إقرأ أيضاً:


كمائن الروح

ناصر الظفيري
( الكويت)

رواية

عوضاعن مقدمة لا طائل منها:
"كالماء أجئ، وكالريح أمضي"

**

توقف المطر بعد ساعات من هطوله المفاجئ في بداية الوسم . تماوجت سنابل الشعير واخضر الندى على حقل البرسيم . لم يكن مطرا مزعجا كالذي يتوقعه الناس هذا العام .

عمر الخيام البيسابوري
عن/ادوارد فيتزجرالد

نهاية أولى

Ben Rotmanابتلت العرائش التي نصبها الغلامان مرضاة لشيطنة زوار مزرعة الجنوب واحتفالا بنهاية غطرسة ليس لها ما يبررها يمارسها المطر منذ ساعات قبل أن يكمل رحلته صمتا نحو الجنوب البعيد . اندفع الغلامان يركضان
- يحيى . انتظرني . أرجوك .
ويرد يحيى دون أن يلتفت لصوت الطين تحت قدمي شقيقه .
- عد إلى أمك إذا لم تلحق بي .
صرخ بهما الأب وهو يخرج على صراخهما البعيد .
- انك تقتله يا يحيى . انتظره .
ولم يسمع كلاهما سوى صوت لهاثه . كان اسماعيل يتنفس أسرع من انتقال قدميه .
- اسماعيل عد . سأحضره إليك . صدقني .
ويحاول اسماعيل اللحاق به جيدا . معادلا فرحته بالقبض عليه بالتعب الذي يكاد يسقطه .
- انتظرني . لا تطلقه حتى أراه .
- لن تسبقني يا اسماعيل أنت اصغر من فعل ذلك .

لم يتوقف يحيى وهو يحرك سكون الهواء من سرعته . ويوسع خطاه قدر استطاعته . كانت الأم قلقه فعلا على مجنونين يطلقان سيقانهم للريح نحو وهم . والغلام الآسيوي يضحك وهو يتابع قفزات اسماعيل بقدميه العاريتين .

سقط يحيى بالقرب منه محاولا إخفاء جسده بكامله عن عيني اسماعيل الذي توقف صراخه خلفه ولم يتوقف .
فتح الطائر منقاره معلنا وفاته تحت وطأة الفخ . كان طائرا صغيرا عالقا في فخ عملاق كلف
الغلامان ساعة كاملة لنصبه .

وصل اسماعيل ولاحظ أن يحيى لم يفتح الفخ لإخراج صيدهما . التفت إليه وهو يقول
- لقد مات انه دوري صغير .
- قلت لك يا يحيى هذا الفخ كبير .
- لم أكن أنوي صيد عصفور صغير .

وبكى اسماعيل بما سمح له تنفسه المتسارع وهو يرى صيدا ضئيلا ميتا تحت فك الفخ الضخم.

- لا تبك يا دنئ . سنصيد غيره في المرة القادمة
- لكننا سنعود قبل ذلك .
- لا تخف . لن نرحل قبل المساء . سأنصب الفخ ثانية .
- انصب الفخ الصغير .
- لن نصيد طيرا كبيرا .
- لا يهم . المهم أن نصيده حيا .

عاد اسماعيل محمولا على ظهر يحيى . وهو يعده أن يصيد له طيورا بعدد أيام حياته إذا توقف عن البكاء . ولم يتوقف .

بداية أولي

الفصل الأول

توقفت الحافلة في مجمع الميدان ، وسط العاصمة . تقاطر بشر كثيرون من حافلات مختلفة ليخلقوا زحاما بشريا من أجساد لا تجمعها رائحة . يتفرقون في شوارع فسيحة أو أزقة ضيقة . يحملون صررا وأكياس خبز ومشتريات فقيرة . فيما يتجه آخرون نحو جوف الحافلات . تلك هي المرة الأولى التي يجد نفسه فيها محاصرا بروائح عرق الأجساد العاملة . ولم تكن في نيته الاتجاه لمكان بعينه .
ابتعد قليلا عن عرق زحامهم . ألقى نظرة على مشهد الحافلات قبل أن يبحث عن مكان يرتاح فيه . جلس في مقهى على ناصية زقاق ، حيث يجتمع عمال وعابرون وتجار الطبقة الفقيرة وهم يتابعون الحركة الميتة أمام محلاتهم التي تبيع الأقمشة والأحذية وحقائب السفر . وضع حقيبته بين قدميه حيث قدم له عامل القهوة الشاي . لم يضع في ذهنه أمرا يفكر فيه في اللحظة التي راح يتابع فيها شكوى متبادلة بين تجار المقهى .
في الزاوية المقابلة للمقهى لمح لوحة مكتوب عليها ( فندق ) يرتفع فوقها مبنى صغير من طابقين . ينظف عامله المدخل ويلقي التحية على العابرين وأصحاب المحلات المجاورة . أكمل شايه . وترك قطعة معدنية على الطاولة المتسخة . حمل حقيبته . قاطعا الزقاق نحو الفندق . لاحظ شبابيكه المتلاصقة وخمن ضيق غرفه . لا بأس فهو لن يمضي اكثر من ليلة واحدة ينجز فيها مهمته ويعود من حيث أتى .
دخل من الباب الخشبي المفتوح بضلفته الوحيدة . في المدخل رأى فازتين تحتويان ورودا بلاستيكية لم ترسل رائحة إلى أنفه . كانت رائحة البهو الصغير كمقلاة السمك .
ذات العامل يقف خلف طاولة خشبية خبأت نصفه الأسفل . خلفه لوحة من المعدن الأبيض الرقيق عليها أرقام مكتوبة فوق أخرى مشطوبة تتدلى منها مفاتيح غرف معلقة بمسامير فولاذية . لم يهتم العامل كثيرا بقدومه . ولم يتوقع أن يكون الشاب ساكنا جديدا . فسّر الشاب ذلك بأنه نزل رخيص يطلب منك دائما أن تهتم بنفسك .
- أريد غرفة ؟

كان ذلك الطلب مفاجأة للعامل الذي يعرف أشكال زبائنه وربما يعرف رائحتهم أيضا . وقال في سره شاب جميل مرة في العام لن يضير الفندق .
- كم ليلة يا سيدى ؟
- لا أعرف . أكثر من ليلة !
- هناك غرفة ترى منها البحر .
- لا يهم . المهم أن أستطيع النوم فيها .

سلمه العامل مفتاحا يحمل رقم ( 11 ) واحتفظ بهويته . حمل الشاب حقيبته إلى الدور الثاني كما أشار له العامل . عبر سلم تغطيه سجادة مهترئة لم يهتم أحد بغسلها كي لا تتمزق . توقع ـ نتيجة للسكون التام الذي يلف المبنى ـ أنه الساكن الوحيد ، ولم يكن ذلك صحيحا . فهناك تجار جملة يقضون نهارهم في مفاوضات صغيرة مع عملائهم الأكثر جشعا منهم .

أقفل الباب جيدا . ألقى الحقيبة على طاولة بجانب الباب . رمى ملابسه على جزء من السرير ونام في الجزء الثاني عاريا . جاء الهواء باردا من جهاز التكييف المعلق في الحائط أعلى رأسه . وعبرت أنفه رائحة عفن السمك من القوارب الخشبية خلف شباكه ولم تهدد منامه . وفصله إزعاج التكييف عن الضوضاء التي أقل منه صخبا . ضم ساقيه جيدا وتنفس بحرية للمرة الأولى منذ زمن طويل .
كانت الساعة العاشرة صباحا حين تداعى في فراشه . ولأول مرة يحلم بالحرية خارج سطوة العجوز الذي بدا سرابا بعيدا وهو يستمع لصدى طلقات نارية في الأبعد . تخيل أحدهم يهاجم والده، لم يحدد ملامحه . كانت الرصاصات تخترق جسد والده ولا تسقطه، في المسافة القليلة الفاصلة بينهما يشيخ الأب بسرعة متناهية ، مختصرا سنوات ما تبقى من عمره بعدد الدقات المتبقية من ضجيج قلبه المضطرب . وفي الدقة الأخيرة للقلب الشائخ لا يجد مهاجمه الهلامي دما يفترسه، أما هو فأغلق الباب خلفه ، كأن لا شأن له بما يحدث ، توسد أيامه المزدحمة ونام .

أفاق على صوت طرقات الباب المتواصلة ، توقع أن بقية الحلم طاردته حتى غرفته ، فتح عينيه لاحظ حقيبته السوداء فوق الطاولة بجانب الباب وميّز رائحة فراشه وفراشه في الحلم . أيقن أنه بعيد عن صخب واقع والده كما هو بعيد أكثر عن ضجيج أحلامه .
نهض يفتح الباب ، جاء صوت العامل يخاطبه هو يفرك عينيه بيدين ناعستين :
- أنت لم تترك غرفتك منذ الأمس يا سيدي .
وضع يدا على حافة الباب والأخرى على الحائط
- وماذا يعني ؟ أنا هنا كي أنام .
حاول العامل أن يفهمه ما يريد .
- ألن تأكل ؟ تخرج . نحن في اليوم التالي . خشيت أنك

ولم يكمل جملته ( مت ) خشي من توحش هذا الكائن الذي يبدو عنيفا بشكل لا يتناسب وصغر سنه. رمق الشاب ساعته لاحظ إنها لا زالت العاشرة صباحا . أمسك العامل من ياقته .
- أريد أن أنام

قذف به بعيدا في الممر . تدحرج العامل بعيدا . وعاد الشاب إلى فراشه . تأكد العامل وهو يلتاث نفسه عن الأرض أن مجنونا كل عام لا يضر عمله في الفندق ولا يضير الفندق .
لم ينم ، استدرك ما يريده الرجل . لقد نام يوما كاملا . شعر أنه كان فظا قاسيا مع العامل ولم يشعر بأن عليه الاعتذار . بل أنه لا يعرف تلك المفردة . نهض ثانية . أطل من الشباك . رأى بحرا يشبه المستنقع ـ ترسو فيه مراكب خشبية يقطنها بحارة بملابس قطنية وسراويل طويلة . وتذكر أنه شاهد ذلك المنظر . ولم يحدد هل شاهده في الأمس أم قبل سنوات . وقف أمام مرآة منصوبة فوق الطاولة التي ترك فوقها حقيبته . كان أطول منها قليلا حتى وهو يتراجع عنها . لم يتمكن من رؤية فروة رأسه . أحس بمزاجه يتعكر وأنه جائع ونفسه يتصاعد . فكر أن يأكل أولا . وتراجع عن ذلك . يستحم . أجل يستحم . فتح الحقيبة تناول ملابسا داخلية نظيفة . تحسس المسدس في قعر الحقيبة . لا زال ملفوفا بخرقته .

دخل الحمام الصغير في زاوية الغرفة . رأى جسده عاريا . لم يكن قد دقق في تفاصيل الجسد من قبل . فلم تخلق المرأة التي تجعله ينتبه لجسده العاري إلا في ليلة سفره . سمحت له المرآة المعلقة بطول رجل كامل في الحمام أن يتأمله جيدا . أبعد في عيني الرجل الذي أمامه . الوجه الذي يدقق في تفاصيله الآن ليس وجهه تحديدا . رغم الشامة السوداء تحت الشفة السفلى والتي ميزته طوال حياته عن صاحب ذلك الوجه . لم تستطع إقناعه بأنه هو . تحدث الوجه المقابل له بحنان سابق يتذكره . تخيل الصوت يتدفق مع انهمارات المياه من الثقوب المتساوية والتي يعلوها صدأ بني اللون . خشي أن يقاطعه فيتوقف دفء الصوت عن تدفقه المتواصل . أغمض عينيه تاركا تركيز أذنيه حادا . حتى أحس بلزوجة ساخنة تتدفق فوق قمة رأسه . فتح عينيه ليتابع نصالا حارة تخرج من الجسد الذي يقابله . نصالا متفرقة من تحت الثدي الأيمن . فوق الحالب وفي تجويف الكتف الأيمن . كانت الدماء تسيل فوق حوض استحمامه ومن مواقع النصال المتفرقة . لمح الوجه الذي يعرفه الآن جيدا يتغضن . قفز خارجا من حوض القدم ليحضن الجسد وهو يكاد يتساقط . انطفأ الصوت . وألقى بجسمه على المرآة لتخرج منه زفرة واحدة " يحيى . أين كنت ؟ " .

تهاوى أمام المرآة تاركا الجسد المقابل ينزف دماءه إلى أرضية الحمام . في كل استعداداته الماضية وتدريباته القاسية من أجله لم يحلم به . حتى شك أنه لم يكن يهوى زيارته . ربما كان يبحث عنه في مكان سري من الغيب . يجلو حركته نحو الأماكن المحتملة بخيط من التحرر الأزلي للاحتفالية المستحيلة . وليس من شك لديه الآن بأنه وجد يحيى في ظلال غريمه . إن روحه ما زالت تترصده أو تترصده طعناته الثلاث . لكن ذلك ليس يقينا أيضا . أن يجده هنا في المسافة الفاصلة بين المكان والوعي بالمكان . محتفيا بزمانه وكأنما حمل تفاصيلهما في رحلته ، بعيدا في الوقت المتبقي لخروج الروح وانهيار الجسد .

ليس في وسعه الآن أن يتأكد من ذاكرته الخشنة كقشرة تمساح ، إن كان مرا من هنا أو أقام يحيى لوحده في مناسبة ما في فندق على شارع السوق القديم . أطل من الشباك . الصور التي للمخيلة التقاطها لا توحي بثبات تام ، حلاق في الزاوية الأبعد . بائع أشرطة تسجيل . محل تصوير فوتوغرافي . محلات أقمشة وأحذية متراصة . مياه راكدة آسنة ليس لها تصريف وباعة يلقون ببضاعتهم على قارعة الطريق ويصيحون منادين بسعرها الموحد . لم تترك له الصور المتتابعة في مخيلته فرصة ليطارد الروح التي نسيها في لحظة ما . حين كبر بعيدا عنها محاطا بصورها في كل ركن ينام فيه لكنها لم تتجسد في يقظة أو حلم فيما سبق . يعود ليؤكد لنفسه أنه لم يكن عليه أن يبصر بعيدا في جسده العاري أمام مرآة الأرواح ليتجسد فيه الآخر الذي يشاركه تفاصيل الدماء الصغيرة وبيولوجيا الأنسجة .

لم ينتبه قط للحقيبة المفتوحة ، لتفاصيل الدماء الرطبة في جوفها . والروح التي تستقر في قاعها . ليس لذهنه الطري كعمره أن يدرك معنى تواجد الروح حوله . ولم يفسر راحته النفسية وهو يغلقها تفسيرا محتملا لعلاقتها بما حدث . فهي ليست سوى حقيبة سوداء تضم مسدسا ملفوفا بخرقة بيضاء كأي حقيبة سوداء تضم مسدسا ملفوفا بخرقة بيضاء .

في ترتيب غير مقصود ذهنيا . صفف شعره دون أن يحدد الجهة التي ستكون عليها غرته الناعمة فتركها تتدلى على جبهته متناسقة في لونها مع فحم عينيه الواسعتين وبياض بشرته الذي استعادته منذ شهور قليلة توقفت فيها التدريبات القاسية لعجوز الوحدة البشعة . لبس ملابسه التي أخرجها من الحقيبة . حمل ملابسه القديمة إلى الدولاب . وجد بعض زجاجات عطرة وتوقع أن غرفته لم تنظف أبدا . وعلبة حديدية حين قلبها رشت بودرة التالك على يديه . كانت رائحتها كرائحة المهد . وتوقع أن طفلا قد بال على فراش يومه الطويل .

وضع زجاجة العطر في الحقيبة . تحسس المسدس-ثانية- في قاعها رتب الأشياء فوقه أقفلها جيدا . أغلق الباب خلفه واحتفظ بالمفتاح . نزل الدرج خفيفا يزهو برشاقته وابتعاد خطواته مر أمام العامل وهو يشير إليه بأن يترك المفتاح . وضع إصبعه على شفتيه يأمره بأن يصمت . كانت عيناه حادتين ليصمت الرجل الذي وضع رأسه على الطاولة . ولم يستغرب ألا يوجد سوى هذا العامل في فندق كهذا ، لا يحتاج إلى أكثر من عاملين لإدارته على فترتين . وعزا إلى ذلك عدم ترتيب الغرف . خرج مطمئنا على حقيبته . لم يكن يعرف تحديدا ما الذي يحتاجه في طريقه إلى هدفه . خمن أشياء كثيرة لم يكن من بينها حقا ذلك المجهول الذي لم يخطر إلى ذهنه . المثال. الشيء الذي لم يتحقق في طرائق مشابهة لطريقته . سيكون هو مثالا قائما بذاته . سيرتكب حماقته كشخص يرتكب حماقة كبرى للوهلة الأولى . ليس القتل بحد ذاته . لكنه القتل / الحق . كما سيسميه . ليس إهدار دم بل إرجاع دم إلى دورته التي كان عليها .انه ينفذ الحياة ، ذلك ما يحقق لمثاله الفخر . ذلك ما لم يسبقه إليه أحد .

ابتعد عن مجمع الحافلات كي لا يدخل زحاما بشريا دون منطق ، اتجه سيرا على قدميه قاطعا السوق الداخلي متابعا براقع البائعات وتجمع غرباء وسكان محليين على الممرين الضيقين الذين يحيطان بسوق الحريم . تسارعت إلى أنفه روائح الدهانات وبضائع النسوة التي يجلسن خلفها مرتفعات اكثر من متر عن الأرض المزدحمة بأقدام المشترين والمتفرجين والأجانب المبهورين بكتل السواد المنتظمة بطول الشارع . ولم يلحظ رائحة مميزة للنساء .

قطع الشارع نحو الحديقة العامة عابرا تجمعات صغيرة على مقاعدها الخشبية وعشبها المبتل في موقف سيارات الأجرة أكل وهو يستمع لصراخ سواقها بالجهات التي ينوون التوجه إليها . يتابع نظرات بائع السندويشات في كشكه وهو يراقب عدد ما يأكله هذا الفتى الشّره . حين انتهى سأله اسماعيل : كم أكلت ؟ وانتبه البائع أنه لم يكن يحصي العدد في البداية. فرد عليه " ألا تعلم ؟ " قال بسذاجة " لا! كنت جائعا فعلا " . وانتهى الأمر باتفاق تخميني. دفع له ومضى متجها نحو صوت سائق الأجرة وهو يردد المدينة التي يقصدها بطريقة الباعة الذين يدللون على بضاعة .

قال له السائق وهو يجلس في المقعد الأمامي " أنت صغير على المقعد الأمامي اتركه لرجل اكبر منك سنا " . التفت إليه بحنق " وأنت كبير على قيادة سيارة أجرة ! " ولم يرد السائق. راح يكمل العدّ ويقود سيارته بهدوء دون أن يتبادل حديثا معه أو مع ركاب المقعد الخلفي . وسواق الأجرة يجدون متعتهم في الأحاديث المختلفة على الطرق المتشابهة والتي يعرفونها بحكم البصيرة أكثر من معرفة البصر .

كان الموقع الذي يقصده في المدينة . خارطة واضحة في ذهنه . اعتاد في نهاية كل أسبوع أن يطوف حوله ، حرّضه العجوز دائما على حفظ ملامحه . رغب السائق في حوار معه لكنه فضّل تجنب لسانه الحاد . اعتقد انه لطيف بشكل ما . ولم يعرف أي الجمل ستبدأ حوارا لطيفا معه . وصل المدينة . توقفت السيارة وسط المدينة في مركزها التجاري . وتصور السائق أنه كان يتحدث معه طوال الطريق . وأكمل " رغم حجمك الضخم إلا إنني أرى انك صغير السن . تستطيع أن تعتبر أجري هدية لك " . ألقى اسماعيل الورقة في حضن الرجل بغضب " أستطيع إكرامك أيضا " وانصرف تاركا البقية والسائق وجملة معلقة على شفتيه " للشباب زهو جميل " .

دخل المنطقة من حيث يعرفها . قاطعا الشارع الرئيس . متجها إلى غربها حيث تجتمع أربع بيوت خلف الحديقة العامة . توقف مطلا على البيت الثاني المطل على حديقة ضخمة أمامه. حديقة من أشجار النخيل ونخيل الزينة وشجرات سدر وحزام يطوقها من الياسمين المشذب بعناية. يحيط بها سور حديدي منخفض . وممرات مرصوفة من الأجر الملون . يتوسطها شلال مشغول يصب المياه من أعلاه عبر أباريق فخارية في حوض مرصع بالرخام الإيطالي وحصى الجرانيت . وفي الزاوية اليمنى تحت عرايش اللبلاب مراجيح أطفال وعجلة هوائية صغيرة . ستائر المنزل مسدلة وكراج السيارات مغلق من الخارج . حاول أن يطل عبر السياج الواطئ والذي تعلوه مصابيح لها شكل فوانيس ما قبل الكهرباء .

وقف قريبا من الواجهة في الزاوية الشرقية . تاركا الشمس تترك ظله مستلقيا أمامه تنتهي الزاوية بشجيرات صفصاف يعيش خريفه الأبدي . توقع أن موقعه هذا هو الأفضل لاقتناص أهدافه المرتقبين . لم يكن يسمع جلبة في محيط البيت . توقع هؤلاء الضحايا يتحلقون حول التلفزيون أو يغطون في نوم عميق كتحدي طبيعي لحرارة الصيف " سأكون هنا . من تلك الزاوية . جاعلا الساحة والشمس خلفي . عليهم أن يتواجدوا حين يظلل بساط الحديقة منزلهم . سيتناثرون بسرعة حول ألعابهم . بسرعة تفوق سرعة ضغطي على الزناد " . تخيل أن أكبرهم الآن في الثانية عشرة والصغرى في الرابعة . أصبحت الأهداف أكثر بساطة لمحترف يملؤه الحقد على ضياع دمه . وقبل أن ينصرف منهيا الفصل الأخير من المشهد " لم يكن الأمر يستحق كل عذابي هذا !"

قرر أن يكون موعده صباحا في اليوم التالي . متمنيا أن يعود مع صاحب سيارة الأجرة ذاته. عاد إلى الفندق بعد منتصف الليل . أكل مرتين في المقهى ذاته . حتى طلب منه صاحبه أن ينهض ليتمكن من إغلاق المقهى . لم يشأ أن يثير مشكلة معه . انسحب بهدوء متجها إلى غرفته . لم يكن بحاجة للنوم . فتح الشباك نظر جهة البحر . كان البحر هادئا والشارع الساحلي يعج بحركة شباب الصيف . خرج ثانية ليرى البحر في الليل .

رأى الشباب يمرحون بسياراتهم على طول الطريق الساحلي . يتسابقون ودراجات نارية والتي تتجاوزهم ككرات من لهب مضيء . ما الذي يفكربه الشباب اليوم وماذا سيفعلون غدا ؟ أليس لهم ثارات يأخذونها من أحد؟ ذلك ما فكر فيه وهو يعبر الشارع جهة البحر. لم يكن لخياله أن يستوعب أحدا لا ثأرمع أحد ما في مكان ما.
فجأة أحس قدمه علقت بشيء طائر قذفه إلى الرصيف الآخر ليسقط على الرمل الناعم بين الشارعين . وتتوقف الصورالتي راودت مخيلته قبل ثوان وتتحول إلى وجوه مذعورة تدور حوله وتصرخ ثم يخفت صوتها شيئا فشيئا .

حاولت روح أن تقترب من الجسد المسجى على الرصيف . ولم يفسر أحد الابتسامة التي علت محيا الشاب . واختفت حين حملته سيارة الإسعاف للمستشفى القريب على البحر . ليستلمه
" هؤلاء الجزارون " كما تعلق دائما المرآة المريضة .

لم تشارك في حوارات زميلاتها في الكفتيريا ، تتناول عصيرها المكون غالبا من فاكهة المانجو أو البرتقال والليمون . تستمع جيدا وهي تهز رأسها حين يسأل رأيها بالموافقه أو الرفض وتحرك يدها حين تقول لا أعلم . لكن حوارا أثير دون تحديد قصديته من عدمها تناول الرجل والمرأة . واحتدم نقاشهن دون أن يثير لديها تدخلا في الموضوع وازداد تأففها من استمرار النقاش فيه لتنهض قائلة جملة وحيدة تركت أفواها عديدة مختومة بذهول العبارة " يجب أن أختار أنا ، لا أن يختارني أحد " .

اختلف الجميع حول تفسيرهم لعلاقتها المجهولة واتفقوا على مضض انها انسانة اخلاقية جدا رغم مجافاة مظهرها لتلك الحقيقة . ولم يقبل تعاملها أحد . رغم أنه مقنع كتصرف امرأة غنية حققت كل ما تريد حتى الآن . استقلالها المادي ، شهادتها العلمية ، استقلالها الذاتي . فهي بالكاد تتذكر أنها أخت أخوة غير أشقاء . والدها ورث في شبابه ثروة طائلة فابتدع هواية غريبة . يتزوج امرأة تبقى معه حتى تنجب ليتزوج بأخرى ويهجر الأولى . والدتها كانت الثالثة في الترتيب . حين انجبتها تزوج الرابعة . أدخلت عشيقا إلى غرفتها . وحين طلقها عاقبته بترك مولودة في عامها الأول له وخرجت مع عشيقها . أما الأب فتوقف عن هوايته . كان يحب أمها فعلا . جاء بها من بلد مجاور كفتاة جميلة ، ليكتشف أنها الأنثى التي يبحث عنها . وحين لم تقبل هوايته المريضة ارتبطت بغريب من بلد آخر وسافرت معه إلى جهة لا يعلمها أحد . لم تسأل عن طفلتها ، ويقول لابنته دائما لقد أحب أمها كما لم يحب امرأة من قبل ولا تفهم بقية عبارته " لقد كانت دائما الأنثى ولا تصلح لتكون أما فقط " . وحين كبر لوم الابنة لأبيها أحس بالضجر فهجر الابنة " لم تفهم كوني صادقا معها ولم أخبرها أن أمها ماتت " . ولم يتوقف لوم الابنة على الأب في حضوره فكالت التهم القذرة لأمها في غيابها ، واحتاج الأمر لسنوات طويلة لتفهم أن ما فعلته الأم هو الدفاع الحقيقي عن كيانها وحتى لا تكون فردا في قطيع الجواري الذي يحرص الأب على تربيته . بل وتعتبر أن امها وحدها لقنته درسا في كرامته كي يحافظ على غيرها مرة أخرى وهو ما حدث فلم يتزوج على الزوجة الرابعة . أما الأثر الاكبر الذي خلقه فقدان الأسرة في حياتها هو احساسها العميق بأنها لا تنتمي إلى شيء سوى ذاتها . وما تمارسه هنا تجاه الآخر هو العمل الأكثر دونية في حياتها وهو تعبير قاسي لكنه حقيقي .

والذي لا يعرفه الآخرون عن الخارج في حياتها . فهو أبسط كثيرا من تخميناتهم المتفرقة والملآى بالتناقض ومجافاة الواقع . فليس لها من رفقة سوى قطة وعصفور كناري وطالبة من كلية الطب تعرفت إليها عن طريق محاضراتها العملية للطلبة حول دراسة الكسور . ارتبطت الفتاة بها في بادئ الأمر كنظرة للمثال . وتناقضت العلاقة لتصبح حبا حقيقيا . وبالحب وحده كانت الفتاة تجابه شراسة " الأستاذة " كما تسميها . ففي الساعات التي تتذكر فيها الأستاذة صلفها وغرورها لا تجد أمامها سوى رمي القطة بحذاء والقاء غطاء اسود على قفص الكناري وطرد الفتاة من غرفتها لتفاجأ بها في اليوم التالي تجلس عند قدميها وهي تبكي وتردد في سرها " القط يحب خانقه " . تمسح الأستاذة على شعرها القصير الناعم رافعة وجهها بعيدا في الأعلى ودون أن تبدى حنانا حقيقيا أو مصطنعا تقول " كان بودي . صدقيني . لكن أمورا كثرة تمنعني " .

والذي أصرت عليه الدكتورة بتحذير دائم وفي كل مناسبة للفتاة الا تزورها في مقر عملها وأكثر من ذلك قالت لها : حتى حين نصبح زميلتي مهنة فيجب ألا نكون صديقيتين أمامهم . ودون أن تحاول الفتاة فهم ذلك استجابت له . تستقبل اتصالاتها من كل مكان ولا تتصل بها أبدا في مقر عملها .

في تلك الأثناء جاء استدعاء الدكتورة على عجل . حين وصلت ، كانت الحالة المصابة لا تستدعي الكثير من القلق ، أنهت مع الفريق الطبي اسعافاته وقامت بحقنه كي ينام . حين خرجت تذكرت أنها رأت عينيه من قبل ، عينين واسعتين لمعتا ذات حلم يقظة ما . بقيت عينا مريضها معلقة في الفراغ المتاح أمامها .

رن هاتف الفتاة الخاص بعد منتصف الليل . جاء صوت الأستاذة . أيقظ غفوتها
- استاذة . خير
- يجب أن تأتي بسرعة
- إلى أين ؟ ماذا حدث ؟
- لا شي أنا في المستشفى
- ولكننا نقترب من الفجر
- لا يهم . تخيلي أن الشمس قد أشرقت وتعالي
- سأقنع والدتي أنها اشرقت فعلا .

