كنت وحيدا ، وسط هذا الضجيج ، لا أعرف كم من الوقت الذي أهدرته في هذه المدينة التي شكلت ملامحي ، غيرتني ، تسللت مثل الغبار الذي يميزها رغم كل الاحتياطات لكنها عبثت بكل شيء .. بل تجاوزت كل الحدود .. وصلت إلى القلب ، أيقنت ليس اختيارا ، لكن هذه المدينة تجبرك على الصبر و من ثم ينقلب الصبر إلى يقين وهنا مكمن الخطورة ، حين غادرتها ، غادرت الأحبة ، قلت لي : أخرج و جرب هواء آخر ، شاهد وجوها أخرى ، انزع الأقنعة و كن كما أنت ، حين اتجهت شرقا ، دخلت إلى عمق الصحراء و كأن رمالها الصفراء المتحركة تدفعك إلى البحر ، حيث الزرقة الأخاذة تهدأ الروع ، تبلل هذا الجفاف الذي خلقته الصحراء .
قلت لكم ، كنت وحيدا ، و خفيفا ، متخلصا من كل الأشياء ... كل الأشياء ، كان الطريق مبصرا ، فأنا لا أحب القيادة إلا في النهار ، ز كانت الصحراء تحاصر هذا النفط القاسي هذا الثعبان الذي لا يملك رأسا ،
وحين تعبر بي تلك اللوحة الغبية (طريق صحراوي) ابتسم , اخذ جرعة من ماء , وانظر يمنة ويسرة وإذا بالجمال ذات اللون الأسود تعطي المعنى الحقيقي للصحراء , قلت لكم كنت وحيدا , أو بالأصح قررت أن أكون وحيدا إلا معي وها أنا .
اعتدت السكن في نزل ارتاح له , لرائحته , للعيون التي تبتسم لي للغرباء الذين تدرك في داخلك أن الشعور بالآخر هي تلك اللحظة التي يخطط لها الزعماء ويفقدونها عند أول ساعة من حكمهم , كما هو الاعتياد , أدخل إلى مكتب النزل وكما هو الاعتياد دون حجز مسبق ينظر إليك موظف الاستقبال مرحبا , يا للحظ !! يذكر اسمي ويسأل عني وعن عائلتي , ثم يردف هل قمت بحجز غرفة ؟؟ كدت أقول له بكل جنون : سوف أسكن هنا مع أي شخص لا تهمني حتى جنسيته , ديانته أنا يا سيدي وحيـد بكل ما تحمل الكلمة من معنى , أشار بلهجة وظيفية محايدة : تفضل انتظر .
أمام صالة الاستقبال كانت الساعات على مدار العالم توضح فارق التوقيت أكره الوقت وأكره الساعة لأن المسألة محسومة وفي الوقت نفسه غير معروفه وبين هذين التناقضين لا فائدة لحساب الوقت .
يتسرب الزمن وأنا أنظر إلي تلك الساعات , كنت ادخل لعبة غبية فأهرب إلى الساعات التي تسبق ساعتي هذه , اضحك على نفسي لكنها في لحظه ما تشفي الغليل , وهي بالأصح تشبه تلك اللحظة التي اقرأ فيها الأبراج , حيث انتقل من برج لبرج وحين اطمئن برج منها اختاره , واشرع حينئذ بالراحة , أما في الأسبوع القادم فسوف اختار برجا آخر واطمأن .
ها هو يشير إلى , أتقدم إليه بفرح مخبوء , وها أنا ادخل الغرفة .. فإذا بهذا الكون الفسيح , تختصره هذه الغرفة , وبدأت الحرية بشكلها البسيط وها أنا أشبه الآخرين .
كان البحر يحيط بي من كل جانب , يداهمني الشعور الغريب وأحس أنني في غرفتي هذه أمسك بالبحر وأدخله إلى قلبي , وأن تلك الحركة التي يصدرها القلب بشكل مفاجئ في الصحراء والتي لا أعرف لها إجابة إنها هنا لها معنى لا يجلب الخوف .. مادام البحر في قلبك فإن معنى ذلك أنها موجة خرجت من السرب فاختلف الإيقاع هي هذه الأشياء , ابحث معي عن الأسباب البسيطة . حين تعرفت علي غرفتي وألفت رائحتي استأذنتها بالخروج ووضعت على مقبض بابها ممنوع الإزعاج وكأنني أحذر الآخرين بعدم المساس بها , بإزعاجها وهاهي تحتفظ بي لحين لقاء آخر هكذا تصورت .
تلك العازفة (المجرية) تشعرك بأن الكمنجة التي تعزف عليها قد شكلتها من أضلاع هذا الجسد الناحل , وأنا أدخل هذا العالم بين العازفة وبين هذه الموسيقى التي دخلت إلى البحر الذي ملأني .
فجأة وإذا به أمامي كنت بطبيعة الحال ارتدي ملابسي العقال الغترة القبعة الثوب الأبيض الملابس الداخلية والجوارب والحذاء الأسود .
فجأة وإذا به أمامي , أذابه أمامي،أصابني خوف عجيب،هل يعقل أن يشبهني إلى هذه الدرجة , إنه أمر من الصعوبة بمكان , تعوذت من الشيطان مئات المرات , لكن لا فائدة , هاهو أو ها أنا , من المستحيل أن أكون في مكانين في الوقت نفسه , لعنت تلك الساعات ولعنت فارق التوقيت لكن المسألة أخذت جانبا حقيقيا هذا الذي أشير بإصبعي إليه دون أن أثير انتباهه هو أنا أقسم بالله أن الملامح هي نفسها الضحكة الحركة الجسم وكان وحيدا ..
