الفصل الأول
إنها أورشليم يا آنطي ميليا
*
(كل شيء صامت حول هذه المدينة،
كل شيء أخرس)
الكونت دو فوربان
رحلة إلى المشرق في العام 1817-1818
Voyage dans le levant
*
"بينما كان الأمراء يسألون الأهليين
عن الطريق...يسألونهم كيف الوصول
إلى أورشليم بطريقة سهلة وآمنة.."
Version of Raymond
d'Aguiliers 1077
*
التفت إدوارد سعيد إلى يائيل وهو يقرأ الخريطة كما لو كان يقرأ نص رايموند دغليير من القرون الوسطى وقال له: " هل وصلنا...؟"
"موردوخ, رحمو, دارنا, هسبيحيية, جاوتشو, جحنون بار, فاشا, فارمطة.
وأشياء أخرى" قال يائيل.
"مطعم أممي .." قالت إيستر.
هذه حوتسوت هاعير، هذه أسطورة السوق المفتوح الكائنة في قلب اورشليم.
أسطورة أورشليمية قال يائيل... قال وضحك وهو يعدل جاكتته البيضاء وربطة عنقه الحرير. شارع واحد..أشياء مبهجة...روائح مسكرة... وأجواء ساحرة أليس كذلك؟ شارع واحد قرب اليهودي العجوز الذي يجلس على كرسي من البامبو كي يقرأ الجريدة ويضع عكازه على الأرض، قرب متشيل الصغيرة التي تلتقط حبات العنب وتضعها في الطنجرة، قرب رجل الهاغانا القديم، الرجل الذي تقاعد من وظيفته منذ زمن، وها هو يتخاصم كل صباح مع بائعة السجائر من أجل شيكل واحد.
جلس إدوارد سعيد على مقعد خشبي في المطعم وهو يرقب المارة، تذكر الطفلة وهي تنام ...وجهها متورد، وخصلة من شعرها الأشقر تنساب على خدها. تذكر عالما كاملا في المدينة القديمة موضوع على مقاس صفحات كتاب، وأم الطفلة تضع مفتاحها في مظروف مع مفكرة غلافها أخضر اللون. جلد فيه قفل صغير. كيس من الجوخ خاطته ووضعت به حفنة من التراب وخاتمين فضيين...وها هو في المكان ذاته، في شارع مئير جرشون، أو في شارع هلل، أو في حي الطالبية وهو يبحث عن شيء قديم...عن شيء ضائع...كان يمكنه أن يسمع رعدة الحمى في أوصاله، وقطرات الجليد الذائب وهي تقطر من السور، سماء شاسعة سوداء تومض فيها نجوم باردة. أشجار ترتفع بهدوء تحجب غيمة فضية. وعندما يأتي الليل يعزف الناس موسيقى الكلام على صفارة الحارس وعلى نباح الكلاب في المخيمات البعيدة...وها هو الآن في مطعم قريب جدا، يجلس تحت مظلة مخططة، أمامه بقعة من الضوء تستريح على مائدة من خشب البلوط. إناء زجاجي تسبح فيه ثلاث سمكات حمراء. زهرات الزنبق تزين الواجهة، ويائيل يصرخ في الفضاء الساكن، يصرخ تحت السماء الخفيفة اللون، والمبقعة بالغيوم. يصرخ وهو يمشط خصلات شعره الأسود بأصابعه النحيلة:
مادرحوب بن يهودا...مادرحوب بن يهودا..هل تأتون؟
- كل مساء من الساعة السادسة إلى الساعة الثامنة..تعالي عندي في السبت على الأقل...تعالي عندي في الويك أيند... في الويك أيند يا آنطي ميليا... سأراك أليس كذلك...ضحك بصوت عال فالتفتت الفتاة شبه العارية التي كانت ترتدي بنطلونا ورديا يلتصق بمؤخرتها...التفت ثلاثة سياح هناك، كانوا واقفين أمام الخريطة يؤشرون بالقلم الرصاص على مواقع الطواوييس والغزلان، يؤشرون على قرود الحديقة التوراتية، يؤشرون على قبور الآلهة في الضوء الخافت الذي ينير الزوايا المظلمة من الشارع، بينما كان المنعطف المظلم والضيق يقود إلى طريق الملك.
- هذه هي الطريق التي سار فيها الملوك، والقضاة، والأنبياء. قال يائيل.
-هذه هي الطريق التي سار فيها الجنود والتجار والكولنياليون...قالت إيستر.
هذه طريق الحديقة التوراتية...هذه الطريق المسيجة بالخشب والحديد، هذه هي الحديقة التوراتية التي شيدها إهرون شولوف في العام 1940 في شارع هراب كوك، هذه القرود والغزلان والطيور والأسود طالعة من تأمل صامت، من بانوراما صاخبة في أحلام يعقوب ومن آثار الله المرسومة على الأرض...هذه الحديقة التوراتية التي تنقلت مع الحروب والمجاعات من شموئيل هنفيه إلى هارهتسوفيم...هذه حرب الاستقلال في حديقة الحيوانات التوراتية...
حيوانات الله عانت كثيرا أليس كذلك؟...عانت من إصابات البنادق ومن الجوع...
حتى الحيوانات لم تسلم من الموت...إنها حرب الإستقلال...وقد ضحت الحيوانات التوراتية من أجل إسرائيل...قال يائيل.
وكان إدوارد يتذكر الطفلة التي ترقب الحديقة التوراتية تكبر وتتسع...ترقبها من فتحة في سياج الدار التي تضيق وتتلاشى.
*
ها هي الطفلة تكبر...ها هي الطفلة تكبر...
-لم تعد طفلة حين بدأ إدوارد يراها في منزل عمته نبيهة في القاهرة.
كانت آمال تتردد على منزل عمته نبيهة في القاهرة في حي الزمالك وهو يرقبها جالسة وسط أناس آخرين، جاءوا من غزة ومن الناصرة ومن أريحا ومن القدس أيضا. المكان ذاته. في الخارج زحمة شارع فؤاد وضجيجه، محطة شركة شل، بقالية فاسيلاكيس اليوناني، وفي الداخل تجلس آمال على أريكة مريحة، تجلس وفي عينيها نظرة غامضة، نظرة متواطئة لإغوائه...فيزداد إدوارد اقترابا منها في اللحظة التي تتحدث فيها العمة...تشجعه ابتسامة خفيفة من فم شهوي، تشجعه ابتسامتها حتى تصبح ساقه لصق ساقها. حب فائق الوضوح يجذبها نحوه، تتقرب منه وعيناها ترقبان الصالة في قاهرة العام 1950، صالة غريبة، صالة بعيدة...وهي قادمة من شوارع تقطنها النساء بالفساتين المشجرة، والملايات، والسيقان الغليظة، والشكربينات القماشية ذات الكعب المنخفض. شوارع يقطنها الشحاذون، واللاجئون، والعتالون، والفراشون، والشغالات. شارع يملأه عمال اللوكوندات، والجالسون في المقاهي من عربجية وحمالين وهم يشفطون الشاي الأسود ويقرقرون بالنراجيل.
شقة واسعة...ورجل كبير السن يطأ رخام الصالة، وفي المدخل المسوى بالخشب المنقوش، زهرة مرسومة في ظلمة البعد، نور باهر من الرجل العريض الكتفين وهو يخلع الطربوش ويناوله مع عصاه للخادم الواقف لدى الباب...رجل يسير نحو مشربية مشرعة، والكل يتابعه بنظراته، بينما إدوارد مشغول بساقه التي تلامس ساقها.
*
سار إدوارد أمام فندق داوود القديم في ظهيرة الصيف، ورد منثور على وادي قدرون ويهوشعفاط في الصباح، ورد يسقط كغطاء فضي من السماء ويخيم الهدوء. كل شيء يتوهج في الهواء الهاب من الساحة المقابلة للمسجد، كل شيء يتوهج في المدينة القديمة، أرض أورشليم تغفو على محفتها القديمة وتخلع رداءها الناري...حفنة من الطباشير بيد يائيل ليؤشر بها على خريطة موضوعة على الجدار، حفنة من الطباشير بيد إيستر وهي تضع معصمها على كتف كرسي منجد، ويائيل يعيد شرشفا أبيض فوق المائدة ويلف الخريطة بيد، ويمسك صحن العنب الأسود باليد الأخرى، ويقول من هناك تبدأ رحلتكم التوراتية...تبدأ من قلب أورشليم ومن مصابيحها الفضية...يقول ذلك ويمنح الجالسين بالقرب من السور ابتسامة سريعة.
-هل وصلنا الطريق؟ قال إدوارد وهو يقف على الرصيف مقابل فندق داوود.
فندق قديم في العام 1948...فندق من الحجر القديم، صالة واسعة فيها أرائك مريحة وسواح بريطانيون، غرف تتوهج بيد ابراهام شتيرن، وثلاثة من إتسل يرتدون أقنعة سودا ويقفون قرب الجدار الملتهب، إعلان سياحي على الجدار، إعلان آخر باللغة الإنكليزية يحضر التجول في الليل، وصورة لجوبتسكي وهو يحمل السلاح بيده ويقول: بالسلاح فقط نبني دولة عظيمة...صورة لموسى وهو يشق البحر الأحمر ويقود شعب إسرائيل إلى فلسطين...صورة أخرى...صورة غير واضحة تتباين ألوانها خلف الضباب...صورة امرأة شبه عارية تؤشر على الطريق التي تقود إلى ملهى رحمون...كتابات ممحوة أخرى مرسومة بالصبغ الأحمر...شيء ما غير واضح عن فلسطين...
وقف إدوارد في المدى الأبيض حيث تتحرك غشاوة فضية من الأرض، تتحرك وتعلو إلى سماء مبقعة بغيوم خفيفة. هذا مدى أورشليم الساكن حيث تتحرك ضوضاء السوق، ضوضاء قادمة من حارة اليهود أو من السوق القديم. ضوضاء قادمة من خان الزيت، أو من سوق الدباغة. ضوضاء تختلط فيها الروائح مع الاصوات مع الناس مع المحلات الصغيرة المكتظة. باعة وراء القدور والطاسات، باعة وراء الأقماع اللامعة، ورجل سمين ينحني على كأس الفريز دون أن ينظر إلى أحد:
"ابحثوا عن الأخضر"..."ابحثوا عن الأخضر... هذا مادرحوب بن يهودا اورشليم، ومساره الأخضر".
