الوحيد بين الشاعر صلاح جاهين والموسيقار بليغ حمدي، فضلاً عن حوار صلاح جاهين الذي يكاد ينطق شعراً. كما أنّ أفلام «الأرض»، «الاختيار» وغيرهما، شهدت تضافر خبرات وتعاون عدد من أعظم الأدباء المصريين، على رأسهم نجيب محفوظ، عبد الرحمن الشرقاوي، يوسف السباعي وغيرهم، والموسيقيين الذين منهم كمال الطويل، سيد مكاوي وعلي إسماعيل. علماً أن الأخير كتبت زوجته الشاعرة نبيلة قنديل كلمات أغنية فيلم «الأرض». ويبقى ليوسف شاهين فضل أنه بجهده الخاص، قد جمع أولئك المبدعين في تلك التجارب السينمائية المضيئة. كما لم يستكن إلى توافر مواهب التمثيل العظيمة في أجيال الستينيات والسبعينيات، فأعاد اكتشاف محمود المليجي ليقدم معه وبه عدداً من أهم أدوار السينما المصرية، أشهرها «محمد أبو سويلم» في فيلم «الأرض» وصنع الأسطورة الفنية للفنانة محسنة توفيق التي تحولت بها إلى «بهية». أما محسن محيي الدين، الموهبة الطاغية التي اختارت الاعتزال، فلم يفلح يوسف شاهين في تعويضها وكان يعرف أنه لن يفلح.
هناك من يغيبون فيفتقدهم المصريون بشراً وهناك من يغيبون فيفتقد المصريون أهراماً، يوسف شاهين من النوع الأخير. في غيابه تزداد مصر غربةً.

***

«لسّه الأغاني ممكنة»

كانت «الأغاني ممكنة» في سينما يوسف شاهين. لم يستخدم هذا الأخير الغناء ليملأ فراغاً أو ليزيد من الأدوات الفنية المستخدمة في العمل... بل كان يختار اللحظة المناسبة والكلمة المناسبة التي ستفتح لهذا النمط الفني باباً منطقياً ومبرراً لوجوده، حتى يشعر المتلقّي بأنّه كان بحاجة إلى سماع هذه الأغنية في هذه اللحظة بالذات. لهذا كله، لم يكن شاهين يترك شعراء الأغاني يكتبون من دون تدخل منه، فكلماتهم موجودة لأن لها ضرورة، وهو يشير على الشعراء بأن يكتبوا في هذا الاتجاه، لا في غيره، ويوضح لهم علاقة قصيدتهم بالسيناريو والشخصيات.
والمغنّون كانوا دائماً جزءاً لا يتجزأ من أعماله. من منّا لا يذكر صوت الكورال وهو يردد «الأرض لو عطشانة» من كلمات نبيلة قنديل وألحان علي إسماعيل، فيما صورة محمود المليجي غارقاً بدمائه تملأ الشاشة. هل كان يمكن أن يكون هذا المشهد دون هذه الكلمات. الشاعرة والموسيقي نفسيهما سيجتمعان مرة أخرى في فيلم «العصفور» ليقدما معاً أغنية «راجعين» التي باتت أغنية عبور الجنود المصريين (1973). من العصفور أيضاً نذكر أغنية الثنائي إمام - نجم التي اقترنت بالفيلم: «مصر يمّه يا بهيّة/ يم طرحة وجلابيّة»...
تعامل شاهين مع أشهر كتّاب الأغاني والملحنين والمطربين العرب، مثلما وظّف الأغنية الشعبية أيضاً، كما في فيلمه «ابن النيل» حيث حضر المطربان الشعبيان يوسف صالح وسميحة توفيق. وربما كانت سينما شاهين مسؤولة عن تقديم الفنانين بصورة ثقافية تملك موقفاً سياسياً وفكرياً محدداً، مثل أغنية «مفترق الطرق» لماجدة الرومي في «عودة الابن الضال» التي وصفت، بحسب كاتب العمل صلاح شاهين، بـ«واحدة من أروع الأغنيات التي غنتها الرومي» من ألحان كمال الطويل.
أما محمد منير، فقد أتاح له ظهوره في «حدوتة مصرية» و«المصير» أن يبرز طاقته المسرحية، فتألّق من دون رومنسية فاقعة، بل بعصبية وموقف حاد من كل ما يجري من حوادث، فقدم «علِّ صوتك» تأليف كوثر مصطفى وألحان كمال الطويل. مثلما بدت لطيفة التونسية مطربة مختلفة تماماً مع شاهين، واشتهرت بأغنية «تعرف تتكلم بلدي» في «سكوت حنصوّر» من كلمات جمال بخيت وألحان عمر خيرت.
بهذا المعنى استثمرت سينما شاهين طاقات المبدعين، حوّلت مغنّين إلى ممثلين، فالمبدعون مهما كان مجالهم عنصراً سينمائياً قيد التفكيك والمفاجأة.

عاشق الممثل

يوسف شاهينهناك قاسم مشترك بين الكثير من الوجوه الشابة التي ظهرت لأول مرة على الشاشة بفضل يوسف شاهين، من هشام سليم إلى خالد النبوي وصولاً إلى أحمد يحيى. الطول والنحول نفسيهما تقريباً، الطريقة العصبية الحادة في الكلام، القوة في نظرة العينين التي لطالما رأى فيها شاهين تعبيراً عن الموهبة الحقيقية لدى الممثل. ثمة خيط واحد يجمعهم، ربما يكون قربهم من الممثل الذي حلم شاهين أن يكونه. فكثيراً ما بُرر هذا الولع باكتشاف النجوم برغبة شاهين الدفينة في أن يصير ممثّلاً. وقد حاول فعلاً دراسة التمثيل في أميركا، لكن شكله وحضوره كانا عائقين أمامه. ألم يقل في لقاء صحافي مرةً «أبحث عن ممثلين أمثّل من خلالهم، ويا ويل الممثّل الذي لا يكون أنا؟».
لقد اكتشف هشام سليم في «عودة الابن الضال» منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ثم محسن محيي الدين في «اليوم السادس» والثلاثيّة الإسكندرانيّة، وخالد النّبوي في «المهاجر»، وأحمد وفيق ومصطفى شعبان في «سكوت حَنصوّر»، أما هاني سلامة، فقبل أن يسند إليه بطولة «المصير»، أخضعه لامتحان غريب، إذ أمره بأن يستمر في غناء مقطع من أغنية لعبد الحليم، كي يكتشف مقدرته على تجديد الانفعال والتعبير. ومن آخر اكتشافات شاهين، الراقص أحمد يحيى الذي شاهده في باليه «زوربا»، ليصبح بطل «إسكندرية... نيويورك»، ثم خالد صالح ومنّة شلبي في «هي فوضى».
وعبر تاريخه الطويل، كشف المعلّم الراحل عن قدرات نجوم مكرّسين أيضاً، مثل أحمد مظهر، وحسين فهمي، ونور الشريف، ويسرا، وصفية العمري، وشكري سرحان الذي ظل الشاب الرومانسي إلى أن قدمه شاهين في «ابن النيل» ليصبح عنوان الفيلم لقباً له. وهناك طبعاً محمود المليجي الذي تحوّل إلى نجم بعد أدائه شخصيّة محمد أبو سويلم الشهيرة في فيلم «الأرض»، أحد أعظم أفلام السينما العربيّة. وقلّة من القرّاء تعرف أن عمر الشريف نفسه مدين لشاهين بمسيرته. لقد كان صديقه على مقاعد الدراسة في «كليّة فيكتوريا»، وعرض عليه دوره الأول أمام فاتن حمامة في «صراع في الوادي». وهكذا انطلق إلى النجوميّة العالميّة.
أما النجم فريد الأطرش، فقاوم طويلاً هذا المخرج الشاب الذي يريد تغييره... لكنه عاد فاستسلم أمام إرادة شاهين في «إنت حبيبي»، وإذا بالمطرب الصعب المراس يتجدد كممثل مع شاهين. وبعدها بعقود، تولّى إدارة مطرب آخر أمام الكاميرا هو محمد منير في «حدّوتة مصريّة» و«المصير». ثم جاء دور ماجدة الرومي في «عودة الابن الضال»، وأخيراً لطيفة التونسية في «سكوت حنصوّر» الذي ظهرت فيه المغنيّة روبي أيضاً للمرّة الأولى.
كذلك أثّر شاهين في ممثّلين عرفوا بأدوار نمطية، ليقلبهم إلى أبطال كوميديا، مثلما حدث مع حسين رياض، أو يجعل منهم ملوكاً في التراجيديا، مثلما فعل مع محمود المليجي شرير الشاشة، كما ذكرنا أعلاه.

من الواقعية النقدية إلى السينما السياسية
عثمان تزغارت

يوسف شاهينترك يوسف شاهين بصماته المميزة في مسار السينما العربية والعالمية، على مدى ستة عقود من الإبداع قدّم خلالها أفلاماً تنوعت بين الواقعية النقدية في الخمسينيات («ابن النيل»، «صراع في الميناء»، «باب الحديد»...) إلى السينما السياسية التي صنعت شهرته، بدءاً بـ «جميلة الجزائرية» (1958)، ووصولاً إلى «الأرض» و«العصفور» و«عودة الابن الضال» التي قدّمها في النصف الأول من السبعينيات، ثم «اليوم السادس» و«وداعاً بونابرت»، في الثمانينيات. وفي خلال ذلك، قدّم شاهين ثلاثيته الأشهر التي مزج فيها بامتياز بين السيرة الذاتية والهم السياسي والاجتماعي، وطرح جانباً الأساليب الحكائية التقليدية لحساب لغة بصرية مكثفة خوّلته الوصول إلى «العالمية» التي كان يتطلع إليها، وفرضت نهائياً مكانته في مصافّ كبار صنّاع الفن السابع. فبعد «إسكندرية ليه؟» (1978)، قدّم «حدوتة مصرية» (1982) ثم «إسكندرية كمان وكمان» (1989). في عام 2004، قدّم فيلماً رابعاً أراده امتداداً لهذه الثلاثية، وهو «إسكندرية - نيويورك». لكن النفس النضالي المعادي للإمبريالية الأميركية غلب على هذا الفيلم، بحيث لم يرقَ فنياً إلى اللغة السينمائية لـ «الثلاثية» التي أبهر المعلّم الإسكندراني الكبير من خلالها جمهور وصنّاع السينما العالمية على السواء.
ولم يكن شاهين سينمائياً كبيراً، مجدّداً ومبدعاً فحسب، بل كانت له مواقف نضالية وآراء سياسية مدوّية. في عام 1994، اصطدم بالحركات الأصولية المتطرفة، على أثر فيلم «المهاجر»، ما دفعه إلى تقديم فيلمه الأشهر «المصير» الذي استعاد فيه فكر ابن رشد وشخصيّته للمرافعة ضد التطرف والظلامية، الذي نال عنه جائزة الذكرى الخمسين لمهرجان «كان»، سنة 1997. واحتلت السياسية مكانة مركزية في أعمال المرحلة الشاهينية الأخيرة، من «الآخر» (1999) إلى «سكوت هنصوّر» (2001) و«إسكندرية - نيويورك» (2004)، وأخيراً، «هي فوضى» الذي قدّمه الخريف الماضي، وكان أول عمل سينمائي تجرأ على طرق قضية العنف البوليسي في مصر.
على رغم المصاعب الصحية المتعددة التي عاناها شاهين منذ 2001، فإنّه نجح من خلال هذا الفيلم الأخير في تحقيق أحد أحسن أعماله منذ «الثلاثية». «هي فوضى» عاد بمحبي السينما الشاهينية - بعد طول انقطاع - إلى ألق «المرحلة الواقعية» التي صنعت تميّزه، ليطوي السينمائي المصري الكبير قبل رحيله، صفحة «المرحلة الخطابية» التي جعلت أفلامه، منذ «المصير»، تغلِّب النضالية الفكرية على الجوانب الفنية والحسّية، بسبب المعارك السياسية الجريئة التي خاضها، إثر زوابع الجدل والتكفير التي صاحبت محاولة حظر فيلمه «المهاجر».
لم يتخلَّ يوسف شاهين في هذا العمل الأخير عن النبرة النضالية والمرافعة السوسيولوجية التي اشتهر بها ضد مختلف مظاهر الظلم والقمع والاستبداد، حيث تناول عدداً من القضايا الساخنة التي تشغل المجتمع المصري، كالفساد السياسي والاقتصادي والعنف البوليسي، إلا أن الميزة الأساسية لهذا العمل الأخير أن مضمونه السياسي - بخلاف معظم الأفلام التي حقّقها شاهين خلال العشرية الأخيرة - اندرج ضمن قالب فني لم يعتمد فقط على قدرات شاهين الأسلوبية ولغته البصرية المميزة، بل استند أيضاً إلى سيناريو متماسك لم يكتف بمحاكاة الواقع الاجتماعي أو مساءلته، بل نحت منه شخصية محورية مميزة، هي شخصية أمين الشرطة الفاسد (حاتم) التي حملت من العمق الإنساني والدلالة الرمزية ما يخوّلها أن تبقى ماثلة في أذهان محبي السينما الشاهينية... على غرار شخصيات «قناوي» في «باب الحديد»، أو «بهية» في «العصفور» أو «يحيى» في «الثلاثية الإسكندرانية»

في عين النقد

دراسات ومؤلفات كثيرة خصّصت على مدار السنوات، في مختلف اللغات، لسينما يوسف شاهين. نكتفي بالإشارة منها إلى أربعة مراجع أساسيّة:
الناقد السينمائي وليد شميط واحد ممّن كرسوا جهداً لإجراء دراسة ضمّت حوارات مع شاهين بعنوان «يوسف شاهين - حياة للسينما» (‏2001‏ - دار رياض الريس)، وفي الدراسة بحث في هموم المخرج التي ازدادت تعقيداً مذ تورّط في نبش الواقع بجرأة ومن دون مواربة. ويصف شميط عالم شاهين «بالمعقّد، يمتزج فيه الذاتي بالموضوعي، ظاهره مبهرج وملوّن ومتحرّك، وباطنه عذاب وبحث وصراع وقلق وتوتر وألم». وهو ضمن ذلك يقدم عرضاً مكثفاً لأعماله السينمائية إلى جانب تلخيص المراحل التي رصدها شميط لتطور سينما شاهين، وهي «الألم - الوعي ـــ الالتزام».
وتطرقت الباحثة السينمائية سعاد شوقي إلى «تطور الرؤيا والأسلوب» في أعمال شاهين، باحثة في مفهوم الإغراق في المحلية الذي قاد شاهين إلى العالمية، كما تناولت أدواته الفنية وتأثره بمنطق المسرح.
وكانت سينما شاهين في مرحلة ما بعد فيلم «الأرض» وبالتحديد في 20 عاماً من 1971 إلى 1991. مدار تحقيق الناقد سمير فريد «أضواء على سينما يوسف شاهين» (1997 - الهيئة المصرية العامة للكتاب) الذي تناول سبعة أفلام من الإنتاج المصري المشترك مع الاتحاد السوفياتي والجزائر وفرنسا، وقد عرضت في عشرات المهرجانات السينمائية الدولية.
أما المؤلف والسناريست والناقد السوري رفيق صبّان فقد تناول سينما شاهين في كتابه «أضواء على الماضي»، مستعرضاً رحلة السينمائي الكبير، وكيف اختلفت رؤيته الإخراجية التي اعتمدت حضور الموضوع والذات، وظلّ أميناً لنظرته الناقدة التي لم تغلّب جانباً على آخر.

