عباس بيضون

(رئيس التحرير الزائر)

(الشاعر بريشة هادي ياسين)
(الشاعر بريشة هادي ياسين)

كصحافي كنت أنا الذي أسأل، كان هذا مناسباً لتفادي إبراز تناقص الأجوبة المتفاقم لدي. ربما كان حيلة للعب على هذا التناقص عند الآخرين. لا شيء بعد يمكنه أن يدعوني لأن أغامر بجواب سريع ولا بإظهار العجز كامتياز وكسر خاص. أحسب أن شعراء الحداثة الأولى لم يوفروا أجوبتهم، لقد تكلموا كثيراً عن تحطيم اليقينيات لكن الذي لم يتحطم بالطبع هو يقينهم في أنفسهم أولاً ثم الشعر الذي بقي يقينهم الأول. لقد ذهبوا الى معارك شتى في التاريخ وفي الثقافة، صرخوا كثيراً في الخارج، حطموا أوثاناً كثيرة بعضها كان حقيقياً وبعضها كان غيلاناً من كرتون. لكن حملوا كل هذه الغنائم الى الشعر، الشعر الذي تطوّب بمقدار ما كان ما حوله ركاماَ، الذي وحده نجا وعظم سلطانه، الذي وحده استفاد من كل خسارة أخرى، ووحده بالطبع قام عن الجميع، عن كل الدوائر وكل الأقانيم، بعبء المعركة الكبرى. كان لا بد من أن يكون الشعر حصنا لمن يريد أن يلتجي. إسمنتاً لمن يريد أن يحتمي، سلاحاً لمن يريد أن يحارب. كان لا بدّ للشعر أن يكون أيضاً بياناً وميثاقاً وربما عقيدة إن لم نقل ديناً وأيديولوجيا. لم يكن هناك سواه في الميدان، وكان عليه أن ينوب عن الجميع، أن يكون علماً حين يعز العلم. فكراً حين يعز الفكر، دعوة حين تسقط الدعوات. كان على الشعر أن يكون في كل المعارك وبالطبع، في وضع كهذا، قد ينسى معركته الخاصة. إنه ينتصر بالطبع في كل مكان، يقطع الماضي عن الحاضر، يخلق من لا أب، يعاقب الماضي ويصحح الحاضر، يصنع جوهراً لا يزول ويحقق الثورة الفعلية، يدمر ويخرب ويفجر. إنه الفاتح الأول فلماذا نطلب منه أن يرتد على نفسه.

كصحافي كان عليّ أن أسأل، ولست أعتقد أن عليّ كشاعر أن أجيب. إذا كنت أجد للصمت مطرحاً في أمور قد نجد لها أمثلة وقياسات، فكيف أجد مطرحاً للكلام في حضرة من لا مثال له ولا مرجع. ذات يوم أجاب دريدا على فوكو بأنه تكلم على الجنون باللغة نفسها التي جعلته يسكت عن قول نفسه. إنها مهمة مستحيلة، ماذا لو وضعنا الشعر هنا. نتكلم على المسكوت عنه باللغة ذاتها التي جعلته يسكت. إنها اللغة ذاتها التي كانت مطرقة وقيداً، كيف نملك أن نجعل منها ببساطة وربما بسذاجة ديناميتاً ومفجراً. ماذا لو كان كل ذلك من خدع اللغة وحيلها، ألم نفكر أن لها القدرة الحربائية على أن تظهر بألف لون. ماذا لو لم نفعل سوى أن نصب ماء في اليقينيات الكبرى، ماذا لو كان الانفجار مجرد شعر حرفي ومجرد ألفاظ للانفجار. الم يبتعد الشعر هكذا كثيراً عن نفسه، وعليه، لهذا السبب وحده، أن يبدأ من بدايات متأخرة.

كصحافي، عليّ أن أسأل وكشاعر لا أعتقد أن عليّ أن أجيب. لقد حركتم أيها الأصدقاء غباراً كثيراً وسيقع جله عليكم. كان أجدر بنا أن نتأنّى، أن نحرّك أحجاراً حقيقية بقدر قوانا الواهنة، أن نسأل الشعر عن نفسه أولاً. أن نحارب، إذا جاز القول، في الشبر الخصب وبدون أن نربح سوى صمودنا. أن نبني بكلمات غير مؤكدة بداية ما، ألم نفكر أننا ونحن نعبد الشعر كنا نعبد اللغة المدانة التي هو أحد أقنعتها وربما أكثرها تمويهاً. ألم نفكر ونحن نحارب في كل المعارك أننا جعلنا الشعر يقيننا الأول، وأننا بهذا اليقين لا نستطيع أن نسأل وإن تركنا أجوبة كاليقينيات وصيحات انتظار كاذبة تخرج من أفواهنا
حذار من الكلمة، حذار من الشعر أيها الأصدقاء، ولننطلق من هنا.