عشب أخضر، مادرحوب نظيف، زقزقة عصافير، ببغاوات ملونة، عروض بهلوانية، ألعاب نارية...كلوا من منصات الأطعمة، اشربوا من بوفية النبيذ والبيرة المثلجة، كلوا من الفواكه والخضار الطازجة، اشربوا من الشاي الأخضر، ابحثوا عن الأخضر.
يجلس إدوارد هناك في المكان ذاته، في مطعم ترابيت في شارع هلل، ينظر إلى المارة في عيد حتسوريت، كما لو كانت هناك حفلة لموسيقى يونانية. كان إدوارد يجلس على المقعد الجلدي ذي المساند الخشبية، وقد وضع يديه على الطاولة النظيفة أمامه. أرخى جسده تماما وهو ينظر إلى السابلة تحت النوافذ الخشبية التي تنبعث منها روائح مطفئة. أرخى جسده وهو ينظر إلى الخارجين من فندق قديم بوجوههم البيض ونظاراتهم البولرايز. أرخى يديه وهو ينظر إلى الفتيات الشقراوات شبه العاريات أمام أوتيل حديث يشبه أوتيل الأميركان كولوني...استراح وهو يسمع أغنية مقدسية تنبعث من مذياع قديم:
"دامت عينك يا عابد ...بانى بيتك ع الدربين ...يللى قهوتك بتدق ...وفناجيلك ع الصفين"...
أصحاب الحوانيت يقفون وسط البضائع وعيونهم تذهب يمينا وشمالا، بعضهم كان يجلس على كرسي من الألمنيوم واضعا ساقا على ساق، متأملا الزبائن والمارة، وآخر كان يسحب أنفاسه من النارجيلة ويطلق دخانها ببطء في الهواء، وآخر جالس خلف محفة خشبية ينظر إلى أجساد النساء التي تمر أمام بقالته...
طقس بارد ولذيذ، طقس منعش يتحرك في اللون الإرجواني عند حد البصر، روائح في الهواء الجاف تنبعث برقة، وحرارة رطبة تتسرب إلى باطن حذائه، هبات متسارعة قادمة من السوق تضرب وجهه. هبات هواء منعشة تهب على ازدحام الظهيرة المرهق في تلك الساعة...شوارع المدينة القديمة امتلأت بحشود الناس...وعند السور القديم كان السواح يسيرون على الآثار القديمة للآلهة...حيث أجهش النبي بالبكاء تحت ظل شجرة.
قال يائيل: سنحلم أحلام يعقوب في ظل ضجة النجوم العذبة.
قالت إيستر: هذا هو رنين الإمبراطورية الخالية من ميمون.
باعة، سابلة، سواح، رجال، نساء، شومير يسيرون متفرقين مع عوزياتهم المدهونة وبناطيلهم الكاكية، روائح فاكهة مسحوقة على الأرض الأسفلتية. رهبان بأيديهم المجامر الفضية ويحرقون باليد الأخرى حفنات البخور. عصافير الدوري تتسكع بمرح على الأرصفة المغسولة. أما باصات المدارس الصفر فقد مرت أمام المطعم، حيث يجلس فيها الطلاب بيضا ومنضبطين. ومن الجهة الأخرى كان زحام المارة والسواح الأوربيين بملابسهم المميزة يتسع شيئا فشيئا، ورجال البوليس يقفون هناك...أمام مداخل المدينة ومخارجها وكأنهم يتهيئون لاستقبال إغريقي...
-هناك مشترا وشومير كثير...يفتشون العرب الداخلين إلى السوق. قال يائيل ليطمئن السواح الأجانب وهو يشير إلى المخسوم.
رجال البوليس يفتشون بناطيلهم وجاكيتاتهم وسلالهم وأكياسهم...وهم يضعون العوزي على أكتافهم...وإدوارد يستمع لبيت من الشعر قديم:
"يا أطفال أورشليم ....إني أتّهمكم يا أطفال أورشليم...وألعنكم لأنكم مخربون".
يتفحص السواح في زحام الظهيرة أحجار أورشليم، يتفحصون مطاعمها التي تتهيء لاستقبال متناولي الغداء. يتفحصون الندل بمرايلهم البيض وطاقياتهم وهم يجيبون على الطلبات. يتفحصون الشارع ببوتيكاته المفتوحة وأرصفته الحجرية التي تنبعث منها رائحة قديمة. يتفحصون أبواب أورشليم: باب العامود، باب الزاهرة، باب الخليل...بعضهم كان يتمدد في الشمس، وآخرون يبحثون في قرميد المداخن عن اللقالق...
"هل وصلنا ؟" قال إدوارد وهو ينظر إلى الرجل ذي القبعة الكبيرة، والبنطلون الفانيلا، والجعبة الكاكية، والحذاء المثقوب...
"هل وصلنا؟"
نظر إليه وهو يسمع صوتا ضعيفا قادما من البرية، صوت نساء أخريات يبعن في السوق أو يحملن الأسمال في ملاءات وصرار. صوت جديد. صوت يشبه صوت يهودا عميخاي وهو يقول: كل الأجيال التي سبقتني منحتني شيئا فشيئا ... كي أقيم هنا... منحتني شيئا كي أقيم في أورشليم...
هل كان يقصد هذا المكان؟ هل كان يقصد الطالبية؟...هل كان يقصد القطمون؟...هل يعرف آل الدجاني؟...هل يعرف بيت وديع؟...هل يعرف بيت خوري؟...هل كان يذهب إلى حارة الارمن: إلى كنيسة مار يعقوب - إلى المتحف الارمني، إلى حارة اليهود، إلى الكاردو، إلى هحورفا، إلى البيت المحروق، إلى الحي الهيرودياني، إلى حائط المبكى، إلى حارة المسلمين، إلى سوق القطانين، إلى سوق اللحامين، إلى سوق الدباغة إلى خان الزيت...إلى طريق الآلام ...إلى حارة النصارى، إلى ساحة الموريستان إلى الكنيسة اللوثرية، إلى ساحة النافورة... ؟ هل يعرف القدس؟
ها هي القدس تمنحه صورة أخرى:
صورة ثيودور هرتزل بلحيته السوداء. بقبعته الطويلة على رأسه. بجاكتته السموكن الطويلة. بقميصه الأبيض الأنيق، يقف وسط حشود من الرجال الذين يرتدون البذلات السود والقبعات الطويلة على الرأس، يقف وسط الوجوه العابسة الرصينة المنتظرة، وقد غطتها اللحى السوداء الفاحمة...وقف بينهم وهو يصرخ: سنصبح طليعتكم أيها الأوربيون بين البرابرة، سنكون هناك أوربا في وجه آسيا...
*
يقف إدوارد في المكان ذاته...فتنحل المدينة بين يديه شيئا فشيئا...كولنياليون يرممون المدينة من جهة الشرق ومن جهة الغرب ويجعلونها غريبة على الساكنيين الأصليين...
هيرتزل يقف في المكان ذاته قبل قرن تقريبا، ويصيح:
سوف لن نلتقي باليهوديات فقط في هذه المدينة القديمة إنما سنلتقي بالأوربيات الماجنات أيضا...
هرتزل يقف منذ القرن 19 في المكان ذاته، وحفنة من التجار والكولنياليين والمضاربين والسماسرة والمؤمنين والجنود والحاخامات والعاهرات يبنون المدينة الجديدة على أنقاض مدينة سابقة...حفنة أخرى تعمر المقاهي، والأوتيلات الضخمة، وفي الطريق عمال يمحون عن الشوارع لونها المحلي...
أشار إدوارد بإصبعه إلى امرأة ترتدي الملابس الكولنيالية وتغير صك الملكية العقارية عن المكان...فنانون يغيرون الأسيجة وجدران البنايات...
-ارسموا على الجدران..ارسموا على الجدران هذا ليس سوق محانيه يهودا...هذا شارع اجريباس ..
رسوم هنا ...صور ملونة هناك...صور عديدة تغزو المكان من وحي سوق محانيه يهودا، صور من وحي قصصه القديمة، صور من وحي وجوه باعته، قصص رسمت على جدار منزل كبير في شارع اجريباس...وفي الطريق رأى إدوارد فنانين يرتدون البناطيل الجينز والتيشيرتات يستوحون قصص الباعة ووحي السوق ويرسمونها على الجدران, رأى نساء أوربيات قادمات من بولونيا وكييف يلصقن صورا بمحاذات مدخل مركز دابيدسون, رأى شبابا يرسمون في ساحة حائط المبكى.
صور حياة نابظة، صور متعددة الألوان في شارع من شوارع أورشليم قبل 1500 عام، لوحة عن الكاردو، وقد ركب المسافرون الحمار، رأى عربات ديليجنس وهي تقتحم المدينة المحاصرة...
*
الليل ومنازل الليل، بنوافذه المضاءة بالمصابيح، بأشكاله الجنائزية، بآثاره المتنوعة، بلهجاته العديدة، بأزيائه المختلفة: برانص، حيوانات، قوارير ماء الورد، ستر مطرزة بالكشاكش، بابوجات مشذرة، راقصون، مواخير تركية، سجاجيد ثقيلة، أنطقة حرير... كلها تختفي شيئا فشيئا في ظلام واسع يمتد أبعد من مدى الأبصار، يختفي في غور بعيد بارد ومنطفئ...ويبرز الملهى في شارع المراقص...أضواء خافتة، راقصون يتمايلون على الإيقاع، ويترنحون في أوضاع شبقة ومخدرة...هلوسات معربدة، ومنهكة...
-هل ندخل مسرح جرار بخار في شارع ليو موديل بتسلئيل؟
-هل نذهب إلى عين يالو ...؟
على منبع عين في وادي ناحال رفائيم، يقف إدوارد سعيد..يقف وهو يراقب عينا دافقة تسقي المزارع الموجودة منذ الحقبة الرومانية، حديقة تبرز بفخامة فسيفسائها الموجودة بها الى جانب الحمام القديم. مطعم روندفو الزهراء الذي يقدم مأكولات شرقية وغربية...هذه مطاعم أخرى ...