يتامى أفلامه ويتامى رحيله أيضاً...
حسين بن حمزة

يوسف شاهينفي أيّ لقطة من أيّ فيلم له، كان المشاهد يدرك بسهولة أن ما يراه هو من صناعة يوسف شاهين. من حركة الكاميرا. من زاوية أخذ اللقطة. من الدسامة التعبيرية لكادر اللقطة ككل... كان الرجل صاحب لغة سينمائية. لا جديد في هذا الكلام طبعاً، لكن فكرة الاهتداء إلى إمضاء شاهين من مجرد لقطة واحدة له - وانتشار هذه الفكرة كمُسَلَّمة - تؤكد، بطريقة ما، إلى أيّ حد كانت لغة شاهين شائعة كماركة مسجّلة باسمه. ينبغي أن نضيف أن ذلك كان شائعاً بين جمهور السينما العادي أيضاً لا لدى المختصّين والمهتمّين بها فقط. حتى الذين لم يحبوا أفلامه كانوا يعرفون أن لديه «أسبابه» السينمائية القوية والوجيهة التي تجعله «معقَّداً» وصعب الفهم في نظرهم.
الممثلون الذين رشحهم للعب أدوار في أفلامه، كانوا يتركون كل شيء ويتفرغون له. هؤلاء كانوا يعرفون مسبقاً أنهم مدعوّون إلى وجبة سينمائية مختلفة، وأن العمل مع المعلم «جو» سيضيف علامة فارقة على الفيلموغرافيا الخاصة بكل واحد منهم. كان اختيارهم - سواء لبطولة مطلقة أو مجرد دور قصير وعابر - أشبه بالحصول على شهادات «حُسن أداء سينمائي». ولكن - في الوقت نفسه - كان العمل معه يخُضعهم لشرطٍ خفيّ يتحولون بموجبه إلى مواد طيِّعة بين يديه... يعيد تكوينها وصوغها كما يريد. من حق أي مخرج أن يفرض رؤيته وأسلوب عمله، ولكن العمل مع صاحب «اسكندرية ليه» كان يتطلب أن يتحول الممثلون إلى مؤدّي أدوار خاضعة لمزاج شاهيني متشدد. نور الشريف هو نور شريف آخر في أفلام شاهين. والحال كذلك بالنسبة إلى يسرا وخالد النبوي ومحمود حميدة ونبيلة عبيد ومحمد منير وهاني سلامة... بل إن ممثلاً مثل محسن محيي الدين الذي لعب بطولة عدد من أفلام شاهين يكاد يكون غير موجود خارج هذه الأفلام. الإمضاء الشاهيني كان يصنع ممثلين شاهينيين.. وحين كان بعضهم يعملون بإدارة مخرجين آخرين كانوا يفقدون «الهالة» التي منحهم شاهين إياها. كانوا أشبه باليتامى خارج أفلامه. وها هم يتامى رحيله أيضاً.

الاخبار
عدد الاثنين ٢٨ تموز ٢٠٠٨

***

يوسف شاهين: سينما منفتحة للمشاكسة وللسّيرة الذاتية والغضب

أسلم الروح عن 82 عاماً بعد غيبوبة طالت شهراً

ابراهيم العريس

يوسف شاهين
(يوسف شاهين وزوجته الفرنسية كوليت)

«لزمن طويل بعد أن يموت الشعراء، تظل أغنياتهم تتجول في الطرقات». يوسف شاهين لم يكن شاعر لغة، لكنه كان بالتأكيد شاعر سينما، وبالتأكيد سيبقى العدد الأكبر من أفلامه/ قصائده، حياً في وجدان وعيون عشرات الملايين من الذين شاهدوها، وسيشاهدونها، فسينما يوسف شاهين لا تموت، كحال السينما الكبيرة كلها. وهي كانت وتبقى سينما كبيرة، إن لم يكن في افلامه كلها، ففي عدد كبير منها.
يوسف شاهين الذي توفي أمس الأحد عن 82 عاماً أنجز بين الحين والآخر، أفلاماً أرضت السوق و «الجمهور» العريض، لكنه حقق في مساره السينمائي الذي قارب الستين عاماً، أفلاماً أخرى ربما تكون غالبية أعماله، أرضته كفنان وأرضت النقاد والمثقفين والمحبين الحقيقيين للسينما، وإن كانت رجمت بعد عروضها الأولى. فمن «بابا أمين» الى «هي فوضى؟» تسجل فيلموغرافيا الرجل الذي استحق دائماً لقب «عميد السينما العربية» نحو أربعين فيلماً (بين روائي طويل ووثائقي قصير)، سجلت في حد ذاتها، ومرحلة بعد مرحلة، علامات انعطافية في السينما المصرية بخاصة، ولكن، بالواسطة، في بعض السينمات العربية الأخرى. وهنا، نفكر، بالطبع، بأفلام النقد الاجتماعي وأفلام الغضب السياسي، ولا سيما أفلام السيرة الذاتية، التي كان شاهين، وليس فقط منذ «اسكندرية ليه؟» مفتتح تيارها والفنان الذي شق طريقها أمام عدد من متابعيه في تونس أو لبنان، في سورية أو المغرب.
ولم تكن ريادة شاهين في هذا الميدان مكللة بالغار، بل كلفته كثيراً، لكن «جو» الذي كان منذ يفاعته قرر ألا تكون له مهنة في حياته غير السينما، لم يبال، بل سار في طريقه متمرداً مشاكساً، محللاً غاضباً، لا توقفه رقابة ولا يحده اطار. ولولا هذا لما عرفت السينما المصرية روائع تصنف دائماً في أفضل مئة فيلم في تاريخها، من «الأرض» الى «العصفور» ومن «باب الحديد» و «الاختيار» و «فجر يوم جديد» الى «بياع الخواتم» (في لبنان) و «المهاجر»، وخصوصاً «اسكندرية/ نيويورك».
واذا كان شاهين اشتهر برباعية سيرته الذاتية (أفلام «الاسكندرية» الثلاثة و «حدوتة مصرية») بوصفها سلسلة أفلام رسم فيها، من دون سرد تاريخي خطي، صوراً من حكاية حياته وحكاية السينما في تلك الحياة، فلا بد من القول إن سينما شاهين، ومنذ «بابا أمين»، تكاد تكون كلها سيرة متواصلة لهذا الفنان الذي، حتى حين استقى مواضيع أفلامه من أعمال كتاب آخرين، عرف دائماً كيف يكيفها مع تطلعاته وما يريد أن يقول.
ولدى ذكر اخراج يوسف شاهين لـ «بياع الخواتم» عن أوبريت الأخوين رحباني الشهيرة في بيروت، لا بد من الاشارة الى ذلك البعد العربي العام، الذي جعل من صاحب «الأرض» واحداً من أكثر المخرجين المصريين انفتاحاً على الهموم العربية كما تجلت خارج مصر، ما أوصله دائماً الى الشأن السياسي، في شكل مباشر أو أقل مباشرة في أفلام دنت من القضية الفلسطينية («الأرض») أو القضية الجزائرية («جميلة الجزائرية») أو الحرب الأهلية اللبنانية («عودة الابن الضال») أو حتى العولمة (اسكتش في الفيلم الجماعي «11/9»، ثم «الآخر»...) أو دور أميركا - في رأيه - في مشاكل العالم العربي والعالم في شكل خاص («الآخر»... و «اسكندرية/ نيويورك»).
لا يمكن القول، بالطبع، إن هذه الأفلام كلها كانت تحفاً، لكنها وغيرها من أعمال شاهين، كانت تعبر دائماً عن سينما حاضرة في العصر، منفتحة على العالم، داعية الى التمرد والتسامح في آن، سواء كانت تاريخية مؤدلجة (كـ «الناصر صلاح الدين») أو سياسية دعائية (كـ «الناس والنيل») أو أعمالاً أصلية (كغالبية أفلامه الكبرى)، فسينما شاهين، التي لن تموت أبداً بموته الذي سيحرمنا من جديده الذي كان دائماً بالمرصاد، كانت سينما متنوعة، ذكية، معاصرة، وهذا ما كرس صاحبها، واحداً من كبار سينمائيي العالم، بشهادة مهرجان «كان» وأهل المهرجان الذين خصوا شاهين، عام 1997، بأرفع جائزة أعطيت في تاريخ المهرجان: جائزة الخمسينية (سعفة ذهبية خاصة) لمجموع أفلام شاهين طوال مسيرته.

***

رحيل صاحب «الأرض» و«المصير» يذكر بريادته في السينما المصرية والعربية * «العالمية» التي تنبع من هموم المبدع ومجتمعه ... سينما يوسف شاهين في مرآة الآخرين

ابراهيم العريس الحياة - 28/07/2008

يوسف شاهين الراحل أمس الأحد عن 82 عاماً، بعد غيبوبة (في باريس والقاهرة) طالت نحو شهر، كان بالتأكيد الأكثر عالمية بين أقرانه من السينمائيين العرب. وانطلاقاً من مكانته المميزة في السينما المصرية، وفي مهرجان «كان» الدولي، بين مهرجانات عدة أخرى ارتادها خلال أكثر من نصف قرن، يعتبر أحد أبرز السينمائيين العالميين، من دون ان يصور أفلاماً كثيرة خارج مصر (باستثناء فيلم في لبنان وآخر في المغرب وإسبانيا). ومن هنا كان الاحتفال العالمي به، في شكل دائم، ينبع من مصريته نفسها، بل من اسكندرانيته المعلنة. وطوال مساره الفني، عاماً بعد عام، نشرت عن شاهين مئات المقالات والدراسات وعدد من الكتب بلغات عدة، كما ان مجلات متخصصة مثل «دفاتر السينما» و «سينما اكسيون» أصدرت عنه اعداداً خاصة. والمجال هنا ليس كافياً، لوضع لائحة مختصرة بما كُتب عن يوسف شاهين. لهذا، ولمناسبة رحيل الفنان الكبير، ننشر في هذه الصفحة الخاصة آراء فيه وفي فنه، تحمل تواقيع نقاد وسينمائيين أجانب، عرفوا أفلام شاهين عن قرب، وتعاملوا معها كجزء من تاريخ مصر وثقافتها، وكذلك كجزء من تاريخ السينما العالمية، من دون تلك الأبوية المعتادة للنقاد الغربيين لدى كتابتهم عن إبداعاتنا العربية، وهذا ما يضع شاهين في مستوى واحد من الاهتمام مع المبدع المصري الراحل الآخر نجيب محفوظ.

> لا يمكن النظر الى يوسف شاهين باعتباره مجرد نتاج ظرفي لموضة ما. شاهين ليس «طرازاً» بين غيره من الطرز. ولا ننسينّ هنا ان جورج سادول وصفه منذ زمن بعيد بأنه أفضل سينمائي مصري من ابناء جيل ثورة 1952. إن سينما شاهين تنتمي الى التاريخ المصري، وفيلماه المنتميان الى السيرة الذاتية («اسكندرية ليه؟» و»حدوتة مصرية») يشكلان نوعاً من التنقيب في داخل رجل مجروح، يرسم، بعدما أجريت له عملية خطيرة في القلب، جردة لصراعه، وآماله، وخيباته، وضروب ضعفه في بلد هزه التاريخ المعاصر هزاً، وصولاً الى سقوط الملك فاروق، ومجيء حكم جمال عبد الناصر، وتدهور نظام هذا الأخير حتى هزيمة 1967، ومجيء عصر السادات. إن شاهين، الذي تكوّن بفضل السينما الأميركية عبر أفلام اغتذت بها مراهقته، ثم عبر الدراسة التي تلقاها في «باسادينا بلاي هاوس» بولاية كاليفورنيا، عرف كيف يزاوج دائماً بين سيطرة كبيرة على اللغة السينمائية، وبين حساسية جريحة لرجل من العالم الثالث. أجل، إنني «وغد»، يحلو احياناً ليوسف شاهين أن يقول وهو المتوسطي الأصيل الذي يمتلئ سعيه الجواني بحماس وتبصّر وشجاعة كبيرة. وشاهين في هذا كله، يطرح اسئلة على العالم العربي، غير متردد في الدنو من المواضيع الأكثر حميمية، وفي نسف الشعارات والأساطير في بيئة اجتماعية وسياسية تظل الطائفية والدوغماتية فيها قاعدة اللعب غالباً. ومن هنا فإن شجاعة شاهين وظمأه الى التواصل مع الآخرين، يرغمان المرء على احترامه والإعجاب به. أما حبه المجنون للسينما فإنه يجعل منه واحداً من السينمائيين الأكثر إبهاراً في زمننا...

كريستيان بوسينو
(ناقد سينمائي فرنسي أشرف على عدد خاص من مجلة «سينما كسيون» عن شاهين)

> يوسف شاهين، في طبيعته، سينمائي لا يمكن إمساكه. فهو أبداً لا يمكنه ان يدع لنفسه مجال أن يحصر في إطار، حتى ولو كان إطار العديد من الأشخاص الذين قيض له أن يدنو منه، خلال لحظات متفرقة من مساره الإبداعي. شاهين المفتون عادة بأميركا وبخاصة بهوليوود، عرف دائماً كيف يعمل على بناء نمط جديد من الاستعراض، لا يمكن ابداً وصفه بأنه كلاسيكي او حديث.. كما لا يمكن وسمه بالحذلقة. لديه، يُنظر الى السينما دائماً بوصفها عالماً يلتهم كل مظاهر الحياة وتجلياتها. ومن الصعب العثور في سينماه على أي اثر للنزعة الطبيعية. كل ما لديه هو تمثيل وإعادة تمثيل للواقع. أو لنقل، نقلاً عن رينوار، ان الواقع لديه سحري دائماً. وهكذا، حتى حين كان الأمر يقتضي الاتيان على ذكر الساعات الساخنة التي سبقت اندلاع حرب الأيام الستة والهزيمة التي تلتها، كما في «العصفور»، لا يتخلى شاهين أبداً عن عالم الحكاية. عالم «كان يا مكان...».
ولئن كان يمكن تعريف شاهين بأنه سينمائي سياسي، وبخاصة اعتباراً من سنوات الستين، فإنه سياسي ولكن دائماً انطلاقاً من فكرة سينمائية ما، انطلاقاً من منطق موروث من الحكايات الكبيرة بل أفضل من هذا: من الكوميديا الموسيقية كما هي حال فيلمه الرائع «عودة الابن الضال»، حيث نلاحظ كيف ان أربع خطوات راقصة جديرة بفنشنتي مينيللي تأتي هنا لتزين التراجيديا البريختية التي تُلعب امام أعيننا، تراجيديا الوعي الشقي لبطل ثوري استولت عليه البورجوازية، لينتهي، بائساً، مندفعاً ضد الطبقة التي ينتمي أصلاً إليها... وبالتالي ضد ذاته.