هل ترغب في المزيد ' قلت لها : شكرا هل لي بقيمة هذه اللحظات ' غادرت المكان راودني شعور أنه يتابعني، امتلكت قليلاً من الشجاعة، و لم ألتفت إليه كنت جائعاً، إلا أنني قلت لي: حافظ على هذه المتعة، هبطت ثلاث درجات انحرفت يميناً ثم يساراً، تنامى الحس بوجوده في مكان ما. حاصرني بنفس العطر الذي يروق لي، جاهدت نفسي بألا التفت خلفي ذلك لأن شخصاً ما يتبعني، بل قررت ألا التفت خلفي، فجأة انطلق صوتي بأغنية جنوبية، لم أكمل أبياتها يا للنسيان العظيم لكن صوته ذكرني بها بأبياتها غنى حتى الأبراج، لا أعرف في أي برج ولدت فيه لكن المسألة بشكل علمي يمكن الحصول عليها، هدأ الخاطر قليلاً ثم ما لبث أن ثارت شكوكه و طرح السؤال الذي كدت بعد طرحه أن التفت ورائي، كان السؤال و هل تعرف برجه؟
و بحركة سينمائية توفق بين رغبتين متناقضتين استدرت بسرعة لا يحتملها جسمي الممتلئ، عدت إلى الوراء بطبيعة الحال لم أجد أحداً سوى بعض القادمين من مشرب و هم يضحكون بصوت عالٍ، تمنيت في تلك اللحظة أن أراه لن أسأله بطبيعة الحال عن تلك الأسئلة: من تكون؟ ما هو برجك؟ عدت إلى موقعي السابق و اقتربت مني تلك الهندية الحسناء لم تمنحني الوقت لطلب المشروب. لوهلة وجدته قد سبقني و طلب ما أردته كنت غائماً و حزيناً، ووحيداً، السيجارة في يدي مشرعة و كأنها سؤال و فجأة و إذا بيد تمتد لتشعلها، و لوهلة أصابني خوف، ذلك الخوف الذي يصل إلى الحلق، هذه اليد أعرفها هل أرفع نظري، لا ، نعم، بغمض العينين، استسلمت لاشتعال السيجارة بشكل مباغت فتحت العينين لأكشفه و إذا بتلك الهندية هي التي أشعات السيجارة، عاودتني السكينة، عزفت أضلاع المجرية الحسناء أغنية فيروز و جبران أعطني الناي نسيت للحظة أنه موجود، و كما العافية التي تجتاح المريض، تمكنت من رؤية الآخرين بمفردي، صحوت على تصفيق الاستحسان و لكن بشكل فردي، التفت يميناً و يساراً فلم أجد أحداً سواي، و حين التفت إلى العازفين فإذا بهم جميعاً يحنون رؤوسهم لي و أنا لم أصفق، عرفت أنه موجود في مكان ما، التفت وإذا باللوحات لازالت تضم تلك الخيول التي تجمدت بحركتها، تمنيت أن أزور ذلك المكان و أجدها بلا خيول، مجرد إطار، أيها الأنا قم ، حاسب، اذهب إلى غرفتك، توضأ ثم ادخل فراشك ورتل، حين أشرت إلى الهندية الحسناء عرفت منها بتلك اللغة الإنجليزية المليئة ببهارات الشرق أن لا داعي لدفع الحساب، حاولت بلغتي الركيكة أن أفهمها و بشكل حضاري أنه لابد من دفع الحساب، اختلط حسنها برغبتي أن أ كون متمدناً أن أقنعها بذلك إلا أنها أعادت لي الفاتورة و قالت لقد وقعت على حساب غرفتك بل كنت أكثر تهذيباً و منحتني بقشيشاً جيداً حين رأيت توقيعي و رقم غرفتي ابتسمت ابتسامة بلهاء انحنيت أمام الفرقة الموسيقية و قررت الصعود إلى غرفتي دخلت الغرفة، وضعت العقال و ما احتواه على طرف السرير، كعادتها الفنادق الكبرى تضع قطعة حلوى فوق المخدة، أنا كما قلت لكم وحيداً، دخلت دورة المياه و حين عدت و إذا بقطعتي حلوى فوق المخدتين، اتجهت إلى الهاتف حاولت الاتصال بمنزلي، كان مشغولاً بشكل زاد من توتري، و حين سمعت الصوت من الجانب الآخر: أهلاً حبيبي، قلت لها: كيف الأولاد؟، كيف أنت؟ أجابتني بصوت مليء بالنعاس و الدهشة: آمل أن لا تكون متعباً لقد حدثتنا قبل ساعة و سألت نفس الأسئلة. لم أنم طيلة تلك الليلة، أكلت الحلوى، علَ نعاس ظالم داهمني فنمت لم أعرف كم من الزمن الذي استغرقه نومي، لكن الشعور بالخوف تعاظم حين أفقت فلم أجد الحلوى الأخرى، كالمسعور جمعت ملابسي و هبطت إلى الاستقبال لكي أغادر و حين أشعرتهم برغبتي في المغادرة، قال لي حسن حسابك مدفوع، بغتة رفعت ناظري إلى الساعات حول العالم و إذا بها نفس التوقيت، كنت أسابق درجات السلم الكهربائي و حسن يصيح بأعلى صوته: الجواز، الجواز..