مصور من صحيفة ايدعوت إحرنوت يصور المكان..
رجل يقف في الباب على رأسه قبعة الطاهي البيضاء يقدم لحم النعام والشاي،
امرأة ترتدي بنطلونا ضيقا تعلن عن سهرات أسبوعية فولكلورية في مطاعم قريبة من البلدة القديمة...
وها هو إدوارد سعيد يتمشى أمام بنك هبوعليم...يتفحص ما تحت الأشجار...يتفحص ما تحت الأحجار...حارة قديمة ذائبة تحت البناء الجديد...شيء ممحو وذائب...شيء خفيف يتفحصه بتمهل لذيذ وببطء كامل، كأنه يكتشف امرأة للمرة الأولى، يتفحصها بعينيه المشتهيتين ويتحسسها بيديه... كما لو كان يتحسس جسد امرأة جميلة تحت غلالة شفافة.
*
هذه أورشليم ....وهناك الحديقة التوراتية...هناك الأسد الذهبي ونمر الثلج وقردة السيانغ، وهذه الحيوانات الإسرائيلية النسر واليحمور...بينما ضاعت فلسطين في المدى الممتد من تحت السلوان ...منازل قديمة. شوارع مغبرة. أزقة رطبة يجلس على أرصفتها باعة الكتب العتيقة والتذكارات. أطفال نائمون على المصاطب. شحاذون يشبهون التماثيل اليونانية يتململون ببنطلوناتهم الوسخة استعدادا ليوم طويل. أسواق مزدحمة. ضجيج ينسي العشاق التائهين فرحة الموسيقى التي تهب بعذوبة من المقاهي على الرصيف...عمال بسواعد معروقة على الرصيف. صيادون من يافا يبيعون السمك الذي يلبط في السلال. شعراء يشربون الشاي ويتحدثون بصوت خفيض. زبالون يتيهون في الحدائق ينظفون المصطبات ويلمون الحشيش....
وحارة النصارى مثلما كانت أبدا: روائحها، وعالمها، وفراشها، وعرق ملابسها، ومناخها الحار المفعم بروائح الراهبات.
*
سار إدوارد من باب الخليل متجها يمينا صعودا إلى حي الارمن باتجاة الجنوب, وقبل أن يمر من مكتب البريد, تنشق رائحة الرطوبة النائية، فضيق عينيه بسبب الطراوة الصيفية العذبة للمكان.
وقف يائيل إلى جانبه وهو يشير له نحو الأبنية الغارقة في الغشاوة المتحركة، ومن الجهة الاخرى كان مدخل قلعة داوود منتصبا. الحجارة البيضاء، الرطوبة المتجذرة في الشقوق، ثم مركز شرطة المصرارة بجداره المصمت وبوابته الحديدية. يقترب من المدخل، يدفعه التيار إلى آخرة الزقاق.
حشود مثل مستنقع تحاصره من كل جانب. يحاول أن يتقدم: أحذية موحلة، سراويل مدعوكة، معاطف، أذرع، سيقان، وجوه مصابة، ضامرة، منهارة بشكل غير محسوس...قال الشومير للرقيب قادم نحو المخسوم: مشلومخاه...ما هاشاعا...شمونيه...شخاختي لخنين ايت...أيفو نيمتسا سنيف...
فلاح قادم من قرى أورشليم القريبة يتحدث من كابينة الهاتف:
كيفك ياباه كيف صحتك انشاء الله تمام ... امك هاي جنبي ... مقلتلكش انا...مش اخوك عماد استشهد في الحرم ...اه يا بابا بس جنازته ... اي نعم همه وكعو اربع خمس مرات ...احنا الحمد لله فوك الريح... خالك ياباه... مهو اكل رصاصه فعينه... بس احنا ياباه فوك الريح ...ماقلتليش ياباه مرتك طبختلك الملوخيه بالسمك...الله يكرمك... والله اختك نادره طبختلنا اياها امبارح بتشهي... هو انا مقلتلكش ياباه هي اختك هيها مرميه جنبي هي واودلاها السبعه مش الكت... بس احنا ياباه فوك الريح ... هو أنا مقلتلكش ياباه... صاروخ خش من الشباك واخد معاه السكف وطلع من الباب الثاني بس احنا ياباه فوك الريح ...
*
نسيم يتحرك ويحاصر أعلى المدينة ببرودته اللطيفة الرطبة، هواء ساكن شفاف، موجات باردة زاحفة، عطر امرأة عابرة يضوع، عطر ياسمين ممزوج بروائح شهوتها ورغبتها وهي تتكأ على ذراع صديقها الأسمر...يسمع صوت امرأة تنتعل خفين تصعد الدرج ثم تمشي في الرواق. صوت يهاجمه. صوت قادم من بعيد. صوت قادم من البرية يقول:
من هذه البدينة ذات الأسنان الذهبية والسروال الداخلي الفيروزي تصعد الدرج بالخفين؟
من هذه التي خلعت ملابسها أمام أسلحة داوود وتعرت في الصالة المظلمة؟
" قبلة مناسبة في الضوء الباهت" قال رجل تذوب ملامحه بسبب الظلام.
هل هذه هي إيستر؟ لا إيستر معنا....من إيستر؟ إيستر التي نمجدها بعيد المسـخرة؟
أصبحت حرة... قال يائيل...وبعربية ممزوجة بلكنة يهودية قال:
"ما في مردخاي بن يائير عم بيضحي بإيستر حتا ينقذ اليهود من هامان...."
أزقة نظيفة تؤدي إلى السوق، وباب العامود لا يحمل تمثال القيصر إدريان. نشالون يتسكعون عند مفارق الطرق. كلاب نظيفة بأعناقها سلاسل ذهبية رفيعة تسير قرب مطعم مردوخ. وعند أنقاض الأسوار قرب باحة أحد المساجد رأى الطيور تلقط الحب الموضوع في آنية من البورسلين. كان الزقاق الصغير يربط الشارعين الكبيرين بميدان المدينة القديمة، ويخترقها، وكان هنالك سائح يتحدث مع يائيل.
-لقد حلت الباصات محل البغال أليس كذلك؟
-الممر من هناك من عند الشومير الذي يحمل العوذي عند المخسوم.
-سيارات تمضي بأقصى سرعة من شارع هلل.
-لقد التحقت قناديل الغاز وظلالها المتراقصة بالتاريخ.
- طنين الباصات ولا نباح الكلاب.
-صوت يافا ياركونر وهي تغني بدلا من صوت أم كلثوم المنبعث من مذياع قديم في المقهى.
-من زمن بعيد هجر النشالون مفارق الطرق، ولم يعد الشحاذون ينسلون إلي الباصات والمعابر والشوارع.
لم تعد هذه الشوارع موحلة كما كانت أبدا-قال يائيل- ووجوه النساء القابعات خلف المشربيات فيما مضى أصبحت تنير السوق... باب الاصباط تزينه اربعة أسود، والسلطان سليمان حتى اليوم يرى في الحلم أربعة اسود تمزقه اربا وتلقي به في وادي قدرون...لقد تغير باب المغاربة، شاعار هاشبوت، باب الزبالة...لقد تغير المكان كثيرا أليس كذلك؟
تغيرت أورشليم...تغيرت شوارعها...تغيرت حواريها...تغيرت طرقاتها...تغيرت أرصفتها...
-نحن نغير كل شيء...قال آحاد هاعام في القرن التاسع عشر.
عمال ...مهندسون...جنود...استعماريون يجتاحون الأرض ويجعلوها غريبة عن ساكنيها الأصليين.
نص الملكية تغير أليس كذلك؟ شيء لم يحلم به آحاد هاعام أبدا وهو يكتب رسائله في العام 1904، أو عند وقوفه أمام حائط المبكى دون أن تهتز مشاعره، شيء لم يفكر به مطلقا وهو يقيس على مكتبه نص الملكية في فلسطين...ويبحث بين الأوراق والملفات عن خاتم ضائع من الفضة كان قد جلبه من بائع مسلم في أورشليم.
-حلـولنا المطـروحة لا تُجـــدي نفعا ...أبدا...أبدا. قال ثيودور هرتزل وهو يضبط ربطة عنقه السوداء على ياقة قميصه الأبيض المنشاة، ويمسك عكازه المصنوعة من الأبنوس بيده اليسرى، ويهزها أمام حشد من الصهاينة المؤمنين المتجمعين أمام دار الأوبرا في فينا.
آحاد هعام يفكر...يضع يده تحت خده...يمسك غليونه أمام وجاق بيته في كييف، حيث يلتهب الحطب بنار متلامعة، ومن النافذة يبدو ثلج الغابة الأبيض...آحاد هاعام يضع كتابه ومونوكوله على عينه ويمسك بيده الأخرى كأس النبيذ، ويفكر برحلته إلى فلسطين في العام 1891، يفكر باليهودي الذي رآه هناك ساقطا في جموده...آسيني يؤمن بخلود الروح، أو صدوقي يؤمن بخلود المادة، وعلى مقربة من مكتبته المصنوعة من البلوط وكتبه المذهبة الكبيرة، وقف آرثر هرتزبرج بملابسه السوداء ووجهه الأصهب صارخا إزاءه:
-أنت حاخام ملحد...حاخام ملحد وها هي أحجار حائط المبكى، لم تحرك أية مشاعر دينية لديك...حائط المبكى رمز للخراب...رمز للخراب...رمز للخراب....
في تلك اللحظة بالذات تراءت له صورة الولد صغيرا في حي الطالبية يلعب على البسكلتة في الساحة المقابلة لمنزل وديع إبراهيم...تراءت له صورة الولد بالشورت الكاكي الذي يلعب دون أن يعبأ كثيرا بالهاغانا الذين يسدون الطريق....ميا شاريم ...ميا شاريم تبدو منازلها العالية من بعيد، وجنود بريطانيون يقفون بتكاسل شديد عند الحواجز والأسلاك الشائكة، نصف فرسخ للأمام...نصف فرسخ قدما ...نصف فرسخ في وادي الموت..حيث ينفذ الخيالة الستمئة...مجدوا هجومهم...مجدوا هجومهم... مجدوا هجوم الخيالة القادمين، مجدوا هجوم الجنود الستمئة...تراءت له صورة المنزل هناك قبل هجوم الجنود، قبل أن يحفظ قصيدة لورد تنيسون عن ظهر قلب، قبل هجوم الهاغانا من طرف السوق، قبل هجرة السكان الأصليين...