تييري جوس
(رئيس تحرير مجلة «كراسات السينما» الفرنسية في تقديم عدد خاص من المجلة عن شاهين)

يوسف شاهين
... مع عدد من المخرجين والمتنجين السينمائيين خلال مهرجان كان عام 1983

> إن لـ «جو» طاقة حيوية ويتمتع بسرعة تفكير مؤثرة، ويحدث دائماً أن إخراجه لفيلم من أفلامه يتبع هذه السرعة لديه. ويقيناً أن قوة سينماه تكمن هنا هنا. وأنا نفسي أعدت التفكير في هذا الأمر حين كنت أصور «الملكة مارغو». لقد أعطاني شاهين الانطباع بأن السينما تخرج من بين اصابعه. وأسلوبه في الإخراج يبدو لي قريباً جداً مما أحب ان أفعله. غالباً ما يبدو السينمائي الأكثر حماساً من بين الآخرين لإنجاز العمل. ففي مكان التصوير يتقاعس الجميع: ملاحظ السيناريو يريد لراكوراته ان تكون صحيحة؛ ومدير التصوير يطالب بإطاره الصحيح، والمزين بأن تكون زينته الأفضل ويحدث ذات لحظة أن يريد السينمائي (أي المخرج) أن يقول للطاقم: اشتغلوا بأقل جودة ممكنة، ولكن بأكبر قدر من الانطلاق. إذ يتعين على الفيلم ان يتحقق تبعاً لإيقاع تفكير المخرج. في «الملكة مارغو» صورنا مشاهد مجزرة سان - بارتيملي فيما لم يكن أي شيء جاهزاً. مع أن المرء يمكنه أن يمضي حياته كلها، وهو يحسب لقطة ويتحقق منها. لكن الأساسي هو ان يتعلم المرء كيف يرمي بنفسه في الماء. ولدى يوسف شاهين هناك هذه القدرة على الاختراع والابتكار والارتجال الرائع. هناك ما يشبه اللهيب. إن شاهين يصور على سرعة تفكيره. وتفكيره غني من دون حدود.

باتريس شيرو
(ممثل ومخرج فرنسي مسرحي وسينمائي قام بدور «بونابرت» في «وداعاً بونابرت»).

> هناك عدد من المخرجين الأجانب (وأتحدث هنا عن الأحياء لا عن الأموات) يجسدون بالنسبة الينا، وفي الوقت نفسه، ما هو أكثر خصوصية وذاتية في ثقافتهم وسينماهم الأصيلة، وما يجعل من السينما فناً كونياً شاملاً، لغة يفهمها الجميع ويتواصلون بها وربما تكون هذه اللغة أكثر قدرة على التوصيل بين البشر من الأدب نفسه، وأولاً في ما يتعلق بما هو مشترك لديهم. وفي هذا الإطار يمكن التفكير ببيرغمان وساتياجيت راي وكوروساوا وفلليني وودي آلن. ويقيناً أن يوسف شاهين واحد من هؤلاء.
أنا في الحقيقة لم أكن اعرف أفلامه حين دعوته الى مون بلانش، ليشارك في اللقاءات التي كرسناها هناك عام 1981 للسينما المصرية والكاتالينية. والتقيته للمناسبة مرتين: التقيته في الحياة نفسها، وفي فيلم «باب الحديد» الذي كنا نعرضه. والحال ان التلازم بين الرجل وكرمه وحاسيته وذكائه الحاد وثقافته، وبين الفيلم كان مكتملاً، الى درجة أنه هزني هزاً. ويمكن أن يقال ان هذا التلازم الحميم هو، عادة، من خصائص المبدع، وإنه الشرط الجوهري لإبداعه... ولكننا نعرف انه، مع ذلك كله، نادر الوجود.
إن هذه السمات التي تتضافر عن كثب لدى شاهين في اختياره مواضيعه، في مسلك حكاياته والحب الذي يضفيه على شخصياته (حيث «الأشرار» ليسوا ابداً أقل إنسانية من «الطيبين») وفنه في إعطاء حكاياته كثافة روائية غالباً ما تفتقر إليها السينما، وقدرته على الكلام عن البسطاء وعن «القضية العادلة» من دون أن يلامس أبداً حدود التبسيط، وفي المشاعر والأحاسيس التي يعبر عنها من دون الوقوع في أية إثارة، وكذلك في البرهان على حب للحياة، قادر على ان يكون ذا موضوعية قاسية. والحال انني من اجل هذا كله أحس تجاه شاهين بإعجاب كبير وصداقة عميقة.

رينيه آليو
(مخرج فرنسي)

يوسف شاهين
مشهد من فيلم «إسكندرية كمان وكمان»

> إن في إمكان شاهين أن يستعير لحسابه عبارة يقول فيها رينوار «انني لأتحدث عن نفسي عبر الآخرين». والحال ان كلام شاهين، كسينمائي لا يقوم أبداً من التعبير عن مشاكله، حتى وإن كان في وسعنا ان نجد في بعض أفلامه شخصيات قد تظهر وكأنها أناه الآخر، كما هي الحال في «اسكندرية ليه؟» حيث يطالعنا ذلك الشخص الذي، مثل شاهين في بداياته، يبدو حائراً بين ان يصبح ممثلاً أو مخرجاً، لكن شاهين يعرف كيف ينظر اليه عبر مسافة الزمن الضرورية. إنني اتذكر، من هذا الفيلم، مشهداً رائعاً يتحدث عن الخوف من الربح. وأنه لأمر رائع طالما أن الناس غالباً ما يتحدثون عن خوف الخسارة، ونادراً ما يتحدثون عن عكس ذلك، عن ذلك الأمر الذي يبدو لي أكثر إثارة للقلق: خوف الربح. وانني احب كثيراً أيضاً فيلمه «وداعاً يا بونابرت» الذي عرض في مهرجان كان في العام نفسه الذي عرض فيه فيلمي «موعد».

وحتى إذا كان الحظ قد وقف بجانبي أكثر مما وقف بجانب شاهين في ذلك العام، فإن هذا لن يمنعني من أن أقول انني كنت حزيناً بعض الشيء بسبب الاستقبال الظالم الذي قوبل به «وداعاً يا بونابرت»، بخاصة ان المسألة لم تكن أبداً مسألة الفيلم، بل قضية سجال كان يخاض نوعاً ما ضد جاك لانغ (وزير الثقافة الفرنسية في ذلك الحين والذي ساهم في جعل إنتاج فرنسا للفيلم ممكناً). وضمن إطار ذلك السجال كان من سوء حظ شاهين أن أدمج فيلمه. والحال ان ما هو شديد الجمال في «وداعاً يا بونابرت» إنما هو تلك الطريقة التي بها يتوجه كافاريلي الى ذلك البلد الجديد عليه ليندمج فيه، حيث ينتهي به الأمر الى الخسارة، فيما لا يفكر بونابرت إلا بمصالحه كمستعمر، لا يرى أي شيء من حوله. وفي المقابل لا احب «اسكندرية كمان وكمان» كثيراً لأن رسالته تبدو لي ثقيلة بعض الشيء. ومما لا شك فيه ان هذا مرتبط بطابع الأنا - الآخر الذي يصوره شاهين هنا، من دون ان يرسم المسافة الزمنية بين الأنا والأنا – الآخر... ومع هذا اعتقد ان ثمة في هذا الفيلم مقاطع متميزة تنتمي الى كل ما له علاقة بالكوميديا الموسيقية وسينما النوع...

أندريه تيشينيه
(مخرج فرنسي)

> إن هناك ما هو بطولي في هذا الأسلوب في معالجة مشاهد الحركة (المعارك، الأخطاء والتمرد) وكأنها مشاهد حميمة، ومعالجة المشاهد الحميمة (خلافات، خناقات عائلية، وانفصالات) وكأنها مشاهد معارك ضخمة. وذلكم ما هو الأجمل في هذا الفيلم (الوداع يا بونابرت): نوع من الاندفاع الجدير بالاحترام.
في مقاييس السينما «العادية» لا يمكن القول ان «الوداع يا بونابرت» فيلم من دون اخطاء. فالحال أن هذه الطريقة في الاندفاع الى داخل كل زحام تبدو لي أكثر كرماً من ان تمنعني من الشعور بالغربة، ومن أن تنتج بعداً درامياً شديد الصخب، ومن ألا تفسد الوسائل بشيء الى الغايات. ولكن إذا ما غضضنا الطرف عن مثل هذه الأمور، أمام مثل هذا الفيلم البطولي والمتبصر، سيمكننا ان نقول ان يوسف شاهين هو السينمائي العربي (والعالم ثالثي) الوحيد الذي يصرّ على ان يحقق في دياره أفلاماً تنسف الفكرة الشهيرة الساذجة حول «العلاقة بين الشعوب». وأنه لفريد من نوعه في هذا الإطار. هل تقولون ان فيلمه أكثر كرماً مما يجب؟ وهل تقولون ان عالمه لا يدور في شكل تام؟ حسناً.. لكن العالم نفسه لا يدور في شكل تام، وعالم السينما أقل من ذلك تماماً في دورته. أليس كذلك.

سيرج داني
(ناقد فرنسي)

> .. وذات يوم جاءتنا الصدمة في تونس مع مشاهدتنا «باب الحديد» ليوسف شاهين. ماذا؟ نحن العرب يمكننا تحقيق مثل هذا ايضاً؟ فماذا إن تمكنا في تونس...؟ (وكانت الصدمة الأولى قد أتت مع فيلم «سوداء فلان» للسنغالي صمبان عثمان... ما إن رأيناه حتى صرخنا: ماذا؟ أفريقيا السوداء أيضاً؟ إذن... قد يمكننا ان نفعل أيضاً في تونس...).
منذ ذلك الحين راح يوسف شاهين يبدو، بالنسبة الى البعض منا من الذين كانوا ينتقدونه بقسوة في الوقت نفسه الذي يعبرون فيه عن حبهم له، راح يبدو وكأنه سينمائي انتهازي ذو ايديولوجية متذبذبة، بسبب مساره المهني المتنوع (حيث إنه لم يتردد أحياناً عن تمرير ميلودرامات دامعة مثل «ودعت حبك»، وأحياناً عن تمجيد الصداقة السوفياتية المصرية كما في «الناس والنيل»، وعن زرع عبادة الفرد: عبد الناصر عن طريق «الناصر .. صلاح الدين»). لكني أنا لم أكن بين هؤلاء، لأنني اكتشفت شخصياً، وفي أفلامه كلها، سمة تجريبية لم تبارح عمل شاهين أبداً. بالنسبة اليّ شاهين عصي على التصنيف. فهو رائد أبدي، ورجل ذو فضول لا ينضب، مستعد دائماً لطرح الأسئلة حول ذاته، وللبحث في كل مكان آخر ما أن يخيل إليه أنه عثر على شيء ما، وللسخرية كمجنون من كل «ذوق سليم» أو اورثوذكسية سينمائية... وكل هذا ليكون ولو لزمن فيلم واحد، على وفاق مع نفسه.

يوسف شاهين هو، على وجه الخصوص، المؤسس الحقيقي لمعظم التيارات التي عبرت بها وتعبرها كل «السينمات العربية الجديدة» منذ الخمسينات وحتى يومنا هذا، وهو ما حاولت ان أبرهن عليه في فيلميي «كاميرات عربية».

ريد بو غدير
(سينمائي وناقد تونسي)

> كنت اعرف معظم أفلام يوسف شاهين، إذ سبق لي ان شاهدتها في سينماتيك الجزائر. اما «الأرض» فإنه آخر ما حققه، حتى الآن، إذ إنه يعود الى العام 1969. وهو يشهد على تفتح شامل في وعي الرجل وأسلوبه. وانا حين شاهدته، في بيروت الليلية وسط صمت القاعة الصغيرة في المركز العربي للسينما، أحسست بنفس الغحساس الذي كان انتابني في قاعة قصر المهرجان في «كان»، حين شاهدت «اندريه روبليف» لاندريه تاركوفسكي: اليقين بأنني إنما أشاهد تحفة فنية. ولست في حاجة لأقول هذا، لأن انتظر تأكيد الزمن له.
إن يوسف شاهين، في هذا الفيلم، يستوحي رواية معروفة جداً في العالم العربي، وهي رواية «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي. وهو يحافظ على كل ما فيها من ثراء روائي-الديمومة الزمنية، التفاعل بين الشخصيات. ثم بعد ذلك نراه ينسج حكاية قوية سلسة لا عتمة فيها ولا ارتباك. وهذا في حد ذاته أمر رائع. لأن النص لا يكف هنا عن ان يكون ثرياً ولا عن ان يكون واضحاً. إذ ان فيلم «الأرض» على هذا النحو يدفعنا الى الاهتمام بعدة مصائر أسبغ عليها الطابع الفردي، مصائر تتفرق، تتقارب احياناً، تتباعد في احيان اخرى، تختفي ثم تعود الى الظهور تبعاً لظروف الحياة الحقيقية ومصادفاتها.
مشهد، لقطتان، ثلاث عبارات حوارية... هذا وحده يكفي لترسيخ هذا العامل او ذاك في اذهاننا، بكثافة وفرادة مباشرتين. ونجد انفسنا في نهاية الأمر أمام رواق حافل بالصور يتجابه فيه مالك الأرض الاقطاعي الذي يستفيد من علاقاته في القاهرة لكي يضبط نظام الري لما فيه مصلحته ويمكنه من ممارسة الضغط على القرية؛ مع الفتاة الحسناء الباحثة عن عريس ياخذها الى المدينة؛ مع عاشقة اخرى؛ مع ذلك الفلاح ذي المزاج البركاني...

جان لوي بوري
(ناقد فرنسي)

يوسف شاهين
... ومن فيلم «هي فوضى»

>... لقد كتبت مقالات بالمئات حول شاهين «السينمائي الملتزم» وشاهين «بطل القومية العربية» وشاهين «المخرج التقدمي العربي» وغير ذلك من كلام شعائري ذي سمة نضالية. من المؤكد ان هذا كله ليس خطأ. وكما قال لست اذكر من «أن ذاك الذي لم يكن ثورياً وهو في العشرين من عمره، إنسان بلا قلب، أما ذاك الذي يظل ثورياً في الأربعين فإنه إنسان بلا عقل». وشاهين تجاوز نصف القرن، وهو دائماً ذلك الشغوف الشكاك، الذي لن يجد فيه تناقضاً إلا اولئك الذين لم يدركوا ان المبدع لا يحتفظ من سنواته العشرين ومن سنواته الأربعين إلا ما كان افضل ما لديه عند تينك السنين. عن كل الكليشيهات العالم ثالثية التي ذكرت أعلاه صحيحة، لكنها ليست الشيء الجوهري. فالحال ان سر الصنعة لدى يوسف شاهين ليس انخراطه في مقارعة الاستعمار والوحدة العربية والاشتراكية، بل حياته نفسها وكينونته... وهذه الحياة وهذه الكينونة هما ما ينقله الرجل إلينا منذ «باب الحديد» الى «العصفور» ومنذ «صراع في الوادي» الى «وداعاً يا بونابرت» رامياً إياهما دون هوادة، وبطريقة عبقرية في وجوهنا تحت الف شكل سياسي، جمالي أو موسيقي.

باختصار، شاهين كان دائماً في مكان متقدم على كافة المبدعين العرب، هؤلاء الذين لا يزالون عبيداً لألف سلطة وسلطة، تختلف عن سلطة ما يعيشه المبدع. وشاهين، في هذا، خدع كل الناس، حتى من دون أن يدرك هو نفسه كم خدعهم. فالحال ان الناس الأكثر حسناً هم الذين يجهلون مبلغ حسنهم...

جان-بيار بيرونسيل-هوغو
(صحافي في «لوموند» الفرنسية)

الحياة
28/07/0820

يـوسف شاهين
(1926-2008)

"مناضل" لم ينته نضاله بعد

يوسف شاهين
يوسف شاهين
يوسف شاهين
ميشال بيكولي في "وداعاً بونابرت". لقطة من فيلم "الأرض". فيلمه الأخير ضد الفساد: "هي فوضى؟".