وضعت السماعة وهي متأكدة أن فتاتها سـتأتي بحيلة أو بأخرى . بقيت الدكتورة في مكتبها تفكر بالأماكن المحتملة التي رأت فيها عينيه ولم تفلح في تحديد مكان . لكن يقينا يحدثها أنها رأته . هذا الشاب الوسيم حتى في حالته المهشمة . جميل كجبل بازلت . أبيض كظهيرة . جسد خرافي لم تسمح له قوة خارقة بأن يبدى أنّة واحدة . وراحت تدير أمور الرجال في ذهنها لأول مرة . كثيرون حولها لكن اختيارها يقع على أجمل مصاب تراه . وقالت أنني أؤدي عملي لأول مرة تجاه رجل يخصني لوحدي . وليس مريضا عابرا .

دخلت الفتاة عليها مكتبها . لم تكن أنيقة كما اعتادت عليها . لم تكترث لذلك . تبادلا قبلات سريعة. أغلقت الدكتورة الباب لتسمح لنفسها بأن يتهلل وجهها ببشر بدا طارئا وغير محدد التفاصيل على عكس عادتها .
- انه هنا . تخيلي . هنا . عرفته من عينيه . لم يأت مكتملا كما أشتهي لكنه هنا . هل حدثتك عن عينيه من قبل . لم يكن في حلمي سوى عينين . أشبعا حلمي فلم أخطئهما . جاء متأخرا قليلا لكنه جاء . إنه جميل فتيّ وقوي . ربما حلمت به قبل اكتماله .

وليس باستطاعة الفتاة أن تفك طلاسم الأستاذة . بدا حديثها موجها إلى ذاتها . فهي لم تحدثها في يوم ما عن رجل ولم يكن موضوع الرجل قاسما مشتركا في حياتهما أو حتى حواراتهما وربما لو كان لما اكتملت العلاقة بينهما كما اكتملت من دونه .
- لن تفهمي . صحيح . أنا آسفة . يجب أن تأتي معي كي تريه .

وخرجت خلفها نحو الغرفة التي يرقد فيها حلمها غير المكتمل . فلم يكن حلم أستاذتها غير مكتمل فقط وإنما على وشك الإنتهاء أيضا .

أغلقت الدكتورة الباب عليها وخاطبتها الطالبة
- هل تخيلت مرة أن تأتي حلمك في نهايته . كما تدخلين فيلما يعرض آخر دوره في البكرة .
وفهمت الدكتورة ما ترمي إليه الفتاة .
- انك تفهمينني جيدا . أرجو ألا تندمي على ذلك .
حين دخلت الدكتورة غرفتها حاولت أن تغلق الباب لكن الطالبة دخلت وراءها وهي تقول
- سأبيت معك الليلة . لم يكن بامكاني الخروج لولا ذلك العذر البائت
أدخلتها الدكتورة وأغلقت الباب بإحكام
- ستخرج رائحته يوما ما
- حينها سنكتشف عذرا آخر
في غرفة داخلية حيث سرير الدكتورة أقفلت الدكتورة الباب .
- تذكري ! عليك أن تخرجي من هنا قبل السابعة .
- سأفعل .

سألتها الفتاة فجأة وكأنها تذكرها بشيء

- ما اسمه ؟
- لا نعرف . ليس معه أوراق . لا يهم . أعرف عينيه .

كانت الدكتورة في حالة رائعة اعتبرت الفتاة ذلك مكسبا عابرا لا يمكن تعويضه . وتوقعت أن الوقت المتبقي للساعة السابعة لا تكفيها . تجردتا من ملابسهما والتصقتا بدفء لذيذ .

في تلك الليلة حاول أن يفتح عينيه حين داهمته رائحة الجسد . تلك الرائحة الملونة التي عجز عن تسميتها . الرائحة التي تركها الجسد الأنثوي وهو يفاجئه ليلة رحيله . اعتقد أنه لن يصادفها مرة آخرى . الرائحة كالحلم . يتكرر بألوان أخرى . لكنها هنا للمرة الثانية . لم يقو على فتح عينيه . شربها بعمق واستسلم لألق المخدر . سمع الرائحة تبتعد . يوقف صدى صوتها صخب رأسه .

لم يكن يهتم بالوجوه التي تحيط به . ملابس بيضاء . حقن تخترق اللحم كابر في نول نسيج . ملاءات بيضاء . وجوه مطلية كأقنعة مستعارة من سيرك قريب . يغمض عينيه . ما يهمه الآن هو رائحة تتكرر في مواعيد ثابتة بالنسبة لسواه أما هو فلم يعد يعي الوقت .

يصحو حين يتخلل الضوء نصف الشباك القريب من سريره ويتكرر صوت العصافير في الأشجار الكثيفة التي تحيط به . شجر الاثل البائس بخضرته الرمادية يذكره بسور مزرعة العجوز . يود أن يدير رقبته المحاطة بقطعة سميكة من القماش والمطاط . أن ينظر للعصفورين يتناجيان على حافة شباكه . ينام حين يزرق السائل الشفيف في أنسجته الطرية . ويتساوى في الظلمة لون الشاش حول جسده والفضاء في الخارج . تبقى رائحة الاثل عالقة في خلايا أنفه ، يدرك أنه روح يقظة في جسد مخدر . ذلك عذابه الطويل .

توقع أن المرء حيا طالما أنفه حي وأن روحه تختبئ بأنفه حين يطاردها موت سائلهم المخدر ، يعيش على حاسة الشم وحدها . يتذوق طعم الرائحة كما يتذوق طعاما . ولها لون لا يعرف اسمه .
لون لم تتفق على تسميته وهى في طريقها الذي تقدمت فيه فتاتها والمسافة الرخامية اللامعة تحت مربعات الأضواء البيضاء . في الصمت الذي يخيم على أجنحة المستشفى . جاء رجل إلى خيالها رجل لم تتذكر إنها رأته منذ رحيله عن حياتها . لم يكن يستحق أن يأتي طيفا وليس لوجوده أو عنوانه في حياتها سوى شيء كأي شيء سابق . رجل يتكدس أمامها مرات عديدة فيما مضى في تلك الفترة التي قفزت بها من مراهقتها إلى حياتها كأنثى لها قراراتها الخاصة . يلقي تحت قدمى شبابها هداياه المادية : زجاجة عطر . ورود بيضاء . بطاقة تحمل كلاما مسروقا من كلام مسروق . وقبل أن تنهي تعليمها الجامعي تزوجته . لم يعارض والدها فليس في خياله مواصفات الزوج وقال لها : كنت أفهم مواصفات الزوجة ! في الأشهر الأولى من زواجها اكتشف أن زوجها ليس أكثر من زجاجة عطر ورود بيضاء وكلام مسروق من كلام مسروق . وصفات أخرى يكتشفها الزوجان عادة قبل انفصالهما : بلاهة وتزلف وكثير من غباء . وانتبهت في لحظة خاطفة أنها لم تنظر بعيدا في عينيه وهي تقارن بين عينين ينتابان حلمها ويقظتها . في اليوم قبل الأخير لزوجها قررت أن يطلقها . لم يقل سوى كلمة واحدة ( لماذا ؟) قالت له " لم تكن أنت في الحلم " وفي اليوم الأخير عادت حرة سعيدة حققت في زواجها السريع استقلالا تاما عن عائلتها المبعثرة بين أب على هرم العائلة وزوجات وابناء بعدد الزوجات . ثم اخترعت تلك الفلسفة القائلة : من الخطأ أن أترك رجلا يختارني ولا أختار لنفسي .

في المسافة الفاصلة بين غرفتها وغرفة حلمها غير المكتمل تذكرت ذلك الرجل . وأكدت لنفسها أنها نسيت لون عينيه الآن ولو رأته أمامها لما عرفته . أما لماذا تذكرته الآن ؟ فهو ما لم تجد له تفسيرا دقيقا سوى إنها لم تجد مناسبة سابقة تتذكره فيها . وتذكره الآن كنقيض لحلمها غير المكتمل في غرفته هو تأكيد لمعنى وجوده .

فتحت باب غرفته بهدوء ولم تعلق الممرضة التي تتثاءب على الطاولة عن حقيقة زيارة الدكتورة . حين نهضت لكي ترافقها أمرتها بالعودة للتثاؤب مشيرة بيدها . حاولت مرافقتها أن تجد شيئا حقيقيا خارقا يستدعي كل هذي الجلبة في هذا الشاب المهشم كباب زجاجي . ليس أمامها سوى رجل طويل ـ بدا أطول وهو ممدد ـ نحيف الوجه . في أول العمر . أبيض البشرة فاحم الشعر المرسل حتى كتفيه . كث الحاجبين . وكأنه يخرج من لوحة بربرية . معلق بأسلاك وأنابيب أمصال وقد لفت ساقه اليمنى بشاش أبيض وجبس سميك وعلى بقع من جسده شاش ملطخ بأصفر المايكروكروم وأحمرالدماء . قالت في سرها : هذا البربري حلمها ! مقنعة نفسها أن تلك ليست غيرة لها ما يبررها وإنما الحقيقة .
ما حاولت الطالبة أخفاءه من انطباع عن هذا الحلم غير المكتمل لم يكن غائبا عن تفاصيل وجهها
- لم تقتنعي . ها !

سمعت الأستاذة ترد على صمتها
- لم أقل شيئا

ردت عليها وهي تحتضنها بفرح
- أنا أقدر ذلك . انه نائم كان بودي أن تري عينيه .

وتوقعت الفتاة أن عينيه جميلتان إذا صدقت رموشه الطويلة . لكنها قالت في سرها أيضا
" ربما لن تكون لها تلك الفرصة لتراه " .
يفكر في تسميته . ما أصعب أن تسمي طعم الرائحة أو تحدد لونها . تستطيع أن تسمي فاكهة كالبطيخ مثلا وتحدد لون قشرته ولونه الداخلي لكنك لا تستطيع أن تقول ما هي رائحة البطيخ . ولعدم تحديد اسم الرائحة فلا يمكن تحديد اسم لونها وطعمها .

طغت رائحة الاثل على أنفه وروحه التي تلوذ بخلاياه . وكأنما هي تدير هذا الصخب الجارف في روحه ولم يعرف حتى الآن هل تكرر هذا الصخب من قبل . لكنه صخب لا يهدأ حتى تغشاه رائحة ملونه يحبها .

***

الفصل الثالث

كان في العاشرة . يتذكر جيدا أنه كان في العاشرة فقبل ذلك التاريخ البغيض من العمر لا يتذكر . استطاعت الصدمة التي عاشها في صغره أن تمسح ذاكرته الطرية قبل تشكلها الكامل . هو الصبي الثاني والأخير في أسرة يرعاها رجل في عقده الخامس . حالته ميسورة كصاحب عقارات بسيطة يستأجرها غرباء جاءوا لأمور أكثر غرابه من غربتهم . لكنها على أية حال عقارات تجعل الصبيه يقولان دائما : نحن أصحاب أملاك ! حين يسألهم عابر كيف تعيشون .

حين اشترى المزرعة في الجنوب لم يكن بحاجة ماسة لمزرعة . كان يقول لهم : دائما تذكروا أنكم من الجنوب . ولكي يفهموا ذلك أكثر اشترى لهم مزرعة الجنوب . كما أصبح اسمها والذي يكرره على مسامعهم . ذلك الاستقلال المادي للأب جعله ينظر للوظيفة العامة كامتهان لوقته الذي عليه أن يبدده كيفما يشاء . " دون أن تكون ساعات عمري أجيرة عند أحد " . كما يقول.

هذه الفلسفة الغامضة للأب اصطدمت بأفكار يحيى في شبابه بعد الانتهاء من أداء امتحانات الثانوية .
- لا تمتهن مهنة عامة ستجدها بعد وقت قصير تمتهنك .

أما يحيى الإبن الطموح للخروج من وقته الضائع
- إذا أردت أن أصبح طيارا فليس بامكانك أن تبني لنا مطارا وتشتري طائرة .

ويحتار الأب .
- عليك أن تفاضل بين وقتك ورغبتك .

ولمنع مجادلة يحيى التي تبدو منطقية دون اعتراف لفظي من الأب . يكمل الأب
- حين تنهي تعليمك كاملا فكر في الموضوع . ربما تصبح مهنة طيار ليست أفضل من سائق سيارة أجرة . يحمل من يريد متى يريد .

ويختم الابن الحوار بما يقبله الأب .
- كما تريد يا أبي .

لم تخرج نتيجة امتحاناته وان نقاشه هذا سابقا لوقته قليلا ، وان كان نجاحه غير مرهون بمفاجآت كمتفوق فطري .

حاول اسماعيل أن يقف كثيرا إلى جانب شقيقه في حواراته مع والده ولم يفهم أن ذلك التقارب يفقده كثيرا من طفولته التي عليه أن يبعثرها في الشوارع والأحياء . وليس لفارق السن بينهما سوى أن يجسد وحدتهما الدائمة واقترابهما في منزل واحد يكاد يخلو من أطفال آخرين يحافظون على الترتيب المنطقي للمشاكسة البريئة .

ما حققه ذلك في جو البيت هدوءً أبديا يضاف للفراغ الذي تتركه الأم في غيابها الطويل وغياب الأب الذي يمارس حريته بين مجلس المختار ليلا ومقاهي السوق القديم نهارا . وهو مزهو بتربية ابنين يتسمان برزانة يعتبرها الارث الحقيقي لصفات أسلافه الأولين . دون الحاجة لممارسة التربية اعتمادا على مفاهيم يجهلها تماما لوقوعه بين زمانين متناقضين . استسلم الأب لواقعة انجاب طفلين فقط في عالم يحتاج إلى مجموعة من الأبناء تشكل الرمز المحتفى به لسطوة الأب الأكبر ، رب العائلة بمعناها الشامل لعدد الأرواح في محيطها .

يناكف زوجته في مرضها الأبدي وحضورها المتقطع
- حواصلك لا تحتوي إلا على بيضتين . ولتشكري الله انهما ذكرين . ذلك ما منعني من الزواج بغيرك .

وكانت ترد علانية
- إن تلك مشيئة الله .

راجعة بتلقائية لا تحتاج إلى عناء لارثها الطويل من مفهوم القدرية وترد سرا " انك لا تبحث عن السبب فيك بل تبحثه حولك " . وفي جملتها السرية مجانبة للحقيقة فزوجها الضخم مستعد لاخصاب نساء لم يولدن بعد . هو مرضها الذي لم يفارقها منذ انجاب بكرها ويتذكرها المرض مرات عديدة فيهاجمها في مواطن مختلفة من جسدها . مواطن لها أن تؤثر مباشرة على خصوبتها أو بشكل غير مباشر . عمد الأطباء على حقنها بعد ولادتها الأولى بأمصال تفتك بقدرتها على الإنجاب وجاء اسماعيل حين نسوا ذات مرة تكرار حقنها.

اعتادت الأم حورية أو " المريضة " . وهو اللقب الذي اعتادت جاراتها اطلاقه عليها ـ أن تقيم يوما في منزلها وأسابيع في المشفى . وفي المرات التي يسمحون لها بالخروج ينساها زوجها أياما حتى يذكره أحد الأبناء بها . كان لذلك أن يخلق جوا من فتور العلاقة التي تربطهم بأمهم مقارنة بعلاقة الأب دون أن يجد وقتا للقيام بالدورين معا .

يتابع ذكورة يحيى وانعدام طفولة اسماعيل عن بعد . وخلقت الفجوة الحارقة في حياة الرجال الثلاثة في منزل لا يستحوذ على رائحة امرأة حالة من الفوضى أربكت المنزل فعاثوا فيه فسادا يصبون الماء على الطحين . لم يتأفف الوالد . أخذ الأمور على عواهنها مستسلما دائما لطيش الأبناء واللغة التي يكتسبها اسماعيل . قال له اسماعيل يوما ما " لماذا لا تحضر لنا أما أخرى ! " وفي المحصلة أجادوا في غياب أمهم مالم يجيدوه في حضورها !

في مساء ذلك اليوم الذي غادرتهم فيه والدتهم وهي تصرخ من وجع في خاصرتها أخرج جيرانهم من أبواب منازلهم . جلس الابنان معتقدين أن تلك الرحلة هي الأخيرة في حياتها وطلب يحيى من اسماعيل أن يبقى إلى جواره في غرفته وهو يقلب كتاب قديم .
- أنا لست خائفا !

يقول اسماعيل .
- أنا أعرف ذلك . أنا خائف !

يرد يحيى
- لا تخف . أنا أدافع عنك !

يقول اسماعيل ثم يتركه إلى الأسفل . ولكنه يحس بوحشة سريعة تتجسد أمامه يعود إلى يحيى ثانية
- حسنا . أنا هنا لا تخف .

ويضحك يحيى . يجلسه إلى جانبه
- ألم أقل لك إنني خائف . لا تتركني .
- وهل سأنام هنا !
- ولم لا ؟ حتى تكون قريبا مني لو احتجتك .

سمعا طرقا خفيفا على الباب الداخلي . قال اسماعيل " أمي عادت " ونزل ليفتح الباب . فاجأته فتاة مضيئة تقف تحت ضوء مصباح الكهرباء المعلق فوق رأسها . تحمل صينية عليها غطاء قماش بمربعات عنابية اللون . سألته : أين أخوك ؟

قطعت الفتاة التي تعيش مع والدتها في بيت يفصله عن بيتهم ثلاثة بيوت على مستقيم واحد . قطعت المسافة تختبئ في ظلال البيوت تحت ظلمة زرقاء تخترقها مصابيح الشوارع الخافتة . أقنعت أمها بأن تتبرع هذه الليلة بعشاء الصبيين أسوة بالجيران الذين يتناوبون على فعل ذلك .

ركض اسماعيل إلى أخيه لاهثا .

- فتاة تسأل عنك . معها صينية .

خرج يحيى بخطى ثقيلة نحو الباب . حين رآها انتابته خفة مفاجئة
- أنا سلوى . جارتكم . أمي بعثت لكم هذ االعشاء .

قدمت له الصينية وأبعدت كثيرا في عينيه . تناول منها الصينية دون أن يشكرها . انسحبت قليلا من تحت الضوء المعلق في علية الباب بدت اكثر اشراقا . نظر الفتى لصفاء بشرتها ودقة ملامحها . خصلات كستناء شعرها المتماوجة مع لون وشاحها المشمشي . انتبه الآن فقط لخيول نظراتها تجتاح عينيه . وكأنه تذكر الآن أنه لم يشكرها وتحدث كمن ينوي إبقاءها قليلا .
- شكرا . أنت تعلمين . لا أحد هنا .

توقف عن الكلام وهي تضحك ليرى ابتسامة تهاجمه بعنف قبل أن تضع يدها الرقيقة كورقة على فمها . لم يفهم ضحكتها . لقد أساءت فهمه أو عمدت اساءة فهمه . قبل أن تنصرف ارتعشت يدها التي مستها أصابعها. صرخ اسماعيل الذي يقف غير بعيد عنه . سلمه الصينيه . دار دورتين في الممر المؤدي إلى داخل البيت . قبّل كفه . ثم دخل غرفته وأقفل بابها تاركا اسماعيل ينسى وحشته وينكب على العشاء وكأنه هبة من السماء أنزلتها الملائكة . شبع اسماعيل وأحس أنه لم يعد خائفا . استلقى تتلاعب أمام عينيه نجوم وأقمار يهوّش عليها بيده . ثم يغفو متسائلا...
" ما اسم هذا الطبيخ ؟ " .

هدأ الضجيج الذي افتعله يحيى بداخله . وهو يفسر السبب الحقيقي لفتاة تذرع الشارع في أول الليل لكي تطرق بابه . تذكر الآن أنه رآها مرتين : مرة وهي تقف أمام منزلها في ناحية الشارع لكنه تحاشى النظر عميقا نحوها . كان ذلك تصرفا لا يليق بجار تجاه جارته . وأخرى وهو يمر تحت شباكها الخشبي ، أحدثت صوتا مميزا لم يكترث له ومضى في طريقه . وهو الآن في موقف لا يسمح له بصد نظراته عنها . وهي تريده هو تحديدا . ألم تسأل هذا الصغير " أين أخوك ؟ " كان بامكانها أن تسلمه العشاء وتعود .

سمع يحيى صوت والده يدخل الباب ويغلق البوابة الخارجية . عاد الأب وحيدا ومهموما بما يكفي فلم يتحدث إليه . دخل غرفته وهو يحمل اسماعيل لينام في فراشه . أشعل لفافة تبغ وراح يتابع نورها الأرجواني يتوهج في ظلام الغرفة ثم ينمو . تلك المتابعة تسمح له بأن يحدد موجات رأسه المترامية في أركان حياته . طرق يحيى الباب فرد والده
- لا تدخل . ليس الآن !
سأل يحيى عن أمه من خلف الباب فرد بصوت يحتضر
- لم تمت بعد

سأله إن كان يريد أن يأكل فلم يرد عليه . عاد يحيى إلى غرفته . وكمن سمع صدى نشيجه الداخلي . قرر أن يخبر والده عن عشاء البارحة في الغد ، بحيث لا يتجاوز الأمر اخبارا تلقائيا .

في الصباح . يصحو يحيى لزجا معه نومة تخيلها طويلة رغم أنه نهض باكرا لمتابعة النتائج التي يتوقع اعلانها في أي لحظة . لم يجد والده في البيت . والصغير يتابع صورا في مجلة ويتناول شطيرة جبن . سأله يحيى
- أين والدي ؟

زمّ الصغير شفتيه وهو يدير راحة يده اليسرى فيما أبقى عينيه على صورة ما . عاد إلى غرفته أصلح هندامه وعطر ملابسه . مشط شعره ثم دس مشطه في جيبه العلوي . لمع حذاءه بسرعة بقطعة قماش قديمة وخرج .

تذكر موعدا ضربه بالأمس مع صديق ينتظر معه نتائج الامتحانات . فكر أن يتخذ طريقا مغايرا لسكن الصديق . طريقا يمر ببيتها . أوحى البيت بسكون موحش كمن فقد ساكنيه . شبابيكه الخشبية الخضراء مغلقة . أشجار السدر تحيط به تصطفق لريح خفيفة في أول الصيف . خفف وطء قدميه ، وقبل أن يجتاز البيت تماما سمع طرقا على النافذة . فكر أن يعود . لكنه توقف متلفتا حوله كمن فقد قطعة نقود . رفع رأسه للأعلى . فتح الشباك وعبْر فتحة صغيرة بين ضلفيتيه قذف بشيء ما . سقط بالقرب من قدميه . تلفت في طول الشارع يمينا ويسارا قبل أن يحني جذعه الأعلى بسرعة ويلتقطه . يدسه بجوار المشط . يتظاهر بأنه يخرج المشط ويعيده ثانية . بعد أن يرى الكوة الصغيرة في الشباك تغلق يمضي .

قطع منازل الضاحية القليلة ليصل إلى الحديقة العامة . كانت عصافير الصباح تزقزق الشمس التي لم تسخن بعد . وتجتمع حول بقعة مياه راكدة وطيور سوداء بتشكيلة مثلثة تعبر الحديقة نحو الأفق البعيد. لم ير في الحديقة انسيا غير حارسها الذي يحرك خرطوم الماء من مجرى لآخر. مشى على الآجر المرصوف فوق ممراتها . متلهفا لفتح الورقة المضمومة في جيبه كحجاب شيخ طريقة . في زاوية نائية على أحد المقاعد الخشبية يفض الرسالة وهو يتلفت حوله كمن يحسب المسافة اللازمة لتقطعها الأعين التي لا حصر لها وهي تتدلى من حبال السماء تجاه رسالته الغامضة .

" أعرف انك لم تلاحظني كثيرا . كنت أحب الطريقة التي تمشي بها . ولهذا أحببتك . سأذهب بعد ساعة مع والدتي للعيادة الطبية . أراك هناك ! " .

رمق ساعته بسرعة . اعتقد أن الساعة التي حددتها مرت منذ زمن . ابتسم لغباء مفاجئ يراوغه . خرج مسرعا من الحديقة متجها إلى مركز المدينة . قرر أن يصل إلى هناك قبلها . توقف أمام إحدى البقالات . طلب دخانا لأول مرة في حياته وزجاجة كولا . ثم جلس مقابلا العيادة الطبية التي يفصلها عنه شارع تعبره قليل من سيارات الأجرة وعربات الخضار .

كح مرتين ومجّ الدخان الذي صارع رئته في هجوم حاد . أحس بطعم حارق ورائحة منفرة تساءل : "إن كان على الرجل أن يكون فاسدا إذا تعرف إلى امرأة وأن تلك هي الطريقة الوحيدة لتعجب به" . ولم يفهم كيف يستمتع والده بهذا الهذيان الأزرق . استمر يجذب نفسا خفيفا ويترك الدخان يغادر فمه دون أن يجذبه بعيدا إلى داخله . لم يطل التدخين فهرس السيجارة تحت قدميه مكتفيا بما أثبته لنفسه حتى الآن .

مشط شعره وتأكد من هندامه على زجاج أحد المحلات العاكس . لم يكترث كثيرا للذين يرمقونه في الداخل والذين بدا لهم كشاب مبتل يقذف قطرات الماء بظهر أصابعه .
تصور الساعة الواحدة في خطابها غير الساعة التي يعرفها في رفقة صديق أو أداء امتحان ما . ساعة تطول كسنة . وهي زمن ليس محكوما بقاعدة معرفة الزمن . ربما لأنه لم يدقق كثيرا بتفاصيل الساعة/ الزمن كما يدقق الآن بتفاصيلها مرتبطة بحركة عقارب الساعة/ الآلة . فالزمن الذي نقصده في انتظارنا هو ليس الزمن الذي نعرفه حين لا ننتبه إليه . ومقارنة زمن بزمن باطلة . فليس وقفتها تحت ضوء عليّة الباب البارحة زمنا مقارنة بانتظاره لمرورها أمام العيادة الطبية الآن . إن الزمن محكوما ابدا بما نمارسه خلاله وليس محكوما بالتفرج عليه .

لم يكن يهتم من قبل بعربة خضار تعبر الشارع وكم عدد اطاراتها وحمولتها بصلا أو فاكهة. ليست هوايته التفرج على النساء يطفن محلات الذهب بضحكات صاخبة وكأن بينهن وبين باعة الذهب مودة ترسمها حرفة الصاغة في لمعان الجوهر الآسر . وليس الذي يكترث بصور الفنانين لصبية يلعبون بورق عليه صور فنانين يعرفونهم ولا يعرفونهم . وأصبح بحكم الانتظار ملتقى زملاء دراسة لم يعد لديهم ما يفعلونه سوى انتظار نتائجهم والتسكع في الأسواق ، ومتفرجا نهما لشجار بين عاملين على عملة نقدية بسيطة كاد أن يودي بحياة أحدهما. أحس أنه يتوقف في المكان الخطأ وأن الساعة التي ينتظرها وهي لا تمر بيسر قد تحولت إلى حياة قصيرة نهايتها المغلقة أن تقرر والدة الفتاة المجئ للعيادة الطبية مصطحبة الفتاة معها ونهايتها المفتوحة أن لا تأتي الفتاة . أما بدايتها فهي قبل ساعة من الآن انطلق فيها شيء كحجر عند قدميه وهو يقف تحت شباكها .

رأى سيدة هرمة تتقدم فتاة تمشي على مهلها وقد خفضت رأسها كثيرا نحو قدميها . ارتعش الزمن بداخله بخفة وتحرك ليقطع الطريق متوقفا أمام العيادة التي كانت ملآى بالنساء والأطفال . اقتربتا من العيادة فتركت الفتاة مساحة كبيرة بينها وبين العجوز التي التفتت إليها وأشارت بيدها أن تقترب . ولم تتغير المسافة كثيرا . حين دخلت العجوز الباب الزجاجي المشرع دون أن تخطئ في قراءة تفاصيل الفتى . انه عاشق . تعمدت ألا تلتفت وراءها قالت الفتاة بهمس " الليلة . أبعد الصغير " ودلفت خلف العجوز .

نمت بداخله أشجار رياحين وتسورت روحه ببراعم الورد . أحس بأن أول غرامه أكبر اتساعا من محيط صدره . أراد أن يركض ليخفف منه . يصرخ . يقول . لكنه استحى .

سار الطريق يستمع لأغاني سمعها من قبل دون أن يفهم آهاتها . توقف أمام منزل صديقه سالكا الطريق الصحيح دون وعي بالطريق . فتحت شقيقة الصديق الباب . حين رأت وجهه ابتسمت لكنه فاجأها
- أين أخوك البشع ؟

عبس وجهها . عرفت أنه يقصدها . دخلت وهي تقول بصوت مرتفع يسمعه جيدا لأخيها المتجه نحو الباب
- يريدك ابن" المريضة" !!

عنّف الشاب أخته . صافح يحيى
- آسف . لابد أنك ناكفتها
- أبدا قلت أنك بشع !
- إذن سمعتها مؤنثة .

خرجا معا وقلب يحيى يصطفق . يريد أن يقول . يصمت فجأة . توقعا أن تعلن النتائج اليوم . خرج مدرس يقول " هذا المساء ستعلق النتائج " .

توجها إلى مركز المدينة . تغديا في مطعم وتحادثا حتى العصر ليفترقا على أن يلتقيا في المساء أمام المدرسة .