-لقد اختفت الأحياء القديمة كما اختفى يونان في بطن الحوت...قالت إيستر.
الحي القديم تحول إلى حي كبير يقطنه أثرياء اليهود، فلل كانت صفا أمام بالكونة بيتهم تحولت إلى حديقة عامة...شيء من الفاست فود..ومن الهمبرغر...ومحلات لبيع الملابس الرياضية...قال يائيل وهو ينظر إلى شارع مواز للحارة القديمة...
كل شيء أصبح حديثا هذه الأيام..لم تعد المدينة كما كانت أبدا...قالت إيستر.
أورشليم لا أحبها كثيرا فهي ليست تل أبيب ولا يافا...قال يائيل وهو يدخن يوم السبت.
منزل وحديقة كبيرة ... منزل موجود على الخريطة دائما وأبدا...خربة خزعة موجودة أبدا. قال يزهار...وهو يحك خده بأصبع يده اليسرى.
توقف قليلا ..عدل جاكتته على كتفيه وهو يتوجه نحو الداخل لينظر خزعة البعيدة ..لينظر إلى سياج داره البعيدة إلى البستان القديم إلى العشب الذي يذوي تحت المشمس...كان ينظر إلى عمه الذي افتتح حانوتا...إلى الجندي الذي شيد مدرسة...إلى الحاخام الذي أسس كنيسا...إلى السياسي الذي عمر حزبا...إلى الفلاح الذي حرث حقولا...إلى القادم من الهستردوت ..أو من الكيوبتس....أو ينظر إلى المستوطنة التي وقفت أمام خرائب قديمة وصاحت:
فلتحيا خزعة العبرية! فلتحيا خزعة العبرية! فلتحيا خزعة العبرية!
*
في ظلام ما...يقع المنزل القديم المشيد من الحجر, المنزل الكبير بسياجه الحديدي الدائري الذي يحيط بحديقة كبيرة مربعة, وقد ظهر من خلف السياج بناء متين وأشجار زيتون بلونها الخفيف وأشجار توت بلونها الداكن... في البداية لم يكن يعرف عن أصحاب هذا البيت أي شيء...كانوا أغنياء, مسيحيين...تدير منزلهم امرأة كبيرة السن، تجلس مساء في البلكونة, قبالة بالكونة منزلهم, وتتحدث مع والدته بنبرة محببة...الوالد يعمل في يافا...يصعد في سيارة فورد بيضاء جميلة، سائقه مسلم يرتدي ملابس عادية...كان إدوارد يعرف أسماءهم واحدا واحدا..
عبثا يبحث إدوارد عن البالكونة المطلة على الفيلا، عبثا ينتظر ابنتهم التي كانت تخرج إلى الشرفة، كما كانت تخرج ساعة ثم تدخل لتغيب اليوم كله...في المكان صوت آخر يجيء من المنازل المجاورة، من المستوطنة الحديثة التي كان يقطنها ساف هاحوشيخ وهو يصرخ بصوت عال ويضرب الجدار بيديه:
جسدي في فلسطين منذ عشر سنوات ولكني مكتئب.
إنني حتى الآن لم أحضر إلى فلسطين, مازلت في الطريق...قال يائيل.
في الطريق...في الطريق...كلنا في الطريق...لم يصل أحد...قالت إيستر.
هل وصل أحد منا؟ قال إدورد.
نحن في الطريق... كلنا في الطريق...حيث يتحول الناس إلى أبطال في روايات عاموس عوز أو إبراهام يهوشع...أو روايات يوسف بن عجنون.
صابرا...صابرا...صابرا...هل أنت من الصابرا...هل أنت من الأشكناز...هل أنت من السفارديم...هل أنت من بولونيا...هل أنت من ليتوانيا...هل أنت من فرنسا...هل أنت من اليمن...هل أنت من الحبشة...أم أنت صابرا من فلسطين؟ هل أنت عربي؟ هل أنت من اللاجئين؟ هل أنت من 48؟ هل أنت من67؟ هل أنت من الضفة؟ هل أنت من غزة؟ هل أنت من القدس؟
سارت إيستر في الطريق إلى المنزل، كانت بيضاوية الوجه, ناصعة اللون, شعرها الأسود ينسدل على كتفيها وتلمّه وراء عنقها بشرابة بنية...هناك رجل يقتعد على كرسي من البامبو يقرأ الجريدة، وامرأة تخرج بالروب دي شامبر الأبيض المصنوع من حرير وقد طرزته رسوم طيور زرقاء صغيرة...جسدها اللدن يدفع قماشة الثوب فتؤكد انسياب الساقين الطويلتين...وامرأة بحذائها الصغير ذي الكعب العالي وهو يوقع على بلاط شرفتها, يسمعه اليهودي الذي يمر في الشارع...بدلا من البدو والعمال المغمورين والفقراء والكسالى والتائهين؟ تحلمي بجادول... تحلمي بجادول... تحلمي بجادول...شيء يمكن أن يسمعه إدوارد من المكان ذاته...أغنية يسمعها بأسلوب توراتي غريب وهو يغادر القدس بسيارة ستوديبيكير خضراء فاهية اللون قديمة، شيء يسمعه في القدس من سينما الريجنت أو سينما روكسي، والجنود الإنكليز يحرسون المعابر المتجهة إلى سيناء ويفتشون حقائب المارة تحت الشمس الساطعة...
موسى وشعب إسرائيل يهاجرون من مصر ويدخلون فلسطين...إدوارد وآنطي مليا يخرجان من فلسطين ويدخلان مصر...
هل يدخل صالون آنطي ميليا؟
لقد وجد إدوارد نفسه فجأة بين مزهريات وأصص نباتات صغيرة، بين ستائر كثيرة، بين سجاد واثاث قديم، بين لوحات وثريات وشمعدانات بلورية في الشقة 20 من البناية الواقعة في رقم 1 شارع عزيز عثمان في القاهرة. كل شيء خلف الأبواب العالية جاء من القدس: ساعة جدارية ذات رقاص كبير...مدفئة كبيرة، مرايا مبرنقة، تماثيل صغيرة، وعدد لا يحصى من صور الأطفال والأحفاد والأقارب والأصدقاء، كل شيء ينمو مثل الظل تحت حياة هادئة في ضوء النهار الأصفر أوغروب الأماسي الطويلة.
في مقعد كبير ومريح يجلس إدوارد وسط جاراته السابقات نادية وأمها والسيدة جندي. لم يبق من مرضه غير الشحوب الشديد. كانت ملابسه أنيقة ووجهه حليق. والى جانب مقعده طاولة صغيرة وضعت عليها كتب وصحف ومجلات، هنالك كأس ماء بارد، وقليل من البسكويت، فجأة يتخيل أمه وهي تدخل عليه، تدخل بشبابها وصورتها القديمة، بنبرتها الجذابة والمستحيلة، تمد يديها نحوه وتجذبه إليها. تعانقه. تنحرف نظارته عن مكانها. يغلب عليه التأثر وهو يدرك أنها ماتت ولم تجب على رسالته الأخيرة.
*
صوت قادم من البرية أشبه بصوت إله قديم، صوت قادم من كل مكان تقريبا في البيت، صورة مضببة تبرز وسط أكوام من الأوراق والدفاتر والكتب المتهرئة الأغلفة...صوت يقول لإبراهيم بنبرته الدائمة: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك.
وها هو إدوارد يرتحل ارتحالا متواليا نحو الجنوب، بينما يرتحل إبراهيم نحو الشمال، ها هو إدوارد يخرج من أرضه ويدخل بدلا منه إبراهيم، ها هو إدوارد يبحث عن أرضه، وها هو إبراهيم يسكنها ويكتب بها رواياته ...ها هو إدوارد يرتحل ارتحالا إلى البرية التي لا يكتشفها، شيء ما يحوله إلى اليهودي التائه بدلا من إبراهيم... شيء أشبه بحديث قديم بين إدوارد وأمه في القاهرة:
-جئت للسكن معكما لمدة شهرين... ابعثي تحياتي القلبية لعمتي نبيهة...إنا الآن في كولومبيا... لدي مؤتمر هناك...تحدثت معها بالهاتف قبل قليل...عندي الكثير لكي أحدثك به حين أعود.
شيء أشبه بحديث بين إيستر وجدتها البولونية في القدس:
-هل تحسنت حالتك إيستر...هل ستتناولي الشاي معنا.
تقدم الشاي على صينية صغيرة وتضعها على مسند المقعد. في الصحن الصغير خبز محمص ومرّبى...
-ما هي أخبار صغيرتي إيستر.
-ذهبت يوم أمس الى المعسكر. غرقت في حب فتى بولوني يكبرني بثلاث سنوات. إنه يخونني كل مرة وأسامحه. ربما يذهب إلى الحرب. ربما يموت. ربما يتعوق أو يتشوه. أو يتأسر. لاتقلقي يا جدتي... إيستر تعرف كيف تحافظ على نفسها. هل تريدين سكرا مع الشاي؟ كعكتك طيبة. تجعلني أكسر الريجيم.
-الحرب هي أكثر الأشياء التي سمعتها غباء...قالت الجدة.
من النافذة سمعوا صوتا منبعثا من مكان قديم، صوتا متحشرجا كما لو كان قادما من أورشليم:
إلهي لماذا تركتني ...في النهار أدعو فلا تستجيب. في الليل أدعو فلا هدو لي. عليك اتكل آباؤنا, اتكلوا فنجيتهم...إليك صرخوا فنجوا, أما أنا فدودة الإنسان, عار عند البشر... ومحتقر الشعب كل الذين يرونني يستهزئون بي...