السينما تقطع أنفاسي؛ انها حياتي، وأنا أعيش هذه الحالة منذ أكثر من 60 عاماً، ولا تغيير محتملاً... بل ربما تعزيز لهذا الميل الفطري"، قال لي يوسف شاهين ضاحكاً ضحكة طفولية في المرّة الاخيرة قابلته فيها في مناسبة اطلاق فيلمه "اسكندرية... نيويورك" في بيروت. هذا الشريط كان عن تجربة حياة تخللتها علاقة مرتبكة مع أميركا، لكنه كان قبل كل شيء آخر عمل في مديح السينما، وكأن لا فرق البتة عنده بين حياته على الشاشة وخلفها. كان السؤال آنذاك: "عندما تخرج فيلماً أوتوبيوغرافياً الى هذا الحدّ، كيف تحافظ على البُعد وتبقى على مسافة من الموضوع الذي تود تصويره؟". كان رده انه يجب علينا ان نعيشه مرّة أخرى وأن نكتبه عدداً لا متناهياً من المرات قبل ان تخلد على هذه البقعة المستطيلة. "اعيشه حين اكتب وحين اصور. هناك حنين الى تلك السنوات التي قدمتها في الفيلم. المشاهد كلها تحتوي على عواطف، كالعلاقة بيني وبين استاذتي. كانت تعشقني تلك الاستاذة، وهي الوحيدة لم تكن تفهم كيف أن بلداً مثل اميركا لا يستطيع مساعدة ولد صغير جاء من "آخر الدنيا"، وعلمت في ما بعد أنها بهدلت زملاءها وشتمتهم لأنها كانت تريد ان يساعدوني".

وصل يوسف شاهين الى حيث لم يصل مخرج عربي آخر من قبله وكرِّس عالمياً من خلال نيله الجائزة الخاصة لـ"مهرجان كانّ" في يوبيله الذهبي عام 1997. مضى بتيمات من صميم المجتمع المصري الى العالمية، مساهماً في اعلاء شأن السينما العربية بفضل موهبته وإصراره على المواصلة في تحقيق طموحه الفني وأفكاره النيرة. ولّدت أعماله سجالات واسعة لن تنتهي حتماً مع رحيله. ولن تكون التحليلات المعطاة لهذه الاعمال تحليلات نهائية غير قابلة لاعادة النظر، انما دائمة الخضوع لقراءات مستجدة. مع الزمن، بات شاهين الفنان الشامل الأكثر تطويراً لحركة السينما العربية، ولا سيما حين راح يستعين بتقنيين أجانب لكن بروح محض مصرية، لذلك بدت أفلامه أفضل بصرياً من مجمل الأفلام المصرية. هذا كله ساهم في صناعة مجده الذي تخطى حدود العالم العربي الجغرافية، ليكون ربما السينمائي العربي الوحيد الذي وجهه معروف لدى الجمهور الاوروبي المثقف، وخصوصاً في فرنسا التي ساندته دائماً.

لبناني الجذور واسكندراني حتى الشرايين، ولد يوسف شاهين في المدينة المتوسطية الكوزموبوليتية الشهيرة عام 1926، وأخرج أول أفلامه عام 1950 وهو في الرابعة والعشرين. أي في العمر الذي انجز فيه عملاق آخر، هو أورسون ويلز، رائعته السينمائية "المواطن كاين". علاقة شاهين بالسينما تعود الى سن مبكرة، وكانت الصور السحرية المتحركة تذهله، في كلّ مرة يشاهد فيلماً في صالة مظلمة. وعبّر عن فهمه للحياة ونظرته الانفتاحية حيالها، المخالفة للسائد، من طريق السينما، وأصبحت الأفلام وسيلته للتعبير عن أفكاره واقتناعاته. في البدايات، درس شاهين مسرحيات شكسبير وأخرج بعضها، كما اشترك في تمثيلها على مسرح كلية فيكتوريا في الإسكندرية اثناء تلقيه العلم فيها، وأمضى سنة في جامعة الإسكندرية قبل أن يسافر عام 1946 الى أميركا حيث درس التمثيل والإخراج في جامعة باسادينا في لوس انجلس. وعلى رغم أنه شاء أن يكون ممثلاً، فقد أدرك أنه يجب ان يكون مخرجاً وليس ممثلاً عندما كان في الولايات المتحدة، فابتعد عن التمثيل، بعدما أدرك انه ليس في مقدوره أن يكون النجم الوسيم أو الـ"جون برومييه"، على غرار أنور وجدي ومحسن سرحان وعماد حمدي، قبل ان يلبس دوراً "اسطورياً" في "باب الحديد". مذذاك لم يتوقف عن البحث عن بديل منه، عن "اناه الاخرى"، ونستطيع القول إنه مثّل من خلال الآخرين، فاذا لم نجده شخصياً ممثلاً في فيلم من أفلامه نجد أنّ أحد الممثلين يؤدي دوره بالطريقة الشاهينية. هذه الطريقة كثيراً ما ارتكزت على اسلوب التعبير المتوتر والحركة السريعة...

بعد تخرجه عام 1950، عاد شاهين الى مصر وتحت ابطه نصّ "بابا أمين" وثانٍ عنوانه "ابن النيل". منذ هذا الفيلم الأخير، بدا اهتمام شاهين بتصوير حياة الناس في القرى المصرية كما كانت الحال في ذلك الوقت. وقدّم "ابن النيل" الذي التقطت معظم مشاهده خارج الاستديو الممثل شكري سرحان للمرة الاولى، وتقمص فيه الوجه المصري الحقيقي. حقق هذا الفيلم نجاحاً تجارياً مهماً بالنسبة الى تلك الحقبة وجلب الى جيوب الممولين 70 ألف جنيه، علماً أن تكاليفه بالكاد بلغت ربع تلك القيمة. واستند شاهين الى مسرحية أميركية اسمها "النهر الصغير"، لانجاز هذا الفيلم بعدما وضعها في قالب مصري ريفي. تجول "المعلم" بآلة التصوير وسط الحقول والمزارع والبراري والطبيعة الريفية الساحرة، مجسداً ما يمكن ان تكون حياة الفلاح البسيطة في زمن اجتياح الفيضان للقرى. أثبت هذا الفيلم ان المكان عند صاحب "الأرض" يكتسب دلالة نفسية تعبّر دائماً عن التمزّق بين "الأنا والآخر". هذا الجانب سيظل طاغياً على معظم أفلام شاهين التالية: القرية النائية في الصعيد المصري تجعل "ابن النيل" يشعر بالحصار، وهو يحلم بأن يحمله القطار الذي يتطلع اليه كل يوم في لهفة الى عالم القاهرة الصاخب المزدان بالأضواء.

لم تخلُ أفلام شاهين من النقد القاسي الموجه الى البورجوازية. تبين ذلك، للمرة الاولى، في "المهرج الكبير" (بطولة يوسف وهبي وفاتن حمامة) قبل أن ينكبّ على أعمال أقل أهمية على المستوى الفني مثل "سيرة القاهرة" (مع ليلى مراد) و"نساء بلا رجال". وكان ينبغي انتظار عام 1954 كي يصدر له "صراع في الوادي" وهو منعطف كبير في تاريخ شاهين الفني، وفيه جرى الكشف عن مهازل الإقطاع إبان العهد الملكي. مع هذا العمل الساحر، وجه شاهين رسالة حب الى مصر وفلاحيها. لقد صور الوجه الحقيقي للبلاد، متسلحاً بموقف سياسي صلب ضد الإقطاع والمنضوين تحت لوائه. كان هذا الموقف عاطفيا، وقد تمثّل في إدانة الظالم وتأليب الناس عليه. وتعاطف الناس مع الضحية - المظلوم، ذلك ان شاهين جعله يعدم ولم ينقذه في اللحظة الاخيرة كما كان رائجاً في الكثير من الافلام. فوصل تعاطف الجمهور له الى الذروة. مثّل في الفيلم كلّ من فريد شوقي وفاتن حمامة وزكي رستم وعبد الوراث عسر، مع بطولة أولى لعمر الشريف الذي ظهر انذاك للمرة الاولى على الشاشة.

***

لم يكتف شاهين بتقديم نوع مضمون النتائج من الأفلام، بل مضى في محاولات لنفض الغبار عن السينما المصرية في مرحلتها الذهبية. وكثيراً ما كان يصدم المشاهدين ويجعلهم يتيهون في دهاليز اللغة البصرية. ولم يكن الجمهور مستعداً بعد لتقنياته السردية الحداثية عندما قدّم اعمالاً شبه تجريبية مثل "أنت حبيبي" و"دعت حبك"، وهما من بطولة شادية وفريد الأطرش وعبد السلام النابلسي وهند رستم. ثم كان "باب الحديد" الذي أقل ما يمكن القول عنه إنه شكل محطة اساسية في سينماه وأيضاً في تاريخ السينما العربية. نستطيع اليوم تسميته على جدول أفضل الأفلام العربية العشرة. دارت حوادث هذه التحفة في محطة مصرية خلال يوم واحد، يبدأ في الصباح وينتهي في المساء. ليس الفيلم الاّ فصلاً صغيراً من الحياة، ابطاله طائفة من الناس جمعهم مكان واحد هو المحطة. ومن خلال تمثيله دور بائع الصحف الأعرج قناوي المعقد نفسياً بسبب عاهته، ترك شاهين بصمة كبيرة في وجدان السينيفيليين في العالم. قناوي هذا يلجأ ذات يوم الى خطف هندوم (هند رستم) والتهديد بقتلها، ثم تجرى المفاوضات معه في مشهد مشحون بالتوتر والإثارة للإفراج عنها، بينما يتسلل أبو سريع (فريد شوقي) وينزع السلاح من يده. تمكن شاهين بالتعاون مع كاتب السيناريو عبد الحي أديب ومحمد أبو سيف من جعل المتفرج يتعاطف مع شخصية قناوي على رغم كل ما فعله.

أفلام شاهين عكست أيضاً الواقع الاجتماعي المصري والرغبة في التغيير بعد ثورة 23 تموز. تزامنت مرحلته السينمائية الأنضج مع نمو الوعي القومي عند المصريين والعرب. وانخرط شاهين في السياسة على نحو مباشر حين أخرج "جميلة" عام 1958، وكان هذا هديته الى الثورة الجزائرية من خلال شخصية المناضلة جميلة بوحيرد، علماً ان الجزائر لم تكن نالت بعد استقلالها عن المستعمر الفرنسي حين صدر هذا الفيلم في الصالات.

دخلت سينما شاهين في مرحلة جديدة عام 1963، أي مرحلة النضج الفني والبداية الفعلية لتطور اللغة السينمائية، عندما انجز "الناصر صلاح الدين"، حيث استطاع بإمكانات جد بسيطة ان يقدم عملاً فنياً متكامل العناصر الدرامية والتقنية والجمالية، ويضارع ابرز الانتاجات الهوليوودية، مؤكداً ان السينما العربية قد تنافس الغرب، مع بعض الجهد والارادة والوعي. تناول شاهين في "فجر يوم جديد" ملامح التحولات الاشتراكية التي كانت تطاول مصر، نتيجة للنهضة النصاعية التي شهدتها، وانعكاساً للتغيرات الاجتماعية بعد تطبيق قرارات التأمين وقيام مبادئ جديدة. وجراء ظروف معينة كانت تمر بها السينما، ترك شاهين مصر قاصداً بلده الثاني لبنان حيث أثمر التعاون مع الأخوين الرحباني، "بياع الخواتم" و"رمال من ذهب".

أعادت هزيمة 67 شاهين الى دياره ليواجه تداعيات تلك الكارثة، مهما كان الثمن باهظاً. فكانت تحفته الأخرى، "الأرض"، عن قصة لعبد الرحمن الشرقاوي وسيناريو الفنان التشكيلي حسن فؤاد. اهتم النقاد الكبار بشاهين من هذا الفيلم وصاعداً، اذ انه انطلق من قصة مصرية لكنه سرعان ما مضى بها الى العالمية مانحاً اياها ابعاداً انسانية شاملة. وكانت مشكلة الأرض والسلطة من أهم ما يعانيه الفلاحون في تلك الحقبة. ولكن كانت تلك أيضاً مشكلات كل الفلاحين في العالم. قامت الكاراكتيرات المختارة في الفيلم على مزيج من البلاغة والبساطة. وساهم فريق الممثلين في اضفاء صدقية عليه، يتقدمهم محمود المليجي. بيّن شاهين في "الارض" استمرار النضال على رغم الانكسار العربي الكبير. في رأيه، لم تكن هذه هزيمة الشعب انما هزيمة المشروع الحضاري للطبقة التي انفردت بالسلطة، وسمحت للفساد بأن ينتشر في مؤسساتها، ولم تتمكن من إيجاد حلول فعلية للحد من تسرب الثورات الى جيوب القامعين. وعلى رغم ان حوادث الفيلم دارت عام 1933، الا انه كان هناك اسقاطات مباشرة على هزيمة 67، ولم يتوان عن اظهار علاقة الفلاح المصري بأرضه وتمسكه بها واستعداده للمقاومة والموت في سبيلها.

***

مع "الأرض"، انتهت المرحلة الأولى من مسيرة شاهين السينمائية، لتولد حقبة أخرى احدى سماتها الارتباط الزمني بما يحدث في المجتمع المصري سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي. كما كان الحال في كلّ من "الاختيار" و"العصفور" و"عودة الابن الضال"، وهي التي تمضي في التعبير عن الواقع الممزق. المرحلة الثانية ذات شكل سينمائي بعث في نفس المخرج رغبة في التمرد على هذا الواقع المتردي للعالم العربي. وجاء "الاختيار"، الذي وضع شاهين فكرته مع نجيب محفوظ، انطلاقاً من ابعاد انسانية متوغّلاً في أعماق النفس البشرية محاولاً كشف حقيقتها. اما ما يقوله شاهين في "الاختيار" فهو مهم جداً. اذ لا يتحدث عن صراع اجتماعي كما في "الأرض"، ولا عن فساد سياسي كما في "العصفور"، لكنه يتناول نظاماً اجتماعياً كاملاً بفكره وسلوكه وتركيبته الهشة، وهذا النظام السائد هو الذي يحدد شكل النظام السياسي والاقتصادي وليس العكس.

تطرق شاهين في "العصفور" الى الحوادث السياسية التي أدت الى هزيمة 67، محاولاً إلقاء الضوء على الفصل بين معركتين، واحدة تحصل على الحدود، وثانية مكانها الداخل. جاءت حوادث الفيلم سريعة ومتدفقة، وشخصياته الاساسية والثانوية تتحرك حية نابضة تقدم ما ترمز وتوحي به. في "مرحلته الثانية" عمل متماسكا وبالغ القيمة توج به رحلته الصادقة مع ذاته ووطنه. فكان "إسكندرية ليه" عام 1979، الذي قدم خلاله قصيدة شعرية موجهة الى مدينته الأم من خلال شخصيات متشابكة وتصوير غنائي لواقع سياسي واجتماعي سائد في الأربعينات، أي عندما كان شاهين في العشرين من عمره. لم يكن الفيلم ذاتياً، انما نوع من تقديم لواقع مدينة عاش فيها المعلم. يتجاوز فيه المفهوم العام ليحوّل الفيلم شحنة بالغة التأثير في المجتمع والناس. أما "حدوتة مصرية"، أحد أكثر أفلامه بلاغة سينمائية ولغة ابتكارية صلبة، فجاء كجزء ثان من مسيرة شاهين الذاتية، لتكتمل الثلاثية في ما بعد بفيلم "إسكندرية كمان وكمان". أما مع "المصير"، فأراد شاهين القول إن العرب أصل الحضارة، فبينما كان الغرب يغرق في بحار الجهل والظلم، كان العرب ينعمون بالعلم والنور والتقدم. وجاءت أفلامه الثلاثة الأخيرة تنويعات على تيمات تطرق اليها شاهين على مدار نصف قرن ونيف من النضال السينمائي. نضال لن ينتهي مع رحيله عن 82 عاماً.

فيلموغرافيا إختيارية (1950 – 2007):

بابا أمين (1950)
صراع في الوادي (1954)
صراع في الميناء (1956)
باب الحديد (1958)
جميلة (1958)
بياع الخواتم (1965)
الناس والنيل (1968)
الأرض (1969)
الاختيار (1970)
العصفور (1973)
عودة الابن الضال (1976)
اسكندرية ليه؟ (1978)
حدوتة مصرية (1982)
وداعاً بونابرت (1984)
المهاجر (1994)
المصير (1997)
الآخر (1999)
هي فوضى؟ (2007)

هـ. ح.

******

قالوا في شاهين...

.يوسف شاهين
شاهين في موقع تصوير "الآخر"

والآن الرحيل

- بعيداً عما ينتشر عادة من كلام طنّان في مثل هذه المواقف، فإن سينما يوسف شاهين التي عرفت مؤيدين ومنتقدين، كانت العنوان الكبير للسينما العربية في أكثر من مناسبة دولية. أفلامه من "باب الحديد" في نهاية الخمسينات من القرن الفائت إما تعاملت مع رقع إنتاجية عالمية، وإما هدفت الى الانوجاد عالمياً على الساحة بإمكاناتها الذاتية أو، كما هي الحال منذ السبعينات، عرفت كيف تشق طريقها كانتاجات مشتركة وعلى الساحة العالمية كأفلام مصرية (أو عربية إذا أردت ــ تحديد ذلك ليس هنا). كناقد وهاوٍ للسينما تابعت أعمال هذا المخرج، وما فاتني منها مبكراً شاهدته لاحقاً في عروضه التكريمية أو في مناسبات خاصّة أخرى. وكانت علاقتي بسينماه تختلف عن علاقتي بسينما مبدعين آخرين سواء في العالم العربي أو حول العالم. سينما يوسف شاهين عرفت مراحل بالطبع، إذ بدأت كأعمال كوميدية وعاطفية خفيفة، ثم انتقلت الى صنف الإنتاجات الكبيرة، ثم الى سينما ذاتية مؤلّفة من الذكريات والملاحظات الشخصية حول نفسه وحول مجتمعه، وصولاً الى الحفاظ على تلك الذاتية بمقدار عال من التوتّر مع الإنتقال بها الى مراحل ومواقع زمنية وجغرافية مختلفة، من "وداعاً بونابرت" الى "المصير"، ومن "المهاجر" الى "اسكندرية... نيويورك".

أميل الى اعتبار أن شاهين كان مخرجاً ذاتياً منذ البداية. إذا أخذت بعض أفلامه الأولى مثالاً، فستجد أن فيها ما يؤلف عناصر أساسية في سلسلته الذاتية: الميول الجنسية، تأثير المرأة عليه، إغتراب ابطاله واختلافهم. حتى أفلامه التي تعاملت مع الواقع السياسي مثل "العصفور" و"حدّوتة مصرية" كانت ذاتية جداً، ما يجعل قراءة التاريخ فيها منفصلة ومختلفة. هي ليست مدعاة للثقة المطلقة بأنها وقعت كذلك، لكن ليس فيها ما يخرج عن الواقع وقراءة المثقّف للتاريخ مع اختلاف وجهات النظر فيها.

ما أثّر في السنين العشر الأخيرة او نحوها في نصاعة تلك السينما، ليس ذاتيّة النظرة والتعامل، بل قدر كبير من الإعتقاد أن كل شيء يجب أن ينطلق من ذاتية القراءة ما أدّى الى سجال مفرط في تقدير المخرج لنفسه. في "اسكندرية... نيويورك"، لم يعد شاهين ذاتياً فقط، بل صار مؤلّفاً في السيرة الذاتية على النحو الذي يروق لرغبته في وضع صرحه بنفسه. في الواقع، تحدث فيلماه القصيران الواردان في "11/9" و"لكل سينماه"، عن نفسه أكثر مما تحدّثا عن موضوعهما، وهذا شكل برهاناً إضافياً لوجهته في تتويج نفسه بنفسه وعدم الإكتفاء بتتويج المشاهدين والمثقّفين والنقاد له. النتيجة، يا للأسف، كانت عكس ما تمنّى.

رحيل شاهين، مثل رحيل أبو سيف وكل مخرج نيّر عن عالمنا في أي مكان من هذا العالم، لن يُعوّض. لقد فتح ثغرة على الشاشة العريضة ستبقى ماثلة في هذا العالم المليء حزناً. الحزن هو ما تعامل شاهين وكل مبدع آخر معه كدافع داخلي. هو وعدم القدرة على التجاوب مع محيطه بالشكل الذي يعيشه ذلك المحيط. والحزن هو ما يلفّنا جميعاً الآن.

محمد رضا (ناقد لبناني ــ لوس أنجلس)

قناوي في مواجهة الظلم

- في سنوات الدراسة التي لم تكن عجافاً تماماً، كان يحلو لنا نحن التلامذة المفطومين على روعة الفراغ ومن باب الدفاع التلقائي عن النفس أن نرفع موسوعة السينما الصادرة باللغة البلغارية، والمؤلفة من ثلاثة مجلدات ضخمة، في وجوه بعض الأساتذة الغاشمين الذين لم يعترفوا يوماً بسينما عربية وبسينمائيين عرب. وكانوا يعيروننا في بعض الأحيان بروعة الفراغ التي جئنا منه إليهم عراة وحفاة ومستنفدي القوة وربما المعرفة. كانت صفحات الموسوعة الضخمة، والمثلثة الضلع تحوي صورة قناوي، وهي الصورة التي كانت تفاجئ في وجودها الاستثنائي هؤلاء الغاشمين، وكانت تفاجئنا نحن أيضاً على الدوام، اذ كيف يمكن هذا "الأعرج" أن يقف وحده وهو نحيل وصاحب علة في مواجهة استعلاء مكتوم، فلم يكن يدور في أذهان أصحابه إلا تلك الصورة القاتمة عن عالمنا، أما أن تكون هناك صورة للسينمائي الذي يمكنه أن يقلب سواد هذه الصورة إلى بوزيتيف حر وطليق صالح للعرض، فهذه نسخة لم تكن متداولة في تلك الأوقات. ظلت الصورة تفاجئنا في أماكننا من دون انقطاع حتى عندما كان يعلن صاحبها في أوقات متأخرة "زهقه وقرفه" مما أخذ يحيط به من آثمين جدد لا يقلون في خطورتهم عن اولئك الغاشمين الجهلة، فصورهم قطوف من سلة واحدة، وقد أخذت المعركة من حوله تصبح أشد شراسة، وأصبح الظلم في المدارس الحياتية المختلفة تزداد رقعته، فلم يكن ليعاني أحد في التاريخ الحديث، كما عانى أهل قناوي في أمكنتهم، ولا ذنب لهم سوى أنهم جاؤوا من روعة الفراغ واليقين المسلوب للاحتفال بالصورة الوحيدة في تظاهرات صامتة ويائسة. فهذه هي صورة قناوي، وهذا هو انتحار الطالب المسكين. الطالب لم يكن يعرف كيف يرفع الظلم عنه إلا برفع صورة "الأستاذ قناوي" عالياً في مواجهة استعلاء غير مضمون النتائج، فهذه الصورة على الرغم من انتحار الطالب المسكين كانت الحارس الأمين له في موته، وكانت فكرته عن السينما نفسها في روعة الفراغ التي جاء منها مكدوداً ومهزوماً... ومنتصراً في آن واحد، لأن السينما نفسها هي التي جعلت "باب الحديد" باباً كونياً تدخل منه الشعوب أفواجاً بهدف التعارف. "باب الحديد" في هذا المعنى سيظل يفتح مصراعيه على مستوى كوني... ولن يُغلق مع رحيل مَن فتحه يوماً وهو وحيد وأعزل وعلى درجة كبرى من التشاؤم والتفاؤل والغموض!

فجر يعقوب (ناقد ومخرج فلسطيني - دمشق)

أضيئوا أجهزة البروجيكتور

- موته سيمنح منجزه السينمائي نفسا متجددا وحياة جديدة، مجتذبا إليه شبانا عرب يكتشفونه، ويفككون شيفرته، ويفهمون تاليا أن رغبة الحرية وإرادة التحرر من طريق المعرفة الشعرية والعقلانية، هما خميرتا الحياة الفعلية (الى جانب الحب طبعا) وليس الركود أو تحجر الفكر عقائديا، الذي يخنق الجيل الشاب تحت نيره. في التضامن مع إنجازات العباقرة الكونيين الآخرين، تنجح كاميرا شاهين في بعث هذا الشعاع من نور مبشّر بنهضة جديدة للعبقرية العربية. أضيئوا أجهزة البروجيكتور، الفنان لا يموت أبدا.

جوني كارليتش (مخرج وناقد لبناني ــ بيروت)

ذاكرة نرجسية

- فرض يوسف شاهين نفسه كباكورة السينمائيين العرب الذين اقترحوا عملا متنه الذاكرة. على الرغم من تفضيلنا أفلامه الأولى، التي استلهمت الواقعية الجديدة ("صراع في الوادي" و"باب الحديد")، يستحيل نكران ان أعماله الأخيرة، على تفاوت نوعيتها، تمتعت بميزة قض مضاجع الرقباء وشتى أنواع المتعصبين في بلاده. ناهيك بأن أعماله التاريخية ("الناصر صلاح الدين") تجرأت على إقامة موازاة بين السلطان وعبد الناصر. شخصياً، أظن "العصفور" (1974) الذي يحكي حرب المصريين لاستعادة سيناء يشكل إنجازا ملموسا. في المقابل، تعاني بعض أفلامه المستنبطة الذات ("اسكندرية كمان وكمان" خصوصا) نرجسية وتراخياً على المستوى السردي قد يجعلان مشاهدتها متعثرة بالنسبة الى الهاوي السينمائي غير المتآلف مع عالم شاهين.

فؤاد صباغ

(مؤرخ سينمائي لبناني ــ بيروت)

النهار
الاثنين 28 تموز 2008

***

أنا وشاهين ذات أمسية صيفية باريسية

ريتا خوري
(باريس)

يوسف شاهينكان ذلك ذات أمسية صيفية من عام 94 في شارع سان جرمان الباريسي، كنا نتمشى نحن الصديقات الثلاث على غير هدى، كان يوم خميس و كنت سأغادر يوم السبت في إجازتي السنوية، عندما لمحته يعبر الشارع، تجمدنا في أرضنا ودارت بيننا مشاورات سريعة محمومة أنهيتها بسؤال: هل أملك وقتاً كافياً؟
حتماً لا! لكن ما همّ، لن أتركه يذهب قبل أن يترك بصمته الصوتية في آلة التسجيل وكنت أعمل وقتها في إذاعة الشرق في باريس. اعترضت سبيله و تحولت إلى لصقة أميركية فعلت فعلها فكان لي ما أردت: موعد معه في اليوم التالي.

وانا مالي، طيب أنا وافقت ليه على إجراء الحديث! بهذه الكلمات استقبلني وبدا في كامل الجهوزية، مرحاً متفائلاً، متأففاً صاخباً، ساخرا، متمتعاً بحيوية يفتقدها أكثرنا صباً وشباباً.
كنت سعيدة بانتزاعي الموعد ومندهشة من قبوله الإدلاء بحديث إذاعي لفتاة بالكاد تشق خطوها في المهنة، لكنه رغم تردده وافق، وكانت جلسة ممتعة خرجت منها بانطباع مختلف: لا يملك يوسف شاهين ازدواجية، يشبه نفسه في السينما وفي الحياة، تشعر أنك في أمان بحضرته وتضيع وتفرح بالطفل والمراهق اللذان يختبئان في أفياء شخصية نادرة لطالما أثارت الجدل من حولها.

شاهين رحل مخلفاً وراءه إرثاً سيبقيه حياً بيننا، فالتاريخ لا ينسى العظماء، من منا لم تنطبع في ذاكرته صورة قناوي الأعرج، وهو يطارد هنومة في محطة القطار؟ شاهين رحل لكن ذكرى لقاءنا الوحيد بقيت محفورة في ذاكرتي.

وهذا نص الحوار الذي تم بثه عبر أثير إذاعة الشرق من باريس بتاريخ 8-8-1994 :

ما رأيك لو نبدأ بمرحلة فيلم بياع الخواتم؟

كان أوّل لقاء لي مع فيروز و لم يعجبني صوتها فقط، بل أعجبتني طريقتها المنظمة في العمل، احترامها الدقيق لمواعيدها، وتحلّيها بكل الصفات المهنية اللازمة.
أما الذي كان يطير صوابي و صوابها فهو عاصي و لقد نصحتها بتركه (يضحك). رائعة كانت مرحلة بداية التسجيلات في أستوديو بعلبك، كنت أستمع إلى عاصي و منصور و أراقب عبقريتهما عن كثب. كانا يعرفان تماما ماذا يريدان، النبرة، التركيز على أداء كل كلمة في الأغنية و كانت فيروز تنصاع للأوامر وتؤدي المطلوب منها تماما. رغم ذلك كان "سي عاصي" يعصّب عليها، لم أعان من مشكلة أثناء تسجيل الأغاني، لكنني أعلمت عاصي أنه وبانتقالنا إلى مرحلة التصوير، عليه ألا يتفوه بكلمة و إلا "ح فرقعلك البلاتوه" بمن فيه. لم يخل الأمر من بعض النقاشات الحادة أثناء التصوير بيني و بين عاصي..مع فيروز أبدا، رقتها كانت غير معقولة.

لو أردت أن تعيد اليوم تصوير بياع الخواتم من أي زوايا مختلفة ستتناوله ؟

كنت أتمنى أن أصور في الطبيعة أكثر. الفيلم كان شبه جاهز و قد تم تنفيذ الديكور مثلما كنت أريده تماما، لكنني وجدت نفسي أسيرَ التصوير الداخلي و لشدة جمال الطبيعة اللبنانية كنت اشعر أنني مقموع في عدم استغلال المناظر الطبيعية في التصوير. الفريق كان مهنيا إلى أقصى حدود وكان الممثلون يعملون باحترام مخيف لنظام العمل إضافة إلى السحر الخاص الذي أضْفَتْه قصة الفلم الفانتازية على العمل. أتعلمين انه كان من المفروض أن يقوم مخرج آخر بتنفيذ هذا العمل و لكن في النهاية قمت أنا بإخراجه.

شرط البرنامج أن تكون المذيع لدقائق قليلة، كيف تفتتح هذه الفترة ؟

دعيني أقول لك شيئا: لا أحب أن يشترط علي أحد. قولي أتمنى عليك أن تلعب هذا الدور، ربما أوافق! لكن أن تشترطي علي فهذا الأمر يزعجني ويذكرني ببعض المنتجين اللذين كانوا يحاولون أن يفرضوا شروطا معينة على عملي.

مررها هذه المرة فهو ليس شرطا تعجيزياً؟

أهلا بالسادة المستمعين و يسعدني أن اقدم لكم ضيفة لقاء اليوم، السيدة خوري، التي سأفرض عليها شرطا من شروط البرنامج الأساسية وهو أن تقوم بمهمة تقديم الحلقة كاملة.