ركب يحيى سيارة أجرة متجها إلى المستشفى الأميري لزيارة والدته لكنه قرر قبل ذلك أن يسير على ساحل البحر . لم يكن يسمع أصوات سوى تلك الضجة التي تعتمل في صدره وصوت داخلي يصرخ به " انتهى عصر البراءة في قلب الفتى يحيى " .

نوارس بيضاء تحوم بأجنحتها الرمادية فوق بقع الأسماك على المياه الضحلة . بواخر تعبر الخليج في البعيد مثيرة غضب الزرقة الراكدة التي تقطعها مراكب صيد خشبية عليها رجال بقمصان قطنية بيضاء وسراويل طويلة . ولم يسمع صدى وحيه قادما من بعيد .

دخل المدينة متجها إلى سوقها . اشترى فاكهة من سوق الخضار . وقميصا جديدا وعطرا باريسيا مقلدا . عاد سيرا إلى المستشفى ليجد والدته تتابع السقف وهي تتحدث إلى جارتها التي نبهتها إلى زائر يقصدها .
- يحيى ! أين اسماعيل ؟

قالت وهي تضع كفها حول خاصرتها . قبّل جبينها
- لم أكن في البيت . تركته هناك . كيف أنت الآن ؟

بدأ السؤال مفتاحا آليا لأي حوار معها فأحست بخجل من ثقل حياتها .
- يقولون الكلى . قبل أيام كنت هنا وقالوا الكبد . وفي المرة السابقة قالوا ... ماذا قالوا يا يحيى؟ آه كم مرة يقولون . . هؤلاء الجزارون يا يحيى هل علي تصديقهم ؟ إنني فقط لا أتذكر النذر الذي عليّ !!

أمسك بيدها . يتذكر دائما أنها تتوهم بمن يطالبها بقربان . وفي كل رحلة لمزرعة الجنوب تختار كبشا لكنها تعود بعده لوهمها من جديد . استمرت في حديثها :
- أين اسماعيل ؟ أحضره غدا معك . هذه المرة لن يخرجوني بسهولة . يريدون تقطيعي . أخبرت والدك ألا يوافق على تقطيعي . وأنت لا توافق أيضا ـ لن اسمح لسكين أن يخترق لحمي حية ويرمي بقطعة من جسدي لكلابهم . هؤلاء الجزارون يقولون . . المرء يعيش بكلية واحدة . وبلا طحال . وبنصف كبد . . هل تصدق يا يحيى ؟ أريد أن ألاقي قيامتي كاملة كما خلقني ربي . . أتصدق يا يحيى إذا رموا كل قطعة من جسدي إلى كلب.... هؤلاء الجزارون . أتصدق أن الله سيغفر لي أو لهم ؟!

مد ابهام يده وهرس دمعة تدحرجت مغلية على خدها . أحس بكآبة ولم ينطق بشيء . شدها إليه واحتضنها . لاحظ أنها نحيفة جدا . وأن أحشاءها هربت قبل استئصالها .

سمع يحيى وقع خطى اسماعيل يركض نحو والدته على بلاط المستشفى البارد . وحين هجم الصغير عليها وقف يحيى ليرى والده الغاضب يصرخ به " أين كنت طيلة اليوم ؟ " حاول أن يرد قالت والدته " كان معي " . فصمت كلاهما . أحضر لوالده مقعدا . جلس وهو ينفث غيظه دون أن يتحدث إلى أحد .

أخذ يحيى يد اسماعيل وهو يضع الأخرى على رأسه
- تعال نخرج للبحر !

وقبل أن يترك اسماعيل أسئلة والدته المنهمرة دون إجابة . جاء سؤال والده
- ماذا ستأكلون الليلة ؟

وتبرع اسماعيل بالرد
- لا أعلم يا والدي !

قال والده
- سألت يحيى ولم أسألك .

ضحك الأب في سره لكن جسمه كان يهتز بخفة غير ظاهرة .

انصرف الإبنان إلى الخارج وفي الباب سأل يحيى أخاه
- هل قلت له عن ليلة البارحة ؟

ارتجف صوت الصغير خوفا
- هو سألني عن الصينية فأخبرته ! لم أقل

وقبّله يحيى . فغر الصغير فاه
- خلتك ستضربني

فدفعه أمامه دفعا خفيفا ليخرجه من الباب
- وهل ضربتك في حياتي يا دنيء ؟

لم يتمكن من الإفصاح بشيء لهذا الصغير . تصور أنه يحدثه دون أن يرد عليه . دون أن يفهم . على الساحل راح الصغير يرمي البحر بحجارة الشاطئ . ان الصغير بالنسبة ليحيى هو كأي شخص آخر . فالغموض بداخله هو . كيف له أن يفسر لأي كان ما يشعر به . ليس الحب وصف لشيء . ليس إحساسا معادلا للألم والفرح والحزن والكآبة والقيد والحرية . هو كل ذلك . أنىّ له أن يخلطهما لتنكشف له صورة ذلك الذي اسمه الحب . ليس الحب شكلا طبيعيا للأشياء التي يراها كالبحر والشاطئ والتل الأخضر وأدوار المستشفى . وما يستطيع قوله الآن للصبي في غياب حضوره أنه عاجز عن تحديد ما يود البوح به لسواه . وما يحتاجه هو أن يقول له أحدهم . هؤلاء الذي أحبوا قبله . بماذا يشعر الآن ولماذا ؟ . أن يفهم ما يحس به . في تداعيات كهذه يتخذ الحب صورا متقنة في خياله ولا خيالا يتسع فيضانه المطرد . لم يعد في وسعه أن يفعل شيئا نحو الغرام المشتعل في صدره . جلس على صخرة منزوية وبكى . كان لذلك أن يخفف عنه حمى قاسية على قلبه الغض .

أعاد شقيقه إلى أبيه . لم يطل البقاء قبّل والدته بسرعة وتحاشى نظرات والده . خرج متجها إلى المدرسة . لم تعلق النتائج بعد . تذمر الطلبة وعلا صراخهم . هددوا المدرسين بتدمير سياراتهم . تركهم عائدا إلى المنزل والمساء يخطط لنجومه مشوارها الليلي . افترش بساطا مزركشا أمام البيت وجلس يقرأ تحت ضوء علية الباب . خرج والده من الداخل سأله
- هل نجحت ؟
- ليس بعد !

سأذهب للمختار إذا أردت شيئا أنا هناك . انتبه لإسماعيل . إنه نائم .

وقبل أن ينصرف . رمقه بزاوية عينه بغتة .
- ستتعشى الليلة لوحدك .
وابتسم وهو يمضي . ذهل يحيى . إن لم تكن صورة العاشق على وجهه يراها الآخرون ولا يراها هو فإن إسماعيل هذر بأكثر مما يجب وتمتم بصوت مرتفع .
- لا بأس من الأفضل أن يعرف والدي .
جاءت تسير محاذية أسوار المنازل التي تفصل بينهم . ملتفة بعباءة حرير تزيدها إغراء وتحيط شعرها بوشاح غامق اللون تاركة خصلات شعرها كما هي ليلة البارحة . تحمل الصينية بين يديها وتسبقها رائحة ماء ورد باريسي تفوح من جسدها وملابسها . رآها من بعيد نهض وفتح الباب قبل أن تصل ووقف بالداخل . طلب منها أن تدخل . رفضت في البدء . وحين لم يلح عليها دخلت وهي تدرك أن رفضها رغبة لا امتناع . أرخت عباءتها عن جسدها فارتعش يحيى وهو يرى بياض نحرها وطول عنقها . أمسكها بيديه تحت أذنيها فأحست برعشة يديه .
- هل أنت خائف ؟
- لا ليس هنا أحد الصغير نائم !

أوحى صوته لها بأنه خائف . ترتجف الحروف وكأنما يقولها لأول مرة . أما الحقيقة فإنه مذهول. قالت بغنج انثوي جارف
- انك قوي . ستخنقني

لاحظ أنه يضع يديه وضعا . أنزلهما حتى خصرها . كادت أصابع يديه أن تلتقي حوله . حاول تقبيلها فهربت بعنقها واحتضنته . ألصقت جسدها بجسده . استنشق عطرها وبخور شعرها ورائحة جسدها حاول أن يجلسها . رفضت فأفلتت من يديه وخرجت مسرعة تعدل هندامها .
قال بهدوء
- سلوى إنتظري .

أغلقت الباب وراءها وغابت في الليل .

في الصباح كان والده يعد إفطارهم ، بيض مسلوق ، أجبان ، خبز قمح أسمر . حين اجتمعوا حوله رأى الصينية كما هي مغطاة لم يمد أحد يده لها .
- ما هي حكاية الصينية ؟

انتبه اسماعيل فخاطب يحيى
- لماذا تركتني أنام دون عشاء ؟

هز يحيى بطن الصغير وهو يضحك
- ستبقى دائما دنيء النفس !

التفت الصغير إلى الأب وهو يبعد يد يحيى عن بطنه
- أسمعته يا أبي ؟

وقال الأب بغضب
- لم أسمع إجابة عن سؤالي .

فقال الصغير
- قلنا لك بالأمس سلوى تحضر عشاء لنا .

لكن الأب الذي يعرف هذه المعلومة المجردة كان يبحث عن إجابة لدى يحيى
- وما رأي يحيى بها ؟

قال يحيى بشيء من الخجل
- لا أعلم ربما تبعثها شفقة . إذا شئت لن نقبلها .

فنهض الأب
- إنها شفقة مبررة . أتمنى ألا يتعدى الأمر هذه الشفقة من جهتك !

خرج الأب غاضبا دون أن يكمل ما يعنيه وتحرش الصغير بأخيه دون أن يقصد
- لماذا غضب والدي منك ؟
- كل ! حين تشبع ستفهم !

وخرج يحيى بأثر والده . لم يلحق به فأكمل طريقه متجها للمدرسة . في الطريق إلى منزلها لم يرها توقع أنها نائمة . تاركة عطرها ورحيق جسدها لبلاهة الفراش .

قبل أن يصل المدرسة ، رأى صديقه في طريق العودة منها . قابله متجهما يخفي فرحتين
" للأسف لم تنجح يا يحيى " ورد يحيى بثقة " كان ذلك ممكنا لو أنها ظهرت قبل الامتحانات "

ذهبا يمضيان يومهما في أحاديث يكررها طالبين في بداية حياتهما . في المساء زار والدته وعاد ينتظر عشاءه لكنه لم يأت .

توقع يحيى أن فتاته لا تريد مغامرات طائشة وهي تواجه ذاتها في رفض علاقة طائشة وتحويلها لعلاقة متزنة . وربما كان ذلك خطأه هو تحديدا حين هجم على حبه الأول بشراسة صبيانية فأجهز عليه تحت تبرير لهفته وتجربته الأولى . ولم يتوقع يحيى أن ترصد شياطين لا حصر لها حركات فتاته وانتقال عينيه إلى شباكها لتضعها تحت بصر الشقيق الأوحد لسلوى . وما يعرفه يحيى عن الشقيق يكاد يكون نقلا عن آخرين . فهو ـ الشقيق ـ يعيش مع زوجته في المدينة ويغيب لشهر تقريبا عن أمه وشقيقته .

وتحت ضغط لوم النفس واتهامها بنقص الخبرة تصارعت في خيال الفتى أحلامه المضطربة . سيلتحق بشركة للملاحة أو الطيران ولن يذهب لسنوات تعليم طويلة تفقده حبه الأول. سيحتمل قسوة كلام والده ولن يستسلم لسلطته . وتوج أحلامه بالزواج منها بعد استلام أول مرتب يعلن استقلاله المادي . وعاش واقعا كاملا في ذهنه على والده أن يتعايش معه .

أما المفاجآت التي لم يتوقعها هي موافقة والده على نصف خياله وبتغير مفاجئ كنتيجة لم يفهمها يحيى للفخر الذي أصاب والده وهو يجلس في ديوان المختار تنهال عليه تهاني وتبريكات على نجاح ولده بدرجة عليا جعلت الضاحية كلها فخورة به كما قالوا . وفي حوار بدا متحفظا بعض الشيء بين الأب وإبنه انتهى إلى قول الأب
- قبل كل شيء وبعد كل شيء أنت أكثر علما مني الآن يا بني لن أجبرك على شيء تكرهه . إنني أثق بك وبما تختار ولكن تلك ليست رغبتي .

هكذا أنهى الوالد جدلا لم يبدأ وسط ذهول الإبن فاعتقد أن غياب والدته هو السبب في تحول الأب . الذى جسد غياب الأم فى حضوره وبسبب ذلك التحول أيضا ورغبة في عدم إفساد الأمور برمتها قرر تأجيل طرح زواجه للأشهر القادمة " هي لن تهرب من بيتها " .

مر يومان لم يزر والدته فيهما وكذلك لم يزرها والده الذي انشغل بحساباته وتحصيل إيجاراته ولم يريحيى فتاته . انشغل بنفسه . مارس حياة عادية منغصة . حضر مباراة كرة قدم . سهر ليلة مع أصدقائه الذين لم يحققوا نتائج طيبة واكتفوا بترديد خيباتهم أغاني حب فاشلة على ساحل البحر .

في صباح اليوم الثالث وجد نفسه يقف أمام مدير البعثات الخارجية ويسجل اسمه ضمن المبعوثين الجدد لدراسة الطب في دولة لا يعرف شيئا عنها سوى أنها تتكلم الفرنسية . وحين قال له والده اذهب لبلد عربي أو بريطانيا قال " لا . أريد تعلم لغة ثالثة " . حددوا له شهر سبتمبر للسفر وقرر أن يمضي الأشهر الثلاثة القادمة في تعلم الفرنسية صباحا وزيارة والدته عصرا وانتظار محبوبته ليلا .
- يحيى . أحس أنني جائع ألم يأتك عشاء جارتكم .

قال والده وهو يخرج من البيت ضاحكا . وفي تلك الليلة زارته ثانية .
- ستغيرك الغربة .

قالت وهو يحدثها عن نيته للسفر .
- هنا بيتي وجذوري وحبيبتي .

ولم يسألها إن كانت ستنتظره فردت
- سأنتظرك عمري .

ولم يخل حديث عهدها هذا من حديث غيابها تحدثت عن شقيقها بحرقة
- هو شخص شرير . يضربني ويضرب أمي .

وبكت . والأكثر خطورة هو ما أخفته عنه كي لا تخسره . قبل أيام جاء الشقيق إلى منزل والدته في غير موعده الشهري يحمل أحاديث صديقه عن عرضه نارا تتقد في عينيه حين فتحت سلوى الباب صفعها " لماذا تتحدث الناس عنك ؟ " . وتصدت له الأم تدافع عنها فهوى على الأم بيده .
" من هذا الشاب الذي تلتقيه كل ليلة ؟ هل يغيب شرفنا عنكم بغيابي ؟ "
لم ترد الوالدة أو إبنتها واجتمعتا حول نفسيهما يبكيان بحرقة .

الشقيق الذي يتركهما شهرا كاملا مرضاة لزوجته الثرية . عاش حياته عرضا وطولا بحثا عن فساد شاب لا يعيبه لكنه يعتقد أن شرفه هو الإرث الوحيد الذي تركه له والده وهو على استعداد للتضحية بحياته من أجله . سجن أكثر من مرة دفاعا عنهما . دخل صراعات مع شباب يسيرون بالقرب من منزله بقصد أو دون قصد وافتعل شجارا كاد يودي بحياة ابن مختار مدينته لم يخلصه منه سوى تعهده بالانتقال إلى هذه الضاحية الصغيرة . انتقل بشقيقته وأمه إلى هنا وعاد هو لمدينته متزوجا ابنة تاجر ترك لها أملاكه ووحدتها .

في ذلك اليوم أغلق الباب يومين على الأم وابنتها وجلس ينتظر صدق المعلومة التي نقلت إليه وأنكرتها الفتاة . لم تنقصه الفراسة ليتأكد من وقوف يحيى تحت شباك شقيقته ولهفة العاشق التي لا تخفي على أحد وقبل مغادرته صرخ بهما " لا أريد أن أسمع أنها رأت ذلك الشاب ثانية " غاب واعتقدت الفتاة أنها غيبته الشهرية كالعادة . أما هو فلم يترك الضاحية . جلس في بيت صديقه وهو يردد " ليس لفار كهذا أن يقاوم رائحة الجبن " . رأى أخته تذهب بصينيتها إلى منزل يحيى ويستقبلها وتدخل البيت .
- لا تتوقف طويلا أمام شباكي . أنا أزورك ليلا

قالت الفتاة دون أن تخبره أن أذنا وعينا تترصده . وقبّلها فجأة
- لا تفعل ذلك ثانية .

وكانت تود أن يفعل أكثر من ذلك . خرجت .

" انها تطعمه شرفى على صينية !"

بات الشقيق تلك الليلة في منزل صديقه كاتما غيظا قد يودي بحياة شقيقته لو ذهب إليها الآن .
- أعتقد أن الذي اسمه يحيى يعبث بشرفي

قال لصديقه وهو خجل
- وماذا ستفعل ؟
ـ أستطيع الصبر حتى الغد ذلك ما سأفعله .

في مساء اليوم التالي دخل البيت وسط ذهول الأم والفتاة .
- لا تذهبي له بالصينية الليلة . هو سيأتي ليأخذها

وحاولت الأم تبرير ما تفعله الفتاة
- انهم من غير امرأة في البيت ونحن نرسل عشاءهم .

ابتسم وهو يجلس محاولا أن يحافظ على نار تغلي في مرجل روحه .
- ولهذا دعوتهم للعشاء هنا . نحن نساء من لا نساء لهم !

لم تتكلم الأم لكنها حاولت أن تقيس مقدار الحماقة التي ينوي ارتكابها مقارنة بما سبق من حماقات.

خرج الشقيق نحو منزل يحيى . طرق الباب بنعومة مظهرا هدوءه غير المبرر . اعتقد يحيى إنها هي . كان الرجل الذي يقف في الباب أكبر من خيال يحيى الذي رسمه في ذهنه . في الثلاثين من عمره . له لحية ناعمة وتشوه خلقي خفيف في زاوية فمه . وبدا يحيى الذي يتفاخر بعنفوان جسمه طفلا في حضرته.
- تفضل . أدخل
- لا . أريدك رجلا لرجل .

أرتدى يحيى ملابسه وأخبر الصغير " سأعود بعد قليل ! " .

عرفه على نفسه . سارا باتجاه المنزل . يبدى الرجل ودا كما يليق بصهر متوقع . حدثه عن دخول البيت من بابه والتقدم لطلب لشقيقته وترحيبه بهذا التقدم . ورد يحيى
- حين تأتي الفرصة المناسبة كنت سأحدثك أو أترك لوالدي الموضوع .

وقال الرجل
- نعم . نعم . أنت شاب حكيم جدا . حين تأتي الفرصة المناسبة . الفرصة . أجل .

يفكر يحيى بالتقرب من هذا الصهر الذي يبدو لطيفا على عكس صورته التي نقلتها له سلوى وعلى عكس هيئته المضللة . حاول أن يتحدث إليه كرجل .
- أرجو أن تفهم أنني أقصد بالفرصة المناسبة استقلالي المادي .

وكان الشاب لا يود إطالة الحديث والذي قد يدخل إلى نفسه بشيء من الود لهذا الفتى الجميل .
- دعوتك لتناول العشاء . وسنتحدث هناك بالتفاصيل .

توقف أمام المنزل . فتح الرجل الباب
- تفضل !

كانت الأم وابنتها تجلسان في الصالة . أشارت له سلوى بطريقة غير مبتكرة أن يهرب لكن الشقيق اشار لها أن تصمت . لاحظ يحيى أن الرجل يقوده إلى غرفة شقيقته ويرى الشباك الذي تطل منه على الشارع . أحسن أنه في خطر والمكان لا يوحي بحوار حول موضوع زواجه ولا بدعوة عشاء . في الغرفة سريرها وخزانة ملابسها وعطورها على منضدة صغيرة تعلوها مرآة بجانبها كرسي من الفرو . ولم يفتح فمه بالكلمات التي أراد أن يقولها . انقلب الرجل الوديع إلى حيوان شرس تسربت دماء حمراء إلى شعيرات عينيه . وازداد التشوه الخلقي في زاوية فمه بشاعة أخرج مسدسا وطلب منه أن يجلس على الفراش
- حتى تأتي فرصتك المناسبة أكون غرقت حتى أذني في وحلك !

قال وهو ينفخ الكلمات نفخا من فمه وكانت تتطاير من منخاريه وتتساقط حروفها دون أن تلتقطها. حاول أن يبرر يحيى ما حدث ، لم يكن الرجل مستعدا لسماع شيء . طلب منه أن يخلع ملابسه . عرف يحيى أنه جر قدميه بنفسه إلى مذبحه . وأن الرجل قاتله . هجم عليه محاولا الهروب من الغرفة . تلقى ضربة قاسية على مؤخرة رأسه أسقطته على الفراش . تناول الرجل مقصا للخياطة على طاولتها وغرسه في تجويف كتفه ثم طعنه أكثر استعجالا فوق الثدي الأيمن وثالثة فوق الحالب ليتركه غارقا بدمه .

جلس الرجل على الكرسي . دخن سيجارة وحيدة في جيبه العلوي . حين أتت النار على سيجارته تأكد أن الشاب قد انتهى . خرج ليطلب من أمه أن تدخل الغرفة وتصرخ . سبقتها سلوى وصرخت قبلها .

وفي هيجان البيت وصراخ المرأتين صرخ بهما :
- سيكون الأمر كما تشاهدون

وصرخت به الأم
- أنت لا تدافع عن شرفنا . أغرقتنا بالرذيلة .

وقبل أن يستمع لطرقات الناس على بابهم
- في المرة القادمة ستكون هي الضحية .

جريمة شرف . متقنة في دوافعها . حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات وابتسم ابتسامة قاتلة في وجه والد يحيى . لم يستمع أحد إلى صوت اسماعيل . " طرق بابنا وخرج يحيى معه " !

الفصل الرابع

في يوم من أيام الربيع ، كانت الشمس بعيدة عن الأرض . نمت أعشاب برية بين ثنايا البلاطات الاسمنتية التي ترصف الساحة المقابلة لمنزلهم . حط طائر أخضر على السدرة لم يشاكسه اسماعيل وهو يجلس متابعا حركة الناس في الشارع الطويل . الصبية يصلحون دراجاتهم الهوائية والآباء يأمرون خدمهم بالإهتمام بالحدائق التي بدت خضراء متناسقة . توقفت شاحنة الحليب توزع الألبان في الصناديق البيضاء المعلقة على الأسوار تتبعها سيارة سوداء لمح من خلال زجاجها المواجه له وجه سلوى برفقة رجل طويل . يكاد يخفض رأسه عن سقف السيارة . توقفت السيارة خلف شاحنة الحليب التي تسد الطريق . لمحته المرأة النقية بزاوية عينها . ابتسمت وكأنما تلقي عليه كلاما أو سلاما عابرا . ثم أعادت رأسها لتحدث الرجل الذي تجاوز بسيارته شاحنة الحليب وهي تفسح له الطريق . وقف اسماعيل وتبعها مسرعا على الرصيف وهو يتوقف فجأة كمن انتبه لنفسه سمع نفسه يصرخ " يحيى . يحيى " لمح الرجل والمرأة يدخلان المنزل في الناصية دون أن يلتفتا إليه . عاد ليجلس وخده رطب تحت وقع دمعة عابرة .

استيقظ اسماعيل باكرا هذا الصباح . وعده والده ليلة البارحة أن يصطحبه إلى المزرعة . قال له : بنيت لك بيتا جميلا هناك .
ولم يذكر اسماعيل المرة الأخيرة التي زار فيها المزرعة . لم يكن يتحدث كثيرا مع والده . أصبح الأب رجلا سريع الغضب . يكاد يخاصم حتى ذباب الهواء من حوله . وحين يشتد غضبه من ابنه يأتيه هاجما قبل أن يصرخ به " يحيى " ثم يهرب الأب إلى مكان يفجر فيه بقية غضبه . لم يتخيل اسماعيل سطوة حب يحيى على الوالد الذي ينسى حتى اسمه. ذلك الحب يتجلى طاغيا في حالة الفقد كما لم يتجل في حالة الحضور .

أما والدته فلم تعد للمستشفى بعد أن فقدت جميع الأجزاء التي يمكن أن يفقدها المرء ويبقى على قيد الحياة . وأنساها ألم فقدان يحيى أي ألم معادلا لأجزائها المستأصلة . وهي ليست أكثر رحمة بنفسها من والده حين ترى اسماعيل يمر أمامها . تشده طويلا إلى عنقها غارزة شفتيها في عنقه وتبكي . وكعادتها دائما تؤثر الصمت على الكلام .

حاول الوالد أن يجد حيلا جديدة يلجأ إليها لإثبات الحقيقة . ليس من العدل أن يذهب ابنه المغدور في تصوره غادرا في تصورهم . وفشلت محاولته في تحويل قضية ابنه من دفاع عن شرف إلى قتل متعمد . خالفه فيما ذهب اليه من ظنهم أنصاره . وفسروا محاولته تلك في البحث عن شرف ضائع أكثر من البحث عن قصاص يليق بقاتل . وهو ما أنكره الأب .
- أنتم تحقدون على فتى امتدحتموه قبل أيام .

ولم يردوا عليه . ما يقوله الأب سيقولونه لو كانوا في مثل وضعه . أخذ اسماعيل ليقول ما يعرفه امام مجلس المختار لكن التعليق على ما قاله الصبي جاء قاسيا
" ليس بوسع طفل إلا أن يردد ما لقنه أبوه " .
ورفضوا شهادته كما رفضتها المحكمة .

صرخ الأب في المحكمة " ثلاث سنوات في دم رجل " ! وظل يناضل في أروقة المحاكم سنة ونصف لتؤيد محكمة الإستئناف الحكم وسنة ونصف أخرى لتنهي محكمة التمييز رحلته الطويلة بإضافة سنة أخرى للحكم . ولم يعد بوسعه أن يفعل شيئا قال للمحامي .
- كان بودي أن أدفع لك كل ما أملك لوأنك تمكنت منه . سأفعل ذلك على طريقتي .

يعرف المحامي جيدا الحقد الذي يعتمل في صدر الرجل حاول تهدئته
- لماذا تريده مقتولا ؟
- لو رأيت ابنك ملطخا بالدم ما الذي تفعله ؟

لم يرد المحامي . لم يعرف الإجابة . أو هو يعرف الإجابة ولكنها لن ترضي هذا الموتور . فرد هو
- ستقول أنظفه . حسنا . إنه يحتاج الدم لكي ينظف .

دفع بقية اتعاب المحامي وقبل أن ينصرف
- يجب أن ينام شريفا دون أن يزعجني صراخه .

في ذلك الصباح رأى اسماعيل وجه المختار وانتبه المختار لدمعة سائلة فوق خد الصبي كادت تتجمد . قبّله وطلب منه أن ينادي والده
- لماذا تخاصم مجلسي

سأل المختار بدون مقدمات كان جهزها قبل حديثه فنساها بسرعة . وحين جلس أعاد السؤال الذي لم يجب عليه الرجل . أكمل المختار :
- لم نحملك ما صنع يحيى . شاب في عمره يمكن أن يأتي ذلك ببراءة تامة .

ولم ينظر الرجل في عيني المختار
- أنتم لا تفهمون .

امتعض المختار وحاول أن يفتعل انفراج أساريره

- لا يهم . المهم الآن . انتبه للصبي الذي يجلس كيتيم . يجب ألا يضيع في أرض حقدك .

لم يعلق الرجل على محاضرة المختار الطويلة . كان يتململ كمن يوحي له أن ينهض . يقاطع محاضرته وهو يأمر اسماعيل بوضع غرض ما في السيارة . ينهض المختار دون أن يوافق الرجل على زيارته طالما بقيت حواراتهما على قناعات راسخة تهدر دم ابنه وتضيع شرفه . في طريقه إلى الخارج قبل اسماعيل الذي اصطحبه والده إلى بيت المزرعة كما وعده .

يجيد اسماعيل فتى الرابعة عشرة الإعتناء بنفسه ويساعد والدته أكثر مما تساعده . يحاصره والده بكلمات مقتضبة واسئلة قاسية " لو أن أحدا قتلك يا اسماعيل ما الذي كان يحيى سيفعله ؟ " ويرد الصبي " يقتله طبعا " ويبتسم الأب " وأنت حين قتل يحيى أمامك ماذا فعلت ؟ ينكس الصبي رأسه ويتركه الأب دون أن يكمل حواره معه . يبتعد الصبي في استغراقه يأتيه صوت والده " يحيى ! " وهو يعرف أنه يريده هو . فالذي كان يفعله الأب بتلقائية فيما مضى يفعله متعمدا الآن . يلتفت الصبي إليه فلا يجد شيئا ذا بال يقوله . يقود سيارة الجيب بغضب وكأنما يريد إرسالها لجحيم قريب .

خلال تلك السنوات عرف الأب ما كان يجهله عن حياة قاتل ابنه . رجل في الخامسة والثلاثين . متزوج من امرأة غنية شابه ويسكن منزلها في وسط العاصمة . له ثلاثة صبية وطفلة تركها في الأشهر الأولى يوم جريمته . كان رجلا يحب الخمروالنساء قبل زواجه لكنه لم يشربها بعد زواجه ولم يتعرف على امرأة غير زوجته . قبل زواجه طرد من مدينتة في شجار حول شقيقته . وقال المختار وهو يحدث الأب عنه " انه رجل فاسق فيما يخصه . شريف فيما يخص أمه وأخته " وقبل أن يشكره الأب على تلك المعلومات وضع المختار يده على كتفه " كان يمكن أن يكون إبني هو إبنك يحيى وأنا في وضعك . فليلطف بك الله " .