أنا آخر اليهود التائهين...آخر اليهود التائهين... قال إدوارد سعيد لمراسل صحيفة يدعوت إحرنوت.
آخر اليهود التائهين...آخر أتباع أدورنو...لم يعد عاموس عوز يهوديا تائها...لم يعد ابراهام يهوشع يهوديا تائها...لم يعد يهودا عميخاي يهوديا تائها...لم يعد يوسف بن عجنون يهوديا تائها...
وفي القاهرة كان إدوارد سعيد في الطريق إلى الحديقة في حي القاهرة الجديدة...هنالك أوربيون يرقدون على البيسين ...وخدم مصريون يلبون الطلبات راكضين فوق البلاط وهم يرشحون عرقا...يصعد السلم فيلتقي عمته نبيهة تمسك جدولا إحصائيا للحاصلين على شهادة المتريكيوليشن عامي 1945 و 1946..وتقرأ به: الطلبة العرب أضعاف الطلبة اليهود..أما اليوم كما ترى...قالت بعينين باكيتين:
"كل الناس لهم وطن يعيشون فيه إلا نحن لنا وطن يعيش فينا".
*
كانت الشمس ساطعة مثل الموسى في الظهيرة، والهواء الشفاف يهب بعذوبة رائعة وينساب مسحورا مثل وشاح، وفي منأى من الضوضاء والجلبة والزحام كان الزقاق نظيفا يطل على أحد الشوارع التي تؤدي إلى شارع فؤاد، وفي منتصف هذا الشارع تقريباً، ينتصب مبنى صغير أبيض اللون وفي طابقه الأرضي دكان بقالة فاسيكلاس، ودكان آخر يبيع سلعاً راقية، وعند ردهة البناء تتسكع بعض القطط عبر دهليز صغير، ودرج واسع خشبي بارز يصدر روائح طيبة، يقطن هناك طبيب يوناني، ودبلوماسي كانت زوجته تغني الأوبرا، ونبيهة عمة أدوارد سعيد وقد جلس في صالتها مجموعة من اللاجئين الفلسطينيين المنفيين إلى القاهرة.
دخل حسين أفندي أبيض الوجه، بقامته القصيرة وبذلته السوداء وهو يرتدي الطربوش المكوي، يضعه على الزاوية اليمنى من رأسه. كان يمسك بيده اليسرى مذبة مصنوعة من ذيل حصان. يهز بها وهو يسير برفقته ابنته آمال، بتنورتها الخضراء، وقميصها الناعم النسيج، وقد رمت ضفيرتها على كتفها.
كانت الصالة واسعة ومبلطة بالمرمر، والثريات العاليات يتدلين من السقف، وفي الزاوية غرامفون على شكل صندوق مربع، وكومدينو من الخشب اللامع يحمل الاسطوانات، وأمام النافذة شرفة طويلة مسقوفة وطاولة ومقاعد منجدة بالجلد الأسود، كان أدوارد جالسا في الشرفة قرب عمته يقرأ بكتاب مفتوح، يرتدي الشورت الأزرق القصير، والقميص الأبيض الحريري، ويضع أقدامه على الطاولة، ويرد رأسه إلى الوراء.
سلم حسين أفندي البوصطجي بهدوء وتهذيب كبيرين على نبيهة التي نهضت من مكانها، وصافحته بود، وأخذته إلى الصالة المجاورة، وقد أحنى رأسه قليلا احتراما لها:
"إدوارد خذ آمال وشوفها شطارتك في البيانو.." قالت العمة.
نهض إدوارد من مقعده، رفع عينيه فرأى آمال واقفة بخجل واحتشام نادرين قريبا من الممر، سلم عليها، وسار أمامها إلى البيانو الموضوع بالقرب من حجرة الجلوس، وسارت هي وراءه:
جلس إدوارد على البيانو أمامها وقد تضرج خداها بحمرة حيية وعذرية.
أحنت رأسها أمامه، رفع رأسه ونظر في عينيها، وسألها ماذا يعزف لها، قالت له بلهجة فلسطينية حيية:
"زي ما بدك...".
مد يديه مثل فكي أفعى على المفاتيح، وضرب بأصابعه ضربات متتالية، فتسلل لحن أوبرا عايده لفيردي رغما عنه، لماذا هذا اللحن دون سواه، لا يعرف، مع إنه كان يكره فيردي وبوتشيني. ويعبد فاغنر وشتراوس. كان يمكن أن يعزف فالسا لشوبان أو المارش لشوبيرت، أو الباتتيك لبيتهوفن والتي كان يتمرن عليها تلك الأيام.
من جانبها لم يزد واحد منهم عن الآخر بوصة...كلها طنطنات تخرج من هذه الآلة لا تساوي الرقة المحلقة لعبد الوهاب ولا طائر الشرق التقي أم كلثوم. مع ذلك أصغت بكل مشاعرها له. أصغت بمشاعرها لا بعقلها. بماذا تحتاج العقل أمام فتى مكبوت واستمنائي ومتوتر. مثلما كانت هي أيضا مكبوتة واستمنائية ومتوترة...وقفت أمامه منذهلة أول الأمر، ثم أصبحت أكثر جرأة.. فمدت يدها وتحسست خشب البيانو البارد والناعم، فهيجها.
كانت عيناها تومضان وهي تنظران بشغف إلى إدوارد الذي كان يجرب أصابعه على اللحن الذي تعلمه وحده قبل أن يسمعه بمزيد من الصقل على يد تيغرمان.
لقد شعر بها...وهو يسأل نفسه لماذا فيردي بالضبط؟
شعر بها لأنها انحنت قليلا أمامه واهتز نهداها خلف القميص الناعم النسيج، نهدان ممتلئان ومتوتران، ثم شيئا فشيئا أخذ يصعد باللحن ويرتفع به، ومع تحليقه كان يتهيج أكثر فأكثر حتى رأت آمال الواقفة على رأسه، انتصابه، وشمت رائحته، مثلما شم هو من جانبه وتنشق رائحة حلوة صعدت وهي تتلوى وتدور خارجة من بين سيقانها، رائحة شبق قريبة من رائحة تخمر تفاح، رائحة من بين ساقيها تصعد مع اللحن تغزو رئتيه فتصعد نشوة فردوسية حمراء ترتسم بغلالة على عينيه، وكانت هي تهتز أمام عينيه الغائمتين.
كانت تتحرك ببطء أمامه وهي تنضح شهوة ولذة متفلتة من بين احتشام رقيق. كان يضغط أصابعه على المفاتيح مؤديا تآلفا طويلا متواصلا يتكون معظمه من رائحة الشبق التي تغزوه، والأداء النوراني والشهواني لموسيقى عايده، حيث ترتسم على خلفية باستيلية مضببة صورة الخديوي إسماعيل وجمهور الدوقات والنبلاء الأوربيين الذين وقفوا بهيبة أمام المياه الغادية الرائحة لقناة السويس من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، كله يمتزج بصوت حسين أفندي البوصطجي وهو يتحدث لنبيهة هانم عن تهجيرهم وترحيلهم ذلك اليوم:
ناولته نبيهة سيجارة جيستر فيلد. أشعلها حسين أفندي وأخذ يدخن بهدوء. سكت قليلا ثم روى لها أحداثا متتالية ومتعاقبة شهدها هو وعائلته بعد إعلان دولة إسرائيل. روى بصوت هادئ وعذب وحزين في صمت الصالة الذي يحيط به، وعذوبة الألحان التي تتناثر مثل بتلات الورود والقادمة من الممر، حيث يعزف إدوارد هناك بينما كانت آمال تشهق أمامه بنشوة وشبق لامعين...إدوارد يشعر بتهيجها وآمال تشعر بانتصابه، يعزف إدوارد بقوة وتجل كبيرين، بينما أذناه تلتقطان حديث حسين أفندي البوصطجي من الصالة المجاورة بدقة وتتلاحق الصور أمام عينيه، صور آمال ووالدها وشقيقها ووالدتها وهم يهربون أمام الجيش الخارج توا من بطن التوراة، أمام الجنود المقدسين والمباركين الخارجين من الأسفار القديمة يقودهم داوود الملك وحاشيته من الأحبار.
يهربون حاملين صرارهم وحقائبهم وعفش البيت ويتجهون إلى الخلاء، صورة حسين أفندي البوصطجي وقد قبض عليه المستر سميث الضابط الإنكليزي المسؤول عن البريد وأودعه سقيفة في فندق مينال هو وعائلته، ثم أطلقهم، فهربوا يركضون هائمين على وجوههم.
إلى أين..؟
إلى لا مكان..
فجأة أصبحوا وسط الجنود المقدسين الخارجين من التوراة وهم يحملون الأسلحة الجديدة ويضعون على رؤوسهم الخرق المباركة، ويرتدون الكاكي ويعبئون جيوبهم بالخبز المقدس واللحم المنذور لـ"يهوه"، ويحرقون قصاع الرز البائت أمام الجائعين من أعدائهم.
- ألقوا القبض عليهم، أودعوهم حفرة كبيرة، هم وملابسهم وصرارهم وحقائبهم وعفشهم، ناموا على الأرض، وفي الصباح أطلقوهم نحو الحدود المصرية على أن لا يعودوا ثانية أبدا.
*
انطلقوا بسرعة كبيرة، ساروا هائمين على وجوههم لا يلوون ولا ينحنون ولا يهتمون إلا بصرارهم وملابسهم وحقائبهم وعفشهم. كانوا أكثر يأسا مما مضى. دون نقود، دون طعام، دون سجائر، دون أوراق، دون ماء. وأضحت مدنهم ميتة مثل يد انقبضت على موتها. مدن متجعدة وبرصاء. مدن خرائب كأنها مهدمة بإعصار. حدبتها رائحة آسنة من الحمى، ومياه دبقة تلصق بجلودهم، وهم يحتمون بجدار مهدوم، بشجرة هزيلة تحني رأسها نحو المياه الميتة، بأسوار مهدمة على الطريق..
إدوارد يعزف وتتحول كلمات حسين البوصطجي إلى صور متعاقبة متلاحقة في ذهنه، إدوارد يعزف وآمال التي تريد نسيان ما عاشته تقف على البيانو تتحسس الخشب الصقيل البارد والناعم وتعري بذهنها العازف من ملابسه، عيناها تومضان وشهوتها تطلق رائحة من بين فخذيها باحتشام وذهول شديدين، إدوارد يعزف بقوة وهو يتنشق رائحة شبقها فيتهيج وتصعد به سورة صوفية إلى الأعلى، إدوارد يعزف وصور آمال وأهلها تتعاقب وتتلاحق في ذهنه:
تسير آمال بأقدام متثاقلة وهي شبه عارية، شعرها الأسود الكث محلول، وقميصها الأبيض ممزق من عند صدرها، تسير في العراء حاملة الصرار أو الحقائب أو أدوات المطبخ، وماسورة بندقية مصوبة نحوها...تسير في أرض من الوحل والمياه الآسنة جعلت روحها تتحجر، كانت تنظر إلى التلال البعيدة فتظهر شناعة الدماء والقرقرة المقذعة لحشرجة الموت الأخيرة...تهرب هي وعائلتها.. يتجهون شمالا مرة، ومرة شرقا، منحنين بثقل كراكيبهم وملابسهم وعفشهم ليجتازوا الحدود، لا مكان لهم ليأكلوا عليه، لا مكان لهم ليناموا فيه، لا مكان لآمال لتغير كالسونها، لا مكان لهم ليتغوطوا فيه، يسقطون مرضى، يمشون وأسنانهم تصطك من الحمى، جوعى، عطاشى، يائسين، وبطونهم تقرقر من الجوع، يمشون على دوي المدافع وصوت الرصاص الذي يئز، وعلى الطريق ساحات للجثث المتعفنة دون قبور، أشجار مقلوعة، بيوت مهدمة، شوارع مكتظة باللاجئين والمحمومين والمقعدين والأطفال الضالين، تسقط آمال في الوحل، تنهض باكية، مرعوبة، مرتجفة، وفي الليل تهرش جسمها، وقد ملأها القمل، وشقيقها عزيز الذي أصيب بالجرب نام في حفرة ثانية.
زحف الجنود التوراتيون الذين يرتدون الكاكي بأسلحتهم المدهونة وجيوبهم المعبئة بالخبز المقدس والفواكه المجففة، وهم يحملون خرائطهم، وأخذوا يطردون العرب يمينا وشمالا من بيوتهم، يكشونهم بالأسلحة المدهونة، ويحرقون فضلات طعامهم أمام أنظار الجائعين.
داوود يصرخ بجنوده: ".. ازحفوا نحوهم ..ازحفوا نحوهم..تقدموا..تقدموا ..".
نعم.. استمروا بتقدمكم وزحفكم وعليكم أن تقتلوا من تواجهون.. إلى أمام..من هنا.. إلى أمام من هناك..ازحفوا من هنا..ازحفوا من هناك ..خذوا أورشليم .. خذوا البلدة القديمة.. خذوا قراها ومدنها ...ازحفوا نحو بلداتها.. اقتلوا من تواجهون.. ابتلعوا من ترون ... ضاجعوا من تشاؤون.. وإذا شئتم فتغوطوا على رؤوس من تقتلون...هيا هيا ..اليوم نحن التاريخ ..نحن الذين نكتبه..نحن شهوده وقضاته وتوراته ليس هناك من معترضين ولا شيء من هذا الخراء..ازحفوا لقد وصلنا..وصلت جنود يهوه إلى مبتغاها..راياته راياتكم ..فليحيا الهيكل ومن لا يعجبه فليتخوزق من مؤخرته..اعبروا من هذا الجانب إلى ذاك الجانب ..تعالوا من هنا وعيشوا هذه المأثرة التاريخية الرائعة.. هذه الفوضى الإلهية المقدسة..لا تسألوا من هو المسؤول عن موت أكثر أحبابكم..
*
يركض حسين أفندي هو وعائلته مع الطوابير الكبيرة التي تهرول إلى لا مكان، إلى خارج المكان، هناك يقفون أمام جنود الله الذين يرتدون البذلات العسكرية ويحرقون أمامهم قصاع الرز، عاد داوود إلى خيمته، إلى المكان، وقال:
لقد طردناهم إلى الأبد ..سوف لن نسمع بهم أبدا..ها نحن نرتاح إلى الأبد.. وقد غادروا ولن يعودوا..لقد غادروا وانتهى كل شيء..المسألة بسيطة جدا..ولن تستغرق وقتا..سينسى كل واحد مكانه..والجديد سيتعود على المكان الجديد.. وينتهي كل شيء..لقد انتهينا تقريبا وسنرتاح إلى الأبد..لا بد أن ننام..
عاد إلى مكانه.. اضطجع على السرير.. نفض يديه وقال:
خلصنا منهم للأبد . وأخذ يشخر..
*
حاول حسين أفندي الفرار والهروب والتملص متحايلا على الجيوش التي تحاصره، دار أولا هو وعائلته من اليمين، ثم تجاوز الخط الأول للجنود الذين يعلكون ويضعون في جيوبهم البسكويت ويصوبون رشاشاتهم إلى أمام، تقدم ليتدبر فراره، وكل واحد من عائلته يتشبث بصرة أو بحقيبة أو بشيء يحمله من عفش البيت، يتجاوزهم مرة ويصطدم بهم مرات، ورغم انقضاضاتهم الحادة واستداراتهم الخطرة، ومشيهم على أربع، وانبطاحهم على القاذورات، وإصابتهم بالإسهال والحمى، ونومهم بين القتلى والجرحى، إلا أنه كان يريد أن يصل إلى القاهرة بأي ثمن، يتمنى أن يصل القاهرة وأن يتحول إلى مراقب تواليت ..بدلا من وظيفته القديمة المحترمة، كان مستعدا أن يبيع الليمون بالقصاع المصري، أو أن يصبح عتالا أو خبازا ..ولكن فقط أن يتخلص من قصف القنابل المتوالية، ورشقات الرشاشات، وصرخات الجرحى، وعويل المحتضرين، وأن لا ينام هنا في حفر القنابل المنتشرة في كل مكان، وأن لا يغطس في الدم الرائب الذي ينزفه الجرحى، ولا ينام بين الجثث، ولا يسمع بكاء المحتضرين، ولا يشاهد السيقان المقطوعة، والأذرع المبتورة والتي تقطر دما وقيحا، ولا يتحسس الجثث الحارة، والنساء المسلوخات، والقتلى، والساقطين من الجوع في الطين، ولا الأجساد المعراة، ولا الحيوانات الشاردة المجنونة، ولا الوجوه المعذبة المضروبة المتقيئة، ولا الرجال الذين يتعثرون بالبط والدجاج والعربات المقلوبة والتي تجرها الخيول والحمير.
*
إدوارد يعزف أوبرا عايده لفيردي على البيانو الأسود الموضوع في الممر وصورة ملونة بألوان باستيلية جذابة ومتنوعة ترتسم فورا بكل أبهتها أمام عينيه الوامضتين الغائمتين، صورة باستيلية تعود ليوم السابع من نوفمبر من العام 1869 حين صعد دولسيبس بملابسه الإمبراطورية الملونة، وقبعته الفرنسية السوداء العالية، ونياشينه الذهبية التي تبرق على صدره العريض وعلى ملابسه الحرير، صعد على المنصة الخشبية العالية وقد جلس قبالتها الخديوي إسماعيل بشواربه المعقوفة وأنفه المدور وعينيه القاسيتين اللتين ألفتا الاستبداد منذ زمن بعيد، وعلى يمينه وعلى شماله جلس ممثلو العائلات الملكية والدبلوماسيون والضباط والمهندسون والعلماء والرهبان، ومن بعيد توافد السكان المحليون راكضين بأقدامهم الكبيرة الحافية، وصدورهم العريضة السمر التي لوحتها الشمس، وعلى رؤوسهم الطاقيات، كانوا يتعثرون بين البراميل والحبال وقد ضاعت ضوضاؤهم بين هدير الباخرة وهي تقلع في قناة السويس، على المنصة الملكية الكبيرة وقف رجال ونساء عظام بملابسهم العظيمة الفخمة وألوانها الزاهية والتي كانت تبرق متوافقة مع هالة مشعة تحيط بوجوه النبلاء والدوقات والملكات والضباط الاستعماريين والعلماء الذين يقفون خشوعا أمام هذه العظمة والجلال والرهبة، كانوا يرتعشون على صوت دوليسبس وهو يصرخ:
" إلى العمل أيها العمال الذين تدفعكم فرنسانا..".
دوليسبس يصرخ:
".. تقدموا..."..
فيتقدم صعايدة مصريون في العزلة الملتهبة والعميقة للقنال، يتقدم نوبيون يسبحون في النيل عراة وقد ظهرت عوراتهم السود أمام عيون السائحات الغربيات. فلاحون بجلابيب وطاقيات ممزقة يتقدمون على الرمال الناعمة الساخنة وهم يغتسلون بلهب يفترس الغيوم. عمال بلديون يجوبون القاهرة بوجوهم الممصوصة المتعبة. نساء يحملن الجرة على كتف والطفل على الكتف الآخر. فقراء يتقدمون في الوحل يسحبون خطوات وئيدة وهم يشقون الأرض. معوزون يسهرون وهم ينصتون لصمت الحمير والجمال. جائعون يفيقون نصف إفاقة على عتبة الأكواخ المهدومة والهمسات الموشوشة. عبيد مثل عبيد الأهرامات يشقون القنال ويركعون عند أقدام فراعنة شقر. صعايدة يتقدمون بأقدام كبيرة حافية، بأيد عارية، بوجوه سمر لوحتها الشمس. ببطون خمصانة نشفها الجوع. بشفاه راجفة جففها العطش. يتقدمون على ضفة النهر الذي لا ينام. النهر الذي يبيض ماؤه بطبقة شفيفة من الرصاص، يحملون أكداس الطين بشوالات من الخوص ويبعدونها عن الشق. أما دوليسبس فقد كان يرى بحدسه الإعجازي هذه العظمة ويعيشها على صوت الطبول وعربدة العالمات. يعيشها وهو يسير في الصالات ذات العمد حيث سار أبو الهول، أو رمسيس ومشى هناك. كان يحلم لا بشق القنال ورحلة مياه النيل إلى البحر المتوسط حسب، إنما كان يحلم بالعودة مظفرا إلى باريس. يحلم وهو يسير في شوارع باريس على فرس عربية بسرج مزركش، وخلفه هوادج الإماء الحبشيات، وفي خرجه تماثيل من الغيرانيت من عهد رمسيس. كان يحلم بعودته بطلا وهو يمشي في منزله الغربي بملابس نوم تركية وبقارب شراعي يسير في بحيرة لها هيئة بحيرة من الفولاذ المنصهر.
*
صعايدة مصريون يحملون زواداتهم ويسيرون قوافل يحيط بهم رجال الحكومة على خيولهم البيض وقد تمنطقوا بالسيوف المعقوفة، وحملوا بأيديهم الكرباجات، يسيرون تحت سياط الشمس اللاسعة في الأرض الموحلة الشبيهة باللدائن، وقد غاصت أقدامهم بالغرين الحري، عمال يسقطون في الترع الكبيرة، أو تنهار عليهم تلال التراب ويموتون هناك من أجل مجد فرنسا وفائدة إنكلترا، يدفنون في شقوق القنال تحت السماء النيلية الداكنة، وهو يصغون بهدوء إلى المجذفين ذوي العضل في النيل الرصاصي وهم يصعدون أمواج النهر، لينشروا موجاته العاتية المرتعشة.
وفي ساحة الأوزبكية هنالك سواح ورحالة وتجار وعسكريون كولنياليون يعيشون بانوراما المدينة الموشاة بباقات منتشرة من المنائر العالية والقبب الزرق، يجلسون في مقاهي القاهرة على الكنبات الأصطنبولية وهم يصغون للآذان تحت سحابة صاعدة من دخان الأفيون، والروائح الشذية القادمة من الذين يطبخون القهوة في الدلال.
*
ضغط إدوارد بيده يد آمال الرقيقة على مفاتيح البيانو، فصعدت الضجة، تنشق رائحة أنوثتها وشهوتها الحادة، استرق السمع إلى حديث الصالة عن النكسة، همس بإذن آمال بصوت محشرج:
" دو.. ريه.. مي .." .
كان هنالك وقع غامض ترسمه آمال في روحه، وقع صوتها وحماسها الطفولي الرقيق، لقد شعر بثقلها العذب وهو يضغط إصبعها على مفاتيح البيانو، وقد نامت يدها قليلا بين يديه المحصنة والدافئة، وقد لمحت في عينيه البريق الحاد الذي يلهبه، وضعت يدها في يده، تحسستها، كان صمت وسكون الحب ينم عنهما ويكشف جنوحهما، وكانت تعرف أي نداء يجذبها نحو هذا الملجأ، والحماس الذي لا يفتر والصوت الذي يعلو في هذه المسحة من اللهاث، وتلك النبرة المفككة في صوته، وقد أخذت نبضات قلبيهما تتسارع.
ذهبا معا إلى المطبخ ليجلبا عصير البرتقال، وحين خرجت الخادمة سمعت وراءها خطوات مضطربة متلاحقة، وحين عادت كانت آمال قد خرجت من المطبخ تعدل تنورتها وتتنهد بقوة وتعدل بيديها شعرها المهوش.
لقد وقفت أمامه في المطبخ، استندت على الجدار بأنوثتها العارمة الجموح، بصدرها المكور، بعينيها السوداوين القدسيتين وهما مسددتان نحوه، وقد انسكب منهما حنان صامت، ارتعشت عاطفة وحشية بينهما، عاطفة كان ضجيجها مدويا في المطبخ، توقفا في الزاوية وقد انعكس عليهما النور بغموض، كان السكون عميقا أول الأمر، وقد أدرك كل واحد منهما الحرارة الودية والمتلكئة، تثقبها فترات صمت متواطئ، وشعر كل واحد منهما بأنه غرق في شعاع لا عمر له، والتقى كل واحد منهما بالجاذبية والسحر والنغمة الحزينة التي ترن دون قرار.
*
وصل أدورد سعيد القاهرة بعد أن تركها من زمن بعيد.
بعد هذه السنوات الطويلة تغير المكان كثيرا، والعمة نبيهة رحلت، ورحل لاجئوها وتفرقوا في كل أنحاء العالم، وبقالية فاسيلاكس أصبحت محلا للأحذية الرخيصة، وحين عبر ملعب الغولف بنادي الجزيرة، سمع من ينادي أسمه في الظلام، وتذكر كيف كان يلهو ويختبئ بين الصخور في حديقة الأسماك. تذكر نزهات الأسرة لشرب الشاي في الميناهاوس و الرحلات الترفيهية إلي القناطر، حيث كان رب الأسرة يتحرر لفترة وجيزة وينهمك في اللعب والمسرح، ومشاهدة الأفلام الأمريكية في سينما مترو، ولعب التنس في نادي التوفيقية..
في عتمة ذلك اليوم من عقد التسعينات، وقف إدوارد سعيد وقد وخط الشيب رأسه، وقف أمام منزل عمته نبيهة وقد استضاءت فجأة عتمة عمره، وتنشق للمرة الأولى عبيرا صامتا من أنوثة قديمة خصبة حنونة لكنها مقهورة، وإن ينسى ذلك اليوم فإنه لن ينسى شعر آمال الكث تحت أصابعه، وقد حوطها بذراعه، وكاد أن يذوب بها كليا وإلى الأبد، لقد شعر ذلك اليوم وهو ينظر بعينيها، بأنه يتقد وينصهر بها بحب وتوحش وتوهج وتحرق من غير حدود ولا انتهاء.
تذكر إدوارد جلوسه معها في سينما التوفيقية مرة.
جلس معها يداً بيد، يربط بينهما الحياء وتجاور المقعدين. تظاهرا بأنهما ينظران إلى الشاشة التي كانت مرتفعة فوق رأسيهما. حزمة ضوئية تنبثق من كوة في الجدار الخلفي كخط من الدخان الأبيض المزرق. كان شارلي شابلن يركض بقدميه السريعتين وعكازته الرخيصة...وحين مرت سيارة سريعة طارت قبعته المثقوبة عن رأسه في الهواء.
شخص سمين وراءه...شخص يندفع بجنون نحو عمود. مكبر صوت يزأر بموسيقى صاخبة من مختلف النغمات، وارتفع من أعماق الصالة المليئة بدخان السكائر ـ كانا جالسين وسط قهقهات عالية جذلة وتصفيق عاصف.
ـالجو خانق هنا أليس كذلك.
فهزت رأسها وأخذت ترتدي قفازيها.
ومن جديد جلسا في نادي السيارات. كانا يتطلعان إلى الزجاج الذي تبدو حبات المطر عليه كأنها شرارات ذهبية، يلمع المطر مثل ماسّاتٍ مختلفةِ الألوان، نور مصابيح الشوارع والإعلانات المضيئة تومض في الأعالي المظلمة للشارع بلون أحمر قان.
نظرت إليه بعينين ينبعث منهما وميض غريب، أهدابها السوداء الطويلة تركت ظلا على خدها. مالت نحوه بوجهها الذي بدا عليه الحزن، دون أن تذكر له شيئا...وحين مد شفتيه نحوها تنشقها ...تنشق رائحة الأرض القديمة التي خلفها وراءه وقد أحرقه الضمأ إليها ولم يقع من ريه إلا على سراب...تنشق رائحة فلسطين التي تركها صبيا دون أن يعود إليها وفي قلبه أسى صامت ومذيب، وها هي اليوم بين يديه في سينما التوفيقية يتنشقها كما كان يتنشقها وهو طفل:
حديقة ثرية بروائح قطافها، أرض مرشوشة وقد غرد الصيف على وجهها. بلدة رطبة مسح النهار على عيون أولادها الصغار. شارع مظلل مسح الله عن شفتيه نداوة الليل، أنثى عارية في مطلق النهار...
لقد تنشقها إدوارد ذلك اليوم...تنشق لحمها الحي، تنشق طراوتها ...تنشق أروشليم وقد تسلت بأقدماها عصافير المطر... تنشق ذراعيها المنغمرتين طوالَ النّهار بالشمس...
وها هو إدوارد يتنشقها ذلك اليوم من الجسد الشبق والخصب والحي... شوق مثل غضارة الموج يرتمي على ساحل ممدود بلا كفين، شوق لا يتحقق أبدا, وعاطفة تندفع في قلبه مثل اندفاع الماء في البئر, وبعد كل هذا العمر يرتد قلبه محسورا عن الطريق، شيء لا يبدأ ولا ينتهي أبدا، أمل لا يذهب ولا يعود، رحلة لا تهدأ مطلقا، ولا تصل خط النهاية تماما، وفي تلك الساعة من النهار الهابط ينظر في الخط الممتد على جسدها مثل نقطة بيضاء على سماء رمادية، مثل موج طفيف يترك غشاء فضّيًّا رقيقًا لا يجفّ ولا يتجدد، لا يهدأ ولا يذوب...من بعيد، ومن مكان ما، من حي قديم، من أرض لم تعد تحوي شجرا...كان إدوارد يسمع صوتا بعيدا ...صوت لا يرق ولا يعود.
*
سار إدوارد في شوارع أورشليم وقد سمع أغنية تنبعث من مذياع قديم:
(يا بيتي يا بويتاتي، يا مستر عيوباتي، فيك بوكل وبشرب وفيك بكبر لقماتي).
أغنية تختلط مع صوت بائعات الليمون في خان الزيت، أو سوق الدباغة. صوت معصرة الزيت قرب الجامع، صوت المرأة التي تجلس بباب العامود...لمحات نساء يرتدين ملابس تشبه ملابس نساء إسماعيل:
رداء أزرق معقود عند الوسط، تنسدل عليه الطيات المقببة لرداء أبيض آخر، ويحملن جراراً من الفخار مليئة ومستقيمة على رؤوسهن، يمسكنها باليدين كما هي تماثيل الكرياتيد في الاكروبوليس. نساء يغسلن عند النبع، وأخريات يرتدين اثواباً جميلة ويضعن على رؤوسهن شرائط من الليرات الذهبية يرقصن تحت شجرة رمان كبيرة على مسافة قريبة من ينبوع هاجر.
لمحة عابرة، تنهدات ترتعش ارتعاشا خفيفا فوق الستائر الزرق وهي تنزاح في توجسات الطرق المعتمة...مر أمام إدوارد حشد من السياح الذين يحملون الكاميرات ويبحثون في الحجر القديم عن ضوء نافذة مفتوحة، كان يمكن لمطر خفيف أن يبلل الأرض المرصوفة، ومن الحجر المرشوش تنبعث رائحة نفاذة تسكره بذكرى بعيدة غامضة، بذكرى طفولية أبداً، وذاهبة من غير رجعة، من هنا مر يوم كان طفلا...قال ليائيل...من ساحة النافورة ذاهبا مع أمه إلى السوق...كان نحيفا وساقاه رفيعتان في الشورت الأبيض الواسع, وقميصه مفتوح...كان يبكر أول الصبح على حافة النهار المضبب، يقف أمام هذه البيوت الساكنة والشاسعة, أمام الأشجار المشعّة وكأنها تترقرق في الضوء، يسمع الماء يخرخر في حديقة منزل كبير السياج بوشيش خفيض يتكرر، وهو يحس عبر كل هذه السنين الطويلة, يحس بالطراوة تحت أقدامه الحافية، ويشعر حتى اليوم بالهواء البارد وهو يرطب وجهه.
*
جاءه صوت آخر وهو يصعد من شارع شارع بتسلئيل 11، صوت رخيم كان خارجا من شبابيك وأبواب مركز الثقافة البلدي، صوت يعقوب وهيلدا بلاوشطين.
مادرحوب معرض فريد من نوعه...مادرحوب...مادرحوب...معرض فريد من نوعه هل تعرفون ذلك؟
هل سألقاك هناك؟ هل سألقاك في شارع بن يهودا, أو في ميدان صهيون, أو في شارع لونتس بن هلل، أو في شارع الهستدروت.
هل سألقاك هناك؟
في الشوارع فعاليات كثيرة، هناك معارض عديدة, هناك أجنحة لليانصيب, هنالك مسرح في ميدان صهيون, هنالك عروض في الشوارع, هنالك الفنانون, ستسمعون محطة إذاعة 101 اف ام, ستسمعون أنغاما موسيقية دائمة. ستشهدون حملة تنزيلات، ستدخلون منطقة هوتسوت هاعير، كل شيء مجاني هل تعرفون ذلك؟
كل شيء مجاني ...هل تأتون؟
شوارع أورشليم ستعج بآلاف المشاركين, ستصطبغ بألوان عديدة, بروائح مختلفة, بمذاقات كثيرة، بموسيقى متنوعة...أنتم مدعوون للتسوق والمشاركة في اليانصيب أنتم مدعوون للفوز بجوائز قيمة...خلال الصيف, كل شيء بين أيديكم: أطعمة شهية, احتفالات المآكل الشعبية, احتفال حلو المذاق, عالم المراة, الرجل الانيق, عالم الطفل, الصيف الاسرائيلي, رياضة وصحة.
شيء مجاني هل تعرفون؟
*
نهاية السوق، سارت مجموعة من النساء القصيرات، البدينات، المتسربلات بالفساتين المصنوعة من الكتّان الأسود...يهوديات يطفن على مهل في متاجر كبيرة. نساء يغادرن منازل فارهة في ضواحي القدس الغربية، يركبن سيارات الليموزين، أو يدخلن محلات شبيهة بمحلات الماربل آرش أو ماركس وسبنسر، نساء بدينات، غامضات أيضا.
في قمم ثلاثة جبال مرتفعات، بيوت متواضعة البناء، تتوسط أخرى فخمة... شوارع ضيقة لا تتسع لمرور سيارتين في آن واحد، وفي الطرف الآخر طرقات واسعة تملأها سيارات المستوطنين الفخمة والحافلات العامة وعمال البلدية الذين يعتنون بالورود المنتشرة على الجنبات...هنا راموت..هنا مفساريت..وهنا إكسا...وهناك الباشورة ...
نساء مستلقيات على المصاطب، امرأة تخرج من الحمام على رأسها منشفة، بيوت مغلقة، مدن مغلقة، نساء سافرات ومحجَّبات، نساء خلف النوافذ الحديدية، عيون خلف قضبان الشبابيك تراقب الشومير يفتشون الداخلين والخارجين، صحفي يصوّر الدبابات الميركافا...وعند باب عناتا قريبا من الشارع الرئيس رابطت دورية إسرائيلية.
سار إدوارد في ذلك المكان فشم رائحة الفلافل والمخللات تنبعث من مطعم قريب، كشك قريب يبيع الزعتر، والعطور، والتوابل، محل يبيع اللحم البلدي...صوت فيروز يصدح أول الطريق. ماء مرشوش على الطريق. رائحة جوافة تنبعث من دكاكين الخضرة، بوفيات تعرض طناجر الزيتون الأسود، سبيل الماء منذ عهد المماليك...صبايا جميلات يشترين حلوية الكسبة من دكان أبو كامل الصالح في السلسلة، لغز محيِّر، نظرة أنثوية محدّقة ترشح من وراء قضبان الشباك الحديدية.
وقف إدوارد أمام سوق العطارين حيث تنتشر الروائح والتوابل.
امرأة تتناول شراب الخروب والعرقسوس وشراب اللوز.
سيدة تدخل سوق الخواجات.
في الطريق هدايا الأعراس والأثواب معلقة، كراس مصفوفة على مقربة من سوق الصاغة القديم.
كان ينظر من يعيد إلى قباب مقرنصات، إلى عارضة فوق ماء سبيل، مؤمنون هنود في خان الزيت. طيور تحط في ساحة مسجد الأقصى. رجال يغتسلون عند الميضئة التي تفيض. مجموعة من الشبان يدهنون الأعمدة بالزعفران. طراش يتفحص باب حبس العبيد.
وها هي القدس في الصباح تحت زقزقة العصافير..أمام رطوبة الأرض المرشوشة...أروقة باردة، باب القطانين، تزيين على الأبواب التي جددها محمد بن قلاوون.
مآذن مزخرفة ذات جوانب مستطيلة. قبة صغيرة، امرأة عجوز تجلس على باب المغاربة التي تغيرت كثيرا. رجال يصلون أمام حائط البراق. فتاة صغيرة تمد رأسها لتشرب من سبيل قيتباي بجانب المصطبة. زخارف نباتية خلفها العثمانيون. رجل دين بعمامته البيضاء التي لفها على الطربوش الأحمر عند ميضئة الكأس في المسجد الأقصى. قباب تبدو من بعيد. مآذن. أسبلة. مصاطب. محاريب. شجر. مرافق عامة. خلوات. بوائك. آبار. مدارس. مكتبات. ساحات. مشارب. خزانة زجاجية فيها آثار مسجد عمر. مسلمون يقرأون القرآن بمشهد يطل على السواحرة وسلوان ومحيط القدس. أضواء ملونة تطل من الزجاج المعشق. أشجار سرو وصنوبر عتيقة. مصطبات وساحات مسجد صغير.
يدخل إدوارد درجا حجريا في جنوب المسجد. ينظر المسجد المرواني في الجهة الشرقية تحت ساحة المسجد الأقصى...البائكة الجنوبية ساعة الحرم البوائك بركباتها وأعمدتها وأقواسها ساحة القبة والدرجات المدخل الذي يطل على ساحة مسجد قبة الصخرة المغارة الصغيرة.
نظرة من نوع خاص؛ تركّزها الفتحة الضيقة المخصَّصة للعدسة، آلة تصوير، تلتقط شيئا ولا تخطئ...نظرة تمتد من حجرة مظلمة محددة المنظر. يشعر إدوارد بأنه يصوَّر الشارع، هذا الشيء الأسطوري العظيم، الشيء المفاجئ الذي جذبه إلى مكان ما في البعيد الغامض، إلى الظلام العاصف في أزقة أورشليم من قبل خمسين عاما، شيء ما جذبه إلى الأشجار المثيرة للضجة فوق الأسيجة، إلى الكنائس الصغيرة خلف أسوارها الحجرية الصدئة، إلى الأبنية الواطئة، إلى الهندسة الحجرية فوق البوابات، وقد ظهرت من خلل الدوامة، إلى باحات البيوت ذات الآرمات الصغيرة، إلى أبراج الحمام القديمة، إلى المناضد المغروزة في الأرض تحت الأشجار المعمرة.
*
-احذرو السيارات لأن الطريق ضيقة. قالت إستر...وقد مروا تحت جسر معتم وضيق حتى وصلوا كنيسة الأرمن...إستر المقدسة عند بوابة صهيون، قال يائيل وهو يمزح معها، أو ديفيد الطفل الذي منعه إخوته من محاربة فيليستينيس.
- ديفيد كان لا بدّ أن يبقى في البيت لأنه كان صغيرا جدا.
ديفيد كان الطفل الأصغر. بينما خرج إخوته لمحاربة فيليستينيس.
ديفيد كان لا بدّ أن يبقى في البيت لأنه كان صغيرا جدا.
ديفيد قاتل وقتل أسدا.
أمة إسرائيل خائفة من عملاق فيليستينيس.
فيليستينيس أرعبهم...والده أرسله إلى ساحة المعركة لجلب الغذاء لإخوته. بينما سمع هناك بجالوت...ولذلك ألبسوه أفضل الدروع.
نزع ديفيد الخوذة والدرع وصحن الصدر ودروع الذراع دروع الساق والسيف الثقيل. بدلا من ذلك ذهب إلى النهر ووجد خمسة أحجار ناعمة. قال جالوت لماذا ترسل ولدا مجرّدا لمحاربتي. لكن ديفيد قال: أنت تجيء لي بالسيف والدرع، وأنا أجيء إليك باسم اللورد.
..........................................
.........................................
.........................................
* فصل من رواية عن إدوارد سعيد بعنوان (مصابيح أورشليم )...تدور جميع أحداثها في مدينة القدس.
ستصدر العام المقبل عن دار الساقي في لندن. 1