من تختار ضيوفاً لفقرتك و ما نوع الأسئلة التي تطرحها عليهم ؟

ربما استضيف صنع الله إبراهيم. أحيانا اشعر أن الظروف جعلتنا نتكلم عن واقع متشابه ولكن كلٌّ من زاويته الخاصة. هو من خلال القلم و أنا من خلال عيني بتحليل متشابه إلى حد ما. أي موقفه مع الرجعية مع ما أسميناه الانفتاح، ما يطرحه من أسئلة حول حقيقة ما يريده الغرب منا نحن العرب ومتى سيتركنا و شأننا.أَطمَئِنْ عندما أجد هذا التشابه بين أفكاره و أفكاري. مثلا ما هي المعطيات الموجودة في السياسة الدولية و الداخلية، أين نحن اليوم ؟ أين هو الإنسان العربي ؟ نضرب بعضنا بعضاً ونبرع في ذلك ثم نقول هناك لغة توحِّدنا و كأن الموضوع هو موضوع لغة ! طيب ألا يوجد أمور أخرى ؟ لا أحد يعي خطر الرجعية في الغرب، هذا أمر بالغ الخطورة. المجتمعات الغربية تتجه نحو الفردية و العنصرية بدل الترابط الذي كانت الإسكندرية و بيروت مثالا له في فترة من الفترات. الناس تفتقد اليوم التضامن والتقدم اللذان يُلزماننا بالتعايش مع بعضنا، أعجبنا الموضوع أم لا. علينا أن نستغني عن الوحشية التي تحكم العالم.هناك جانب غير أخلاقي، لو فرضنا أن نسبة البطالة في الغرب تعادل 12 بالمائة مثلا، لا يجب أن ننسى انه يقابلها 50 بالمائة عند العرب..ما شاء الله نحن أيضا "جدعان" في الأمور السلبية و يقولون لك، لا، أحوال العالم تسير على خير ما يرام. يخيل إلي أحيانا أن أنظمتنا هي التي تتكلم، أي كله كذب أو على الأقل أحلام. دعيني أعتبر أننا متخلفون قليلا نحتاج إلى مثال أعلى.. أنا لا أرى اليوم مثالا أعلى نقتدي به، لا تعجبني التركيبة لا في أميركا و لا فرنسا و لا إنكلترا و لا السويد. لا أرى الجانب الإنساني للأمور في هذه الحضارات. أعود إلى شرقنا، أقول ربما هناك شيئ مختلف، نحن نملك حضارة لا شك في ذلك، لكننا لا نتطرق بالحديث إليها! ماذا تعني الحضارة ؟ استيراد التكنولوجيا من الغرب لتأمين غدنا و مستقبلنا؟؟ أو أن نبحث عن الدفء بين "البني آدمين"، نقرأ في عيون بعضنا البعض، نبحث لنعرف ماذا يوجد في قلب الآخر. لست الوحيد الذي يفكر على هذا النحو و عندما أجد مجموعة من المثقفين تتبنى هذه المواقف مثلي تماما، اطمئن.

تتكلم عن دفء العلاقات بين الناس في حين يعتبر المقربون منك أو بعضهم على الأقل انك يأست من آلية هذه العلاقات؟

لا بل عندي شفقة نحو الذين لا يعرفون كيف يبنون علاقاتهم مع الآخرين. شخصيا أجد أن علاقاتي مع الناس تأخذ طابعا حميما بسرعة شديدة، بالأمس فقط لم اكن اعرف انك موجودة في هذا العالم و اليوم اجلس واستمتع بالإجابة على أسئلتك.

حدِثنا عن "حدوتة "يوسف شاهين.

يوسف شاهين : "أنا فلقتكم بيها" بثلاثة أفلام. أيّ يوسف شاهين فيهم، أيّ مرحلة ؟ لا فرق كبير بين مراحل حياتي السينمائية و الحياتية.. السينما تأخذ تقريبا القسم الأكبر من حياتي و تفكيري ووقتي. زوجتي "غلبانة" في هذا الجانب و لا تغار من السينما تحديدا فهي تعرف تماما أنها في حال تسببت لي بالمشاكل فلن تأكل "الفيليه اللي هي نفسها فيه". لو كنت مكانك لكنت طرحت السؤال على الشكل التالي : هل تستأهل حياتك كلها أن تكون فقط سينما؟ إجابة على هذا السؤال أقول:عدا عن أن السينما لغة مميزة و جامعة لعدة مهن في آن، فهي تتيح لي أيضا مخاطبة مجموعة كبيرة من الناس التي أعطتني على الأقل ساعتين من حياتها لمشاهدة أحد أفلامي و بما أنني أخرجت أفلاماً كثيرة، معنى ذلك أنني سرقت 60 ساعة على الأقل من وقت العرب الذين شاهدوا أفلامي.لا اشعر أنني فقدت شيئا لأنني أعتبر أنّ كل ذلك تضحية تغمرني بالسعادة، هذا عدا عن المتعة التي يؤمنها لي العمل السينمائي.حياتي هي السينما و السينما أعطتني السعادة التي أبحث عنها أعطتني حب الاستطلاع و غير ذلك من الأمور التي أعجز عن وصفها و سأتابع إلى أن تحين ساعة موتي بعد عمر طويل إن شاء الله(يضحك)أو آمل ذلك على الأقل.

معروف انك مشاكس و عكس التيار دائما؟

(يحتجّ) "يا دي التيار"!! خذي تيّار الأغبياء مثلا، هم التيار الكبير صحّ؟ إذن لماذا أكون أنا دائما المشاكس ؟ هم اللذين يشاكسونني، لماذا لا تقولين إنني أنا من يسير في الطريق الصحيح و هُمْ في الطريق الخطأ ؟؟ أرى أنّ ما تطلقين عليه كلمة تيار هو الناحية السلبية و ليس العكس. بكل الأحوال أعرف أنه عليّ أن أبقى دائما عكس كل التيارات.

هل اكتسبت هذه المشاكسة عبر السنين أم ولدت فيك طفلا؟

تريدين أن تقولي أن أخلاقي "زفت"، حسنا سأوافقك الكلام ! لو تريدون لي أن أبقى خادما لدى الأنظمة التي تشتري الفنانين و تجعلهم يعملون خدما لديها، هذا أمر آخر.إذا كانت الأنظمة تريدني أن "أطبّل" لها، فلن أفعل ! لماذا تريدينني أن أهلل لأنظمة لا تعجبني أساسا؟ هذا ما يسمونه مشاكسة ؟ وجودهم هو المشاكس بالنسبة لي.ثم لماذا تعبير مشاكسة؟ ألم تجدي تعبيرا أخف ظلا من هذا ؟ قولي "أزُقّْ شوية"، حتى نفسح مجالا للناس لكي تفهم، لست مضطرة لاستعمال تعبير "مشاكسة".

لولا الصدفة التي جمعتنا بالأمس في حيّ "سان جرمان" الباريسي لما كان هذا الحديث، ماذا تفعل اليوم هنا؟

أنا أضع اللمسات الأخيرة لفيلم المهاجر الذي سيَفْتتح مهرجان" لوكا رنو" أمام سبعة آلاف مشاهد في الشارع،على شاشة عملاقة. أحاول أن اصل بالجودة المطلوبة لان الفيلم يمثلنا جميعا و لا أحب أن اسمع كلاما عن نواقص أو ثغرات فيه. قصة الفيلم معروفة منذ أزل التاريخ، مستلهمة من قصة يوسف و تعرفين أنّ التجسيم ممنوع لذلك استلهمت فقط الحوادث. يوسف موجود في كل واحد فينا، و ستجدين في الفيلم حوادث كثيرة لها علاقة بحياتي الشخصية. أنا أردت التكلم عن إنسان عادي لتصبح القصة اقرب للمشاهد لأنني أجد الرب و الأنبياء في الإنسان العادي و الطيب ثم لا تنسي أن الطيبة سلاح خطير.

قصص الأنبياء قرأها الناس مرات عديدة و القراءة غير السينما. معالجة قصص الأنبياء في السينما أمر معقد وخطير ابتعد عنه و اعمل كما قلت لك على صورة الإنسان العادي.

بغض النظر عن قصة المهاجر أفهم أنك لا تؤيد نقل الرواية إلى السينما ؟

لقد عملت مع كبار الكتاب، محفوظ، الشرقاوي، حسن فؤاد، صلاح جاهين، يوسف إدريس الذي اختلفت معه- هو مجنون و أنا أجَنّْ- وهُمْ من خيرة الكتاب. لا لست مع الاقتباس و افضّل أن أتفاهم مع الكاتب الذي يشبهني بمواقفه السياسية، الأخلاقية و الاجتماعية.أبحث دائما عن الكاتب القريب إلى نفسي، الذي يقول ما أرغب بقوله تماما لنخلق شيئا جديدا. الأرض مثلا، كان عبد الرحمن يكتب جزءا من القصة كل أسبوع و كان كاتبا خطيرا وشاعرا.لكن أحيانا كان ينسى ماذا كتب عن شخصية ما، لنراها في منتصف القصة وقد تغيرت.فوجئنا عندما قرأنا القصة كاملة، فأمطرته بوابل من الأسئلة، لنتفق و نتوصل إلى خلاصة عن ماهية الشخصية. كيف يراها الكاتب؟ مَن مِن الممثلين أو الناس العاديين الذين أجدهم في أماكن غريبة يصلح لأدائها في نظره ؟ كيف يراها و يجسمها؟ لماذا اهتمَّ الكاتب بهذه الشخصية في هذا الظرف بالذات ؟؟ يجب أن افهم الشخصية من الإنسان الذي كتبها. أسال ما الذي جعله حساسا تجاه هذا النوع من الشخصيات دون الأخرى؟ هناك موقف سياسي اجتماعي و أخلاقي وراء ذلك.فهو حكما يفكر في حالة الناس المحيطة به و بنفسه أيضا.

عودة إلى فيلم "المهاجر"، لماذا دائما بعد كل عرض فيلم جديد ليوسف شاهين تقع الإشكاليات مع الصحافة و النقاد السينمائيين ؟

لو كان لهم آراء مضادة لآرائي حتما سنختلف.إذا عبّر لي أحدهم عن عدم إعجابه بجانب معين من الفيلم هناك احتمال أحيانا أن أقول له "أنت حمار"وإذا قلت له ذلك سيغضب ويشتمني في الصحيفة فيقول لي أنت "حمارين" و في أحيان أخرى كنا نتفاهم. مرة كان هناك "قفل" شتمني إثر نجاح كبير جدا في "كان" عن فلم قصير " القاهرة منورة بناسها"، حمَلَت شتيمته الكثير من القسوة لدرجة أنني شعرت أن هناك مراجع عليا وراء المقال وكأن هناك قرارا بتحطيم يوسف شاهين. طبعا اكتشفت مَنْ كان وراء الموضوع و لا أستطيع أن أنكر الضغط الذي كان في ذلك الحين. الممتع في الموضوع كان أن تأخذي الفيلم و تعرضيه في نقابة الصحافيين، هم الذين جابهوه، وردّوا عليه بشكل أقسى. افرح بوجود عناصر و أفراد يؤمنون بالديمقراطية و هذا موجود.الديمقراطية هي الغائبة أما الأفراد الديمقراطيون موجودون.. و إضافة إلى كونهم مثقفين، أجدهم يتمتعون بحساسية مفرطة تجاه الآخر و بإحساس الدفاع عن الشيء الجيد لأننا يا سادة يا عرب علينا بالاستفادة من الآخرين. في بعض المجتمعات نجد أن صاحب الموهبة الحقيقية يحصل على دعم كبير و تُقدَم له كل الفرص المتاحة حتى يصل إلى القمة. كل ما أريد قوله انه يجب علينا أن نترابط، من رجال مال و أعمال و اقتصاد و فنانين، لأننا كلنا نشكل جزءا من الآخر.

تتوقع "للمهاجر" أن يسبب إشكاليات مشابهة ؟

يوسف شاهين :لا أظن. ذلك أن القصة بسيطة جدا و شفافة و لم اشعر بأي داع للمواربة أو الخبث، كل ما كنت أريده هو التوجه إلى الشباب من خلال شخصية يوسف الصارمة و التي استطاعت مجابهة التحديات الكبيرة. شباب اليوم يشكو كثيرا من الفقر ومن البطالة و غيرها من المشاكل الصعبة و يقولون لك إنهم تعبوا و ملّوا. لا افهم ما الذي أتعبهم ؟ أنا لا أرى أن الحياة اليوم أصبحت أصعب مما كانت عليه، هي فقط مختلفة.الحياة في السابق كانت أصعب، بعدم وجود وسائل تتيح التعبير عن المكنونات.أنا أيضا كنت فقيرا و عانيت كثيرا في حياتي قبل أن أحقق ما كنت أصبو إليه.المفتاح هو الإرادة.المطلوب من شباب اليوم التحلي بالإرادة و الابتعاد عن الكسل و العمل بجدية و رزانة للوصول. السعادة لا تكمن في المال الذي نطمح إلى تكديسه بل في الآخر المحيط بنا و الذي يقلق علينا و يحيطنا باهتمامه، هذه هي السعادة!

تقول" المهاجر" موجّه للشباب، بأي روح تخاطبهم اليوم، روح الشباب أم الشيب الذي غزا رأسك ؟

(يحتدّ).أنا لا أنظر في المرآة و لا تعنيني قضية الشيب و المشيب، أشعر أنني لا أزال أشكّل جزءا من هذا الشباب الذي نتحدث عنه، نضالهم هو نضالي و هو نضال مستمر.. لا بد وأنك لاحظت أنني في كل فيلم جديد أبحث عن موهبة شابة جديدة و أحيطها بأهم المهنيين و أفتح أمامها فرص الوصول إلى القمة، فإذا كانت موهبة حقيقية و صادقة ستصل حتما كما خالد النبوي الذي اعتبره موهبة جيدة. في كل فيلم أحرص على البحث عن المواهب الشابة الجديدة و تقديمها.أهتم فعلا بحياة الشباب و بما يفعلون و يفكرون و هذا ما يمنع المرآة من القول بأنني عجوز و أنا لغاية الآن لم اشعر بذلك و لا اشعر بأن هناك فرقا بيني و بينهم.

تحدثت منذ قليل عن الذاتية اللي كنت أول من ابتدعها في السينما العربية، ألا تعتقد أن الذاتية تفضح صاحبها إذا نشرها على الملأ ؟

أولا كان فهم كلمة ذاتية خطأ و أنا افضل الكلمة التي قلتِها أنتِ: تفضح. لو أنت صادقة، نعم ستقولين أمورا عادة لا تقال سينمائيا. السينما كانت بورجوازية و لم تتخذ أي خطوة في سبيل تربية الناس على فهم الاختلاف والتشابه بينها و بين الآخر. خطورة أنها تفضح؟ من الذي قال إن حياة الإنسان ملك له وحده؟ و بما أننا نعيش حياتنا مع الآخرين و للآخرين بالتالي تصبح ملكا لهم أيضا. ثم كان هناك الفهم الملتبس لما أسموه ذاتية. أجد أن الكلمة شديدة الغرابة و فُهِمَت على أساس أنها تفخيم و تعظيم لنفسي. لذلك أحببت التعبير الذي استعملتِه لدى طرحك السؤال. شعرت انه من واجبي أن أقول ما قلت و لو تذكر العرب حكاية من حكاياتي فسيكون هذا الموضوع بالذات، لأنها كانت المرة الأولى التي يقول فيها أحدهم سينمائيا، "هذا أنا".

هل كانت جرأة زائدة عن اللزوم ؟

(يهزأ) لماذا زائدة عن اللزوم؟ ثم إنني مشهور بجنوني (مجنون خمسة) واعتقد أن أهمية الموضوع بالنسبة لي هي التي ولّدت الجرأة تلقائيا و إلا كنت سأفضح نفسي بشكل سيئ يظهرني بمظهر الكذب و المداهنة و أنا أكره ذلك، أرجوك كفي عن تعذيبي.. (يضحك) ألم يحن وقت انتهاء الحديث؟

ماذا تكره غير ذلك؟

لا، الكره مرض يجعل الإنسان سلبيا. أنظري إلى "الحمير" الذين يتقاتلون ويبيدون بعضهم البعض. أفهم أن يكون هناك سوء تفاهم، اختلاف فكري، فلسفي ديني، حتى لو عدنا إلى قراءة الأديان بتمعّن نجد أنها تدعو إلى التضامن و المحبة. هذا أمر هام يمكِّن الإنسان من العيش بسلام مع نفسه أولا، الكراهية لا توصلنا إلى أي مكان عدا الخراب بمختلف أشكاله.

ما رأيك بتعريف مدرسة يوسف شاهين ؟ هل هناك فعلا مدرسة " يوسف شاهين" و ما رأيك بالجيل الجديد الذي نرى بصماتك واضحة في أعماله ؟

بصمات ماذا؟ يعني ضربتهم كفا موجعا فبانت بصماتي على خدودهم؟؟ لا أنا اعترض على تعبير مدرسة يوسف شاهين، المدرسة أمر كبير، دعيني أقول إنني ربما ساعدتهم على الفهم عندما قرروا ممارسة هذه المهنة تحديدا. كنت اشرح لهم متطلباتها و صعوبتها، كنت أوضح لهم أن دخول هذا الميدان من اجل الشهرة و المال فقط أمر باطل، لأنني صادفت من كان يتعامل مع الموضوع من هذا المنظار. كنت أكلمهم عن احترام المهنة، عن واجب تحمل مسؤولية كل عمل نقوم به. أن تسرقي ساعتين من حياة الإنسان كما سبق و ذكرت هو بحد ذاته مسؤولية، على العاملين في هذه المهنة احترامها. كنت أقول لهم إذا لم يشعروا يوما بقدرتهم على تحمل هذه المسؤولية، فمن الأفضل ممارسة مهنة أخرى، لكن أن ندّعي القدرة على الوصول بعمل ما إلى نهايته و نعجز في منتصف الطريق فنتوقف، هذا ما اسميه بالخطر العربي الأخلاقي. فإذا أردتِ القول إن هناك بصمة تركتها لدى البعض من الجيل السينمائي الشاب، فهي بعض النصائح التي تَلزِم الفنان أن يعشق مهنته بحيث تتحول إلى الأوكسجين الذي يتنفسه و لا يستطيع العيش من دونه.

إذا عرفت كيف أوصل رسالة واضحة عن قداسة المهنة أكون قد قمت بعمل جيد و لا أنكر أن أعمال معظم هذا الجيل الشاب جيدة و إذا تابعوا على هذا الشكل، "ح ابتدي أغير منهم" (يضحك) و لكنني سأفكر بطريقة أخرى "اديهم خوازيق"و اعطل أعمالهم، علّهم يتركونني أتنفس.

في أحد أحاديثك الصحافية عقدت مقارنة بين القاهرة و الإسكندرية. أسميت الإسكندرية أمك و الأخرى معشوقتك؟

"ياه كم أنا شاعري" (يضحك).
أصلا أنا لم أولد في القاهرة و لكن عشتها تماما منذ أن عدت حاملا شهادتي التي كنت اعتبرها غاية في الأهمية لذلك أضعتها، أرجو أن لا تخبري أحدا بذلك حتى لا يسترجعوا مني الجوائز التي قدمت لي، لئلا يقولوا عني، ولد متخلف أصبح مخرجا (يضحك). كان عمري عشرين عاما، منذ ذلك الحين و أنا أعيش فيها و ارتباطي بهذه المدينة خطير. عاشق دائم لها، احب ناسها و أشياء أخرى فيها ثم إنني ارتبط بالعالم من خلال هذه المدينة فيها اعمل، أعاني، اضحك و ابكي إذا تركتني أتابع حديثي على هذا المنوال، سأتحول إلى شاعر يفتش عمن يفهمه (ضحك).

في باريس تعاملت مع الفرنسيين مسرحا و سينما، كيف تعاملوا معك كعربي ؟

أُسمَّي باريس مدينة الإغراء، سينمائيا أجد فيها تكملة تقنية لأفلامي، اعمل فيها مع أشخاص لا أرى انهم يختلفون كثيرا عن العرب، فهم يكذبون مثلنا تماما و لديهم أحاسيس شبيهة بأحاسيسنا وتسود أجواء من التفاهم التام بيني و بينهم. عندما قدمت مسرحية "كاليغولا"، في (الكوميدي فرانسيز)، عملت مع كبار الممثلين و الممثلات وكان هناك نجمة فرنسية كبيرة، تعاملَت معي في البداية بتعالي، لكني حولت الموضوع إلى "تعاليلي يا بطة"، قلت لها أو أننا سنتعامل بلغة القلب للقلب أو سأستعدّ لترك العمل، خاصة و أنني لا املك عقدة "الخواجه". لا شك أن بلادهم متقدمة على بلادنا بأمور كثيرة ولكن على المستوى الإنساني لا اشعر بأي فرق.لماذا لا نناقش بجدية؟ يقولون لك نريد أن نتحاور، حوار الشمال مع الجنوب، و يضعون البندقية على طاولة الحوار. لا أستطيع أن أتماشى مع هذه الطريقة في التعامل. أؤمن بالمساواة بين جميع شعوب الأرض، احترم من يحترمني و مستعد لأن "امسح الأرض" بالذي يقلل من احترامي، علما أن هذه الطريقة تؤدي بالحوار إلى لا شيء. مدير مسرح الكوميدي فرانسيز عرف كيف يتعامل معي باحترام، ترك لي حرية التصرف بنصوص "كامو"، حيث جعلته يخدم قضية أريد التحدث عنها و ليس العكس، هذه الممثلة الكبيرة إياها، جعلتها تصعد إلى خشبة المسرح و تصرخ "يا لهووووي"، ترك لي حرية التصرف بإدخال رقصات شرقية على العمل الذي حاولت من خلاله، أن ابحث عن اوجه التشابه بين واقعنا و التاريخ. تم هذا الأمر بعد حرب الخليج. تعرفين خلال حرب الخليج كنت مثل "العفاريت الزرقاء" في عيون الكثيرين، فقط لأن الحكاية لم تعجبني و اعرف انه كان بالإمكان إيجاد سبل أخرى لمعالجة المشكلة. دعينا من الحروب، بالعودة إلى حديثنا، قيل لي إنه منذ اكثر من عشر سنين، لم يشهدوا نجاحا شعبيا من هذا النوع في الكوميدي فرانسيز، فقط لأنني قلبت مفاهيم الكلاسيكيات في هذا العمل. يشدني عشق باريس للحياة لأنني أشبهها في ذلك و يشدني الفكر فيها، لأنني من الباحثين عن التفاعل بين الحضارات و هذا ربما ورثته من يوسف شاهين الاسكندراني.

بيروت عشت فيها سنت و نصف ثم عدت إليها بعد غياب طويل.؟

أول مرة سمعت فيها كلمة "البردوني" كان عمري ثلاث سنوات، و رأيت كيف توضع البطيخة و تنكسر في مياهه الباردة، و لدي بعض الذكريات من مدينة "زحلة" حيث كنا نصطاف. في إحدى الفترات في القاهرة، أحسست أن بعض الناس تحولوا إلى نوع من الفاشية الغريبة، التي تمنعك من التفكير حتى. كانت حادثة مع أحد الرجال المهمين أو هكذا يوصف، كانت صفته وزيرا وكان يطلب مني أن أتماشى معهم، فشرحت له أنني لا أستطيع أن أفكر "بنافوخه" هو، لا اعرف أن أتماشى مع أحد إلا عندما يهتف قلبي لذلك، فساءت الأمور و التجأت إلى لبنان، علما انه كان بإمكاني الذهاب إلى أمكنة أخرى، لكنني كنت على يقين أنني سأجد في لبنان حضنا، اعرف شكله و رائحته و أشياء كثيرة عنه و لم أكن مخطئا في تقديري.

مالي أراك تتململ؟

(يسخر) لا أبدا بإمكانك أن تتابعي الحديث لمدة ساعتين إضافيتين، فأنا "فاضي الأشغال" لا عمل ينتظرني. ثم ما هذا البرنامج "أبو تعريفة" الذي لا ينتهي؟ ماذا لديك أيضا؟

كلمة أخيرة !

بعد ساعة و نصف من الكلام أقول لكم، فرحت جدا، يا سلام ولكن أرجو منك أن تطلقي سراحي فورا و دعيني اشتاق إليكم، أما إذا أردت إجراء حديث آخر لمناقشة فيلم المهاجر، فذلك لن يحدث إلا بعد أن تشاهدوا الفلم عشرات المرات و تشتروا التذاكر بالعشرات، لأغطيه ماديا و يرتاح قلبي، عندها أناقشك لمدة مليون سنة، لا مانع.

ايلاف
28 يوليو 2008

* * **

الذاتية المتصاعدة والوعي المتنامي في مسيرة يوسف شاهين بين 1950 و1990

سينما اقتفاء الأثر ورصد التحولات ومراجعة الماضي والحاضر

يوسف شاهينريما المسمار
خلال مسيرة سينمائية امتدت لسبعةٍ وخمسين عاماً، أنجز السينمائي الراحل يوسف شاهين ستة وثلاثين فيلماً روائياً وخمسة أفلام وثائقية وقصيرة. اي ان مجموع أفلامه الاحدى والأربعين تكاد تلامس السنون التي قضاها في العمل السينمائي بما يتيح لنا القول انه كان ربما من أغزر السينمائيين العرب انتاجاً اذا ما قارنّا بين عدد افلامه وسنوات عمله. والملاحظ لدى استعادة فيلموغرافيا شاهين الكاملة انه حقق خلال عقدي الخمسينات والستينات عشرين فيلماً اي بمعدل فيلم كل عام (وفي بعض السنوات حقق فيلمين في العام الواحد) لتتباعد أعماله ابتداءً من مطلع السبعينات وخلال الثمانينات التي كانت بالنسبة اليه سنوات القلق بامتياز مشحوناً بحدثين بارزين: هزيمة حزيران 1967 وقرار مكاشفة الذات ومحاكمتها. وغالباً ما يصطفي النقاد والباحثون أفلام شاهين خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ليس فقط كأفضل ما أنتج بل أقربها اليه مستخدمين أحياناً وصف "شاهينية بامتياز". في مطلق الأحوال، ليس ذلك الميل الى تفضيل افلام السبعينات والثمانينات مفاجئاً. فهي، اي الافلام، اولاً وعلى صعيد منطقي تشكل قمة النضج لدى صاحبها بوقوعها في مرحلة زمنية وسطية بين البدايات والخواتم. فمن الطبيعي ان يكون يوسف شاهين صاحب العقود الاربعين والخمسين يقدم رؤى أنضج من تلك التي وسمت أفلام شاهين العشريني والثلاثيني. ثم ان افلام السبعينات والثمانينات امتلكت مميزات أبعد اذ ترافقت مع وعي سياسي جاء في أعقاب الهزيمة وساعد يوسف شاهينشاهين في بلورته كتاب ومفكرون من أمثال نجيب محفوظ ولطفي الخولي ومحسن زايد ويوسف ادريس وصلاح جاهين. كذلك افتتح تلك المرحلة المكونة من عشرين عاماً فيلم "الأرض" سنة 1970 الذي كان بمثابة العودة لشاهين ليس فقط الى مصر بعيد هجرة بعض السنوات الى لبنان وانما ايضاً عودة الى السينما بعد مجموعة أفلام راوحت بين المتواضعة ودون ذلك. واختُتمت، اي المرحلة، بفيلم "اسكندرية كمان وكمان" عام 1990 آخر فلتات شاهين الجنونية اللماعة. وبينهما كانت ثلاثية النكسة والثلاثية الذاتية والأسئلة الكثيرة والقلق والتوتر وأحياناً راديكالية التعبير والشكل. ولعلّ ما عزز تألق تلك السنوات العشرين في مسيرة يوسف شاهين وأسهم في ابرازها بشكل أفضل، المرحلة التالية الممتدة منذ بداية التسعينات وحتى فيلمه الأخير "هيّ فوضى" عام 2007. فإذا كان الضد يظهره الضد فإن تحول شاهين في المرحلة الأخيرة الى الخطاب المباشر بشيء من التلقين والأستذة وجنوحه الى التعبير البصري والسرد الكلاسيكيين أفقدا سينماه الكثير من خصوصيتها وسحرها بصرف النظر عن الاختلاف في وجهات النظر بين محبيها ونابذيها. فحتى عندما كانت أفلام مثل "اسكندرية ليه؟" تثير النقاش حول مضمونها السياسي، فإن أحداً لم يستطع انكار حضورها الفني. وحتى عندما كان فيلم مثل "العصفور" يستدعي الشتم بسبب من عدم القدرة على ولوجه وفهمه فإنه لم يتوقف عن أن يكون مثيراً للاهتمام. لعل ما حافظ عليه شاهين في مرحلته الأخيرة بدايةً من "المهاجر" (1994) او ربما "المصير" (1997) هو إثارة موضوعات اشكالية بما هو شكل من اشكال النقد لأمور آنية ومعاصرة. ولكن طريقه الى ذلك لم يعد حدياً ولا ضبابياً انما أصبح تبسيطياً وتلقينياً. ولعل السؤال الذي يمكن طرحه هنا من دون ان يكون هذا المقال مجال البحث عن اجابات له هو المتعلق بتحولين اساسيين في مسيرة شاهين منذ منتصف الثمانينات ومدى علاقتهما بتبدل اساليبه وربما تدجين جنونه. فالتحول الاول هو ذاك الذي وقع بعيد "حدوتة مصرية" (1982) وتمثّل باحتكار شاهين لسيناريوات أفلامه بمشاركة مساعديه (يسري نصر الله بداية ولاحقاً خالد يوسف). اما التحول الثاني فيتفرع من الاول ويرتبط بعامل السن والمرض. ذلك ان بداية التعاون بين شاهين ومساعده الاخير والأكثر تأثيراً في أفلامه خالد يوسف، تزامن ايضاً مع تقدمه في السن وتواتر وعكاته الصحية بما يبدو أحياناً انه عمل ضد شاهين الذي استسلم للاساليب السينمائية الكلاسيكية بهدف الاستمرار في صنع الافلام. بصرف النظر عن صحة ذلك التصور، فإنه يثبت يوسف شاهينعلى الأقل جانباً اساسياً في مسيرة شاهين وشخصيته وهو شغفه غير المحدود بالسينما والذي كان عليه ان يستمر وإن تراجعت او تبدلت ادوات التعبير عنه. كان شاهين يقتات على السينما وقد ردد ذلك مراراً ليس في خطاب ممجوج إذ ان مسيرته تثبت عمق شغفه ذلك الشغف غير المتناهي الذي لا يمكن أن يتوقف إلا اذا أُجبر على ذلك بتأثير عامل قاهر كالموت الذي وضع نهاية لشغف شاهين قبل أيام. والشغف ميزة ليست عادية في حياة المشاهير والفنانين كما انه ليس سهل الاشباع، فالشغف قد يتحول او يُفسر في عيون الآخرين على انه مذلة او سوء تقدير او عدم قدرة صاحبه على الحكم (تماماً كما هي الحال مع المطربة صباح اليوم التي يرى كثيرون في شغفها ذاك مهانة لتاريخها الطويل). بالطبع لم يصل يوسف شاهين الى تلك الحالة ربما لأن لفنه ادوات مختلفة لا تعتمد عليه بشكل فردي. ولكن النقد الذي واجه بعض افلامه الاخيرة ليس بعيداً من التحسّر على مسيرته الماضية. وتلك حالة من الصعب الحكم فيها او عليها لأنها انسانية بامتياز لا علاقة لها بالمنطق. والحكم الانساني يقول انه إذا كانت أفلام شاهين الاخيرة بكل مشكلاتها وعلاتها هي الطريق الوحيد لاستمرار شغفه فلتكن من دون ان يعني ذلك وقوفها خارج دائرة النقد والنقاش.
بالعودة الى السنوات العشرين تلك التي كانت الأكثر اثارة للجدل والتي كرست صورة شاهين السينمائي البعيد من متناول الجمهور وحتى النقاد أحياناً وما يوسف شاهينيترافق معها من اعتبار افلامها الاقرب الى شاهين لا سيما ثلاثية السيرة الذاتية، فإن دراسة تلك الفترة لن تكون كاملة من دون تبيان ارتباطها بما سبقها على الاقل لا سيما من خلال ملمحين اساسيين: اولاً الذاتية التصاعدية التي وسمت افلام شاهين منذ البدايات وصولاً الى الثلاثية الذاتية؛ وثانياً اشتغال الوعي قدماً منذ بداياته في شكل يجعل كل فيلم ظل لسواه او مقدمة لعمل آخر. في معنى آخر، يمكن اعتبار أفلام العشريتين الأولى والثانية (أي الخمسينات والستينات) في مسيرته أفلام الظل او اشباح ستعود الى التبلور بشكل أعمق في مرحلتي السبعينات والثمانينات. لذلك تبدو مسيرة شاهين على الاقل حتى التسعينات وثيقة الارتباط من الصعب انتزاع فيلم منها (باستثناء افلام قليلة جداً مثل رمال من ذهب) من دون ان تتخلخل، ذلك انه حتى الافلام المتواضعة كانت احياناً ضرورية للتمهيد لفيلم آخر مهم.

العائلة، البورجوازية والصراع
يوسف شاهينمن هنا ربما كتب كثرٌ عن ان افلام شاهين تشكل مجتمعة سيرته الذاتية وليس فقط ثلاثية السيرة الذاتية المؤلفة من "اسكندريه ليه؟" و"حدوتة مصرية" و"اسكندرية كمان وكمان". فكل الموضوعات التي تناولها في الثلاثية سبق لها الظهور في شكل او في آخر في أفلامه السابقة التي عبرت دائماً عما عاشه او شُغف به. بشكل مبسط، يمكن ان نجمع أفلاماً من مراحل مسيرته كافة تحت عنوان عريض هو شغفه بالموسيقى: "بابا أمين" (1950) و"سيدة القطار" (1952) و"انت حبيبي" (1957) و"بياع الخواتم" (1965) و"عودة الابن الضال" (1976) و"المصير" (1997) و"سكوت حنصور" (2001). هناك افلام أخرى ايضاً حضرت فيها الموسيقى بشكل فاعل ولكنه في الافلام المذكورة عبر عن عشقه للموسيقى من خلال اسناد ادوار بطولية لمطربين من امثال فريد الاطرش وليلى مراد وفيروز وماجدة الرومي ومحمد منير ولطيفة. على صعيد آخر، حملت أفلام البدايات ملامح متفرقة من موضوعاته الاثيرة ومن المحيط الذي عاش فيه قبل سفره الى الولايات المتحدة الاميركية وايضاً من عائلته. ففيلمه الاول "بابا أمين" يروي حكاية عائلة بورجوازية صغيرة لا يعي ربها أهمية المال ولا يحسن ادارته بما يؤثر على عائلته. وذلك الاب هو ابوه بشكل من الاشكال وحكاية المال هي حكاية طفولته ومراهقته والبورجوازية هي بورجوازية الاسكندرية التي ترعرع على هامشها وتخبط في سبيل الاختلاط بها وعانى من أحلام عائلته بها قبل ان يعثر على ضالته في اثبات الذات والتميز من خلال الفن. هكذا وفي اول وقفة له خلف الكاميرا، يقرر الشاب في مطلع العشرينات ان يرمي بكل ذلك امام الكاميرا ويحمل فاتن حمامة بطلة فيلمه على أداء أغنية "أشكي لمين أهلي". وسنرى لاحقاً ان موضوعة العائلة البورجوازية لن تفارق هاجس شاهين وسوف تتصاعد لهجته تجاهها من "بابا أمين" حيث تنهار العائلة بسبب سذاجة الاب الى "سيدة القطار" حيث ستتفتت بسبب تهور الاب وصولاً الى "عودة الابن الضال" حيث ستنفجر العائلة في بحر من الدم. ولن تتوقف مأساتها هنا اذ سنراها في "الآخر" تنزع الى امتلاك ابنائها.
في تجربته الثانية، "ابن النيل"، سيتناول شاهين موضوعة السفر والهجرة التي كانت تجربة شخصية بامتياز ولكنه سيختار الهجرة من الريف الى المدينة مصوراً خيرات الاول وشرور الثانية. غالب الظن ان شاهين أراد من خلال تلك المعادلة قول شيئين: الاول هو ان الريف أفضل بما انه كان بالنسبة اليه نقيض المدينة والبورجوازية التي يمقتها. اما الأمر الثاني فقد يكون مقارنة المدينة وشرورها بالولايات المتحدة الاميركية التي سافر اليها. وهذا تحليل لم يكن ممكناً التوصل اليه الا في ضوء افلام شاهين اللاحقة لا سيما "اسكندرية ليه" الذي ينتهي بمشهد وصول "يحيى" /شاهين الى مرفأ نيويورك وغمزة تمثال الحرية اللئيمة التي تلمح الى علاقة جدلية بذلك البلد سيعود الى تفصيلها في "اسكندرية نيويورك" على اثر هجمات 11 ايلول واجتياح اميركا للعراق.

في افلام الخمسينات التالية، سيعود شاهين الى موضوعي البورجوازية والمال وهما بطبيعة الحال مرتبطان تماماً. المال الذي كان حائلاً دون تمازج شاهين المراهق مع محيطه ورفاق البرجوازية الكبيرة وحفلاتها. والمال الذي كان على عائلته جمعه من بيع اثاث المنزل ليسافر الى اميركا. هذا المال كذبة كبيرة في "المهرج الكبير" ومأساة في "سيدة القطار" وأصل الصراع بين الفلاحين والاقطاعي في "صراع في الوادي" وأصل الداء في "انت حبيبي" انما بشكل طريف. الى موضوعي المال والعائلة البورجوازية، ظهر بعد ثورة 1952 موضوع الصراع الاجتماعي والطبقي من خلال "صراع في الوادي" و"صراع في الميناء" و"شيطان الصحراء". في الاخير، تحدث في شكل مباشر عن سلطة ملك فاسد ومحاولة الانقلاب عليه. لم يكن ذلك نوعاً من تملق الثورة ذلك ان شاهين كان من مؤيديها بشكل فطري هو الثائر على البورجوازية والطبقية. ويتشكل الصراع بين الفلاحين والاقطاعي والعمّال وأرباب العمل في فيلمي الصراع مع عمر الشريف مؤذنين بتبلور الموقف الاجتماعي عند شاهين وانحيازه للعمال والفلاحين في وجه الاقطاع والبورجوازية والظلم.
ليس مبالغاً القول ان تلك المرحلة كانت بمثابة التحضير وأحياناً النيجاتيف السالب لفيلمين قادمين هما "باب الحديد" (1958) و"الارض" (1970) في "سيدة القطار" (1952)، وجه شاهين كاميراه للمرة الى الاولى الى العمّال داخل مصنع. وتماماً كما كانت نظرته طوباوية الى الريف في "ابن النيل"، كذلك لم تكن نظرته الى العمّال واقعية تماماً لأنه ببساطة لم يكن يعرفهم بل كان يعرف جيداً المحيط البورجوازي الآتي منه. اذاً، ستتحول تلك اللقطة العابرة للعمال الى لقطة كبيرة في "باب الحديد" لكأن المخرج كان يحاول في الاول ان يفهم ليحكي بعد ذلك. بالطبع، لم يكن شاهين وحده عندما دخل تلك المنطقة الشائكة بل كان معه كاتب السيناريو عبدالحي أديب، ولكن الدوافع خلف هذا الفيلم كانت شخصية ايضاً الى جانب كونها اجتماعية. لقد بدا شاهين في هذا الفيلم وكأنه يرتقي درجة بوعيه وحرفته وقدراته ويضع حجر الاساس في لعبة الخاص والعام التي ستتجلّى بأشكال أعمق لاحقاً. فشاهين الذي لم يقترب بكاميراه من الشارع في "بابا أمين" مثلاً على الرغم من ان محيط الاسرة كان حياً متواضعاً. التزم بما عاشه واختبره ثم راح في كل فيلم يضيف بعداً جديداً. في "باب الحديد"، يرمي بنفسه وبفيلمه وسط زحمة الشارع المتمثل هنا بمحطة السكة الحديد مبقياً على موضوع الصراع بين العمال ورب العمل واستغلال الاخير لهم واتحادهم من أجل انشاء نقابة، ولكن في مقدمة كل ذلك، يفتح الستار على الحكاية الانسانية القصوى المتمثلة بـ"قناوي" بائع الصحف المريض النفسي والمكبوت اجتماعياً والمحروم جنسياً والفقير المعدم. تتشابك العوامل الانسانية والنفسية والاجتماعية والسياسية في هذا الفيلم لتشكل اول افلام شاهيين حينها تركيباً وعمقاً وايضاً سوداوية. لن يكون التمرد على أهميته منقذاً لقناوي الذي يحيا تحت خط الحياة والفقر. ولن تكون النهاية سعيدة ولن تكون هنالك بارقة أمل كما في الافلام السابقة. التراجيديا في حدها الأقصى هنا. لقد لعب شاهين دور قناوي في شكل مقنع. لم يجسده بل عاشه في أعماقه وليس اكتشافاً القول ان الكبت والحرمان وحتى مظاهر عدم الثقة بالنفس التي يجسدها "قناوي" كانت بمثابة حالة تعبيرية قصوى عن بعض ما عاناه شاهين مبكراً في حياته. كما ليس اكتشافاً القول ان في شخصية "هنومة" المغوية والقوية والنهمة ما يستقي بعض أوجهه من شخصية والدته اليونانية.
كان "باب الحديد" بداية مرحلة ونهايتها في آن معاً. فبسبب فشله الجماهيري القاسي، ابتعد شاهين من المشاريع الطموحة لبعض الوقت متوقفاً عند صراعات اجتماعية وحكايات حب وزواج وفشل عادية في الافلام التي تلت. بين افلام تلك المرحلة، حقق شاهين فيلمين لا ينتميان تماماً الى هواجسه الذاتية وإن عبرا عن هواجس وطنية وقومية زرعتها ثورة يوليو وهما "جميلة الجزائرية" و"الناصر صلاح الدين". كانا اقرب الى فيلمي طلب ولكن على الرغم من ذلك، حمل الثاني طرحاً قريباً من هموم شاهين وهو العلاقة بالغرب التي سيعود اليها بشكل أعمق في "الوداع يا بونابرت" (1985).

النكسة: بداية وعي ومرحلة
على الرغم من تحقيقه لفيلمين تاريخيين سياسيين ("جميلة" و"صلاح الدين")، الا ان شاهين لم يعبر عن موقف سياسي ملتزم الا بعد نكسة 67 التي ترافقت مع وعيه النقدي ايضاً للثورة والمرحلة الناصرية. ومع بداية هذه المرحلة، يمكن القول ان شاهين بدأ يرتكز في موضوعات أفلامه على وعيه الجديد المكوّن، ممزوجاً بما عاشه واختبره بالطبع انما بأقل اتكاءً على تجربته الذاتية من دون ان يعني ذلك انه ابتعد مما يجول في نفسه ولكنه، كما أسلفنا، كان يرافق وعيه بسينماه فيلمّح اولاً ثم يغوص في العمق. بعد النكسة التي أعقبت اقامته القصيرة في لبنان بسبب من مشكلاته مع القطاع العام الذي احتكر السينما في حينه، كان شاهين مطلوباً من قبل عبدالناصر نفسه لانجاز فيلم عن السد العالي وذلك بعد أن عبر عن انبهاره بأفكار عبدالناصر ونهجه في "الناصر صلاح الدين" ومن ثم في "فجر يوم جديد" (1964). ولكن شاهين بعد النكسة هو غيره قبلها هذا على الاقل ما برهنه فيلم "الناس والنيل" وان كانت بداية التحول في رؤي شاهين السياسية تُعزى الى "الاختيار" (1971). والسبب في ذلك يعود الى ان "الناس والنيل" مُنع من العرض حتى العام 1972 بسبب من "خروجه على الموضوع". ذلك ان شاهين لم يصور السد بقدر ما صور الناس ولم يتغنَّ بمحاسنه بقدر ما سلط الضوء على معاناة العمال المصريين المهمشين واضطرار اهل النوبة الى الانتقال بسبب بناء السد وفشل الاشتراكية في حل الفروق الطبقية... لم يكن ذلك ما أراده أصحاب القرار من الفيلم فمُنع الى ان أُعيد توليفه من دون موافقة شاهين ليعرض بعدها بأربع سنوات. غير ان نسخة أصلية استطاعت ان تجد طريقها الى السينماتيك الفرنسية حيث عرضها التلفزيون الفرنسي العام 1999.
كان فاتحة المرحلة الجديدة ما بعد النكسة فيلم "الأرض" الذي شاهدنا ظله في "ابن النيل". ولكن الريف لم يعد تلك الجنة والملاذ من شرور المدينة بل هو المسرح الذي ستدور على خشبته أحداث هي ثمرة الوعي الجديد لشاهين. فبعد العائلة والبورجوازية والصراع الاجتماعي والطبقي والانحياز الى الثورة ومفاهيمها والانبهار بقائدها، يصل الى محاكمة النظام والهزيمة. وللتذكير فقط، لا تخرج ثلاثية الهزيمة "الاختيار" (1971) "العصفور" (1974) و"عودة الابن الضال" (1976) عن الاطار الذاتي والشخصي ما دام منطلق هذه المقالة هو البحث عن الملامح الذاتية المتصاعدة في مسيرة شاهين السينمائية وارتباطه بتنامي وعيه. بل لعل شاهين هو من السينمائيين القلائل الذين لازمت مسيرتهم وعيهم اي ان أفلامه سارت في شكل متوازٍ مع تحولات الفكرية وعبرت عنها بفارق زمني شبه معدوم. وعلينا ان نذكر ايضاً هنا انه بدايةً من "الارض"، أصبح وعي شاهين السياسي والاجتماعي

المستقبل
الجمعة 1 آب 2008
العدد 3034 - ثقافة و فنون