وفهم الأب أن الشجار كان مع ابن المختار .

اكتمل بناء بيت المزرعة في ذلك الربيع الذي أطلق فيه سراح القاتل الذي باع منزل والدته ونقلها إلى منزله . لم يدخل الضاحية . ولم يكرر ابتسامته للأب . أحس بأنه فقد حماية القضبان وهو بين يدي المحكمة . ربما كانت تلك هي الميزة الوحيدة التي يشعر بها السجين . الأمن وهو ما يفتقده الآن في حريته . حين خطا خطواته الأولى خارجا من السجن كان يحدد الدائرة الصغيرة التي ستخترقها رصاصة الأب الثائر . ولم يتحرك من مكانه حتى اطمئن على نفسه في سيارة صهره الجديد . لم يرد على اسئلته . كان خائفا . هو أيضا يدرك بأن عقوبته أخف وطأة من جريمته وأن رجلا غريما كالذي يتعامل معه لن يترك الأمر يمر بهدوء . . وحين أخبره صهره بأن غريمه قد باع بيته ورحل إلى جهة لا يعلمها أحد في الضاحية قال في نفسه " هرب كي يعود لا ليختفي " . وهاهي ميزة أخرى للسجن لم يعرفها حتى فارقه ، لم ينم كما يجب . وظل ليله الطويل يحرس عينيه من شبح يطارده . وفكر كثيرا أن يعود للسجن كان يصرخ في الجدران الصامته " أريد أن أنام " وليس لكلمات عجوز وامرأة أن تطمئنه . فلا أحد غيره يرى الأعين الحمراء وهي تخترق صمت جدرانه . وذات يوم ارتحل تاركا كل شيء . ينام في أماكن متفرقة ويفكر جديا بتسليم نفسه لهذا الأب الذي يجهز شيئا لا يعلمه هو .

أغلق والد يحيى بيته . حمل زوجته ومتاعها وانتقل إلى بيت المزرعة وحين قال له اسماعيل " والمدرسة يا أبي ؟ " سأله الأب " هل سمعت من قبل عن مدرسة للموتى ؟ " ولم يرد الصغير فأكمل الأب " انك تقرأ وتكتب . يكفي ذلك . لديك عمل آخر تقوم به " .

بدأ اسماعيل رحلة غامضة . في فجر كل يوم يوقظه والده ، يركبه سيارة الجيب ويبتعد به مسافة يحتاج ساعة كاملة ليقطعها عائدا سيرا على قدميه . يجهز له افطاره ثم يحمله أكياس السماد والبذور من مكان إلى آخر داخل المزرعة دون هدف محدد . يستمر كذلك حتى موعد الغداء . يأكل بعنف وينام كالموتى . في العصر يوقظه العجوز بسكب الماء البارد في تجويف أذنه ـ كما يفعل في الفجر . " دعني أنام قليلا " يتوسل الفتى . فيرد الأب " ستنام طويلا فيما بعد " ينهض . يجد والده قد جهز له أكياس التبن كمواقع سباق الخيول " عليك أن تقطع الطريق بأقل ما تستطيع من الوقت " يجرى قافزا فوق الأكياس ذهابا وأيابا . يعيد الكرة مرات عديدة " سيأتي وقت تقطعها أسرع " .

لم يفسر له الأب ما يقوم به . وحين يحدثه عن سبب تلك القسوة يقول " قسوتي رحمة لك !" حين رفض ذات يوم القيام بهذا الهراء . شده من قدميه وهوى عليه بعصا الخيزران حتى كادت روحه تخرج من فروج أصابعه أو خصيتيه ، يلتقط أنفاسه بصعوبة . لم يصدر نأمة عذاب واحدة حتى يتوقف الأب بعد أن يتأكد من الألم يسري في عضلة يده اليمنى . عندها فقط يصرخ الفتى . يرغمه على السير على قدميه فوق بلاط الغرفة العاري وهو يقول " هكذا ستعرف الطريق جيدا " يعرف الأب الآن الوقت الذي يتوقف فيه عن تعذيبه معتمدا على عضلته اليمنى . ولا يبدي اعجابه بقدرة الفتى على التحمل .

حبسه يومين في الغرفة مهددا من يقدم له الطعام بالويل . لكن الغلام الآسيوي يخادعه متفقا مع صمت الأم ويستبدل إناء الماء بالحليب . لم يفكر الفتى بعصيان الأمر ثانيه لكنه فكر جديا بالهرب ، متحديا قناعته " ما في الخارج هو ليس أقل سوءا من هنا " .

يدفعه الأب دفعا لكي يخطئ ليمارس عقابه كطقس من طقوس تدريبه القاسي . لم يجد الأب لذة في عقابه . كان ذلك عملا . كمن يتلقى أجرا نيابة عنه .

قرر الفتى الهرب مختارا العاصفة ليندس في ضجيجها ، تحمله إلى أي جحيم أخف وطأة من هذا الجحيم . وان لم يكن فهو مجهول يستحق المغامرة . في ذلك اليوم تلونت السماء بشفق من رماد وارجوان وصمت الكون المحيط به . ران السكون على المزارع المجاورة وعادت قطعان المواشي يحثها الرعاة والكلاب من خلفها وجانبيها . عمل الأب على تثبيت زريبة الماشية في زاوية المزرعة طالبا من اسماعيل أن يصعد ليدق مزيدا من المسامير في أركانها وعلى أطراف صفائح الحديد المتجهة نحو الشمال . تركه يعمل ليأمر الغلام بتوجيه سيارة الماء وسيارة النقل جهة الجنوب . وادخل سيارة الجيب مظلتها الأكثر تماسكا . نظر اسماعيل من فوق سطح الزريبة ليرى طيف عمال يدخلون طيف مزرعة وسمع أمه في الأسفل تكش الدجاج ، وتحاصره نحو باب القن . صرخ به والده " هل ستنام فوق عريش الزريبة يا أهبل ؟ " . " سأنتهي حالا " وراح يدق المسامير على عجل .

بدأ صوت العاصفة يأخذ شكل الصفير ، حين رأى والده يتأكد من قفل باب الزريبة قال اسماعيل ببراءة " هل تسمع الصوت ؟ . أهو صوت الله يا أبي ؟ " فرد الأب " حتى الآن هو صوت أول العاصفة يا أحمق ! " .

لم تمض لحظات حتى تبع الصوت غبار أحمر ناعم يتحرك بقوة خارقة . سدّ كل ثغرات الفضاء الواسع فلم يعد المرء يرى ما بين يديه ووجهه . غطى الأب وجهه براحتيه وهو يصرخ
" انزل بسرعة واتبعني " . وهرع داخل البيت فيما انزوى العامل في غرفته ، كل يصلي لالهه الذي آمن به كي يلطف به وحده .

قفز الفتى من فوق عريش الزريبة خارج المزرعة وانطلق يجري وهو يغطي عينيه ولا يفتحهما إلا قليلا . فلم يكن بامكانه مقاومة هذا الغبار المتحرك بعنف . طافت به العاصفة زرائب ومزارع واستكان إلى حائط مغمض العينين . فتحهما على صفعة قوية على رقبته ويده الملتصقة على وجهه . " هل أضعت بيتك أيها المعتوه ؟ " كان ذلك حائطهم والأب يجره من يديه وقدماه تخطان في الأرض حتى ألقاه أمام الباب " هيا أدخل " . وركض يجري يبكي ويضحك ! "

هدأت العاصفة . تاركة غبارها الأحمر على أخضر الاثل . لم تكن خسائر المزرعة كبيرة . لكن العمل المطلوب من اسماعيل القيام به شاق على فتى في سنه . فقدت الزريبة بعض ألواحها وهدم سور جانبي لغرفة المؤونة . وطار العريش .

استمر العمل أياما . طلب الأب من العامل الآسيوي الا يساعده . ولم ترحمه توسلات الأم . رد الأب
- أريده رجلا لا يطعنه أحدهم ثلاث طعنات دون أن يخدش وجهه !

أما ما يرمي إليه الأب فهو أبعد من ذلك بكثير . أن يجعل منه رجلا بلا قلب .

بعد ثلاثة أشهر من العمل المتواصل والذي لم يسمح له فيه أن يتنفس براحة . قرر الأب منحه إجازة إسبوعية تبدأ مساء الأربعاء وتنتهي عصر يوم الجمعة . يتركه نائما طيلة ضحى الخميس ثم يصطحبه في جولة إلى المدينة . مرورا ببيت القاتل . " انظر سيكونون هناك . اريدهم كلهم " . يخاطبه الأب وهو يشير نحو المزرعة . ويتأكد اسماعيل من البيت ويمضيان نحو سوق المدينة القديم . يدفع له راتب رجل .
- ماذا سأفعل بهذه النقود ؟
- اشتر ما تريد . كل ما تريد . حين تنتهي تجدني في هذا المقهى .

يقضيان طيلة النهار في السوق . كل على طريقته . الأب يتجول لقضاء حاجياته أما الابن فيشتري جهاز تسجيل . اسطوانات . كتب . ملابس . أدوات رياضية . كان المبلغ الذي معه أكبر من طموحاته . وقبل أن يغادر يعرج به الأب إلى حلاق آسيوي يجلسه على الكرسي
- بالموسى

يخاطب الحلاق . ويستسلم الابن مذعنا لأوامر الأب . ليس لشعره الناعم أن يكون بديلا موضوعيا للمال الذي يحمله . أما الأب فيقول في سره " لولا مخافة الله لخصيتك . لتكون بغلا حقيقيا ! " .

حين فقد شعره حقق شكله البشاعة التي يريدها الأب . ولكي يجد تفسيرا لتصرفه قال " ان شعرك يتغذى معك . أنت أولى بغذائك " . ولم يعلق الصبي .

عاد مساء للمزرعة . لم يلحظ الأب دمعة صغيرة غارقة في عين الفتى . لكنه علق سريعا وهو يرى اطفالا وشبابا يمرحون على ساحل البحر " ستذهب الاسبوع القادم إلى البحر ستقضي يومك هناك ولكن لا تختلط مع أحد " . سمح له تلك الليلة أن يسهر مع مسجلته واسطواناته حتى وقت متأخر . لم يقاوم الفتى عادته البيولوجية فنام بعد العاشرة بقليل . صباح الجمعة أفاق دون قسوة الأب . كان الأب أفاق في الفجر ليهتم بشؤون المزرعة حين رآه من بعيد صرخ به " امسك هذا الخروف الصغير ! " وجرى اسماعيل خلفه سقط على كراعه من خلف وأسقطه ثم حمله والأب يضحك . ربما دون قصد .
خرجت أمه من البيت لتموص القدر الكبير بعد أن غسلته بالتراب .

استل الأب سكينه وهو يشير لاسماعيل الذي يضع قدميه على كراعي الخروف الأماميتين
" أنظر ! من هنا ! " مرر السكين بسرعة فانبجس الدم ساخنا في خط أحمر طويل ملوثا التراب الناعم .

يمر يوم الجمعة مرورا طيبا . يأكل اسماعيل بنهم ، ووالده يختار له أطيب اللحم ويضعه أمامه . يؤكد له " أطيب اللحم ما لصق بالعظم " .

في المساء عاد كل شيء إلى طبيعته . دخل والده غرفته غير المضاءة وقد تجاوزت الساعة العاشرة بقليل . كان لا زال يقرأ في كتاب اشتراه دون أن يلاحظه والده . صرخ به الأب " ماذا تقرأ؟ " تلعثم الفتى " قصة . مغامرات ." تناول الأب الكتاب منه مزقه بسرعه غاضبة ركله بقدميه خارج الغرفة " عليك أن تنام لتصحو فجرا " اطفأ النور وخرج . أغرق اسماعيل وسادته بدموعه وعرقه ونام .

في الصباح كان كل شيء يشبه كل ما سيأتي فيما بعد . يجري فجرا حتى مطلع الشمس يتناول افطاره ويكمل الركض وقفز موانع التبن حتى الظهر . ينام قليلا ليكمل عمل المزرعة ونقل الأكياس وتحميل سيارة نقل الخضار وتفريغ سيارة الأسمدة ليضع رأسه على الوسادة منهكا ينتظر يوما جديدا يشبه الأيام التالية واجازة اليومين وخروف الأسبوع . كان مكسبه الوحيد في رحلة هذا العذاب اليومي مبلغا من المال كل أسبوع وجولة في المدينة وجسدا يتصلب ويبنى بدقة واضحة .

المفاجأة التي اطمأن لها الأب جاءت عكس توقعاته . فهو يعتقد أن يمل الفتى من مشقة التدريبات وقسوة العقاب . أما أن يشتري الفتى أثقالا وكرات حديدية من مصروفه فذلك ما لم يتوقعه الأب . " لقد أحببت حياتي معك " يقول له .

في السادسة عشرة يستطيع أن يركض ثمانية أميال متواصلة ويحمل ثلاثة أضعاف وزنه . وأثناء عودتهم من سوق المدينة رأى حقيبة سوداء مع والده
- ماذا في الحقيبة يا أبي ؟

- ستعرف ذلك لاحقا .

فجر سبت أيقظه ، وهو يمسك الحقيبة بيده . توجهوا في طرف بعيد من المزرعة الشاسعة أخرج والده من الحقيبة فراشا مربعا اسود اللون بسطه على الأرض وسلاحا ناريا من كيس جلدي وطلقات في صندوق ورقي مد له المخزن الاسود " عبئ " .

يتأمل الفتى المخزن " كيف يا أبي ! " " هكذا يا حمار" ويصفعه . يضغط الفتى رصاصات نحاسية طويلة في المخزن . ثلاثون طلقة . تتبادل المواقع في كل مرة حتى امتلأ المخزن نصب الأب أمامه هدفا : صفيحة من التنك عليها صدرة امرأة تحمل صفيحة من التنك " حاول أن تصيب الصفيحة التي تحملها المرأة " يجلس اسماعيل باسطا ساقه اليمنى على الأرض وثانيا ركبته اليسرى متكئا عليها بكوعه الأيسر يمد البندقية دون أن تهتز يده " خذ نفسا عميقا واكتمه وأنت تطلق " ضع المؤشر فوق رأس المرأة قليلا " يغمض عينا ويمرر شعاع الأخرى عبر ثقب المؤشر . يطلق النار فتهتز يده والبندقية طلقة . ثانية... عاشرة . يصرخ به الأب " توقف ! " يضع البندقية على البساط . يمسك به بقوة من أذنه ويسير به نحو الهدف " انظر يا أبله هل أصبتها ؟ " لم تكن رصاصة واحدة قد أصابت الصفيحة كلها لكن الحائط الخلفي للمزرعة ممزقا بالطلقات ، هل تريد الحائط هدفا " . ويعيد الكرة مرات ومرات حتى ينتصف النهار .

" ستكون أفضل . ما تفعله هو الحماقة بعينها " .

في العصر يركض الأميال الثمانية ويتابع في الصباح تمريناته على السلاح . بدا يعتاد على السلاح ويتعامل معه كقطعة أثقال . لكنه احتاج أشهر لينال من الصفيحة التي تحملها المرأة على رأسها . وفي مرات لا حقة راح والده يلصق صورا على الصفيحة . أريد الرأس وهو يجيد ذلك بحرفة عالية .

لاحظ الفتى أن والده يشيخ بسرعة . " أنت تبدو عجوزا يا أبي ! "

" إنني أحمل يحيى على ظهري . يكبر فوق كتفي يبني بيته يتزوج وينجب أولاد احملهم على ظهري " يتكئ الأب على الأرض حتى ينهض . ولم يهن حين يتعلق الأمر باسماعيل . ترك لحيته تنسدل كشعر من رماد حتى غطت صدره ونسي حقيبته تجمله . تحسبه من بعيد أحد أولئك المؤمنين جدا وحين تقترب منه ترى في عينيه سماء يغمرها الحقد .

في سنته السابعة عشرة توقف الأب عن عقابه . لم يحلق رأسه وترك له حرية النوم كيفما يشاء ومتى يشاء . وأخذت التدريبات الجسدية تأتي طواعية بحكم التعود واكتفى الأب بتدريبه على السلاح .

كان الأب يربط قطا بائسا إلى جانب العمود. قال له " في الرأس " ! سمع اسماعيل حشرجة القط وسقوط الرأس متدليا على الجسد وقد انتثر دمه وسائلا من مخه على أعلى العمود . توقف اسماعيل قليلا ثم أفرغ ما في جوفه . فيم انصرف الأب دون أن يعاقبه أو يكافئه .

تكررت الحيوانات التي تستحق أن تكون أهدافا لمسدسه أو بندقيته . إحدى دجاجات والدته . كلب ضال . وتعود الابن على الأرواح التي تزهق . وفي الجولات الأخيرة من وجباته التدريبية كانت الأهداف حيوانات مسرعة أو طائرة . " كن ساكنا تماما لتصيب متحركا "

تحول ليل الفتى إلى جحيم يفوق خياله الصغير فلم تعد هناك ثغرة في أحلامه تساعده على رؤية نور فضي يحيط بتلك الظلمة الخانقة . لم ينم ليلة دون أن يتحول حيوان قتله إلى كتلة من نار تهاجمه وتنقض على عينيه فيصحو صارخا دون يسمعه أحد . ولم يكن يحدث والده عن ذلك. فهو حتما سيفسره على أنه جبن يجتاحه من طراوة ما في روحه .

الذي حققه الأب في عزله للابن عن العالم من حوله هو فقدان لغته . مرت سنوات عمره الأخير دون أن يتحدث لأحد وحواراته المقتضبة مع والده كانت تفقده القدرة على الحديث أكثر مما تكسبه مهارات حوارية . والصور الوحيدة في محيطه هي صور يحيى التي تملأ كل زاوية في البيت الصغير فتذكره دائما بيحيى الذي لم يمت في خياله .

أما والدته فكانت في أوقات فراغها تتذكر يحيى وتبكيه وإذا نسته تذكرت أجزاءها التي اقتلعها " الجزارون " والعكس صحيح . وإذا حدثها وذلك لم يحدث إلا نادرا لا يجرؤ أن يقول لوالده " قالت والدتي " . فبعد تلك الحادثة السخيفة التي كادت تدفع حياتها المتكئة على عود طري لم يجرؤ إسماعيل فعل ذلك .

قالت له " قل لوالدك أن يثأر هو لولده " وهي تحاول الحفاظ على ولدها بعد التأكد من ضياع زوجها في متاهته . وببراءة نقل ذلك لوالده . ثار وهو يلقي كل شيء من يديه ولم يستطع الابن أو العامل تخليصها منه حتى سقطت مغشيا عليها . وتوقف فعلا عن تدريب الفتى أياما ربما فكر فعلا بالثأر لولده . ولم يحدث ولده حول ذلك الموضوع إلا ليلة سفره لمهمته .

لم يكمل الفتى الثامنة عشرة بعد . " ستعامل كحدث إذا ألقى القبض عليك ، وإذا نجحت بالعودة إلى هنا فلن يستطيع جني يخصص لمطاردتك بالقبض عليك " . قال وهو يجهز الحقيبة السوداء . أخرج مسدسا فضيا لم يستخدمه إسماعيل من قبل ملفوفا بخرقة قماش قطنية بيضاء اللون . " إنه آلي وقاتل ! لن يحتاج جهدا منك . صوب جيدا فقط " . لاحظ الفتى بقع بنية اللون على نسيج الخرقة . ودموع حارقة على وجنتي أبيه الذي شم الخرقة " لم تتغير رائحته . . إن الرائحة لا تموت ! " أدرك أنها تخص يحيى . لف المسدس ثانية بعد أن تأكد من رصاصاته التسع . " سيذكّرك الدم بالدم . . هذا دمك ! " .

وضع في الحقيبة أشياء خاصة به . ملابس داخلية . قميص نظيف . جوارب . وما يحتاج إليه في رحلته القاتلة . " حين أصحو في الفجر تكون قد ذهبت . يجب ألا تتأخر سأجهز كل شيء. ثلاثة أيام فقط . اسمع . أريده حيا . الأبناء فقط . وليس الفتاة " احرص أن يكونوا معا . وإذا لم تقتل سوى واحد أو أثنين في المرة الواحدة فلا تنتظر الآخر . تعود بسرعة إلى هنا . . حين تنتهي مهمتك سأراه وابتسم طويلا في وجهه . سأبتسم حتى يموت . . ."

في مساء تلك الليلة جلس الشاب على عليّة أمام بيت المزرعة . فكر باللحوم التي اخترقها رصاصه والأدمغة الحيوانية التي تناثرت " كيف سيكون اختراق اللحم الآدمي ؟ " كل ما يتطلبه الأمر أن يضغط على الزناد نحو اللحوم الطرية . عليها أن تتساقط على الأرض المرسومة لها . رصاصة واحدة عن قرب كافية للفتك بهذه الأجساد الصغيرة . لم يتخيل نفسه في لحظة ما أن يكون قاتل قطط ودجاج وليتخيل نفسه قاتل آدمي . ذلك ما يجب وعليه ألا يفشل فيه . حاول طرد أي فكرة مناقضة . وليحقق من ذلك عودة العائلة إلى مركزها من مدارات الوهم . أن تعود إلى جذورها بعدما أقتلعها إعصار سمعتها السيئة إلى منفى طويل ومرير .

ناولته والدته عشاءه وانصرفت دون أن يستمع لوجيب صدرها . كانت الحقيبة إلى جواره وهو يتناول العشاء . أكل بنهم وفكر في طلب عشاء آخر لكنه نام متوسدا حقيبته . في تلك الليلة خرجت امرأة ناعمة من وضعه المائل . امرأة لجسدها رائحة أغرقته بلذتها وتركته في منام لذيذ ورطوبة في لباسه الداخلي . في الفجر أسقط جسده في بركة الماء ونهض كديك حبش مبلل . ارتدى ملابسه . حمل حقيبته . احتضن أمه طويلا . وضعت له الإفطار في حقيبته " اذهب قبل أن يصحو ! " في ذلك اليوم الوحيد نام الأب حتى مطلع الشمس . نظر إسماعيل إلى وجه أبيه ، وجه نحيف جاف وعينيه مغمضتين ، تجاعيد قاسية ولم يلحظ في تعابيره شيئا محددا يمكن وصفه .

رحل الفتى مصحوبا برائحة لم تنل منها طحالب مياه البركة الراكدة . واخضرارها الآسن . رائحة جسد يميزها ولا يضع إصبعه عليها . رائحة لم يستطع تسمية لونها الذي يراه جيدا ولا تحديد طعمها اللاذع في خلايا جسده . 

الفصل الخامس

في الصباح . داهمته رائحة الأثل . استيقظ من غفوة طويلة . رأى مجموعة من الأطباء يقفون حول سريره . يهتمون كثيرا بأحدهم . أشيب الرأس . يضع نظارتين سميكتين وبدا أنفه جزءا منهما . يتكلمون لغة لا يعرفها . والرجل الكبير يهز رأسه . قال له الدكتور الزائر " كيف صحتك الآن ؟ " ورد باقتضاب " بخير ! أظن " . ابتسم الدكتور ومسح غرته عن عينيه تأمل سوادهما . " أنت شاب جميل " .

بعد قليل داهمته الرائحة . تنفسها بعمق . أدار رقبته بصعوبة متتبعا رائحته التي توقفت في مساحة حول سريره لم يشغلها أحد . تذكر أنه حتى الآن لم يجد للونها اسما . ركز نظره نحوها فارتبكت وهي تحدث الدكتور الزائر عن حالته . لاحظ زملاؤها تعلق عيني المريض بها وعلقوا على ذلك بصمتهم . " يبدو أنك دكتورة محبوبة يا " قال الزائر وأكملت هي بأنفة غير مبررة
" ضحى " وزمت شفتيها وهي تتابع عيني مريضها وصمت زملائها . الذين تبادلوا نظرات سريعة تعليقا على تصريح المستشار الزائر . لكن خبرة لدى رجل يعرف الحياة والموت أكدت له خطأ في تصريحه . خطأ لا يمكن التراجع عنه الآن . وما يمكن هو ادراجه ضمن المجاملات التي يلقيها الأكبر للأصغر .

كتب الدكتور الزائر شيئا على الملف المعلق في طرف سريره ، وقال أمرا عاما لم يوجهه لأحد بعينه " أوقفوا المسكنات عنه " ! ومضى إلى غرف أخرى . لكنها بقيت وحيدة معه ، اقتربت منه ولمست شعره الدبق بيديها . ضغطت على الجرس ودخلت إحدى الممرضات مسرعة
- نعم دكتورة ضحى
- اغسلي شعره وامسحي ما تستطيعين من جسمه .

وخرجت بحدة توازي كلماتها السريعة . فيما استسلم هو لرائحة الشامبو الطبي البعيد . . أحس براحة وخجل من الدبق الذي يعلو رأسه ، يتخيل أن طحالب البركة لازالت عالقة في ثنايا شعره الكثيف . نشفت الممرضة شعره ، ومسحت الأجزاء المتاحة من جسمه بسوائل لها رائحة نافذة . ثم خرجت لتخبر الدكتورة التي تتجه إلى مكتبها عن انتهاء عملها . عادت الدكتورة إلى غرفته وحين أغلقت الباب وراءها ابتسمت .
- عليك أن تملأ البيانات . اسمك . عمرك .
- أنت . رائحتك . أعرفها لم تفارقني تلك الرائحة .

أحست بارتباك . يمتلك الشاب جرأة متوحشة لم تعتدها فيمن حولها . جرأة تجاوزت " أنا معجب بك " أن تحدث امرأة عن ارتباطك برائحتها كحديثك عن تفاصيل جسدها . لكنها لم تنهره. ليس لأنها تعلم أنه لا يقصد ذلك البعد . بل لأنها لم ترد نهره .
- لم تقل اسمك .
- أنت لم تصدقى ....
- أنت لم تقله . .

وجلست على حافة السرير ورقة البيانات بيد والقلم بأخرى .
- اسمي . إسماعيل . هل تذكرت الآن .
- لم أسمعك تقول اسمك من قبل . أنت لم تحدث أحدا هنا عنه . أليس كذلك ؟
- لم أقصد اسمي . لقد كنت هناك . تلك الليلة . كنت دافئة . .
- أرجوك . أظنك تجاوزت قليلا . . أكمل اسمك
- إسماعيل محمد الجنوبي .

قال اسمه كاملا وكمن يأتي عملا خارقا في مطاردة ذاكرته . استدرك أن لزاما عليه فيما مضى ترديد اسمه على مسامعه للحظه كهذه . أن أحدا لم يناده بهذا الاسم الكامل من قبل . بل حتى عامل الفندق لم يطلب منه اسمه . تركه يكتبه على الورقة فكتبه دون أن يتذكره . وحين رددت اسمه وراءه . تابع رنة صوتها " اسم جميل ! "
- لم أكن اعرف عنه شيئا . كان دائما يناديني ( يحيى )
- من هو ؟
- أبي . .
- نعم . أبوك . يناديك يحيى واسمك إسماعيل .
- وأنتِ ما اسمكِ . آه ضحى لو لم تكوني ضحى لأسميتك اسما آخر . .
- وماذا كنت أسميتني . .
- كان يحيى يحب ( سلوى ) . ربما يحب اسمها أيضا .

اقتربت منه أكثر . وبدت من بعيد كأنها تجلس في حضنه .
- اسمع . أريد اسمك . يحيى أم إسماعيل ؟
- لم تصدقي إنني اعرف رائحتك ولم تصدقي أنني إسماعيل .
- سأصدقك . لأنني أعرف عينيك!
وشعرت أنها تدنو منه أكثر كمن تتيح له تقبيل رائحتها .
- والآن ما اسمك ؟ لا تتعبني !
- قلت إسماعيل . يحيى هو أخي . والدي محمد وأمي حوريه . عمري ثمانية عشرة سنة .

وهزت شعر رأسه بيديها .
- خشيت أن تكون مصابا بلوثة عقلية .

حين سألته عن عنوانه ذكر عنوانه القديم . وقبل أن تخرج قال لها ببراءة .
- ضحى . متى سأخرج !

خبأ ما تبقى من رائحتها التي لم يحدد اسم لونها وغفا . في إغفاءته هذه كان الصخب أقل هديرا في أوردة رأسه وأخف وطأة على صمامات قلبه . اختلطت في منامه حقيبته السوداء والتي تركها معرضة للتفتيش من قبل أي كان . مهمته التي جاء من أجلها ، والده الذي ينتظره . وقد مر يومان دون أن يحقق له بسمته القاتلة والتي اعتقد أنها تساوي لديه دم يحيى القتيل البريء .

لم يتخيل أنه نام يوما كاملا . استيقظ في فجر اليوم التالي . لم تلسع الشمس العصفورين بعد، انتابه ألم خفيف في مفصل قدمه اليمنى . ألم يتنامل حول ساقها وكأنها بترت . . لكنه لمحها ممدودة إلى جواره مغلفة بالشاش الأبيض والجبس . ورأى أصابعه دون أن يحركها تطل من كوة في نهاية الجبس كفك قرش . ثم أغمض عينيه حين تأكد أن الساعة السادسة وصوت العصفورين قريبا من نافذته . أغمض عينيه على أيامه بلا نوم . لكن الصور التي تنتابه في يقظته كصور أحلام منامه ورائحة لا يسمى لونها لا تفارقه .

هزت الممرضة ذات الوجه الذكوري يده بقوة ناعمة . فتح عينيه
- أنت قوي جدا .
- في أي وقت نحن الآن ؟
- انه المساء .
- ظننتهما عصفورا الصباح .

ونظرت للعصفورين من النافذة .

- انهما عصفورا المساء . هل تشعر بألم في رأسك ؟
- لا رأسي كحصاة . ألمي في أطراف أقدامي .

رفعت كم القميص الأخضر العريض . ومشطت بيدها اليمنى عضلاته المفتولة . ربطت شريط قياس الضغط الأسود حول ذراعه . حاول أن يتكلم فدست مؤشر الحرارة تحت لسانه فضم شفتيه حول الأنبوب كي لا يسقط . بقيت ممسكة بذراعه وهي تقرأ الساعة . . تناولت مؤشر الحرارة . سجلت القراءتين ثم أعادت قميصه الأخضر ليستر عري ذراعه .
- لم أر أحدا يزورك هنا . أنت بحاجة لملابس داخلية .
- لا أحد يعلم أنني هنا .
- أستطيع أن اتصل بأهلك إذا أحببت .
- ربما هم لا يحبون .

وغادرت دون أن تكمل الحديث معه . دخلت ممرضة أخرى تحمل صينية الأكل . وضعتها وانصرفت . كان الأكل ماسخا ومسلوقا . اكتفى بالحليب . حاول أن يعود لإغفاءته سمع جلبة رجال أمام الباب أحدهم يصر على الدخول والآخر يمنعه . واتفقوا أخيرا أن يدخل شريطة ألا يتحدث . اندفع من الباب ثلاثة رجال بملابس مدنية ورجل شرطة وقف إلى الباب .
- لن نزعجك يا ولدي . بعض الأسئلة فقط .

ذهل ولم يرد . لم يعرف كيف استدلوا عليه بهذه السرعة . وأخذ يتذكر إن كان قد أنهى مهمته أم لا . لكن الحديث جاء حول موضوع آخر .
- أنت تعلم يا بني إن الذي صدمك في الحجز . والأمر يعود لك .

لكن الرجل الذي كلمه أول مرة أمر الشرطي بإخراج هذا المتحدث الذي تعهد مرة أخرى بأن لا يتحدث بكلمة معه . فاكمل الآخر
- هل كانت السيارة مسرعة وهي تصدمك .
- مسرعة . إنني لم أعرف إن كانت سيارة أم لا . إنني لم أرها من سرعتها .
- أين كنت تقف حين صدمك .
- عبرت الشارع للرصيف المقابل لم يمنحني فرصة لوضع قدمي اليسرى على الرصيف .
- وماذا حدث بعد ذلك .
- كما ترى !

وأشار إلى قدمه الممدودة بجانبه وأكمل
- قل لي يا عم هل يعرفني الذي صدمني ؟
- وهل تعرفه أنت ؟
- قلت لك لم أعرف ما الذي صدمني .
- هو أيضا لا يعرفك .
- إذا لم يكن يعرفني لماذا صدمني ؟ ولماذا تضعونه في الحجز ؟
- ماذا تعني ؟
- أنا متنازل عن حقي طالما لا يعرفني .

فرد الذي تعهد ألا يتكلم
- أنت شهم يا بني . شهم بمعنى الكلمة .

تأكد الرجل المدني من تنازله . وقعه على الأوراق وقدم له ظرفا بني اللون
- هذه نقودك التي كانت معك . وورقة مكتوب عليها عنوان .
- شكرا لك .

قبّله الرجل الذي تعهد ألا يتحدث وطلب منه أن يختار تعويضا مناسبا لإصابته . لكنه رفض فخرج الرجل يتنفس بطريقة غير التي دخل بها .

بدأ القماش الذي يحيد بجسده يقل تدريجيا . أصبح باستطاعته أن يدير رقبته ليرى عصفوريه المغردان خلفه ويمد يده ليضع لهما فتات الخبز على عتبة النافذة . استطاع أن يستحم جزئيا ويدلك جسده الصلب بصابونة معطرة ضمن أشياء أخرى لم يقترب منها في كيس أنيق تركته ضحى عند سريره . يرسل في طلب طعام حقيقي بدل نماذج الطعام الذي يقدمونه والتي يردد دائما " بأن المرضى يموتون أو يهزلون من طعام كهذا " . لم يعد بحاجة لمساعدة الممرض الذي يرافقه دائما إلى الحمام . أحس أنه يقضي حاجته براحة تامة دون شعور بمراقبة أحدهم لفضلات معدته وصوت مائه. تصور كيف يمكن أن تكون الحياة لو مارسها اثنان فقط معا . أن يفعلا كل شيء في وقت واحد ، ذلك ما يحدث في قن دجاج والدته أو زريبة والده دونما تذمر يذكر من أحد سكانهما .

أحس أنه أكثر خفة الآن . يستطيع أن يتحرك بمساعدة عكاز خشبي ، ويتحدث بطلاقة . أن تسير على قدميك تسير كل الأشياء من حولك وما يعاني منه في أيام مصابه هو داء التوقف . يعرف أنه لن يستطيع الآن تنفيذ مهمته . لكن أياما أخرى في حياة ضحاياه لن تزعجه أبدا . فكر أن يبلغ والده عما حدث له . والده الذي لم يبحث عنه . ربما اعتقد أن مهمته انتهت وأنه في غرفة صغيرة بانتظار التوقف الأبدي . التوقف الحقيقي .

دخلت ضحى تحمل حقيبتها . على وشك المغادرة . حدثها عن حقيبته في الفندق لكنه فشل في تسميته أو تسمية الشارع الذي يقع فيه . قالت حين تستطيع الخروج ستذهب إليه . ثم سألته دون خبث " ماذا في حقيبتك لتشغلك هكذا ؟ " ولم يرد . لم يود أن يقول لها " مستقبلي كله . هدفي . مهمتي . وابتسامة والدي القاتلة ودم شقيقي في خرقة " . قالت " هل تريد شيئا من الخارج " هز رأسه نافيا . اقتربت منه " رائحتك رائعة الآن " وخرجت .

يوم أربعاء من صيف حار . كانت سيارة ( البنز ) تتجه إلى موعد خاطف لتقل ( عبير ) وتنطلق نحو الجنوب قاطعة المدينة باتجاه حد لبحر . بدت ضحى سعيدة رغم أن هذا المشوار تكرر في مرات سابقة . تحدثت الفتاتان عن أشياء تخصهما وصديقاتهما .
- أنا سعيدة أن أراك تضحكين .
- وسأضحك كما أريد فيما بعد .

انقلب الحال وهي تترجل من السيارة التي تقف أمام الشاليه البحري . هرع رجل يستقبلها . لم ترد التحية عليه . دخلت وهي تشد أنفها نحو الأعلى . ثم هاجمته .
- ما هذا الغباء يا رجل ؟ لم أطلب هذا اللون الكئيب . ألا يوجد أحد هنا يفهم ماذا يصنع ؟ وهذه الإضاءة . لم تكن بهذه الحدة . انظر ماذا فعلتم بخشب الزان . هل أدفع لكم لتزيدوه قبحا ؟ تلعثم الرجل . لم يعرف بماذا يرد . لم ير في عمله عيبا يستحق هذا التوبيخ .

استمرت توزع انتقادها على العاملين بشكل متساو . لم يرضها عمل . وليس بإمكانهم سوى وعدها بإصلاح كل ملاحظة عابرة يتلقفونها . خرجت لتتابع شاحنة الأثاث التي توقفت أمام المدخل العريض . وغلامها الآسيوي يومئ لها دون أن ينتبه له السائق الذي يعتمد على مرآة مستطيلة معلقة إلى الباب . أنزل العمال أثاثا جديدا فيما أخرج آخرون أثاثا مستعملا . قاموا بترتيب كل شيء كما أوحت لهم " هنا ضعوا طاولة الطعام . لا تحدثوا شدخا . انتبهوا للأرضية . هذا خشب سويدي أيها العجوز . وأنت ماذا فعلت ؟ أن قيمة بلاطة سيراميك تعادل أجرك يا غبيّ لا تفتحوا غرفة النوم هنا احملوها إلى أعلى ! . هنا السرير اتركوا مساحة كافية بينها وبين الشباك . والمقعدين هنا . مباشرة نحو البحر . " .

تحول الشاليه البحري لسكن راقي يزخر بأثاث أمريكي وإيطالي وقطع سويدية وعلقت عبير في سرها " لا أرى في هذا البربري ما يستحق كل هذا إلا إذا . . . " وضحكت . فاجأتها " علام تضحكين في سرك يا شقية " . كانت ضحى تدرك إنها تحتفل برجل استثنائي . رجل لم يجد فرصة أخرى وربما لن يجد .

أطلت على العمال الذين ينظفون حوض السباحة . لم تعلق على عملهم كانوا محترفين حقا ! فتماوج الماء النقي المطهر بالكلور مع زرقة أرض البورسلان . حمل عمال الأثاث مقعدين سريرين بحذر دون توصية وضعوهما حول الحوض بينهما طاولة صغيرة من خشب الخيزران .

بعد أيام انتهى العمل في الشاليه البحري . بدا قطعة كالمرجان البحري خرجت تتشمس على الضفاف . تدل إنارته على حفل كبير ينتظر مدعويه . في تلك الأثناء طلبت ضحى من عبير ألا يناما على السرير. قالت سننام في الأسفل . أحضرت زجاجتها وكأسين . أعد الغلام الآسيوي العشاء وتركه ليذهب إلى غرفته في الخلف . شربتا حتى بزوغ الضوء وناما على مقعدين منفصلين دون عشاء .
كان إسماعيل خرج من المستشفى بعد نقاش جدي من جانب مدير المستشفى وافتعالي من جانب ضحى !
- لقد أصبح عذره سمجا ومملا .

قال المدير . لكن ضحى بدت هادئة
- هل تعتقد هناك أب وأم يتركون ابنهم أو يتركهم في وضع كهذا ؟

ونهض من مكتبه ولم تقف
- أظن سرا خطيرا خلفه . ليس له أهل . أصحاب . رفاق سوء أو خير ؟
- أكد لك رئيس الأمن بأنه غير مطلوب قضائيا .
- وهل جميع المطلوبون في قبضة القضاء . .
- اسمح له بالبقاء حتى يتمكن من السير .
- لا يمكن الذين في حالته يعالجون بالوقت . .
- لن أوقع على خروجه
- سأوقع أنا على خروجه
- سآخذه إلى مستشفى خاص . إنه مريضي .
- كما تشائين !

تلك النهاية التي قادها الحديث إلى حيث تريد . أن تأخذه دون أن يكون ذلك مثيرا لشبهة هي في غنى عنها . أخرجته ضحى صبيحة يوم سبت .
- لا عليك . لدي نقود تكفي للبقاء في الفندق . لكنني أشتاق رائحتك دائما .
- ألا تريد ضيافتي

ولم يعلق على ذلك . قال
- حقيبتي في الفندق . أريد حقيبتي .
- حسنا سنحضر حقيبتك .

توقفت السيارة في وسط المدينة . لمح المقهى الذي يجلس فيه ولوحة الفندق التي قرأها وتأكد أنه لم يكن للفندق اسم . لوحة مكتوب عليها ( فندق ) . فندق يسكنه العابرون بمحض الصدفة في طريقه .

كان العامل يحتفظ بالحقيبة الجلدية السوداء تحت طاولة الاستقبال . حين رآه لم يتعرف عليه أول الأمر . ربما لتركيزه على الدكتورة التي عرفها . " أراك على التلفزيون وفي الصحف " . كانت الدكتورة تستغل زبائنها الإعلاميين لاختلاق مواضيع طبية يفصلونها كما يوحي مقاسها العلمي . " نعم أنا " قالت . " أين حقيبتي ؟ " سأله إسماعيل . تعرف الرجل عليه حين نظر جيدا إلى وجهه الذي أخذ لونا أكثر بياضا من ذي قبل . تناولها العامل من تحت قدميه تحت الطاولة وقدمها له " هاهي . فتشها جيدا " . ولم يقبل أجرا لتلك الليلة إكراما للدكتورة وفرحا في التخلص من مريض عقلي .

انطلقت السيارة الألمانية الصغيرة . وقد حجبت عنهما ضوضاء الريح وحركات السيارات الأخرى . وانسابت موسيقى خفيفة . تداعت صور الحياة الجميلة عبر زجاج النافذة . صور الحياة التي لم تكن سوى تفاصيل مهملة بالنسبة للآخرين .

حين تجاوز المزارع الجنوبية تخيل أن حياة يعرفها تجري هناك . وأن الآباء جميعهم يدربون أبناءهم للثأر من شيء ما . فلم يطل النظر إليها .

دخلت السيارة بوابة حديدية مزينة بأشجار اللبلاب . يتبعها الغلام الآسيوي حتى توقفت في مكانها المعتاد تحت المظلة . ترجلت الدكتورة وفتحت الباب المقابل لتساعد إسماعيل مرة أخرى على الوقوف على قدميه . " سأتركك هنا بعض الوقت ، يجب أن أعود للمستشفى . هذا الغلام لخدمتك . اطلب منه ما شئت " وخرجت مسرعة بعد أن أوصت الغلام الذي رافقها ثانية للسيارة بضيفها .

جلس إسماعيل في الصالة الواسعة يفصله عن البحر الممتد إلى نهاية العالم - كما تصور- زجاج شفيف. أحضر له الغلام شرابا من الفاكهة المتنوعة ثم غادر لشأنه . لم ير على البحر الأزرق سوى طيور نورس تحلق من بعيد. بحر جميل لا يستحقه هؤلاء المغمورين في زرائبهم . فتح الحقيبة التي لم يفتشها أمام الدكتورة والعامل . وجد ملابسه التي تركها على السرير هي الأعلى أخرج أشياءه . رأى المسدس لازال في قاعها ملفوفا بالخرقة البيضاء وبجانبه علبة الطلقات " سيمنحك الرب أياما أخرى أيتها الأرواح البائسة " وتذكر أنه قال ذلك من قبل .

تخيل أن فرصا كثيرة لالتقاطها قد ضاعت . تجمعت في مرمى السلاح وتفرقت ، وبّخ نفسه لخروجه تلك الليلة . " هؤلاء الذين يستهترون بمهامهم يفقدونها " . ولكي تنجز مهمة قاسية كهذه عليك أن تحافظ جيدا على نفسك . يجب أن يحذر الحذر نفسه . . أعاد المسدس إلى الحقيبة . قرر أن يبحث لها عن مكان يمكن أن يخبئها فيه . كل شيء هنا مكشوف . فترك ذلك لوقت يفكر فيه .

مر الوقت طويلا ، توقع لها أن تعود اليوم . سأل الغلام عن تفاصيل المكان وقدم له خدماته كمؤجر جديد . ثم طلب منه أن يساعده ليرتقي السلم إلى الطابق العلوي كي ينام فرافقه الغلام حتى غرفة النوم . سرير عريض وجديد بأغطية رائعة الألوان . تعلو السرير النحاسي كلة بيضاء. لاحظ أن الدور العلوي بأكمله غرفة نوم حتى بدا السرير ملقى هكذا . وحين تمدد فوقه تخيل انه ينام فوق البحر الذي جاء صوته هادئا وهو يقبل الصخور المرصوفة على الشاطئ ويعود من حيث جاء .

اليوم هو الأحد . استيقظ مفزوعا من نوم بائس . كان سريره الوثير في جو لطيف الهواء يبدو كأرجوحة في الجحيم . رأى وجه أمه مرات عديدة حتى في تلك الأثناء التي يستيقظ فيها ويرى زرقة الفجر على سطح البحر . وجه الأم وهي تصرخ به " اكفني خناجر هؤلاء الجزارين". وجه يحيى يخرج من الحقيبة ملطخا بالدماء من ثلاث مواقع لا تفارقه . تتقيأ الدم إلى أعلى . ينفض شعره أمام وجهه محاولا إبعاد تلك الشفرات والمباضع والأنصال اللامعة عن طرف عينه ثم يغط في محاولة للنوم . فتضرم نار بين جفنيه تتراكض فيها الأجساد الطرية والتي يمهلها عكازه الخشبي فرصة أخرى من الهواء والحياة . كان صراخه يوقظه من سباته وهو يقسم لأحدهم بأنه لم ينس . قال بصوت جنائزي " فهمت يا أبي ساكنا تماما كأفعى إذا تحركت الأهداف. كاتم النفس حتى فقدانه لأصيبها بدقة متناهية . فهمت يا أبي سأكون ساكنا كموت وإذا سكنوا سأتحرك . فهمت يا أبي " .

ذلك هو الدرس الذي بقى معه في الحلم . يعيده عليه الأب وهو يضرم أكياس التبن في انطباق جفنيه . ورغم النعاس الذي يباغته جلس فوق السرير غارقا في الزرقة منتظرا إشراقة الشمس الحارقة لتطارد هؤلاء العابثين بنومه .

خمن الغلام الآسيوي وهو يستمع لصراخ الضيف أن أقرانا لا حصر لهم يسكنون الروح التي تنام في الأعلى معتمدا على إرث طويل من صراع الأرواح تعيشه شبه الجزيرة التي ينتمي إليها . لذلك انكب على عمله في سقي أحواض النباتات الصيفية والأشجار المحيطة بالشاليه دون أن يجرؤ على الاقتراب منه لتهدئته أو مساعدته بكوب من الماء " إن رجلا يجيد التعامل بثقة مطلقة مع روحه له القدرة على الاقتراب من أرواح تسكن جسدا . " قال في نفسه . أشفق على الطبيبة البريئة والتي يشك بأن علمها الملقن من كتب ملاحدة أوروبا له القدرة على سبر غور تلك الأرواح كما هى قدرته على التعامل مع جسد تحت تأثير المخدر . عاد إلى غرفته مقررا أن يرحل إذا تكررت هذه الأصوات المتعددة كما يوحي الصراخ في جسد الفتى ولكنه لم يفعل بالطبع مقنعا نفسه أن الأرواح التي تسكن الجسد تخصه هو وهي مسالمة على أية حال .

في الصباح . أعد الغلام الإفطار وحمله إلى الطابق العلوي . كان الفتى لازال جالسا متربعا كمن يمارس اليوغا . لم يشأ أن يحدثه وضع الإفطار على الطاولة أمامه . لاحظ أن الفتى لا ينظر إليه وهو يمد رجل الجبس التي تحمل تواقيع بأقلام وألوان عدة ويثني الأخرى لتلتصق بفخذه المقابل . يضع يديه حول أذنيه كمن يستلهم ريحا تحمل ركابا من الخط البعيد حيث يلتقي البحر السماء . انصرف الغلام وهو يردد في سره " كل ما يحتاجه هو الإيمان بك يا كريشنا " .

نفذت رائحة التوابل إلى أنف الفتى وانتبه أن أحدهم قد تركها هنا . فكر في شروده قبل دقائق . دقائق دخل طيف يحمل مائدة ويضعها أمام طيفه . ولم يدرك أن ذلك وصفا فرنسيا للجحيم .

حاول أن يأكل . لم يجد تأويلا مناسبا لخضم الأرواح التي هاجمته ليلة البارحة سوى تفسير لا يبدو منطقيا . ضلّ مبضع أحد الجراحين في جسد والدته ولم يمنحها الفرصة لتصرخ " ليس هنا أيها الجزار " . لكن ذلك ليس منطقيا فوالدته لم تدخل المستشفى منذ رحيلهم لبيت المزرعة . وكانت تبدو بصحة جيدة وهي تتنفس الهواء بعد مروره على حقل البرسيم . أحس بعجز كامل . لا يمكنه الذهاب إليها . وربما لا يعرف الطريق من هنا . حمل عكازه الخشبي وهبط السلم باتجاه الدور الأرضي دون مساعدة . أصاخ بسمعه للهدوء المبجل في أركان المكان بدا البحر أكثر إشراقا والشمس تنثر على جبهته الزرقاء دنانير الفضة والموج ينحسر عن الصخور المرصوفة . فضل أن يسير قليلا حول حوض السباحة معجبا بهذا الهدوء الطاغي . أخذ يمرن يديه وهو يجلس على الكرسي السريري . وحين اشتدت حرارة الشمس عاد إلى الشاليه كانت رائحتها تحيط بالمكان فتوقع حضورها اليوم لكنها لم تأت .

بدد وقت الظهيرة في الغداء . سمع بعض الموسيقى وشاهد فيلما قديما عن قصة حب تافهة . لكنه تفاعل معها . وخطف بصره سيارة جيب سوداء توقفت أمام الشاليه لمح ساقين ناعمتين تهبطان من السيارة . وحين رآها تصرخ بالغلام بلطف لينزل الأشياء التي تحملها تذكر أنه رآها من قبل لكنه لم يحدد أين . عرفته بنفسها وطلبت منه أن يترك لها جسده . كان يرتدي بيجامة طويلة عريضة بنصف كم . حين اقتربت منه ملاصقة لجسده تأكد أنه لم يرها لقد عرفها من رائحتها . لقد استنشق تلك الرائحة يوما ما . أخذت قياسات جسده وحين شدت شريط قياسها على خصره سمعها تخرج زفرة بررتها أن نساء كثيرات يتمنين خصره ، كانت تعني قياس خصره ، وفسر الأمر كذلك لكنها أردفت أن رجالا يتمنون أن يكون لهم جسدا كهذا .

تحدثت قليلا معه دون أن تؤكد له موعد حضور ضحى وشربت " عصيرها " الذي قدمه الغلام بإناء غامق اللون ولم تثق بمعلوماته بأنه اشتم عطرها في المستشفى . سألته كيف تعرف المرأة من عطرها قال " لأنني لم استنشق عطر امرأة من قبل . غير أمي طبعا " . وحين أكملت " وأختك قريبتك ، جارتك " . تذكر أنه نسي سؤال والده يوما ما لماذا لم ينجب له أختا . لم يرد . فلم تثق كثيرا بما قاله . 

مرت الأيام القاسية من السبت حتى عصر الأربعاء . أحس بوحدة قاتلة لم تبددها أشرطة الموسيقى المتوفرة أو برامج التلفزيون السخيفة ولا زجاجات العصير التي يقدمها الغلام قبل الشاي وبعده كطقس هندوسي . وأحس بأمعائه تتمزق تحت وطأة التوابل الحارة التي أحبها ولكنه لازال يشتاق رائحته . رائحته التي لم يسم لونها ولم ينس طعمها وكما كان يردد في مزرعة والده هذه ليست الحياة ردد هنا الجملة ذاتها بنبرة أخف وطأة .

بعد ظهيرة الأربعاء وقد أفاق من نوم القيلولة رأى سيارات تتوافد تحت الشباك العريض المطل على البحر . تعرف على سيارة ضحى وجيب عبير أما السيارات الأخرى فلم يتعرف عليها . رأى مجموعة من الفتيات يتجمعن حول رائحته الملونة وهي تسير بثقة وكأنها تخشى فلق الصخور الجرانيتيه المرصوفة في طريقها . كن يتضاحكن بأصوات عالية ويتحدثن بأصوات خفيفة . هرع الغلام دون أمر متوجها إلى السيارات وانزل الحقائب إلى الشاليه . توقع أن ذلك يتكرر كل أسبوع . رفعت ضحى رأسها للأعلى وحين رأته يطل على المشهد وكأنه ينظر إلى بيت الجيران أشارت ملوحة بيدها وانتبهت له الفتيات فلوحن معها . ضربتهن على أيديهن " إنه لي " وعلقت أخرى " إنه مغر " فقالت عبير " أنت فاجرة فيما لا يخصك " وتضاحكن فانتابه شعور حيوان في قفص حان موعد زيارته فأدار وجهه عن البحر .

دخلت الفتيات الدور الأسفل بينما صعدت ضحى اليه. كانت تحمل حقيبة سوداء في يدها وضعتها على المنضدة التي بجوار الباب أكملت طريقها نحوه . أشارت له بيدها أن يجلس اقتربت منه وقبلته على خديه " كيف فارسي اليوم ؟ " لم يجب . بدا مأخوذا بقبلتها " أنت تتحسن بشكل خارق " وهي تنظر إلى ساقه " هل أكلت جيدا ؟ " هز رأسه بالإيجاب . " حرك أصابعك " . " في الأسبوع القادم ستكون أفضل وربما شاركتنا السباحة أما الآن فعليك أن تراقبنا فقط . أقصد تراقبني فقط " . ضحكت وهي تمرر أصابعها بين خصلات شعره .

نزلت ثانية لتجد الفتيات قد استبدلن ملابسهن بملابس البحر . كانت أجسادهن بلون الشمع الأبيض . تراكضن نحو حوض السباحة وتساقطن تباعا وهو ينظر من الأعلى مصابا بدوار تفاصيل الأجساد واستدارات التضاريس النسوية . لم يتوقع أن يعيش ليرى منظرا حيا كهذا أمامه وأحس أن يدخل أحداث فيلم أجنبي . تغيرت الحياة في المكان وتخيل أن هذا الضجيج هو الحياة التي يفتقدها .

أخذ يعتاد المنظر بعد وقت من النظر لانثناءات اللحم الشمعي وتفاصيل طرية كانت تثيره كمن تسري فوق خط ظهره ، انشغل كثيرا بالاستدارات المغرية للحم واللباس الضيق الذي أضاف لها إغراء حقيقيا بعيدا عن فجاجة قبحها العاري . اعتاد المنظر وتوقف التوتر الغامض أسفل بطنه .

تحول الحوض الأزرق إلى كائن مشبع بالحياة . كن يرقصن بحركات استعراضية ويضحكن في محاولات لتكثيف وجودهن الصارخ في دائرة من الكون لا تتعدى الأمتار التي يشكلها الحوض هي الكون كله .

أدرن موسيقى راقصة وبدأن يحتفلن بالأجساد و الخطوات المرسومة جيدا لكل اهتزازة مصحوبة بالنية المبطنة لاثارة غريزة ذكورة الماء . وله أن يعرف الآن قدرة الماء الطاغية على الأجساد الملونة وأن يفكر خارج ما نظمته له الأيام السابقة من حياته .

كانت البركة التي تلتقي ماءها من بئر عميقة لا قرار يدركه لها ، تصب عبر مضخة الصوت الهادر الوحيد بعد أوامر والده . يعلو سطحها عفن أخضر من كائنات لا تسكن سطحها بل تنعكس من قاعها إليه . ومن حوافها لخرسانية الأربعة . كان يغطس فيها مرتين في الأيام العادية . بعد عودته من مشوار الجري قبل شروق الشمس أو مع شروقها وبعد انتهاء التدريب قبل رنين الظهيرة في أذنيه . وفي الأيام المستثناة كان يغرقه مرات عديدة . يطلب منه أن يبقى تحت الماء بعد أن يملأ رئتيه جيدا بالهواء المحتمل . وكلما خرج منتفضا من اختناق . فتح منخاريه وفمه كي يعب الهواء لدمه الغريق . وفي الأمسية الحارة كان يسقط في البركة سقوطا حرا بلا أوامر كحجر أتعبه انخفاض الضغط على رأس جبل .

نفض رأسه ليتخلص من أيامه العالقة في ثنايا جسده . ومتخلصا في الوقت نفسه من المرأى الحياتي التي جسده المشهد أمامه . فكر سريعا بمهمته وهدفه الأسمى في حياته . أن ما يضعف أمامه الآن ليس سوى حلم جميل جاءه في يقظة .

شعرن بالتعب وانسحبن للداخل بعد أن جففن أجسادهن بمناديل ( البشكير ) العريضة . رجعن للشمس وإحداهن تلف منشفتها كحبل غليظ وتحركها بين فخذيها وهي تجري أمامهن ضاحكة بفجور . لم تكن رائحته الملونة معهن . سمعها تصعد نحوه فافتعل عدم الاهتمام بما يجري في الأسفل
- هل أعجبك البحر ؟

كانت ترتدي رداء قطنيا بزهرات حمرات أضاعت لونه الأبيض . مغلقا حول جسدها بحزام قطني مربوط حول خصرها
- جميل من النافذة . لم أدخل البحر يوما .

جلست على الكرسي ، ظهرها للبحر . تركت له ثوان متعمدة ينظر خلالها إلى بياض فخذيها قبل أن تضفي عليهما رداءها .
- ما الذي يعجبك بالأنثى ؟

ولم تتجاوز الإجابة المؤلمة شفتيه . أحس بتهذيب طارئ يتلبسه بحضور الأنثى الجارف فلم يقل
(حياؤها ) قال
- لا أدري . لم أفكر بهذا .

وتلك إجابة حقيقية .
- بماذا تفكر إذن ؟
- بما يخصني . إن حياتي لا تشبه حياتكم .
- سأرى فيما بعد ما الذي يخصك . أما الآن .

ضغطت على زر إلى جانبها . أحدث صخبا في غرفة الغلام الخلفية . فهرع نحوها أطلت عليه من الشباك
- احضر الحقيبة من سيارتي .

استسلم لرائحتها ، لن يعترض لو أخرجت مسدسا من قاع حقيبتها . تناولت ملابس من الحقيبة وبدأت تقشره من ثيابه برقة متناهية وهي ترمقه في صميم عينيه مختارة لحظات تشكلها مرور الأيدي حول الجسد . أحس بأنه لم يعد لديه عرق يكفي ليتصبب .
- أنت خجول إذن يا فارسي ! كنت أعرف ذلك .

وهي تعرف أيضا أنه بربري أعذر .
- ولكنني أحب رائحتك .
- وأنا أعشق عينيك . ولهذا أنت هنا .

بدا أنيقا جدا بالملابس المنتقاة من دور الأزياء العالمية . رغم أنه لم يفكر في الأسماء التي صنعت تلك الملابس والتي سمعها فيما بعد على طاولة الطعام . أرماني . ديور . كارتير . وهم يشيرون إلى قميصه وربطة عنقه التى تكاد تخنقه وجاكيته الناعم .

أمضى إسماعيل ليلة حافلة . قال كل ما يعرفه في الحياة بعيدا عن قصة طويلة هي كل حياته لم يستغرق ما يعرفه خارجها دقائق في جملة التفاصيل التي ألقيت حوله . اكتشف على العشاء أنه لا يجيد طريقة الأكل . اهتزت السكينة في يده الخطأ . ولم تصل الشوكة إلى فمه وهو يمسكها باليسرى . وهربت قطعة اللحم في زاوية الصحن وهو يتابعها بضربات دون أن يلاحظ الحَوَل في يديه . قالت له بهمس .
- انظر . أنت الوحيد الذي تمسك بيدين خاطئتين .

ونهضت عبير إلى جواره ، انتبه أنه أخطأ فى وصف المسافة التى تتسع لها عينيها.
- لا يهم سأعلمك بسرعة كيف تأكل .

وليبدد خجله بالمرح قال
- أعرف كيف آكل لكن رجلي كما ترين !

تحول الشاب ( العملاق ) كما أطلقت عليه إحداهن إلى طفل يتلقى دروسه الأولى في حياة دخلها عبر رائحة وعينين واسعتين . لكنه يتعلم بسرعة . لم يجد لذة فيما يأكل . واكتفى بلذة كيف يأكل .

فيما تبقى من المساء رحلت فتاتين وبقيت عبير . أصر إسماعيل أن ينام في الدور الأسفل تاركا الدور العلوي لصاحبته وفتاتها . طلبت ضحى من الغلام الآسيوي أن ينام مرجئة تنظيم فوضى المكان حتى الغد . وصعدت مع رفيقتها إلى الدور العلوي . بعد أن جهز الغلام فراشا لإسماعيل في صالة الدور الأسفل .

فتحت ضحى المنضد الخشبي واختارت زجاجة شمبانيا بعد أن أغلقت باب الغرفة جيدا . صبت كأسين وجلستا إلى واجهة البحر .

قالت عبير وهي تدير الكأس براحتيها
- هل تعتقدين أنه يقول الحقيقة ؟

تربعت ضحى على الكرسي وقد أدارت نصف وجهها إلى البحر
- لا طبعا ! لو قالها لم تعد حقيقة !
- ماذا تقصدين ؟
- لا يهم الآن . لم أحبه بحثا عن حقيقته بل حقيقتي أنا
- هل تحبينه فعلا ؟
- أعلم أن ذلك يضايقك ولكني اشعر بحبه قويا في داخلي .

أما الحقيقة التي لم تصدقها ضحى فهي الأكاذيب التي اخترعها إسماعيل في جلسة العشاء . أكاذيب أكبر كثيرا من سن الكاذب . قال أنه ولد لأب طيب وأم مريضة ، قتل شقيقه يحيى لأنه أحب سلوى وأن قاتله لازال يعيش حياته كـأن شيئا لم يحدث وهو يطارده ليقتله . حتى أوقفه الحادث الذي تعرض له قبل تنفيذ جريمته . ولكنه سيقتله يوما ما . تلك هي الحقيقة التي تحولت إلى خرافة يقولها فتى بلهجة أكثر صبيانية . وهي حقيقة ليست سوى كذبة في ذهن من يستمع إليها دون أن يلومه أحد .

حين دار الشراب برأسها لم تجد لما تريده خفاء أن يظل ساكنا في رأسها . ولم تكن تعي ما تقوله وإن كان هو الوعي الحقيقي . متيقنة قبل بوحها أن الكأس سيتيح للبوح مسافات شاسعة كي يتحرك
- انه لقيتي الفذة . ضالتي التي بحثت عنها . سأتزوجه لأنني بحاجة لطفل . طفل لا يحتاجه فتى في سنه . سيكون طفلي أنا لوحدي . سأتزوجه وأخسره لضمير غير متدافع نحو الوهم القاتل . ضمير مرتاح جدا . لا يهزني القلق الفاتك أو المسؤولية الخانقة .

وغفت على كرسيها . انزعتها عبير رداءها القطني وتأملت تقلصات جسدها دستها في فراشها ونامت إلى جانبها .

ما يدور في ذهن إسماعيل في الأسفل ليس بأبعد من حوارهما في الأعلى .
- هل تفعل ذلك لأنها تحبني فعلا ؟ لماذا تحبني ؟ إنها تفعل ذلك لأنها طيبة . عندما أتخلص من هذه الساق الثالثة سأقدم لها شكري وارحل . ذلك كل ما أملك لأقدمه لها . ولكنني سأبقى أحبها . سأتذكر رائحتها الملونة في الوقت القصير المتبقي من الحياة .

يعرف أنه لن ينام الليلة . كلما غشاه النوم بجناحين من ريش نعام نفضه عن عينيه يخشى أن تصرخ أرواحهم الليلية فيتعلق منامها في الفضل وجلس ينتظر شمس الصباح ليودعها أرواحه الزائرة متسليا ببعض الكتب المصورة والمجلات التي قرأها من قبل .

في الصباح تكرر كل شيء كما في الأمس عادت الفتاتان ومارستا مع زميلتيهما ذات الطقوس . لكنه لم يكن يتابع ما يحدث . صعد الدور الأعلى وتأكد من رائحتها في زاوية السرير المطلة على البحر دس جسده في الفراش مبحرا بعينيه نحو الأزرق الممتد حتى أغمضهما بفعل الفضة المتلئلة على سطحه .

حين استيقظ كان الوقت بعد العصر والمكان المليء بالحياة وعطر الفتيات ورائحته الملونة تحول إلى صمت طويل تخترقه ضوضاء بعيدة تثيرها قوارب صغيرة وزلاجات الماء .

كان الغلام قد وضع الفطور ورفعه ثم وضع الغداء ورفعه . طلبت منه ضحى أن يتركه نائما حتى يفيق . وغادرت مع رفيقاتها تاركة قبلة ناعمة على جبينه لم يكن لها أن توقظه . لكنه يتحسس موقعها الآن .

أحس بجوع شديد . سخن له الغلام طعام الغداء وكمن لم يأكل منذ أيام هجم على الطعام بطريقته البربرية التي يحبها فليس هناك أعين حادة تتربص حركة اليد إلى الفم حاول الغلام أن يشكره لأنه نام جيدا ليلة الأمس ولم يعرف كيف ! .

صباح يوم اثنين . جاءت عبير لوحدها . أنزلت أكياس الأكل من سيارتها ثم طلبت منه أن يأتي معها
- لماذا ؟
- لا تخف أنا لا أخون صديقتي . هي تريدك !

وركب دون تردد . اتجهت به إلى المستشفى . كانت تقود سيارتها بسرعة . وهو يتمسك جيدا
- تعرف انك الرجل الوحيد الذي يثير غيرتي .
- لماذا أثير غيرتك وعلى من ؟
- ألا تعلم . أنت الوحيد الذي تحبه ضحى اكثر مني .
- لكنها لم تقل لي ذلك .
- إنها لا تقول . هي تفعل !

توقفت أمام المستشفى وحين تقدم العامل بعربته لينقله رفض . " سأمشي " قال . دخل المستشفى ثانية وانتابته الرائحة القاتلة التي كرهها هنا . دخل مكتبها . وأوحت بأحد الممرضين أن يحضر .
- خذه ليفك الجبس .

تحدثت بطريقة متوحشة . لاحظ أنها لم تبتسم حين رأته . ثم انكبت على أوراقها لم ترفع بصرها نحوه . تحررت قدمه من سجنها الأبيض وألقى غلاف الجبس الذي بدا متسخا والتواقيع التي يحملها للممرضات والممرضين باهتة حتى أنهم لم يتعرفوا عليها . وكان يمشي بشكل جيد . في المكتب قالت له .
- خذ هذا المفتاح . ستجد في الخلف غرفة مغلقة . افتحها ومارس الرياضة حتى أراك يوم الأربعاء . تحتاج وقتا لتعود إلى جهدك .

وفي الطريق عبّر عن استيائه لمعاملتها له . قالت عبير
- أبدا إنها تعمل . في العمل أنت شخص آخر .

وقبل التبرير على مضض . أوصلته عبير إلى سكنه وعادت ثانية دون أن تنتظر .

تحولت حياته إلى رتابة على مدى أشهر . يمارس رياضة أخذت شكل العنف منذ الصباح حتى الظهر ويعود لممارستها من العصر حتى وقت متأخر من المساء . كانت الصالة الخلفية تحتوي على أجهزة تغري أي ممارس للرياضة بعدم مغادرتها . في نهاية كل أسبوع تأتي الفتيات إلى المنتجع . يزدن واحدة أو اثنتين يمارسن طقوسهن ويرحلن . لم يتغير شيء سوى أن القبلة التي كانت تلقى على جبينه تحولت إلى قبلة سريعة على شفتيه ، قرر أن يرحل نهاية الأسبوع القادم .
عاد إلى حقيبته فتشها جيدا ، لازال المسدس قابعا في قاعها ، تفحصه جيدا وهو يتخيل ما يجب عليه أن يفعله . قرر أن ينتظرها يحتضنها بقوة . يقول لها شكرا يا رائحتي الملونة شكرا يا نوري . يا حياتي لو كانت لي حياة . يقول لها أمنيته الأخيرة ! ليت لي أن أمنحك حياتي لولا حاجتي لها الآن !

حين جاءت بمرافقة صديقاتها في نهاية الأسبوع . كان يركض شبه عار على ساحل البحر . وقفن طويلا يتأملن تفاصيل جسده التي بدأت تستعيد تضاريسها .
- هل هو من هنا . إن له تأثير الغريب .
- هو من هنا . من أين لا أحد يعلم . حتى هو لا يعلم .
- هل حطم السيارة التي صدمها ؟

وتضاحكن قبل أن تتدخل ضحى لتفض العيون الوقحة في نظراتها . طلبت منه حين اقترب أن ينزل الحوض معهن . فألقى بنفسه في الماء وهو يتابع ملابسهن تتساقط عن أجسادهن أمامه ليلقين بأنفسهن وراءه تباعا . راح يمسح ظهره بحركة غير إرادية وكأن طحالب البركة تلتصق على ظهره .

خرج من دائرة الشغب حين حاولت إحداهن أن تلتصق به . قالت " يبدو بكرا " . " أنت دائما فاجرة " قالت ضحى ثم اتجهت نحوه " خذ منشفتي وجفف جسدك " وتصارخت الفتيات " ابق معنا " وقبل أن يمضي في طريقه سمع القريبة من الحوض تقول ( STUD ) ولم يفهم معناها لاحظ أن أحدا لم يسمعها أو يعلق عليها . الأخريات كن يكلمنه من بعيد " إنها تغير عليك " ! يقصدن ضحى ، الوحيدة التي لم تكن في المشهد هي ( عبير ) كانت تستحم في طرف الحوض وكأنما تؤدي واجبا رياضيا .

مضى ، بعيدا عن مرآهن . ينتظرها لوحدها . ترك الملابس التي قدمتها له ضحى وجمع حاجياته البسيطة ، وضع الحقيبة على طرف السرير وجلس إلى جانبها . فيما تابعن طقوسهن الأسبوعية . كان ينظر بعيدا في البحر . يتخيل الحياة في الطرف المقابل للماء وربما هي الحياة التي يعنيها . عبرت ناقلة بترول ضخمة . وقوارب صغيرة تفلق الماء تجر فتاة على الماء . فيما يتطاير ذهب شعرها . فكر أن يذهب إلى وسط المدينة أولا ربما لذات الفندق وتبدأ الرحلة التي جاء من أجلها وكأنها لم تنقطع بهذا العالم الذي عرفه ولم يتعرف عليه .

استأذنت ضحى من زميلاتها راجية ألا يتبعنها واتجهت إليه .
- ما بك تبدو مهموما يا حبيبي .
- حبيبك !
- هل تشك في هذا ؟ هل تظن إنني اهتم بك شفقة ؟ أنت حبيبي فعلا .
- كنت أريد أن أشكرك وأمضي .

انتبهت للحقيبة على طرف السرير . تغير لونها . أقطبت . لفت ذراعيها حول عنقه وهي تجلس على ركبتيها خلفه لم يلتفت إليها . حدق اكثر فيما يحدث على البحر .
- تمضي وتتركني . ظننتك تحبني
- احبك نعم ! ويجب أن أمضي . لن تفهمي .
- يبدو أن حياتك التي لم أصدقها هي الحقيقة .
- أنا لا أكذب .
- أرجوك هل تنتظر حتى الصباح . الليلة فقط . ابق معي الليلة .

ولم تنتظر موافقته . أخذت حقيبته ودستها في مكان منزو . أما هو فوافق . ليلة واحدة لن تغير في الأمر شيء كما يظن .

انتظرت المساء بشغف حتى ترحل صديقاتها . لاحظت أنه لم يأكل معهن . طلبت من الغلام أن يذهب له بالأكل . واسرت بعبير أن ترحل مع صديقاتها ثم مسحت على وجنتيها وقبلت خدها .

لم يكن ما تنويه ضحى مقرونا برحيله . طلبت منه أن يتمشى معها حول حوض السباحة .

ألقت رأسها على كتفه .
- إذن أنت مغامر حقيقي بحياتك .
- لا أعرف . إنها مهمتي . وهم ينتظرونني هناك . جميعهم ينتظرون . الأحياء الذين يجب أن يموتوا والموتى الذين يريدون الحياة . إنني رسول فقط .
- جميل أن أعشق مغامر بحياته . هل ستؤجل تلك المهمة أشهرا من أجلي .
- وماذا أقول لأبي ؟
- لن تذهب منها قبل أن تنتهي مهمتك هنا .

طوقت خصره جيدا بيدها اليسرى وحاولت أن تصل إلى شعره في يدها اليمنى
- أنت طويل جدا ! وجميل أيضا .
- أبي لا يقول ذلك . إنه يريدني ليبتسم . ويحيى يريدني ليرتاح .
- وأنا أيضا أريدك . والآن اكثر من أي وقت مضى .

قادته حتى الشاليه . صعدت به الدور الأعلى . أخرجت شموعا من درج المنضدة أشعلتها . كانت شموع لها رائحة ( اللافندر). جردته من ملابسه وأسقطته بيد ناعمة على طرف السرير . أخرجت من دولابها فستان نوم شفاف بلون القرمز . بللته بعطر . تابعها تتجرد من ملابسها . وعلى الضوء المتاح من الشموع والزرقة القادمة من البحر رآها أكثر عريا أخرجت زجاجة مضى نصفها . صبت كأسان بلون شراب التفاح الغامق . حركت شعرها بيديها لتثير سكونه بدت شرسة أكثر مفعمة بشبق يراه لأول مرة في عينيها .

قدمت له الكأس . دفعه مرة واحدة في جوفه . حاول أن يرطب فمه الجاف . كان حارقا وهي تضحك . لم يفكر بجسده وهي تلتصق به . أحكم شفتيه فى عنقها . استنشق رائحته الملونة كانت تلعق خيط العرق على ظهره كلما ارتخى وتعيده الى وضعه الطبيعي مرة أخرى . غرق في بستان نشوته لم يفق حتى الصباح ولم ينم .

أحس بوجع في فخذيه وساعديه وكسلا في انتصاب عموده الفقري . شهق على السرير وهي غافية إلى جواره " هذه الحياة إذن " !

الفصل السادس

استيقظ العجوز هرما صباح ذلك اليوم . شمس واحدة تظهرعليه وهو نائم كفيلة بإطالة عمره سنوات متواصلة من لاشيء . ما أصعب أن يعيش المرء في لاشيء . لو رآه في الفجر لأمكنه أن يصرخ به " إنها شياطيني يا بني . كل ما تعلمته هراء . هراء . هراء . لقد سرت بك دربا أقصده ولا تقصده يا بني . إنها شياطيني " . ويعود ليقول " أمهلتني الشمس لأراك رجلا ترحل في أثر شرفك السليب " . يتحاشى في النهار الطويل هجوم عيون المريضة . ويرقب انطفاء بريق عينيها . " ليس لها أن تعيش حين تسترد كرامتها . . إنها معلقة في خيط نحو بئر الآخرة " . يمضي النهار بين مواشيه أو في حقل برسيمه . يفتعل عملا لا يليق بشيخوخته . يفز أحيانا كثيرة من انحناءته على صدى طلقات لا يرتد إلى أذنه " غسل عاري " يصرخ وهو يرفع رأسه بشموخ مفتعل . يضرب وسط الأخضر الممتد بعصاه يمنة ويسرة وكأنه متجه إلى منصة شرف . تصفّق أرواح يعرفها للرجل الذي صنعه منقذا لشرف العائلة المنكوبة . يقف في وسط الجموع التي أحاطت به . يدلي بتصريحه الذي يهاجم فيه كل من لا يفقه سبب نكبته " لو أنهم قتلوه كما يليق بقاتل محترف وخبيث لكفونا شر تمزقنا . ثلاث سنوات في الحياة ثلاث سنوات يطعمونه ويحرصون على حياته . ثلاث سنوات فقط وضياع شرف ثلاث سنوات ويتفضلون على دمنا بإضافة سنة أخرى . سجن مقابل دم . سجن ثلاث سنوات هي عقاب حمار داس في سطل لبن . أما قاتل ابني البكر وأول فرحي فليس له سوى الدم . يريدون أن يدفنوا كل شيء بثلاث سنوات . ويبقى عارنا نحن الآثمون " .

ويسقط من فوق منصة الشرف التي تخيلها . في كل مرة يعرف الغلام الآسيوي أين يجده . في كل مرة يأخذ بيديه يجده منهارا تحت أوراق البرسيم . يتنفس بصعوبة . وقد تبللت لحيته الرمادية بالطين وتصل جذعه الأعلى وارتخت قدماه . والغلام الآسيوي يلمح شيخوخته السريعة كمن تسير إلى هدف تراه .

كان الغلام يضعه على كتفه وفي لغة اكثر انهيارا من قدميه يقول " سيعود إسماعيل وستنتهي الحرب " . ذلك ما يفهمه الغلام . ربما لأن العجوز أفهمه أن حربا ما في مكان ما تنتظره .
" نعم ستنتهي الحرب يا غلامي . لكنها حرب أعرف نتيجتها . ما أقسى الحرب التي تعرف نتيجتها " . سار به إلى غرفته . .
- هل تريد شايا يا عم !
- هل أطعمتني هذا الصباح !
- أتريد أن تأكل ؟
- يجب أن أكل . لا تتركني أموت . أريد أن أرى إسماعيل وهو يعود . لا تنس يا غلامي !

يجهز له إفطارا من بيض وخبز ويصب له الشاي . يتركه ويمضي لشؤونه التي تتراكم على ظهره .

يعمل الغلام الآسيوي منذ هجرته باتجاه الشرق البعيد عن شرقة الأبعد الآن . يعمل منذ سنوات طويلة في المزرعة . يختار عمالها ويدفع أجورهم . يرعى أغنامها التي لا تخرج إلى المرعى . ينقل الخضار بسيارة النقل أو يبيعه في المزرعة على تجار عابرين . لم يكترث كثيرا بما يدور حوله ولا يعلم شيئا عن الحرب التي تدور هناك والتي ذهب إسماعيل الوحيد للموت فيها. لكن أبناء جنسيته يؤكدون له أن لا حرب قريبة هنا . ويصر هو على أن الحرب بعيدة عن هذا الجنوب . لم يصدقه أحد ولم يصدق أحدا . ومنذ أربع سنوات حين انتقلت العائلة إليه في بيتها الصغير لم يعد يغادر المزرعة . فالعجوز يقوم بكثير من التفاصيل التجارية البسيطة . ويهتم في الوقت الذي يتدرب فيه إسماعيل بأمور العمال والحصاد والبيع والشراء .

منذ هجرة إسماعيل نحو حتفه . تحولت المرأة المريضة الصامتة إلى امرأة شرسة حين رأته محمولا على كتف الغلام وهو يجر خطاه الثقيلة على الأرض . أحست برجفة خوف فالذي يشدها الآن ليس علاقة زوجية عاشت معظمها منشغلة بأجزائها المبتورة وإنما إحساسها بعينيه بكحلهما الإلهي يذكرانها أبدا بابنيها وما عدا ذلك " فليذهب إلى جهنم الحمراء ، مريض القلب هذا " . تقول .

اعتاد الغلام أن يطبخ وجبة رئيسية في كل يوم يتركها في المطبخ يتقاسمانها دون أن يلتقيا . لم تكن تطيق أن تأكل معه أو تتحدث إليه . " انك عجوز تتنفس الموت " ! لكنه في ذلك النهار الثالث لرحيل إسماعيل تأخر في تناول وجبته ، وحين رآها تضع المائدة على السماط جلس بمائدته قبالتها . امتنعت عن الأكل .

- وأنا لا أريد أن آكل . أريد أن أتحدث . إن صمتي يسرع بنهايتي ، وهذا البرسيم لا يرد علي أنت أمّ . ماذا يقول قلبك ؟
- يقول: انك غير مؤمن . المؤمن يتوقع مصابات لا حجم لها .
- لكنه ليس مصابا . هو اعتداء . . اشتعال حرب . لماذا أصافح قاتلى لأنني مؤمن .

وبكت . ليس له أن يستوعب ما بداخلها كأم حين يحدثها كأم .

واكمل لوحده .
- لو أنه صدم بسيارة مفاجئة . في منازلة . لسألت له الله أن يغفر ذنبه أما أن يسحبه كخروف إلى مسلخه . . ألم يكن دم يحيى دمك يا امرأة . نرخصه بثلاث سنين ونخرج من دارنا بعار .

وبكت بصوت نحيب . دست رأسها في صدرها . نهض إليها واحتضنها . لم يذرف دمعة لدموعها لكنه أعاد الحياة بينهما نوعا ما . أخذ يحدثها عن قناعاته وكانت تستسلم مطيعة لأوامره التي يقول إنها إلهية . أخذت تفكر ربما للمرة الأولى بأن دم يحيى لم يكن شيخا حان أجله وإنما دم في فورته الأولى ولا يستحق الهرق كماء غسيل .

كل صباح ينهض العجوز يتأكد من سيارة الجيب . يدير محركها لفترة من الزمن . سيعود إسماعيل في أي لحظة . سينطلق به قاطعا هذا الجنوب نحو مكان لا يخطر ببال . ثم يمضي إلى التجول في المزرعة مصغيا بكل حواسه لصدى الطلقات وهو يطن في أذنيه . . وكل صباح يخفت الصدى شيئا فشيئا حتى تلاشى في الصباح الرابع . وضع أشياء صغيرة في سيارة الجيب: زجاجة ماء . قليل من الخضار . وانطلق للمرة الأولى خارج حدود الجنوب متجها إلى العاصمة كما قال للمرأة التي خرجت بناء على ضوضاء افتعلها العجوز " لقد ارتجفت يديه هذا الأحمق أعرف . إنني لم أقس عليه كما يجب ! كان محتاجا لمزيد من الوقت . محتاجا لقدمين حقيقيتين لهما أن يحملا جسد الفحل الذي يملكه . " . " وإلى أين ستذهب ؟ " , " إلى أين . إلى حيث يجب أن يكون هو الآن . إلى أين . من يعرف أين هو لكي أعرف إلى أين " . " ألا يوجد من يفكر بعقل دجاجة هنا " !

وحين أثارت سيارة الجيب غبارا من موقعها حتى بوابة المزرعة ، عرفت أنها لن تدركه
" من يعلم إلى أي طريق يقودك هذا الموت إن لم يقدك إلى الجنوب المميت " .

أخذ يصفر طوال الطريق ، " اقفز يا فتى يا فتاي . سدد ساكنا حين يتحركون ثم استخدم قدميك لتطارد ذرة الريح الأولى " . لم يخرج من فمه سوى الصفير رغم الحوار المتأجج في عقله . " هل أسأل عنك رجال الشرطة لأدلهم عليك ؟ ، هل تهت في هروبك عن الجنوب ؟ انك تقتلني . . آخ " .

تجول أمام منزل ضحاياه المرتقبين . رآهم من بعيد يدخلون ويخرجون . يلعبون أمام منزلهم دون أية إشارة لطائر موت مر من هنا . توقع أن يراه في محيط المكان المفعم بالحياة لكن توقعه خاب فعاد .

في المساء توقف بعيدا عن منزله القديم . ربما كان هذا الأحمق نائما هناك . . تسلل في الظلام سيرا على الأقدام . فتح الأبواب بخفة ولم يعثر على طيف لآدمي نفض غبارا عن مدخل الباب .

عاد لسيارته المتوقفة في آخر الطريق . اسقط رأسه على المقود وبكى . " أريدك الآن يا صغيري الرجل " . ربما هي المرات القليلة التي تحركت فيه أبوة متأخرة في سنوات . تلك كانت إحداها .

نكص إلى منفاه حانقا وقد طغت ألوان نفسه السوداء على ملامحه . لم يجد أحدا يحدثه . نام بهدوء وعلا النشيج في قفصه الصدري . اختلط الصوت ببقايا الدخان . أحس بالاختناق . يريد أن يرفع أنفه إلى الهواء الذي بدا بعيدا عن مناسمه يجثم أحدهم على صدره بقوة . يكبل يديه .
" امنحني فرصة أخرى ! " . يختلط عرق جبهته بدموعه " امنحني فرصة أخرى أرجوك " . ليس له القدرة على مقاومة الوهم الجاثم على صدره . يصرخ بعنف . لكن صوتا خفيفا كخفة روحه لم يصدر عنه . ارتخت يداه . علت زرقة قاتمة شفتيه ، وجحظت عيناه ، لم يسمع صدى الأنة التي خرجت من ملتقى ضلعين في صدره . لم يحضر لوداعه سوى قط كان يعبر الغرفة بمحض الصدفة . حين رأى الروح التي ترافق جسد المسجى على فراش الصوف تخرج على مهل . قفز ليخمشها وهرب من المكان وقد حلّت وحشة بيضاء في فضائه المعتم .

" لم تترك خلفك من يقول أبي ! " قالت المرأة وهي تطلب من الغلام الآسيوي أن يسأل أحدا ما المعونة في دفنه . حملوه العمال ملفوفا ببطانية صوف على لوح خشبي ونقلوه بعربة الخضار.

لم يشارك في دفنه سوى الغلام الآسيوي ومجموعة من عمال بلدية الجنوب ومجهزي الوفيات وعابرين تواجدوا في المقبرة . صلّى عليه شيخ وسألهم أن يطلبوا له المغفرة ويرددوا
" اغفر لعبدك الصالح " . ولم يجدوا بعد دفنه من يأخذ عزاءهم أما المرأة المريضة فلم تجزع لفراقه المتوقع ، بكت وحدتها وافتقدت صور أبنائها في عينيه الواسعتين .
" كنت أتوقع أنني أول من يرحل ويتركهم وما حدث هو عكس توقعي لكن الأمر بطريقة أو بأخرى هو ذاته "
يهرب الدجاج من حصاها الذي تقذفه نحوه وهو ينقر عجينها في الإناء العميق .

نهض إسماعيل متأخرا في نومه حتى ساعة الضحى . لم يجدها إلى جانبه . وتذكر أنه وعدها بأن يتزوجها . كان ذلك ليلة البارحة ، ونامت سعيدة إلى جانبه وهي تقبل عضلة يده ، وتمرر أصابعه على وجهها . بحث عنها في الدور الأسفل ولم ير سيارتها أمام الشاليه . تناول إفطاره المغطى بأكياس شفافة على الطاولة . دخل الغلام يحمل ورقة مكتوب عليها بخط عريض
" ذاهبة للتبضع سأعود مساء " .
تذكر أن اليوم هو الخميس وأنه مارس الحب معها ليلة واحدة وليس العمر كله كما خطر بذهنه .

ألقى بنفسه بحوض السباحة متحررا من رائحة الطحالب الخضراء اللزجة . قطع الحوض بامتاره العشرين مرات عديدة حتى بدا ضيقا على قدرته . خرج متجها إلى صالة الألعاب واستمر يمارس الرياضة حتى العصر حين طرق الغلام الباب يدعوه لتناول الغداء . كان جائعا فأكل عن رجلين في مثل عمره . ثم صعد ليكمل نومه وهو يتثاءب كحيوان كسول . سقط على الفراش فلم يسمح النعاس والإعياء له بأن يفكر بشيء .

استيقظ على ضوضاء صاخبة . سيارات تزمر بعنف وكأنها تنذر بحدوث فرح أو احتفال باستقلال وطني . أطل من الشباك شاهد كماّ من السيارات من بينها سيارة ضحى وبعض رفيقاتها السابقات وأخريات لم يتعرف عليهن . لكنه عرف أن جميع الحضور فتيات . والذي لم يفهمه هو العمل الدؤوب الذي تقوم به الفتيات . يعلقن شجيرات زينة من ورق ملون لامع على مدخل الشاليه . وإضاءات خضراء وحمراء معلقة على أعمدة مؤقتة حول حوض السباحة . كن سريعات ودقيقات . نثرن كثيرا من ورق الورود البيضاء الوردية والجورية الحمراء على أرضية البورسلان المحيطة بالحوض . وأخريات يعملن على توصيل التيار لكشافات ضوئية ملونة . وقامت ضحى بتركيب مشغل اسطوانات ضخم ومكبرات صوت عملاقة في طرف الشاليه . خلال كل ذلك علت الزغاريد من أفواه الفتيات في كل لحظة مناسبة . ولم يمض طويل وقت ليتحول المكان الفسيح أمام الشاليه وحول حوض السباحة إلى قاعة أفراح في الهواء الطلق .

وصلت سيارة مأكولات وعصائر. نصبت خيمة صغيرة في الجهة المقابلة للبحر ورصوا كؤوسا وخلاطات ونصب آخرون طاولة طعام وصواني تشتعل تحتها شموع . زغردت الفتيات حين وصلت عبير وبرفقتها شيخ دين أجلسته في الصالة الخلفية للشاليه . لتصعد ضحى إليه تطلب منه أن يرتدي البذلة التي أحضرتها له " بسرعة " قالت . ورشت عليه من عطور رجالية وحملت إليه البخور وماء الورد وقال بلهفة ليعرف ما الذي يجري . " لماذا كل هذه الضجة " ؟
" انه زواجنا يا فارسي ، هل كنت تنوي الزواج بالصمت " . وتركته يلبس وخرجت " ومن الذي قال إنني سأتزوج أصلا " . وجد نفسه يردد خلف الشيخ ( قبلت ) كما رددت هي أيضا وكاد أن يستلقي على قفاه ضاحكا حين شهد على زواجه الغلام الآسيوي وآخر أحضره من شاليه قريب .

جلس بجانب ضحى على الكرسيين العثمانيين والذين كانا في غرفة النوم أمامها الطاولة التي بينهما هناك . وقدمت المضيفة كأسين من شراب اللوز . لتبدأ حفلة راقصة استمرت حتى ساعات الفجر الأولى ليرحل من يرحل من الضيوف النسوي وتبقى عبير تلك الليلة ساهرة معهما حتى الصباح ، دون أن تشعر بحرج من زوجين جديدين . ناما في ساعات الصباح الأولى .

عاشا أسبوعا كاملا يقضيان معظمه في غرفة النوم . يسقطان في الحوض يمارسان الرياضة معا . وعرف أن الحياة التي لا تخدمها الصدفة البحتة فإنها لن تأتي وهو لا يعلم هل عليه أن يقبّل قاتل شقيقه أم الفتى الذي صدمه بسيارته ليسقطه في نعيم من الحياة لم يتخيله .
- انتهت إجازتي الطارئة اليوم .

قالت له في نهاية الأسبوع .
- ألن تعودي إلى هنا ؟

وقبلته
- طبعا سأعود . في أوقات متقطعة أما نهاية الأسبوع في لك !

وقبل أن تودعه مساء قالت
- حين يجهزون منزلنا سنذهب إلى هناك .
- انتظري حتى الصباح . سأذهب لأرى والدتي .

صباح السبت . حمل حقيبته السوداء . وتوقف أمام سيارتها ينتظر خروجها . بدت متجهمة يخيم عليها غضب واضح .
- لماذا هذه الحقيبة ؟
- لأنها حقيبتي .
- لم يحن وقت رحيلك بها
- ومن يعرف متى يحين الوقت ؟

قرر إسماعيل فعلا أن يرى والدته . في فرصة مواتية لا يرى فيها والده . أعادته إلى المدينة في هيئة غير تلك التي جاء بها . رجل أنيق المظهر . خصلات شعره الناعم تلمع فوق جبهته . وجه يشع بياضا بقميص له لون البحر الصافي وبنطال جينز وحذاء إيطالي . وما بقى فيه من ماضيه القريب عينان واستعان بكحل إلهي .

ركب الحافلة من محطة التجمع ملتصقا بحقيبته . يقرأ روايات جيب استعارها منها . اتفقا وهي تودعه أن ينتظرها هنا بعد نهاية عملها . لكنها لم تكن على ثقة مطلقة بعودته . ولجأت إلى دلال الأنثى .
- سننتحر إن لم تعد ! حينها لن تنفعك حقيبتك
- ومن أنتم .
- أنا وطفلي . إنني حامل .
- وكيف عرفت .
- أنا دكتورة يا فارسي . أنسيت ؟

انقض عليها يقبل كل جسدها
- أعدك أن أعود . لأجلكما معا .

واستطاعت أن تغير خطته . لم يعد يفكر في مهمته التي صمم عليها قبل حوارهما . الآن هو صادق في وعده ولم يخطر في ذهنه أن ينهي مخططه الآن . فكر في الحياة التي بثها في أحشائها كجزء من روحه بعيدا عنه . أما حقيقة حملها فهو أمر لا يستطيع الجزم به الآن .

وصلت الحافلة أطراف المزارع الجنوبية متوقفة على الشارع الرئيسي أمام السوق العشوائية التي يقيمها مزارعو الخضار صباح كل يوم . توقع أن يرى الغلام الآسيوي ، يقف بسيارة النقل صارخا بصوته الحاد والمنفر على بضاعته . تفحص وجوه الباعة المحليين والآسيويين لم يره . فأكمل طريقه . سار بمحاذاة السياج الحديدي وقد التصقت بأطرافه أوراق فارّة من مصيرها . قطع من الكرتون . أقمشة بالية . بدا كل شيء هادئا ورائحة الأثل طاغية وعصافير الزرزور التي تعشش في أغصانها تخاتل الريح في طيران عبثي . لم يستطع أن يحدد شيئا وهو يطل من كوى السياج غير المتساوية رأى الغلام يتحرك بشاحنته نحو البوابة المفتوحة بضلفتيها . لكنه لم ير والده كعادته في ذلك الوقت . اتجه نحو البوابة قاطعا الطريق على الغلام ، الذي أوقف الشاحنة وانطلق نحوه يجري فاغرا فاه عن ابتسامة اكبر قدرة من أن يتحملها وجهه البائس . " إسماعيل " ! احتضنه وبكى ! ربت إسماعيل على كتفه وهو يسمع زفير صدره ورائحة العرق المشبع بالخضار . رفع الغلام رأسه

" هل انتهت الحرب ؟ "

" لم تبدأ الحرب بعد . أين أبي " ؟

قال له الغلام بفرح

" لا تخف لقد مات !! "

وقبل أن يقرر ما ستكون عليه حالته صرخ " وأميّ " !

وأشار الغلام إلى المسكن . كانت العجوز توقفت عن عملها وأبقت يدها ممسكة بمكنسة القش تتابع من بعيد ما يحدث أمام البوابة . ركض إسماعيل بكل سرعته تسبقه ريح ناعمة تشد شرايين المرأة إلى الحياة . احتضنها بقوة . كانت رائحتها كالفاكهة المجففة . بقيا طويلا دون كلام تشم رائحته بعمق ويقبل يديها ورأسها . وحين استطاعت الحديث قالت
- عليك أن تهرب لوحدك . لم يجهز لك شيئا .
- ولماذا أهرب ؟ لم أقتل أحدا ؟

وتذكرت أن احتضانها السابق كان وداعا لا لقاء فأعادت ما فعلته مرة أخرى وتغير صوت بكائها . بمقدوره الآن أن يميز جيدا بين البكاءين . وتذكر انه يعزيها في احتضانه الأول ويرحب بها الآن . أمضيا نهارهما هكذا تحدثه باستنشاق رائحته ويحدثها بقبلة على يديها ورأسها . قبل أن يقرر الرحيل سألها كيف مات ؟
لم تجب لأنها لم تعرف .

لم يحدث والدته عن شيء مما حدث له ولم تحدثه كثيرا عن موت والده . لم تشأ أن تعيده إلى العجوز في غيابه ولم يشأ أن يكدرها فوق كدرها . أن يقول لها تزوجت دون أن يدرك هو انه فعل ذلك حقا . وسيبدو مضحكا وفجا لو قال : امرأتي حامل ! !

اقتصرت حواراتهما على عبارات مقتضبة
" هل تأكلين جيدا ؟
" . أين تنام . كنت عاقلا ولم تفعل . أريدك إلى جانبي " .
وردود عائمة
" ماذا تفعلين ؟ هل أنت حزينة جدا . كيف دجاجاتك ؟ " .

باستطاعته الآن أن يخمن أن موت والده كان بسببه ، لم يحتمل الأب فشله في مهمته . أسقطته خيبته . لم يحتمل أن تكون ذريته : مغدورا وجبانا . ولم ينتظر عودته بعد أشهر ليقول له " لم أستطع . هكذا . لم أستطع ! "
سقط بعد أيام من رحيله في تلك الأيام التي يبحث فيها إسماعيل عن ثأره .

حمل حقيبته مرة أخرى . قالت له
- هل ستفكر مرة أخرى ؟
- لا أدري العالم يموج في رأسي . إنني لا أفكر !
- أنني احتاجك كما ترى !
- لن أكون بعيدا . سأعود . يجب أن أرتب كل شيء .
- ألن تذهب لتصلي عليه .
- سأفعل حين أعود . سأفعل !

عاد مرة أخرى إلى موعد رائحته . ربما هدأ قليلا واستطاع أن يفكر .

كانت تنتظره قبل دقائق من وصوله . تهلل وجهها . ركب إلى جانبها . قال لها كمن يود البكاء على صدرها
" والدي قد مات " !
ولم يبد عليها تأثرا . مرت عبارته في قلبها تشبه عبارة
" أبي لم يمت ! " .
بقيت على حالها والتزم الصمت .
تحركت السيارة متجهة إلى أحد المطاعم المطلة على البحر . قادهم جرسون مهذب تكلفا إلى طاولة لشخصين . وطلبت لهما معا . كانت تود أن تحدثه عن تجربتها . أن تقول له أن العائلة تتحول في علاقتها إلى وشائج مرتبكة ليس لأحد أن يفك عقدها . وليس للمرء في نهاية الطريق سوى تنفس صدره . تلك هي حياته . لكن الصمت خيم عليهما . حتى قطعته .
- بعد الغداء سنذهب للمكتب التجاري .

لكنه لم يتحدث . بقى صامتا . كمن لا يعنيه وجودهما معا .

اجتمعت العائلة المتنافرة لأول مرة حين توفي والد ضحى في بلد غربيّ . ونقل جثمانه إلى هنا وسط مشاعر مختلطة بفرح فراقه وحزن ظاهري حفاظا على وقار مصطنع . تحدث الأخ الأكبر قائلا
" لا أريد لأحد أن يفكر في اللجوء إلى فضيحة محاكم تحمل لنا العار ، سنقتسم هنا ونخرج قانعين " .
وبعد هياج ومداولات تحملها الأخ بحكمة مباغته . كان نصيب ضحى مكتبا تجاريا في وسط المدينة يدير محافظا عقارية واستثمارية . ومسكنها الخاص والشاليه البحري . وخرجت على قناعة بما كسبت كفتاة وسط أخوة غير أشقاء . مبتعدة عن الدخول في صراعات لن تنتهي بأية حال بأكثر مما حصلت عليه . وفي التفصيل النهائي للإرث أطلقت صرخة اعتبرتها المكسب الوحيد من وفاة والدها
" إذا رآني أحدكم ميتة في الطريق فلا يكلف نفسه بإلقاء جريدة مهملة على جسدي "
واكلمت حين قالوا " سنفعل ".
" وأنا لن أكلف نفسي الصلاة على أحدكم " .

انفض عقد العائلة . الحوارات التي تبادلوها فيما بعد لم تكن أقل قسوة من حوراها معهم فكل من يأخذ نصيبه بقناعة حامضة يقول كلمة مُرّة ويمضي . اقتسموا ميراثهم دون أن يقبل أي منهم القسمة ودون رفضها أيضا . ولم يعرفوا حتى اللحظة من الأوفر حظا . فلم يلتقوا بعدها أبدا .

توقفت السيارة أمام بناية ضخمة في المدينة . تتلألأ على زجاجها الفضي سماء زرقاء وقطع من ريش الغمام الأبيض . تحرك رجل أمن نحوها . فتح باب السيارة ورافقها حتى المصعد لم يكترث به . ضغطت على زر الدور الثاني عشر . ليفتح الباب على مجموعة ضخمة من المكاتب نهض الجميع يرحب بها . لم تكن تزورهم في وقت مفاجئ كهذا . كان مكتبها في نهاية الممر ولافتة كتب عليها " المدير العام " أجلسته خلف المكتب العريض . طلبت من السكرتير أن يجمع لها المدراء في غرفة الاجتماعات قدمته لهم " المدير العام " . وحين كانت لوحدها معه قالت
" عليك أن تتعلم بصبر . هذه الرؤوس البيضاء التي تدير المكتب ستعلمك . تذكر لا تتدخل . تصرف دوما على أنك لم تفهم. ذلك هو طريقك الوحيد لكي تفهم " .

أصبح اسمه السيد أو العم الصغير . تتوقف سيارته الألمانية أمام المكتب . يفتحون له الباب ، يحملون حقيبته السوداء حتى المكتب . يلقون عليه التحيات حتى آخر النهار . انتقل إلى مسكنها الخاص ليكتشف أن ما يعيشه في شاليه البحر هو صورة سيئة للحياة التي ظنها هي منتهى الحياة.

ذلك ما يحدث ـ أبدا ـ لمن يصابون بحمى الحياة وهي تهاجمهم دفعة واحدة . يذهبون إلى التفكير بعيدا في كل شيء لكنهم لا يفكرون بها مطلقا . ليس بإمكاننا إيقاظهم من غفوتهم وهم يتحركون في وهادها ويعتلون تضاريسها كماعز الجبل . قاطعين أشواطا طويلة في بحثهم الدؤوب عن قرارات قد تصل بهم إليها . لكنها تخطئها بمحض الخيبة . هؤلاء الذين يعتقدون ـ صادقين ـ أن الحياة لا تقف وهي تنسج لونها البهيج حول أعمارهم ـ يطاردون مدججين بالوهم صورا تفر من الذهن كلما التقطها اكتشف أنها مغايرة لما ترسب في الذهن من خيال لا يحده حد وكلما أسرعت الحركة في دورانها المسلي تخيل الآخرين ساكنين في دورانهم . دون أن يفكر بالقصور الذاتي .

احتدمت رؤى الحياة في ذهن إسماعيل . رتب أمورا لم تترتب بما يوجبه المنطق أوكل أمه لسكونها ونظم أعمال تجارته الخاصة بوالده تاركا الغلام ومن يختار لمساعدته مديرا لشؤون المزرعة وانشغل بدورانه حول رائحة ملونة تمنحه فرصا كبيرة للحياة وقليلة للتفكير بها . رفضت والدته أن تعود لبيتها القديم قالت
" البيوت بسكانها . لم يعد هناك سوى الأشباح تتطاير في غرفه ، انه لك ! " .
ولم يجرؤ حتى الآن على اخبارها عن زواجه وحمل زوجته رغم أنه لم يفارقها تماما . وليس للفرص التي حاول أن يقتنصها في تمهيد حوار بهذا الاتجاه. حاول أن يداعبها ذات مرة مبقيا خيطا من حوار قادم معلقا .
- ربما أتيتك في المرة القادمة متزوجا !

وجاء ردها ظريفا على غير عادتها
- حتما ستفعل . لن أستطيع تزويجك من هذه المزارع بغير بقرة ! !

حين ذهب إلى مسكنها في ضاحية من الضواحي المترامية في العاصمة . حديقة واسعة أمام المدخل يرعاها مزارع أفريقي . تتكثف الأشجار الاستوائية على مدخلها وأطرافها المحيطة بالمنزل . أحواض زهور الجوري والماجنوليا وثمار النارنج يقوده طريق مرصوف بالآجر الزهري لمدخل البيت المكسو برخام السيلينا الإيطالي . يصعد درجات الرخام حذرا . يدير مفتاحه في باب خشب الساج الضخم ، يلاحظ أن السقف عاليا جدا ، رصعت الحوائط المشمشية بلوحات كلاسيكية منقولة بحرفة عالية . تنسدل الستائر القطنية الضخمة والمبطنة بالساتان البصلي من أعلى السقف حتى الأرضية الملونة بمربعات السيراميك وقطع الرخام الطبيعي . ثلاث صالات جلوس . صالة على الطراز العثماني وأخرى أوربية والثالثة شرقية . وفي الدور الأعلى غرفة نوم واحدة وصالة . غرفة تضم سريرا مذهبا عليه كلّة من الحرير الأبيض وفراش قرمزي . بعض المناضد الإفريقية القديمة وفي الصالة بار خمور أمريكي وكراسي مرتفعة بلا مسند ظهر تناثرت حوله مجموعة من الكراسي الخيزرانية بفوضى منظمة أمام كل كرسيين طاولة صغيرة من الخشب السميك محترق اللون . وفي الدور الثاني مكتبة ضخمة على شكل قبة زجاجية عليها أيقونات منقوشة لنساء ومراوح يد .

استلقى على الأريكة العريضة وهو يتابع نقوشها الايرلندية واستدارتها المحكمة ولم يفكر بشيء تحديدا . كانت تجلس أمامه بملابس عريضة من الحرير النقي فيبدو جسدها عالم من الصخب الساكن . تتصفح مجلة علمية . ولم تكن تفكر أبعد من ذلك . دفع الكأس مرة واحدة في جوفه . سقط على الأريكة إلى حضنها نام في حجرها وهو يضع راحتيه على استدارة الجنين ولم تهتم كثيرا بما يفعله . لكنه
" يا إلهي هذه الحياة إذن " !

الفصل السابع

سمع حوارا أو نهايات حوار بين عدد من موظفيه في المكتب التجاري . وقد صمتوا تاركين جملتهم الأخيرة معلقة لم تسقط أرضا . كان دويها ضاجا في أذنيه

" انه آلة جنس ليس إلا " .

رافقها ضحكات لم تكتمل حين أطل بوجهه العابس . لم ير من اللائق أن يجادل موظفين في فضفضة عابرة . لو أنها ليست حقيقية لما أوجعته . غادر المكتب بسرعة . قادته سيارته إلى المزرعة . رآها تجلس في عريش البيت تنقي رزا وتكش ديكا يشاكسها . جلس إلى قدميها .
- ما بك ؟ أرى روحك تنزف !
- كيف ترين ؟
- هل تتصور إنني لم أكن أما حين كان لك أب ؟

تذكر أنه لم يصلّ على والده كما وعدها .
- لقد تزوجت يا أمي .
- أعرف يا بني !
- منذ متى ؟
- منذ شممت رائحتك أول مرة ! هل رزقت بولد ؟
- ليس بعد . إنها حامل .
- اعرف إنها حامل . هل رزقت بولد .
- وكيف عرفت ؟
- من رائحتك يا بني !
- حين جئت أخبرك . كان والدي
- صه ! لا تتعذر . هو كذلك ! قل لي لماذا أنت حزين ؟

ولم يجد شيئا يقوله . إنها الوقاحة أن يقول لأمه شيئا هي تعرفه . شعرت بأنه يريد الحديث أن يبوح ليرتاح .

على من تجب الراحة ؟ هذه الأنفس التي ودعت الهواء بإرادة وهمها أم تلك التي تتنفس همها؟ أليست فجاجة قول أن نحاسب الموتى عن أفعال لم يكملوها كما يجب ؟ ونترك الأحياء يتناسون ما عليهم فعله .
- سأنام الليلة هنا . هناك على بساط البرسيم الأخضر .

لا تستطيع أن تفرق بين طريقين مرسومين بأشكال قدرية أو تخطيطية . في النهاية أنت ملقى في خضم النول المنسوج وحركته المغزلية . لو أنني سرت الطريق لنهايته . لآلت النتائج إلى أمور ليس أقل منها قسوة ما آلت إليه المصائر بقدرها المرسوم بدقة إلهية . فكر بأن ما لم يحدث هو ما حدث بالفعل . وإن الاختيار هو ملك فردي وحين تختاره يفقد كونه اختيارا . وتفقد ملكيته . بالمقابل أنت أمام اللا اختيار وهو ملك فردي لكن العودة إليه تصعب في كونه لم يعد اختيارا .

انك لن تستطيع أن تطلق النار على أعدائك الآن . ليس لأنهم لم يعودوا أعداءً . بل لأنهم لم يعودوا اختيارا . وما في الحقيبة لم يعد سلاحا لتنفيذ مهمة تريدها بإلحاح شرفي وعائلي متوج بصياغة الأب . هو ذكرى سلاح استخدمته في حلم ولم يجد نفعا حين لم يعد اختيارك بوعي . ليس لأن الزمان لا يعود إلى الوراء . بل لأنك أنت الذى لا تريده أن يعود إلى الوراء . دائما هناك متسع من الوقت وليس دائما هناك اختيار .

جلس على العلية محدقا في بساط السماء المتلألئ . هي ذات السماء التي تعلو الشاليه البحري . أما الرائحة هنا فهي شيء آخر . تلاعب نسيم الصيف بأوراق العشب الخضراء وتسللت الريح الناعمة إلى صدره . هنا فقط هو إسماعيل سيد هذا الزمان . هو سيد الدجاج والبقر والأغنام والغلام الآسيوي والأرض والشجر والخضار وسيارات الخضار . وتحت سماء الشاليه هو اللقية التي عثرت عليها الدكتورة ضحى تحت عجلات سيارة مسرعة . رممتها واحتفظت بها ليعجب بها أصحابها وموظفوها . ينادونه السيد أو العم جهرا وينادونها " الآلة الجنسية " سرا .

هل كان يختار وهو يقدم نفسه لاختيارات الآخرين ؟ أليس بإمكانه العَوْد إلى نقطة توقف عندها اختياره الأول ؟ يعتقد أن إنقاذه من ارتكاب جريمة ردا على جريمة هو جريمة لجريمة لم يرتكبها . أن تمتهنه المرأة التي أحبها بوظيفة زوج لأن عينين واسعتين يشبه تماما أن تذبح له أمه في نهاية الأسبوع الدجاجة التي اعتنت بها أكثر من سواها .

لماذا النجمة هنا هي ذاتها النجمة هناك وأنا هنا لست أنا هناك ؟ من سيوكل إليه مهمة البحث عنه . والده الذي لم يمنحه فرصة ليفهم . يحيى الذي توقف عن زيارته منذ تجاهل حقيبته . هو يتذكر الآن أنه تركها في الشاليه . وتختلط الأمور . ربما في صندوق السيارة . ربما في المكتب . لا هي في الشاليه . يحق ليحيى ليتوقف عن زيارته طالما هو لا يعرف أين تركه ! انطلق مسرعا بسيارته . اكتشف أن الطريق الذي يؤدي إلى الشاليه من المزرعة ليس سوى أغنية قصيرة يرددها جهاز التسجيل . فكر أن يفتح الحقيبة . أحس بخجل . سيخرج منها بالتأكيد والده متأبطا ذراع يحيى . سينظرون إليه باحتقار ويلوم يحيى والده

- أبتِ الهذا أوكلت دمي !

ولا يجد كلمة يرد بها عليه ويصرخ به الأب .

- بكم بعت سنواتي يا إسماعيل ؟

ولا يجد كلمة يرد بها عليه فيصرخ به يحيى
- أعدني إلى سكوني . أنت تقلقني . كنت دائما دنيئا .
- لم يعد دنيئا فقط يا يحيى لقد أصبح آلة جنس .

ولا يغلق الحقيبة حتى يبصقان دما على وجهه .

أن الجرأة الوحيدة المتاحة له أن يلحق بهما . أن ينتحر جميلا قبل أن يتلوث تماما . أن يخرج من هذه الأبواب المتاحة في متاهته التي دخلها من باب وحيد . أن يمتلك اختيارا حرا وحيدا في حياته . وأن يقابل صراخهم بصراخ أكبر .
- أنتما معا تطلبان مني أن أكون كما تريدان لا كما أريد

سيردان عليه
- وحين كان اختيارك ماذا فعلت . متّ . ذلك ما استطعت فعله !
- وأنت مت يا أبي .
- مت لأنك خذلتني !
- مت قبل أن أخذلك . مت لأنك لم تفعل شيئا إلا من خلالي .
- جئت ملوثا يا إسماعيل جئت آلة جنس .
- وحين كنت في يدك آلة حرب ألم أكن ملوثا يا أبي .

والأب في الموت هو الأب في الحياة يهوى على الروح بقبضة روحه ويدحرجها بعيدا في الهواء.

ستوصله بوابات المتاهة إذن للباب الأوحد الذي دخل منه . واختياره لن يكون سوى شبه اختيار .

حين تأكد حملها في الأشهر الأولى لزواجهما . ابتعدت عنه . يلتقيان على الغداء في البيت ويعود إلى المزرعة والشاليه لينام وحين يتأخر في المكتب ينام هناك . يؤّول تأففها الدائم وتذمرها الأبدي دلع امرأة حامل . تزم شفتيها ويصفر لونها تتحول إلى جدار من لحم آدمي كلما اقترب منها . توقع أن ذلك حادثا عرضيا فهي لم تكن كذلك في الأيام الأولى لزواجه كانت عاشقة محترفة . تعلم منها ما لا يتعلمه الرجل من نساء الأرض . وما يزعجه هو فقدانها لرائحتها الملونة أصبح يستنشق رائحة جسد مخاتل في خلايا جسدها . جسد يتذكر أنه يعرف رائحته من قبل ولا يتذكر أين عرفها . .

تتصل به كل ليلة ليتأكد لها أين هو جاء صوته دافئا شجنا

- أنا في الشاليه . سأنام هنا .

نام في الدور الأعلى مسدلا ستائر الغرفة العمودية على الشباك . وكأن النجمة التي ذكرها في المزرعة تطارده بوحشها . تقطع نومه كثيرا حتى تذكر أن يعيد الحقيبة إلى موقعها في المخبأ . وصحا متأخرا على صوت امرأة من رفيقاتها .

- ماذا حدث ؟ ضحى . .
- لا شيء . أبدا . جئت لاستحم . هل تمانع !
- لا . لا .

لا زال يفكر بالكلمة التي قالتها هذه المرأة الشابة في الحوض ذات يوم . وتعليق صديقاتها عليها دائما " الفاجرة " . واستغرب إسماعيل أن تأتي لوحدها . لكنه لم يهتم كثيرا بما تمارس في الحوض . تناول غداءه . في الأسفل وهو يتابعها بعينيه في لحظات غير محددة من قبل ومن غير سوء . حين رفع الغلام الآسيوي الأطباق علق تعليقا سريعا بابتسامة ماكرة " إنها هنا من أجلك " ومضى إلى غرفته مقررا ألا يخرج منها حتى تنجلي هذه الزوبعة برحيل أحدهما . تناول الشاي قريبا من الزجاج المطل على الحوض متعمدا أن يتابعها لم تكن تراه من خلف الزجاج العاكس ولم يخب حدسها الأنثوي إذ تأكدت من متابعته لها . خرجت من الحوض وهي تتثنى كمصابة بالخدر ، ألقت نفسها على الكرسي السريري تاركة ظهرها معرضا للشمس وبحركة سريعة أفلتت القطعة الأعلى عن صدرها تاركة رمانها محاصرا بشبقها وقماش الكرسي الناعم . تناولت رداءها الأصفر وألقته على ظهرها لتنهض وتربطه من وسطه وهي شاخصة جهة البحر . رآها تتجه نحوه . فأدار ظهره عن زجاج النافذة وتظاهر بقراءة جريدة تأكد أنه لا يمسكها بالمقلوب .

- هل لي بكأس ؟
- تستطيعين أن تخدمي نفسك !
- كن رجلا مهذبا واحضر لي كأسا .

ضحك في سره . أن تطلب منك امرأة فاجرة أن تكون مهذبا ، ليس أقسى من أن تطلب منك امرأة مهذبة أن تكون فاجرا .

- هل كلمة STUD تعني شيئا مهذبا ؟
- ألم تعرف معناها بعد .
- لأنني مهذب فعلا خجلت أن أسأل .

جلست واضعة ساقا على ساق تاركة رداءها يسقط من الأسفل عن ساقيها .

- حين تحضر لي كأسا ستعرف !

ألقى الجريدة وأحضر لها كأسا

- تفضلي !
- شكرا لك .

أخذت ترشف كأسها ببطء . تراهن على وقت اشتعاله . وهي تمص شفتيها قالت

- أخبرتني ضحى أنك هنا اليوم .
- وهل تعلم أنك أنت هنا الآن !
- بالتأكيد تعلم !
- هل أكون مهذبا إذا سألتك أهي من أرسلك إلى هنا ؟
- تكون مهذبا ولئيما في الوقت ذاته !
- وهل أرسلتك لأغراض أخرى غير الاهتمام بالحوض ؟
- أه . هنا أنت لئيم فقط .

وأضفت رداءها على ساقيها . وصلت للرشفة الأخيرة من الكأس . تركتها تنزلق ببطء إلى جوفها . تابع انعتاق قيودها وشبق عينيها . تخيلته سيفهم ما تريد . وحين فشل في تناول مفاتيح حوارها .

- أنت لم تفهم على يبدو العالم الذي تعيشه .
- لا أريد أن أفهم مالا يخصني .
- لكنك تعيش هذا العالم .

ولم يرد . كان يعلم أنه طارئ على هذا العالم يعيشه من الخارج وليس له أن يتفاعل معه أما الحقيقة الأكثر عنفا فهي رعدته الداخلية من أن ضحى تضعه في موقف اختباري مع صديقتها . ذلك أقرب إلى التصديق مما أعلنته الصديقة .
- ستنتظر طويلا . وربما ضاعت عليك فرصة أن تفهم معنى STUD . ولن تأتي ضحى إلى هنا . أعلم أنك لا تصدقني . ولا ألومك أنت لست من عالمنا . هل أفاجئك إذا قلت لك أنك منذ حملها لم تقربها . وأنني انتظرت كل هذا الوقت .

نهض من مقعده حملها بين ذراعيه كما يحمل حملا من مزرعة . ألصقت يديها حول عنقه . صعد بها إلى الأعلى . لم يكن مهذبا أبدا ولم تكن هي كذلك . حين سقطت على ظهرها مجهدة كان هو يدخن كأن شيئا لم يكن .

- STUD أقل من أن تقال لمثلك .

لم يعد بحاجة لتفسيرها . لقد قبل هدية ضحى .

- سأشكرها على ذلك
- أرجوك . كن مهذبا فعلا . ليس دقيقا ما قلته لك .
- وسأطلب منك ألا تعودي بمفردك إلى هنا
- أرجوك . وإذا غيرت رأيك سأكون أينما تريد .

خرج تاركا المكان لها لكي تخرج . رأى وجهه في المرآة . عدّل شعره وياقة قميصه . تعطر جيدا ولم يكترث أبدا للحيوان الذي أمامه . وتذكر أنه نسي فجأة اسم الفتاة التي كانت معه حين رن في أذنه " آلة جنس " .

" ليس لكمائن الحياة أن تتربص بي ثانية "

ذلك ما خطر في ذهنه بشكل تلقائي . أما أن يكون كل ما تعرض له هو كمين أكبر من حجمه فذلك لم يفكر به مطلقا . ان الحياة ليست صبيا يضع فخاخا مناسبة لأحجام العصافير .

كان يجلس مع ضحى الى طاولة الطعام

- سأذهب للشاليه بعد الظهر . أتمشى قليلا . .

وهي تجلس في رأس الطاولة تقشر فاكهة بسكين . رد من الطرف المقابل .

- سأقوم بتوصيلك .
- لا . عبير ستأخذني . تستطيع أن تأتي إذا شئت لوحدك .
- حسنا سأكمل عملي هناك .

لم يعرف كيف لامرأة أن تستبدل مهام يقوم بها الزوج عادة بمهام تقوم بها صديقاتها . يدرك بأنه لم يجد أذنا تصغي لعتابه فاستسلم لما تريد . سينفجر يوما ما بوجهها . لكن الفرصة لم تحن بعد . أما هي فكانت تستغرب قدرة هذا الإنسان على التحمل . تصورت أنها لم تكن قاسية بما يكفي . ستنفجر بوجهه يوما ما . وللشياطين وحدها أن تتنبأ بحرب الورود القادمة .

كانت تتمشى على ساحل البحر تسهيلا لانطلاق كرة اللحم الحمراء من رحمها . متكئة على كتف عبير . أما الأخريات فكن يمارسن رياضتهن في الحوض . بدا مشغولا وهو يجلس على علية أمام الشاليه يراجع حسابات المكتب وبعض حساباته الخاصة به . كان باع البيت القديم مستثمرا قيمته في مكتبه الخاص وأعاد حساب ما تأخر من ديون على سكان بناياته ، وكأي كائن فطري ظل أمينا في فصل الحسابين رغم أنها لم تدقق في يوم ما معه .

سمع صرخة عبير أقوى من توجعات زوجته . هبط السلم مسرعا إلى الخارج والفتيات يلففن أجسادهن بحياء متأخر . سمعها تقول لعبير وهو يحملها عنها
" لا تخافي أنه ليس يومي . أنا اعرف . انقلوني إلى المستشفى " .

بقيت عبير معها طيلة تلك الليلة . لكنها لم تنجب حتى الاسبوع التالى فى اليوم الذى توقعته. جاء غلاما أبيض البشرة ناعم الشعر ، واسع العينين . لم يحتج في جماله إلى شيء من ملامحها . كان نسخة أجمل من الأب الجميل . لم يكلف أحدا نفسه إبلاغه عن المولود حتى جاء زائرا في الصباح . حمله بين يديه إلى الأعلى
" الحياة هي أن تمنح الحياة " .
حين دس أنفه ميز رائحة الجسد التي يستنشقها عادة في جسدها . . وأصر أكثر في داخله أنه يعرفها من قبل .

- ستخنقه !

قالت بوهن . لاحظ أنها لم تبتسم له . لم تهنئه به ـ وكعادته دائما برر لها ذلك بوهن الولادة.

- سأحضر والدتي تزورك !
- لا .. لا تتعبها .
- تذكري أن المولود حفيدها !

وصمتت . رفضت قبل ذلك فكرة أن تبقى معها في أيام حملها . ولحدة صوته الآن لم ترفض أن ترى حفيدها . ولم تقبل أيضا . صمتت فقط .

دخل المزرعة . رأى الغلام يقود كبشا نحو الزريبة . احتضن أمه وسألها

- ماذا يفعل الغلام ؟
- انه يحضر فحل للأغنام . ربما استعاره من زريبة قريبة .
- فحل . نعم فحل . الأغنام تحتاج إلى فحل .
- تعال اجلس لتأكل معي .
- سأجلس وبعد الأكل سأخبرك بشرى سارة .
- لن تأكل حتى تخبرني . هل أنجبت زوجتك
- نعم !
- صبيّ
- نعم
- يا إلهي . حلمت البارحة بصبي . اسمه يحيى .
- هو إذن يحيى !!
- خذني لأراه
- ألن نأكل

تركته ودخلت تنزع عنها سوادها وترتدي ثوبا واسعا بلون قشرة جوز الهند والتاثت غطاء رأسها كيفما اتفق . دست قدميها في خفين من البلاستيك . وبسرعة جلست في السيارة . ركب إلى جانبها

- أحقا لن نأكل !

ضربته على كتفه

- هيا يا ولد . سنأكل فيما بعد . تعلم أنني أفرح فرحا حقيقيا للمرة الثانية الأولى حين أنجبت يحيى . .
- ألم تفرحي لولادتي
- فرحت . كان شيئا مكررا . يحيى الثاني أكثر فرحا منك . فرحا حقيقيا .

انطلقا . كل منهما يغني فرحه على طريقته دون صوت .

التقت الزوجة حماتها للمرة الأولى وهي مستلقية وسط أكوام هائلة من باقات الورد والبطاقات التي تجمعها عبير بسرعة وكأنها سر لا يحق لأحد الإطلاع عليه . جاءت العجوز بلهفة ليصدمها برود الزوجة التي تلقت قبلتها وهي تبعد وجهها كثيرا عن عناقها . ارتدت العجوز إلى الوراء ككرة مطاط صدمت حائطا .
- أين يحيى ؟

وزمت الأم شفتيها وسط كركرة غير مبررة لعبير
- هل أسميته يحيى ؟

فرد هو كمن يؤكد حضوره
- أنا أسميته يحيى أيضا .

نظرت عميقا بعينيه . ليبادلها نظرة لم تخل من الرجاء بقليل من الوقار حفاظا لهيبة العجوز . وقطعت إمارات الحنق المتبادلة بين الأربعة ممرضة تدفع عربة الطفل . تلتفت الجدة العجوز نظرت بعيدا في وجهه ثم صرخت بقوة
- انه يحيى . يحيى . يحيى .

قالت ساخرة

- أسكتها وليكن اسمه يحيى .
- انتهى الأمر يا أمي كما تريدين هو يحيى .
- أنت لا تفهم . انه هو يحيى .

رأت أن ذلك وعيا ملئ بالجنون الحقيقي . سكتت ثم تهاوت على المقعد . ناولها كوب الماء ومسح على رأسها وهو يقبلها .
- اٍن ضحى طيبة . هي فقط مريضة وواهنة .
- لا تعلمني ما أعرفه جيدا يا ولد .

وشعر أنه يسقط في متاهة أخرى .
- لا بأس يا أمي . فلنعد الآن .
- ويحيى !

وأبدت ضحى تذمرا أكثر
- ماذا عنه ؟ هل ستأخذينه معك .
- لا يا ابنتي هو ابنك لكنني جدته .
- عرفنا ذلك .

وأدارت وجهها إلى عبير في الجانب الآخر التي أشارت بيدها ما معناه ( هوس ) . عاد إسماعيل بأمه إلى المزرعة وفي الطريق قالت

- أكاد أجن يا بني . لو لم تلده الآن فقط لقلت انه ابني .
- ربما يشبه يحيى وهو صغير فذكرك به ، ذلك يحدث .
- وأنت لم تفهم أيضا لم تفهم . انه ابني وأنا أعرف ذلك .

حين وصلا المزرعة ترجلت من السيارة . وتبعها .

- ألن نأكل الآن إنني جائع جدا .

قبل أن تنهض إلى مطبخها قالت

- أشياء كثيرة تبدأ بأشكال مختلفة لكنها دائما تنتهي بشكل مماثل !

لم يعلق . هو يعرف أنها تقصده ولم يحدد في أي موضع من مواقعه المليئة بالثغرات كالجبن السويسري .

كان غائبا حين خرجت من المستشفى ترافقها عبير حتى البيت . جاء في زيارته المعتادة أخبروه أنها خرجت قبل قليل . وذهب غاضبا يضع حدا لما يحصل .
- لم تكلف نفسك مرافقتي .
- ليس صراخك بوجهي هو الذي يغير الموضوع . أصبحت لا تطاقين .

وحين حاولت عبير أن تخرج أمسكت بها
- أريدك إلى جانبي .

طلبت منه بلطف بعد ذلك أن ينتقل للشاليه بشكل مؤقت حتى تمضي نقاهتها . رأى حقيبته جاهزة في المدخل .
- يبدو أنه أمر لا طلب . لا يهم .

ولم ترد . حمل حقيبته ومضى .

بقيت وحيدة في منزلها . تشعر بأن همّا كبيرا قد أزاحته عن كاهلها دون أن يكلف عناءً . تحيط بها خادمتها والأخرى التى خصصتها للطفل . وتقاسمها عبير فراشها كل ليلة كقدر حتمي .

أصبح يزور البيت كزائر عابر يرى بهجة عينيه في عيني الطفل . والذي ترسله مع الخادمة ليراه في الأسفل حاملة معها العذر الأبدي " إنها نائمة " يترنح في حياته التي ظنها الحياة بين المكتب والشاليه والمزرعة . يحدث أمه عن يحيى الذي تعلقت به . يتأخر كثيرا في العمل في مكتبه دون أن تكلف نفسها الرد على اتصالاته . كان ذلك العذر الذي يتلقاه وإذا تغير قالوا " إنها تعبه في الأعلى " . واستمرت ترسل غداءه كل يوم إلى المكتب .

بعد أربعين يوما هي مدة نقاهتها عاد وهو يسأل نفسه في الطريق
" لماذا أربعين يوما . ليس شهرا قمريا أو شمسيا ، ما هي علاقة الأربعين بالمولود أو الأم " شعر أنه يهذي باتجاه الإرث الذي يتلقاه المرء في أربعينه .

رآها تجلس على كرسي الخيزران في الحديقة تمد رجليها على طاولة صغيرة فوقها وسادة من ريش . وعبير تقعى تحتها ككلب أليف ، فيما تحضر الخادمة المهد المتأرجح إلى جوارها . ألقى تحيته . بدت الانطباعات غامضة على الوجوه . لم تتهلل عضلة من وجهها الخريفي . أمر إحدى الخادمات بإحضار حقيبته من السيارة . قالت لها " لا " . ثم التفت إليه

- عليك أن تأتي حين أقرر أنا وليس قبل .
- ولكن !
- أرجوك . عد إلى الشاليه الآن . لست مستعدة .

خمن أن ذلك أمر نسوي . اتجه نحو الصبيّ قبّله ثم مضى في طريقه . . عاد إلى أمه كما يفعل دائما حين يكون متضايقا جدا .

وهي تضع إبريق الشاي على الفحم

- هل فكرت جيدا بما قلت لك ؟
- وماذا قلت يا أمي ؟

صبت له الشاي
- ألم تعد تسمع جيدا ؟ إنها ليست لك يا بني !

ولم يرد هو يعلم غضب الأم على زوجته الباردة في لقائها . أكملت أسئلتها وهي تمسح شفتيها بإصبعين وتحدق بعيدا عن عينيه
- هذه التي تزوجتها ؟ من هي ؟ كم عمرها ؟ أين تعيش ؟ كيف تعيش ؟ من هم أهلها ؟
- أمي ! أنت سريعة جدا . إنها زوجتي وأم يحيى .

أزاح كوب الشاي قليلا وألقى رأسه في حجرها . رأى السماء صافية خالية من الغيوم والطيور . مررت أصابعها في شعره . تخيلت أنها تهدهده كثيرا في وقت ضاع منها صغيرا .

" أمي تقول أن المرأة تكره زوجها أيام حملها ! "

قالت عبير ضاحكة . وهى لا تخفي فرحا في التوتر الذي ينتاب علاقة الزوجين .

ردت ضحى وهي تدلك ساقيها بمسحوق كيميائي .

- يجب أن تعرفي أنه انتهى الآن . هذا المهد هو كل ما أريده منه !
- أنت امرأة لا يمكن لأحد أن يفهمك جيدا .
- وأنت فتاة صغيرة وحمقاء .
- هل ستحرمينه ابنه ؟
- يستطيع أن يراه متى يشاء .
- ماذا ؟
- هو كذلك . سننفصل بحب كما التقينا أول مرة بحب .

ليس لأحد فعلا أن يفهم دوافع ضحى تجاه زوجها الشاب . والذي يصغرها بسنوات عمره كاملة . فكما هي عصية على فهم إسماعيل هي عصية على فهم عبير . ولن تنكر عبير أن ذلك يسعدها . وإحساسها بعطف مفاجئ تجاه إسماعيل لن يغير سعادتها . ولم تتدخل اكثر في حوارها معها . فضلت أن تبقى متفرجة على الأمور . تحصد نتائجها دون التدخل المباشر بها . فقررت ألا تعود للأسئلة الغبية في حرب هي ليست طرفا فيها .

الفصل الثامن

مرت أربعين أخرى ولم يحن الوقت التي تريده ضحى كي يمر أطول ، مراهنة على البعد التلقائي بينهما محاولة أن تغيب عن وجهه لينسى ملامحها قليلا . أما هو فكرس وجوده في البيت أثناء غيابها . يجلس لساعات يناغي كتلة اللحم الحمراء . حتى توهمت الخادمة أنها تربي طفلين لا طفلا واحدا . فشلت كل محاولاته في التودد إليها لكنها أدركت أن وجوده الدائم سيستمر حتى يدفنها في بيتها .

لم يتخيل أن ما يسمعه يمكن أن يصدر عن امرأة تجاوزت ثلاثينها بنصف عقد . هي مصابة بعصاب لم يكتشف في أيام جهله الأول . في جلسة التفاهم التي اقترحتها وأصرت على حضور عبير كمرافقة لها بدا وجهها جامدا متعبا وكأنما هرسته سنوات مفاجئة في ثمانين يوما .
- لنتحدث بحب . أردتها هنا لتشهد أنني لازلت أحبك وأفعل هذا لأنني أحبك .
- لا أمانع في وجودها . المهم أن نتفق .

والحق أن عبير لم تكن تفضل هذا الحضور وإنما جاءت تحت إلحاح حبيبتها . ولم تتدخل في أول الحرب التي بدأت كلاما بين الطرفين وان وقفت بالطبع إلى جانب ضحى .
- اسمعني جيدا . أعرف أن ذلك يبدو صعبا ، جنونا . المهم أن تفهمني جيدا . أنت شاب في أول حياتك . بل قبل أولها . أنا تجربتك الأولى . أعرف ذلك . لكنني أكبر كثيرا من فتاة تستحقها . يجب أن تتزوج فتاة . ستعرف معنى الفرق . وتستطيع أن تنجب طوال حياتك أما أنا فلن يكون لي سواه . يجب أن تفهم . أستطيع أن أزوجك بنفسي بمن تختارها . أنها مسألة جسد يجب أن تفهم ما يعنيه الجسد . لو كنت أنانية لأبقيتك لي لوحدي . أنني لن أكون المرأة / الحلم حين تكون في قمة رجولتك . هل تفهم ؟

- حسنا . لا أمانع لأنني أحبك !
- اعرف ذلك . إنني أحبك اكثر
- سآخذ يحيى معي .

وضربت الطاولة بقوة . وهي تحمل السكين الذي أمامها لا شعوريا

- لا يمكن لأحد في الكون أن يأخذه .

ونهض . فأكملت

- اجلس أرجوك . .
- ليس لدي سوى ما قلت !

تركهما وخرج . توقعت أنه ذهب لاختطاف الطفل فخرجت خلفه مذهولة . لكنها فوجئت به يجلس في سيارته واضعا رأسه على المقود . انسلت بهدوء دون أن يلاحظها وسبقته إلى البيت . قاد إسماعيل سيارته حتى الشاليه . حمل حقيبته السوداء وترك كل شي . أرسل لها مفاتيح السيارة والشاليه والمكتب التجاري . شعر أنه يخوض حربا أخرى من أجل يحيى الثاني حربا لا تختلف في مكرها عن حربه الأولى وان بدت ناعمة وأقل عنفا . بدأها بالهجر أولا . . قال لنفسه
- لتفرح به قليلا من الوقت . لا بأس . سآخذه حين تتعلق به . ستشعر في فقده ما شعرت في فقدها .

خمنت والدته التي لاحظت بقاءه إلى جوارها نهاية علاقة غامضة عاشها ابنها الغر .

- لم تكن كذلك حين أحببتها .
- لولا وجود يحيى معها لطلبت منك أن تتركها .

بدأ ينظم حياته البسيطة . تخلص من تلك الجلبة الكبرى التي أدخلته فيها . ذات صباح نهض باكرا وكأن أحدهم يصب الماء في أذنه . . فتح غرفة السلاح المغلقة منذ وفاة والده وحمل بندقية صيد وهو يجري في حقل البرسيم . " كن ساكنا لكي تصيب متحركا " . أطلق النار على الطيور المرتجفة والهواء الساكن فانتفض الدجاج وهاجت الزريبة . وصرخ الغلام الآسيوي دون أن يسمعه
" مجنون إسماعيل . . مجنون " .

عاد ظهرا وهو يجري حافي القدمين تاركا صيده لجوارح عابرة أو كلاب ضالة . . نام على العلية في برودة دافئة .

بدأت الأمور تترتب بشكل آخر في حياة ضحى نحو عوْدها لطبيعتها السابقة . التغيير الذي طرأ أضاف لها طفلا جميلا . لم تأخذ حياتها كلفة قاسية في عودتها . وإنجابها لطفل يملأ حياتها الخاوية - إلا من عبير- دون جهد كبير والتزامات زوجية لم تكن في يوم ما مهيئة لها هو حلم تحقق بما يشبه الصدفة ليوقف تفكيرها بتبني طفل لا تعرف أي من الدماء تجري في عروقه . أما غياب إسماعيل فلم تفكر به كما تفكر به في حضوره . توقعت انه استسلم للموقف دون الحاجة لدخول حرب معها سيكون الخاسر فيها . ووفر عليها مجموعة من الأسلحة الممكنة في مواجهتها له . لكنها تفكر جيدا بالتخلص منه الآن . ستطلّقه ليجد نفسه متزوجا من أخرى وأبا لآخرين لا يشكل لهم هذا اليحيى سوى الحقد بعينه . ذلك ما يجعله يتنازل نهائيا عنه . وهي تطلب من الخادمة أن تحمل الطفل ليأخذ حمامه قالت له

" لقد ضحيت من أجلك بأشياء لن تفهمها . ولا أظنك ستفعلها من أجلي . ليس لأحد أن يضحي بجسد خرافيّ من أجل جسد رخو كهذا " .

استيقظ يحيى قبل مغيب الشمس . رأى برتقالها يصبغ الشفق الدائري . ووالدته تقذف ديكان يتناحران على لاشيء حتى كادا يمزقان بعضهما .

" على ماذا تتخاصمان أيها الغبيان ؟ من قلة الدجاج ! "

قدم له الغلام لبنا طازجا تطفو على سطحه زبدة صفراء . ذلك ما يفعله والده عصر كل يوم وهو يقول
" اللبن سيعوض الملح الذي تخسره " .
- أحضر حقيبتي السوداء . تجدها في غرفتي .
عاد الغلام بالحقيبة . نفض إسماعيل أشياءها . أخرج المسدس من خرقته وحين رأى أن لا أحد يراقبه . وضع الخرقة على أنفه . هب واقفا على قدميه . " يا إلهي . الرائحة . الرائحة . " . وهو يعود من جنون صغير ينتابه . سحب مشط المسدس . جاءه صوت والده حزينا ناعما . .

- أتعرف أنني لوحدي يا بني ! وأنت لم تكلف نفسك الصلاة علي . .

تسمّر في موضعه . ممسكا المشط بيده والمسدس بالأخرى .

- وأين يحيى يا والدي !
- يحيى تركني يا بني . كما تركتني أنت . أيها الأبناء الأشقياء . .
- ماذا تقصد يا أبي ؟ تركك إلى أين ؟
- لا أعلم يا إسماعيل . انه لا يسمعني لولا أنه قد مات لقلت انه مات ثانية . .

فكر سريعا : أن يموت ثانية يعني أنه عاش .

- ألم يقل لك شيئا قبل رحيله .
- أبدا يا بنيّ . كان يهذي في رحلتنا إلى هناك " سأحاول مرة أخرى " . .

قفز إسماعيل من العلية إلى الأرض . ركض إلى أمه وهي تنثر حب ذرة وشعير حول الدجاج .

- أمي ! هل رأيت مرة أبي في الحلم ؟
- التي تصلي لا ترى أرواحا شريرة كأبيك !
- إني أعني . . انه يحيى . ذلك الطفل هو يحيى .
- لقد سمعتني أقول هذا من قبل .
- سمعت أبي . . أقصد . لن تفهمي . .
- وهل فهمتني من قبل .

وانطلق بسيارته . لم تكن ضحى في المنزل . صرخت الخادمة وهو ينقض على الطفل ، أبعدها خارج الغرفة . ولم يزعجه صراخها وهي تضرب الباب بكلتا يديها . قشر الملابس القطنية الناعمة . وحين تعرى جسده . سقط مغشيا عليه . والطفل يصرخ . يحرك يديه في الهواء . تلمع في جسده ثلاث ندوب : في تجويف الكتف وتحت الثدي الأيمن وفوق الحالب .

كسر السائق الباب حين لم يرد عليه سوى صراخ الطفل . وجده ملقيا على الأرض والطفل عاريا . أخرجوه من الغرفة رشوا وجهه بالماء البارد . حين أفاق صرخ
- أبي . يحيى هنا يا أبي ! !

ترك الطفل والمنزل ولم يستطع أحد منهم أن يحدد وجهته . . حين أخبروا ضحى بما حدث توقعت أنه قد جن . جاء صوته في المساء مخنوقا عبر الهاتف .

- يجب أن نتفاهم !
- انت مجنون ! ماذا فعلت؟
- هل رأيت الطفل عاريا ؟
- بالطبع !
- انه أخي يحيى . انظري إلى ندوبه .
- أنت مجنون . أنت طفل أنجب طفلا . انتظر قليلا .

" جرديه من ملابسه " مخاطبة الخادمة . تأملت بقع سوداء في ثلاث مواضع . عادت إلى الهاتف

- هذه ندوب وحم . كل الأطفال يحملونها وربما كنت تحملها أنت .
- اسمعي جيدا . هذا الطفل لأمي وسيعود لأمي . لم تكوني سوى حاضنة له !

أغلقت الهاتف بوجهه .

مرّ أكثر من أسبوع . لازمت الطفل ليل نهار . تحمله معها أينما ذهبت . تتركه مع الخادمة في المستشفى تحذر رجال الأمن من دخوله دون علمها . ووظفت المزارع والسائق حارسين بالإضافة لعملهما .

أما هو فعاد بعد يومين إلى المزرعة ليجد أمه تشتعل غيظا .

- يا بني اتركها تحمله . هو سيعرف طريقه إلى هنا . لقد ورثت العجلة من أبيك .
- انه يحيى يا أمي .
- أعرف أن الله عوضني يحيى بيحيى . أنت تفسد كل شيء هل تعتقد أن امرأة عاشت مبتورة الأجزاء مثلي دون حكمة إلهية . اتركه يا ولدي . إنها أمه .

وفكر في التريث . والده لم يكن عجولا كما تقول أمه . انتظر ثمان سنوات ليثأر ليحيى والآن يشغله يحيى حيا كما أشغله ميتا . اتصل بها يعتذر ويطمئنها
- اسمعي . هو لك . حين يكبر سنترك الخيار له .
- موافقة . فقط ارحمني . انك تعذب أمومتي وتنكرها .

هدأ كل شيء . مرت أشهر طويلة لم يدخل منزلها . فعادت إلى طبيعتها . في ليلة باردة حمل حقيبته وتوجه إلى منزلها . صعد خلسة بعد منتصف الليل إلى غرفتها . فتحها . رآها في الضوء تغط بنوم عميق إلى جوارها جسد . جلس على المقعد أخرج المسدس . دس الخرقة في جيبه . أطلق مرتين . لم يتأوه الجسدان . سقطا في نومة أبدية .

- كيف لي أن أعرف أنهما امرأتان . كانا جسدين تحت لحاف واحد .

خاطبه المفتش وهما يشاهدان جسدين أنثويين عاريين وغارقين بالدماء . .

- لا أعلم . إن كان ذلك حقيقيا . سنترك للقضاة تفسير الأمر . هل تحمل مسدسا دائما معك
- نعم ! أنا مزارع ـ أحتاج لمسدسي . كان معي في الحقيبة .

نهاية ثانية

بداية ثانية

توقف المطر بعد ساعات من هطوله . تماوجت سنابل الشعير واخضر الندى على حقل البرسيم . تدافع فتى في العشرينات من عمره يتبعه صبي في السادسة يصرخ

- إسماعيل . انتظرني .

وهو يرد دون أن يلتفت إليه

- عد إلى أمك . الطريق طويل .

لم يمنحه فرصة ليقول له يا أبي . قال : الأبوة قاسية . وليس لمثلي أن يحتملها كان يحيى يلهث خلفه . نفسه يتصارع . والعجوز المريضة تصرخ به : عد يا يحيى ! عد يا بني !

قال لها : أنت أمه . لن يعيد الثأر يحيى الأول . وأعادت اللعبة يحيى الثاني أليس هذا أفضل يا أمي !

أخذ يعدو خلف الشاب الفتيّ وهو يفكر جديا باللحاق به .

- يا يحيى هل تعلم أنك كنت أكبر مني يوما ما .
- انتظرني حتى أصدقك . لا تطلقه حتى أراه .

ولم يتوقف إسماعيل وهو يحرك سكون الهواء من سرعته . ولم يصدق يحيى خرافة إسماعيل ، رغم تأكيد أمه له . ولم يصدقها الكبش الذي أنقذه إسماعيل من قرنيه . لم تصدقها الطيور المهاجرة والمقيمة .

- الذي يؤلمني الآن . إنني لم أعد أميز رائحة عن أخرى . تشابهت روائح النساء والأشجار في أنفي . لم أعد حياّ كما كنت .
- أرجوك إسماعيل . لا تطلقه

راح الكهل الآسيوي يضحك وهو يتابع قفزات يحيى بقدميه العاريتين أما الأم . فلم تر سوى مجنونين يطلقان سيقانهم للقبض على الريح .

- يحيى انه ضخم . ضخم كرخ .
- دعني أراه .

انتفض الطائر الخرافي . أحس بخطر قادم يفوق الخطر الذي يعيشه الآن نفض جناحيه . أسرع قليلا على قدميه . وقف إسماعيل مبهورا وهو ينظر لأضخم كائن يطير . يحمل في إحدى رجليه فخهم الصغير . .

- لقد طار . أفزعته يا إسماعيل . أنت غبيّ .
- لا تقل لي غبيا يا دنيء . .
- كان يجب أن ننصب الفخ الكبير . قلت لك . لم تسمعني .

احتضن يحيى الباكي على صيده وفخه .

- لا نعلم يا يحيى أيهما الأكبر: الصيد أم الفخ . علينا أن نجرب .
- في المرة القادمة تسمعني !
- ولكن الفخ الأكبر يقتل الصيد الصغير .

ولم يرد يحيى .

- ربما في المدرسة تتعلم أشياء كثيرة

قال إسماعيل .

- ومتى سأذهب ؟
- سنذهب أولا في زيارة قصيرة

ذهبا إلى المقبرة . صلىّ على والده . وتحت رأسه حفر حفرة صغيرة دس فيها خرقة بيضاء عليها بقع بنية اللون .
حمل العائلة ثانية واتجه إلى بيت في إحدى الضواحي هناك حيث لا يعرفه أحد ولا يعرف أحدا

يونيو 2001/يونيو2002


 

 



 

 

أقرأ أيضاً: