حسين المحروس
(البحرين)


هدايا الماء

ليس سوى البحر يتسع لما بعيون الأطفال في حينا الضيق . يتسع لكل أمانينا وألعابنا ومناوراتنا مع السمكات الصغيرة والسرطانات الخفيفة السريعة . ننزل الماء الصافي .. نخوضه .. نرى البياض على أطراف أقدامنا من الماء . لكل لحظة لعبة مائية . في البحر ليس ثمّة قوانين في الألعاب . الأطفال الطوال قادرون على الدخول قليلا في عمق البحر ، أما القصار فليس لهم سوى الضحل من الماء .. لكن البحر بحرنا ، والماء ماؤنا وقطراته تختبئ عند قواعد الشعر الناعم في أرجلنا الصغيرة . لا نتوقف عن اللعب إلا عندما نرى بطيخة قادمة نحو الساحل . يسقط البطيخ من السفن في أحضاننا .. تحمله الأمواج إلينا . البحر كأنّه يرزقنا .. وإلا فلماذا لا يتوجه البطيخ إلى غيرنا .. نحو غير الماء الذي نلعب فيه وبه ؟
يتوقف اللعب دون إذن من أحد ، وتتجه العيون نحو البطيخة القادمة منتظرين بشغف خروجها من المياه العميقة .. كنا نعرف أنها لن تتجه نحو غيرنا ، وأنها ستصل إلينا لكن ذلك لا يعني التوقف عن السباحة نحوها وإحضارها .. كلما اقتربت البطيخة التي لا نرى إلا نصفها الأخضر الأعلى زاد نشاطنا ودخولنا البحر حتى حدود المياه الضحلة ..الماء إلى الرقبة .. لا ندرى ما الذي يجري في الأسفل . يبدأ الطوال في التحرك نحو العمق قليلاً فلا نرى إلا رؤوسهم .. كان أوّل مَنْ يلمسها هو أوّل مَنْ يفتحها على رمال الساحل.. وهو مَنْ يأخذ الجزء الأكبر والأفضل .. أسميناه قانون البطيخ !!
تعالت الصرخات والصفير عندما أمسك جواد واحدة ، عائدا بها إلى المياه الضحلة ..
أف .. لا حاجة لنا فيها ( قال جواد متأففاً )
قلب البطيخة فرأينا الجزء الذي كان في البحر منهوشاً .. ربما سمكة كبيرة فعلت ذلك .. ابتعدنا عنها ثم أعدمناها بالحجارة فلم يبقَ جزء منها يسمى بطيخة !! .. كنا نعرف أن البطيخة تدل على البطيخ ، فلم يحدث قط أن جاءت بطيخة واحدة فقط .. انتظرنا العودة .. نبؤة الأطفال لا تكذب ! صدق الأطفال ولو كذبوا ! وبعد مئات الأمواج - هكذا نحسب الوقت في البحر - طلت علينا بطيخات كثيرات من بعيد .. بطيخ أخضر اللون يعلو ويهبط .. يطفو ويغوص .. يهدأ ويضطرب .. كلما اقترب من الساحل زاد اضطرابه وتلقفته أيدينا .. ثمة أشياء تسبح خلفه لكنها ليست بطيخاً .. البطيخ ليس أسمر .. لون الخشب .. صناديق من الخشب تقترب فتكبر في أعيننا .. نسينا البطيخ .. حملنا صندوقا واحداً نحو الرمال .. حاولنا فتحه فلم نستطع .. ألواحه سكرى بالماء .. كأنها شربت البحر كله .. كلّما رميناه بحجر ارتد علينا مكتوم الصوت دون أن يترك أثراً . اختلفنا في محتواها واتفقنا على أنه طعام يُؤكل ..
حملنا بعض الصناديق المختلفة في الشكل والحجم ، المتشابهة في الإحكام والتشبع بالماء إلى الحي . كانت النساء أكثر سرعة من الرجال في التجمع حول الصناديق ..
هذه الصناديق يمكن تكون خطرة عليكم فلا تفتحوها ( قالت أم جواد )
من أين سرقتموها ( قالت امرأة )
أولادنا ما يسرقون يا خيّوب الفريق ( قالت أم جواد )
يعني ما تشفون الماء يسيل منها .. أكيد من البحر ( قالت فتاة )
أغرت الصناديق الرجال فأحضروا المزيد منها . بدأت محاولات الفتح .. إنها تستعصي على ذلك .. أُبعد الأطفال عنها ..
الفتح للرجال فقط ( قال أبو جواد )
تضايق بعض الأطفال وتبادلوا الرسائل بالعين .. انسحب طفلان فاتجها نحو البحر .. استنفدت الرجال طرق الفتح دون جدوى ..
هذا صندوق من حطب يا جماعة ؟ " قالت امرأة مستنكرة "
الحطب أنواع .. يعني كل نوع مختلف عن الثاني " قالت امرأة أخرى "
أُحضر قَلاف من ورش صناعة السفن " العماير " ليعمل ثقباً بآلة الثقب اليدوية " المجداح " .. كان الثقب يعني أن الصندوق مفتوح .. لا داخلية له الآن .. استغرق الثَقب وقتا طويلاً .. أراد أبو جواد أن يضع إصبعه في الثقب فأشارت عليه امرأة أن لا تفعل ؛ لأنّ اللمس يعني انتهاك الصندوق .. أليس هو لمس ؟؟ .. اقترحت عليه استعمال العين للكشف ، لذا نظر خلاله بعينه فقط ، فلم ير شيئاً ..
لو عملنا ثقبا آخر لعرفنا ما بداخل الصندوق ( قالت امرأة متعلمة )
وافق أبو جواد على اقتراحها بعد تردد طويل .. وضع القلاف مجداحه فاستغرق وقتا أطول من السابق .. اقترب المتفرجون من الصندوق .. وضع أبو جواد عينه في الثقب فلم ير شيئا :
إنه صندوق خال ..ما فيه شيء ( قال أبو جواد محبطاً )
كرر القلاف عمله وتكرر معه إحباط الواقفين .. متى ستنتهي كل هذه الصناديق .. قد يغادر القلاف إلى عمله ..
اسمع أبو جواد .. اضرب بالمطرقة على الصندوق ثم ضع أذنك على ألواحه .. فإن زاد الصوت فالصندوق خال ، وإن كتم الصوت وما سمعت شيئا فالصندوق ممتلئ ( قالت داية الحي أم رسول ) ..
البصر يفرّق والصوت يجمّع .. الصورة تأتي من اتجاه واحد فقط ، لكن الصوت يأتيك من كل الاتجاهات .. الصوت هو كل ما نملك .. ووجودنا صوتي .. كلما حاولنا غمر أنفسنا في الصورة زدنا شوقا إلى الصوت .. نحن كائنات صوتية ..
كلما انتهى أبو جواد من فحص صندوق نقص عدد الأطفال .. انتهى الفحص كله .. لم يعد هناك أطفال ينتظرون وينظرون .. أعلن أبو جوا د :
الصناديق كلها خالية يا جماعة ..
عاد الأطفال يجمعون البطيخ .. تركوا الصناديق القادمة يلعب في خلوها ماء البحر . خلو يأتي خلو يرحلُ .. خلو يعلوُ .. يهبطُ .. يعلو .. يدنوُ .. يتمايلُ .. يضطربُ .. يستذئبُ .. يستفزُ .. لكننا نضحك إليه وعليه.@

رَائحةُ العَتْمة والبَسكويت

لا أعرفُ ما هذه الحالة التي أنا فيها ؟ ربّما لأنّي في السجن .. ربّما لأنّي أرى - لأوّل مرّة - أنّ الإنسان وحده في الدنيا يستعير إنساناً آخر ليصبح سجينه وذليلاً له ، يعطّل فيه كلّ شيء حتى استخدام الجسد .. ربّما لأن القلم لا يسميه الآخرون قلماً هنا .. ربّما لأنّهم لا يعرفون تاريخ رائحة قلم الرصاص ؟ .. ربّما لأنّ للورق رائحة البسكويت ؟ ربّما لصدى صوت مجيء الغرباء في الفجر ؟ ربّما بُعدي عن أمّي ؟ ربّما صوتها .. رائحتها ؟ ربّما لأنّي لا أستطيع مدّ القلب إليها كما كنت أفعل كلّ صباح ؟ ربّما لابتسامة جارتنا تَتَنزّلُ فِيَّ صباحَ مساء لكنّها لا تقوى على تحريك شفتيها ؟ ربّما لاختزال الصور أمام عينيّ ؟ لا أعرفُ .. كما كنت بالخارج لا أعي أنّي سَويّ أو غير سَويّ .. مَهموم أو غير مهموم .. حالة لا أعرفُها ولا أستطيع تجاوزها .. شيء واحد أعرفُه : كلّما دخل عليَّ الشرطي السجن أرتعشُ ، وأخبأُ رائحة البسكويت ورائحة قلم الرصاص ، ثمّ يضيق بي المكان .. أجلس كعصفور منكفئ مُغمضِ العينين تحرّكه رياح لا يشتهيها .. متى كرهت العصافيرُ الرياح ؟!! كنتُ أروي الفضح في الحيّ وأكتبُه ، وأعرف الثقوبَ كلّها في منازل الحيّ كلّه ، وأشرح لأصدقائي : متى تُزيح الفتاة عباءتها لتكشف عن فستانها في الطريق .. وأبيّن فوائد السقوف المتلاصقة للمنازل حتى لم يعدْ لجملة " ما خَفي أعظم " مكان في الحيّ .. وهنا أمارسُ الستر والتغييب بأنواعه التي لم تحضر حتى في غيابات الجُبّ وعَتمته . كيف أُخِفي رائحةً عن إنسان آخر ؟

في السجن ، الذاكرةُ وحدها تجعل من الضِيق فسحةً لا متناهية . ولأنّ الذاكرةَ لها ألاعيبُها في هذه العَتمة صارتْ تُمرر حكاياتي صغيراً أمام عينيَّ وتُمرر حتى الروائح . أينما أذهبُ تجرّ الذاكرةُ فُسحاتي وكأنّه ليس في الخارج مكانٌ ضيق . هذا الخروج وحده المتمرّد على قانون السجن والأقفال .. بوابةُ كَرَمٍ في مكان لا رائحةَ فيه غيرَ رائحة الحرمان .
كان لدينا قلم رصاص واحد فقط . الآخرون في السجن لا يسمونه قلماً ! فطوله لا يتجاوز بوصتين .. أسميه قلماً لكنّهم لا .. عندما أطلبه يختفي السيد فاضل بوجهه الغضوب دائماً عن الأنظار في العنبر . ما يلبث حتى يعود به . لا يُخبر أحداً بمكانه حتى قدماء السجن . هو كل ما لدينا في العَنبر كلّه . إذا فقدناه _ لا سمح الله _ تَضيقُ بنا العُيون . وفي المسافة الزمنية الفاصلة بين ذهاب السيد فاضل وعودته أراني أسرق قلمَ رصاص من أبي النجّار لأستخرج الكربون منه وأشمّ رائحة الخشب .. أرى أخوتي الصغار : كم كانوا يلعبون بالأقلام الملونة ؟ أقلام متناثرة هنا وهناك يهبونها الحياة بتحريكها وصريرها على الورق . حتى حمام السباحة لم يخلُ من هذه الأقلام . كان عددها أكثر بعشرات المرّات من عدد جُملنا اليومية . كما يَنْوجدُ الضوءُ بنا تنوجد الأقلام .. هناك يصنع أخواني من الورق الأبيض سُفناً لكنّها لا تحمل من كل حرف زوجين اثنين ، وصواريخ تحلّق على رأس أمي في المطبخ . لماذا ليس لأقلام الرصاص رائحةٌ في هذه الأيام ؟
- شكراً سيّد .. لكن أين الورق ؟
- اليوم نشتري بسكويت Softi Softi
- أقول لك ورقاً وأنت تقول بسكويت ؟!
- لا تتعجل .. Softi Softi لذيذ .
يمتلأ وجهُ السيد فاضل غضباً ، يُوصيني بالقلم مرّات ، ثمّ يغادرني إلى زنزانة أُخرى . لم أشأْ أن أسأله أكثر من ذلك . وفي دكان السجن الذي نزوره في الأسبوع مرّة واحدة ، طلب السيد فاضل من البائع علبتي بسكويت Softi Softi بالتمر .
- لا .. علبة واحدة لا أحب بسكويت التمر .
- علبتين لو سمحت ( بصوت غليظ غاضب )
انكسرت رغبتي . لم أتجاوز سبعة أشهر هنا فخبرتي لا تعادل خبرة السيد فاضل والذين معه . السيد يعرف خريطة السجن كلّه ، ويعرف السَجَّانين وسِير بعضهم .
عُدنا بعُلبتي بسكويت Softi Softi . فتح السيد إحداهما ثمّ أفرغ البسكويت منها على الفراش الأرضي فشممت رائحته . منذ زمن لم أشمْ رائحة البسكويت ! .. أدخلَ يده برفق في العلبة وأخرج ورقة بيضاء كانت تَلِفُّ البسكويت من الداخل وترصّه . ما زال وجهه غاضباً فيه لمحةُ ذكاء متعالية . كانت مساحتها مساحةَ ورقة دفتر تلاميذ المدرسة . كم أشتاق لتلاميذي ودفاترهم المُتعبة . مسح السيد على الورقة ثمّ نفضها مرّات ، بعدها أمسك زاوية منها وبأظافره الطويلة استلّ منها ورقة أخرى . رماهما في حضني ثم قال :
- ورق على بسكويت . ( تصنّع ضحكةً وغادر منتشياً )
وضعتُ القلم على الورقة .. هم لا يُسمونه قلماً .. هَممتُ لأكتبَ رسالةً لأمّي التي لم أشربْ شاي الصبح معها منذ ستة شهور وسبعة أيام فلم أستطع السيطرة على ارتعاش يدي اليسرى . وضعتُ رأسي بين ركبتيَّ وبكيت . لدي قلم رصاص لم تتغيّر رائحته ، ولدي ورقة رائحتها بسكويت ، ولدي محنة تكفي لكتابة لا تنقطع ، لكنّي لا أستطيع الكتابة . أيُّ حالةٍ أنا فيها .. لا أدري .. ستفرح أمّي عندما ترى خطّي على الورقة ثمّ تبكي ، وستعرفُ أنّ لدينا بسكويت . لكن كيف سيرى أبي خطّ يدي وهو لا يُبصر ؟
" أمي العزيزة .. ضَعي الورقةَ على عيني أبي .. قولي له إنّي رأيتُ دموعه يوم داهم الغرباء بيتنا في الفجر ، وإنّي رأيتُ اهتزازات كتفيه من الخلف ، وشممتُ رائحة بيتنا الغريبة في ذلك الفجر ... "
فَقَدَ أبي بصرَه قبلَ عشر سنوات لكنّه سوف يشمّ رائحة العَتمة ، وقلم الرصاص ، والبسكويت في رسالتي المهرّبة بمعرفة السيد فاضل . أذكر أنّ أبي قال لي مرّةً إنّه يستطيع أن يشمّ رائحة الغرباء و الثياب الخضراء والنوايا المُعتمة واقتراب أمّي منه .
ما إن انتهيت من الرسالة حتى اختفى القلم وترك رائحته في يدي . وفي اليوم التالي صادرت الشرطة الورقة الثانية وفُتح تحقيقٌ . بقي لدينا القلمُ وعلبة بسكويت Softi Softi الذي مُنع بيعه في دكان السجن بعد أسبوع.
بعد خمس سنوات غادرتُ السجن ولم يزل السيد فاضل فيه . كنتُ وحدي في الغرفة صبحاً . لم يرجِعْ أخواني الذين يشاركونني الغرفةَ من المدرسة بعد . أخرجتُ دفتر رسائل وقلم حبر أزرق لأكتبَ رسالةً للسيد فاضل فربّما أُحدِثُ ضجةً في صمت المكان .. هناك يمكن وصف الرائحة فقط أمّا الصمت فلا .. كلُّ شيءٍ صامت ، كلُّ شيءٍ يسوءُ إلا حاسةَ الشمّ .. انفتحَ البابُ فخبأتُ القلمَ والدفترَ تحتَ الوِسادة . لم تكنْ سوى أمّي .. آه .. تنفّستُ عميقاً لكنّي لم أشمّ أيّ رائحةٍ للقلم ولا للورق .
- يوسف أحضرتُ لك شاياً وبسكويت ( تنظرُ
أمّي في وجهي مُبتسمةً ).@

أقرأ أيضاً: