ترجمة: احمد حيدري
(إيران)
مع تفتح باقات ضوء الشمس بقامتها القصيرة ووجهها المحمر وطفلها على صدرها وقفت إلى جانب رجل يقول لسائق السيارة في محطة قلهك آجان :
هذه المرأة أتت إلى هنا وتريد أن تذهب إلى مازندران أوصلها لتلك المدينة تكسب ثوابا.
صعدت هذه المرأة بلا أي اكتراث إلى السيارة، ممسكة بأسنانها طرف شادرها حاملة طفلها ذا العامين على يد وعلى اليد الأخرى صرة ثياب بيضاء.
جلست على مقعد غطي بقطعة جلد وأسندت طفلها الأشقر على يدها، ثلاثة شرطة وإمرة في داخل السيارة ينظرون إليها بلا اعتناء، حتى السائق لم يلتفت لرؤيتها، جاءها الشرطي سائلا:
ذاهبة إلى مازندران ماذا تفعلين؟
لأجد زوجي.
وهل ضاع زوجك؟
شهر منذ رماني زوجي وتركني بلا نقود.
ومن أين تعلمين انه هناك؟
قال لي صديقه ( جل غلام).
إذا كان زوجك يملك هذه الشهامة سيهرب من هناك أيضا، كم تملكين من المال؟
تومانان والفين.
ما اسمك ؟
زرين كلاه.
من أين انت؟
من اهل الويز شهر يار.
بدل الذهاب خلف زوجك عودي إلى شهريار، والان فصل العنب، اذهبي إلى اهلك واقرانك وتمتعي هناك بالعنب، ذهابك إلى مازندران لا جدوى منه، ستتغربين هناك،هذا مع.........شطارتك الواضحة!
يجب أن اذهب.
قالت هذه الجملة بكل ثقة، كانما هو قرار لا رجعة فيه، وبنظرات فاقدة للبريق ارسلتها امامها بلا أن ترى اي شئ. بلا تركيز او وعي تتحدث،تفكر في مكان اخر، التفت الشرطي إلى السائق وقال له:
-انزل هذه المرأة عند دروازه الدولة ودلها على الطريق.
زرين كلاه اصبحت اكثر ثقة بعد أن سمعت ما قاله الشرطي الحامل لمعنى الحماية قالت:
انا غريبة دلوني على الطريق ولكم الثواب.
عادت زرين كلاه بنظرها الفاقد للنور إلى الامام بلا أن تتحرك من مكانها مثل كلب مضروب. عينان داعجتان، حاجبان رفيعان، انف صغير، شفتان مكتنزتان، وجنتان هزيلتان، بشرة وجهها قمحية صافية، طوال الطرق تتحرك في مكانها بلا أن يشعر بها احد،طفلها دائم الصمت وحزين في يده رمانة راوية.
قرب دروازه الدولة اوقف السائق السيارة ودلها على الطريق المؤدي إلى (شميران)، نزلت زرين كلاه من السيارة ومشت في الطريق الطويل المشمس حاضنة طفلها.
بعد انتظار دام ساعة امام دروازه شميران في احد ى محطات الباصات رضي صاحب الكراج أن يوصلها بسيارته إلى (آسياس ) الواقعة على طريق (ساري) وياخذ منها ستة ريالات.
دلوا زرين كلاه على موقف الباصات الذي احتشد الناس حوله بحاجياتهم واحمالهم، تراص المحتشدون ليفتحوا لها طريقا ضيقا تمر منه بصعوبة، وضعوا ماء للباص، انطلق البوق مشى الباص قاذفا الدخان و رائحة البنزين والزيت المحترق في الهواء، المشاهد على الطرق في البداية لها طابعا واحد لا يتغير، وتبدلت المشاهد مع سير الباص اذ ظهرت في الافق الجبال والتلال والاشجار البعيدة ولكن زرين كلاه بقيت على حالتها ذابلة تحدق امامها.
توقف الباص في عدة اماكن ليقوم الشرطة برؤية ورقة العبور.
مع حلول الظهراصاب اطار السيارة عطل، نزل بعض الركاب ولكن زرين كلاه لم تتحرك من مكانها خوفا من أن ياخذ مكانها. فتحت صرتها واخرجت بعض الخبز والجبن، اعطت لابنها قطعة خبز بالجبن واكلت هي لقيمات. الطفل كانه عصفور مدمن لا يصدر منه صوت او حركة دائم النعاس ولا رغبة لديه للكلام او للبكاء، مرة اخرى سار الباص ومرت الساعات، مروا من( فيروز كو) وبدات الغابة بمناظرها الخلابة تظهر للاعين.
وزرين كلاه تنظر إلى كل هذه الاشياء بعينين فقدت بريقهما ولا تشعر باي شيئ، وولدت فيها سعادة غريبة.
تسارعت ضربات قلبها تنفست بحرية لانها اقتربت من هدفها وغدا تسطيع أن تجد زوجها (جل ببو).
كيف سيكون منزله؟
اقرباءه كيف هو شكلهم، وكيف يتعاملون معه؟
بعد فراق دام شهر، كيف ستتعامل مع (جل ببو)وماذا ستقول؟
ولكنها تعلم عندما تقف امام جل ببو لن تقول كلمة واحدة، يخدر لسانها وتسلب قواها وكأن جل ببو يملك قوى خارقة يهشم كل ا فكرها وارادتها وقواها لتكون تابعة له.
وتعلم زرين كلاه أن جل ببو سيهدد وسيكون الجلد، ذلك الجلد العنيف الذي يصبه على الحمير، وزرين كلاه ذاهبة من اجل ذلك، متمنية ذلك الجلد وقد يكون ذهابها من اجل الحصول على جلدات من يد جل ببو.
تمر سنتان على زواج زرين كلاه بجل ببو، اول مرة رات فيها جل ببو كان في يوم قطاف العنب، زرين كلاه و مهر بانو بنت جيرانهم وموشل واختيها خورشيد كلاه وبماني كان عملهن الذهاب كل يوم إلى البستان مجتمعين رجالا ونساء لقطف العنب ووضعه في الصناديق الخشبية او السلال.
وبعد ذلك ياخذن السلال إلى النهر ويضعنها تحت ظلال شجرة سنار قديمة تشد عليها النذور وقطع القماش، وهناك تجلس امها مع جوهر بانو،ام عباس، وخوش قدم وكشور سلطان، ويقوم ادي جلداد وخدايار باعطاء الصناديق إلى مانقار علي وفي تلك الفترة للتو دخلت مفاصل الابواب، جل ببو المازاندراني اخذ بالغناء فعلى صوت الجميع مغنيا:
((گالش کوري آه هاي له له
بوشيم بجار آه هاي له له
بيا بشيم بجار آه هاي له له
بيا بيشم فاکون تو ميخواهري)) 1
جل ببو يعدل الفاظ الاغنية، والفتيات يقهقهن وحتى العصر ذلك اليوم بقيت الاغنية تتردد وما لفت انتباه الفتيات ناحية جل ببو ليس غناءه، بل جسارته التي جذبت القلوب اليه وخاصة زرين كلاه، ما أن رات زرين كلاه جسمه الرياضي، رقبته الغليظة، شفتيه الحمراوين، شعره الاشقر، عضلاته البيضاء التي رات ابنلاج الشعرعليها، وخاصة مهارته في وضع الصناديق وتبديلها، عندها غلبت على امرها.
اضافة للميل الذي اظهره جل ببو لها، كانت النظرات الحارقة المتبادلة بينهما، كل هذا كان كافيا لتقع زرين كلاه ذات 14 عاما في شباكه.
زرين كلاه قلبها يرقص، وجهها مع كل لحظة يتبدل لونه، لم يسبق أن حدث لها ذلك، لانها إلى الان لم تعرف عن الرجل الكثير.
كثيرا ما ضربتها امها ولسعتاه بنظرات الغضب، اخواتيها الاكبر سنا منها ينظران اليها بحسد ويخفين عنها اسرارهها.
وان فكرت كثيرا زرين كلاه بعا لم الرجال ولكنها لم تجرا على السؤال من احد، وتعرف انه موضوع سيئ وعليها الابتعاد عنه، فقط في بعض الاوقات تفتح مهربانو بنت جيرانهم والسيدة (كچولو) و وبلوري عن اسرار عالم الرجل، وتفتش زرين كلاه في هذا العالم البعيد إلى درجة أن عينيها واذنيها تراقبان كل ما يقال.
حتى مهر بانو نقلت لها في احدى المناسبات حكايتها مع شيرزاد ابن ماندقار علي، ولكن نظرة جل ببو غيرت كل الافكار التي تصورتها زرين كلاه عن العشق والجنس، ارتخت رجلاها واحست انها لا تستطيع أن تقول شيئا، وعرفت أن كل ذرات جسدها تريد جل ببو ولن تستطيع العيش بدونه. ولكن من جميل الصدف في ذلك اليوم أن زرين كلاه ارتدت عباءة حمراء جديدة وفوطة قد احضرتها لها عمتها من مشهد، لفتها على راسها وتركت جدائلها تخرج منها.
جاءت تحمل الجمال، فاضافة إلى على رشاقتها وحركاتها المنغمة وبهاء وجهها، ثيابها اضافت جمالا اخر، ولهذا السبب من بين مئات البنات وفي ذلك الزحام يلتفت لها جل بو ويسرق النظرات ويبتسم لها.
وبذكائها واحساسها الذي تملكه طفلة لم يبقى لدى زرين كلاه شك أن جل ببو يميل اليها وولدت علاقة خاصة بينها.
في مثل هذه الحالة ماذا تفعل ؟
الدم يجري في جسدها واحست بحرارة وجنتيها وكانهما شعلة تتوهج، احمرت إلى درجة لفتت انتباه شهر بانو بنت كشور سلطان.
هل تستطيع زرين كلاه أن تعطي لنفسها مثل هذا الامل وتصبح زوجة لجل ببو ؟
مع العلم أن اختيها الاكبر منها سنا لم يتزوجا هذا إلى انها من بين اختيها الاقل حظا عند امها.
لانها قبل أن تاتي إلى الدنيا فارق ابوها الدنيا ودائما ما وبختها امها بآكلة رأس ابيها، ويا صاحبة القدم السيئة، ولكن الحقيقة هي : بعد أن ولادتها لزرين كلاه اصابتها حمى شديدة ارقدتها شهرين في المشفى من اجل ذلك تكرهها.
في ذلك اليوم قبل الغروب بقليل وبعد انتهاء العمال من عملهم، خرجوا من ثنايا الدغل مثل خيوط بنية تنخفض الارض بهم مرة وترتفع، كانهم خيوط حيكت مع بعضها، خرجوا وساروا نحو النهر ذي المياه العكرة، حاملين العنب ليعطوه، مثل كل يوم، لكبير قريتهم (ماندقار علي ).
زرين كلاه وامها ومهربانو وغوغل التي صادفنها في الطريق ساروا إلى قلعة (جلي خوشان ) ذات البرج والسور المرتفعين، وفي الطريق فتحت زرين كلاه قلبها لمهر بانو ووعدتها الاخيرة أن تساعدها أن استطاعت ولن تقصر ابدا.
اي ليلة صعبة مرت على زرين كلاه، ليلة مقمرة، لم تستطع النوم، قامت لتشرب الماء وبعد ذلك ذهبت إلى شرفة بيتهم،لا لن ينفع ذلك ولن تنام، نسيم عليل يهب، ورغم انحسار الثوب عن صدرها الا انها لم تشعر بالبرد.
شخير امها الشبيه بصوت التنين ياتيها، وكلما استيقظت امها تناديها، ولكن ما اهمية ذلك ؟ لانها تشعر بالثورة في داخلها، تسللت إلى جانب حوض الماء، ووقفت تحت شجرة النارون، في هذه الساعة وكأن الشجر، الارض، السماء النجوم، القمر كلها تتحدث اليها بلغة خاصة، شعور بالحزن والسعادة شعور لم تشعر به من قبل، هي تعرف لغة الاشجار، النسيم وحتى الجدران العالية لبيتهم والقلعة المحبوسة فيها، كذلك الجرة التي تركت في حوض الماء تفهم لغتها وتشعر بها.
النجوم تشبه حبات الندى المنثورة في الهواء،ضعيفة وخائفة تتلألأ مع الضوء المرتجف، كل هذه العوالم التي لا اهمية لها الان عجيبة هي عليها ، غير طبيعية ومملؤة بالاسرار جاؤوها حاملين معنى البعيد والمجهول ولم يشعر احد بهذا الاهتزاز.
بلا شعور منها مررت يدها على صدرها وثدييها حتى ذراعيها، بعثر النسيم ظفيرتيها، وجلست إلى جانب الحوض، احتوتها العبرة واخذت بالبكاء، دموعها الحارة جرت على خديها.
هذا الجسد البض المتمايل خلق ليحضنه جل ببو، ثديان صغيران، ذراعاها وكل جسدها الافضل أن يكونوا تحت الطين، تحت التراب تنحل افضل من بيت امها تعيش الذبول والذل ويتلاشى ثدياها، وتذهب حياتها هدرا بلا عشق.
ارادت أن تمرغ نفسها بالتراب، أن تمزق قميصها قطعة قطعة لترتاح من هذا الشر من هذا الظلم المتعمق حتى الحنجرة.
بكاء حار تقطعه تنهدات، في هذه اللحظات تجسدت امامها كل مأسي حياتها، السباب الذي سمعته، الضرب الذي سقط عليها يوم كانت طفلة، تعطي امها لها قطعة خبز بيد وبالاخرى تضربها على راسها وتجلسها خلف باب البيت.
منذ ذلك الوقت وهي تلعب مع الاطفال الصلع والمصابين بالرمد.
لم ترى من امها اي محبة.
كل هذه المآسي تراكمها في ذهنها وتكبرعشرات المرات اكثر مما هي عليه في الواقع.
ومع ذلك كانت مهربانو وامها في بعض الاوقات هما من ياخذان بيدها، وعندما تضربها امها تهرب إلى بيتهما. زرين كلاه تمسح دموعها بكميها وتهدأ قليلا، خف ُ قلقها، ارتياح بلا سبب تملكها.
اغمضت عينيها أخذت انفاسا من الهواء العليل ولم تذهب صورة جل ببو من امامها، عضلاته المفتولة تحمل عشرة امنان (2) مثل القشة ويضعها على ظهر الحمار، حاجباه الموصلين ببعضهما، لحيته الكثيفة.
ادركت أن هناك دنيا اخرى غير هذه الدنيا الصغيرة.
لم يات النوم لها، تتقلب في فراشها، وصممت اذا وصلت إلى مرادها واصبحت زوجة لجل ببو وتحررت من سجن بيت ابيها أن تشتري حمامة وتطلقها، وفي ليلة الجمعة تشعل شمعة في مرقد (آغا بي بي سكينة )، لان ستارة بنت نايب عبدالله مير آب فعلت ذلك وتزوجت.
في الصباح استيقظت زرين كلاه بعينين حمراوين من اثر السهر، وذهبت لقطف العنب. في الطريق إلى جانب نهر (سياه آب) امام جذع شجرة الدلب، واهبت الحوائج، في (جوغين) توقفت في نفس المكان الذي كان جل ببو يعبئ العنب في الصناديق.
اوراق العنب المسحوقة في الامس، روث الحمير وقشور حب اليقطين مبعثرة على الارض.
مدت زرين كلاه يدها إلى رقبتها واخذت قطعة قماش وشدتها على غصن شجرة الدلب وتمنت شيئا، وحين عودتها لاقتها مهر بانو وقالت لها :
لماذا لم تنتظريني اليوم ؟ وماذا تفعلين هنا؟
لاشئ، ظننتك نائمة، ولم ارد أن ايقظك، واليوم صحوت مبكرا.
لكن مهر بانو قاطعتها و قالت:
- اعرف.... من اجل جل ببو.
فتحت زرين كلاه قلبها لمهربانو وحكت لها عن سرها، والنذر الذي نذرته، تبادلا الحديث حول الامر وبدورها مهربانو وعدت زرين كلاه أن تتحدث مع امها عن هذا الامر. لان ام مهربانو هي الوحيدة التي تهتم بزرين كلاه.
كم انتظرت زرين كلاه ولكنها لم ترى جل ببو، وجاءت بخبره مهربانو اذ كان يعمل في (بكه ).
وعند الظهر عادوا إلى البيت للغداء، زرين كلاه دخلت غرفتها واغلقت الباب ووقفت امام المرآة حزينة تمشط شعرها وتراقب ملامح وجهها بدقة لانها ستلتقي بجل ببو عصرا، كيف تبتسم ؟ كيف تتحرك؟، واخيرا قبلت بابتسامة مختصرة ترسمها عند اللقاء، ولانها اذا ضحكت فستبان اسنانها ولن يكون ذلك جيدا، وتركت خصلات من شعرها تسقط على جبينها، وابتسمت احساسا بالسعادة.
اذ رات نفسها جميلة ومحببة.
رموش طويلة، ابتسامة ساحرة، وجه طفولي و غمازتان تظهران عندما تبتسم، احمرار في الوجنتين مع وجه قمحي وشفتان شاها نيتان (3) وعيناها ساحرتان هما وجذابتان، ام مهر بانو تقول لها :
((عيناك قاتلتان))
كل هذا يجعلها متميزة على اقرانها.
عصرا عندما عادت زرين كلاه مع مهربانو من البستان كانت السعادة تسيطر على اعماق قلبها.
وصممت باي شكل أن يراها جل ببو.
وزاد تعجب زرين كلاه اذ راته هناك، ومر الوقت بالغناء ممزوجا بالضحك. وعلى خلاف بقية الايام اذ يمر الوقت وزرين كلاه حزينة ومغمومة، اليوم هي فرحة وسعيدة تقطف العنب وترى فالها عن طريقه. تاخذ حبة عنب لها وتعطي اخرى لمهربانو، وتحدث نفسها أن الحبة الاخيرة اذا كانت لها فستصل لمرادها، اي تكون زوجة لجل ببو.
قبل الغروب بقليل تبادل جل ببو وزرين كلاه النظرات وهما يمران من جانب اشجار الدلب.
جل ببو يبتسم لها وهي تجيبه بابتسامة، وكما رضيت عن نفسها امام المرآة رفعت يدها واخرجت خصلة من شعرها وكان لهتزاز راسها تاثيره.
مرت اربعة ايام على هذه الوتيرة، وفي كل يوم تزيد جراة زرين كلاه وولدت علاقة خاصة بينها وبين جل ببو، وجاء اليوم الخامس وجاءت مهربانو ببشارة اذ قامت امها بالواجب، قوت الفرح جعلت زرين كلاه تقبل مهربانو على شفتيها.
كيف فعلت ذلك؟؟
مع من تشاورت؟
لم تكن زرين كلاه بحاجة لفهم كل ذلك، هي تعرف أن العجائز لهن تجربة اكبر في الحياة، ويعرفن كيف يدبرن امرمقدمات الزواج، ويعرفن طرقا لن يصل لها عقل الشباب، والان تستطيع أن تامل نفسها بوصولها لمرادها.
ولكن المشكلة التي تقف عائقا امامها هي امها، لانها دائما تتهرب عندما يطرح هذا الموضوع تنفجر وتبدا بالشتم الفاحش الجاري على لسناها، لانها تاخذ راتب زرين كلاه كل شهر ثلاث غرانات.
وبعد اصرار وضغط ام مهربانو وبعد نزاع طويل قبلت ام زرين كلاه بشراء فستانا لها، ومع شراء كل قطعة من الثياب يرتفع صوتها : (ادعو الله أن اراك على خشبة الموت، وان يأتيك الموت فجاة وان ينقلب العرس عزاء، الهي ارى كبدك محترقا وان تبقى الحسرة في قلبك، أن تموتي شابة،مع هذا الزوج الحافي الذي وجدتيه.)
وقد شبعت زرين كلاه من الغضب ولم يعد ياثر فيها، اعطي لها قدرا نحاسيا وسماور برونزية كجهيزة.
في احد الايام عصرا دعت ام مهربانو اهل القرية لحضور الحفلة، نساء شبيهات بالدمى، لففن رقابهن بايشارب، الكل جاء من اجل عرس زرين كلاه، لكن اختيها خورشيد كلاه وبماني لم يحضرا.
احضروا رجل دين من قرية سيد معصوم ليعقد قرانمها، ومن اجل التبرك اعتلى المنبر وقرا سيرة آل البيت، واصرت ام زرين كلاه على قراءة ماساة العباس وبكى الجميع.
وبعد انقضاء المجلس امسك (ماندغار على ) وابنه شيرزاد برجلي العريس وحملاه إلى مجلس العروس واجلساه على الكرسي الملفوف بالاقمشة، وفي هذه اللحظة شرع شيرزاد بجمع المال وبدا بابيه قائلا وهو يضحك : دعوني اغرم ابي.
مهربانو تدور بالمجلس بصينيتها جاءت إلى ماندغار علي ووضعتاه امامه اخرج تومانين ووضعها في الصينية، وعلى الفور سمع صوت الطبل وراح الطبال ينشد :
اعطيت تومانين عمر بيتك.
جمع ما يقارب الثلاثين تومانا، وانتهى العرس بسعادة تغمر الجميع.
وفي الصباح ودعت زرين كلاه اخواتها و امها ولكن امها بدل أن تودعها بوجه باسم، اوصلتها إلى باب المنزل مثل خنزير مصاب بطلق ناري وجهها المجدور والشبيه بقشر بطيخ نقره الدجاج.
ذهبت زرين كلاه إلى بيت مهربنو وطلبت منها الاعتناء بنفسها وامها، قبلت مهربانو على جبينها واوصتها باشعال شمعة في ليلة السبت في مرقد ( اغا بي بي سكينة ) وان تطلق حمامة.
حملت زرين كلاه اغراضها، السماور والقدر النحاسي وذهبت إلى الميدان، إلى جانب شجرة الدلب واهبة الحوائج، وقف جل ببو ينتظرها ويراقبها آتية، ركب حماره وركبت هي آخر وبدات الرحلة إلى طهران، يوم كامل قضوه في الطريق، زرين كلاه من فرحها ارادت أن يكون لها جناحان، تتحدث بصوت عالي.
توسط القمر السماء وضم جل ببو بيده القوية زرين كلاه عدة مرات وقبلها قبلا قوية على شفتيها.
طعم قبله مالحة لها طعم الدمع.
جل ببو استبشر خيرا باسم زرين كلاه لان اسم قريته في مازندران هو ( زرين آباد ) او (زرين كلاه ) وهذا التصادف في الاسماء من اثر القسمة والنصيب.
عندما وصلا إلى طهران، مر عليهما شهران يسكنان غرفة صغيرة في حارة ( سرچمه )، شهران من السعادة.
جل ببو يذهب نهارا إلى العمل، وزرين كلاه تكنس وتمسح وتقضي اعما ل المنزل، والليل يقضياه في حب يتجدد مع اللحظات، نست زرين كلاه طفولتها، اخواتها، امها، حتى مهربانو، نست كل ذلك.
ولكن اللعنة على ابي رفيق السوء.
في الشهر الثالث على زواجهما تبدلت اخلاق جل ببو.
بدأ بالذهاب إلى مقهى (منزل رضا سبيلو ) مع ( جل غلام ) يدخنون البافور (4).
لم يعد يعطي زوجته مصروف البيت.
والعجيب في الامر بدل أن يخدره الترياق ويسلب ارادته ما أن يصل إلى البيت حتى يقوم بجلدها .
واول ما يقوم به الاعتراض، الاعتراض على توافه الامور مثلا يقول : لماذ احترقت زاوية شادر الصلاة او لما اشعلت السماور متاخرة ؟ ولماذا اول البارحة كان المرق مالحا ؟
عندها بعينيه الوقحتين يلوي رقبته ويحدق في الغرفة ويقوم بجلدها بالسوط الجلدي ذي العقدتين، كما تجلد الحمير، على راسها و ذراعيها، وهي تنوح، تلف نفسها بشادر الصلاة وتتاوه وثم تصرخ صراخا ياتي بجيرانهم صائحين وسابين وغاضبين وناصحين........
يرفس جل ببو زرين كلاه ويقذف بالسوط على الرف، يمتد البكاء والانين لساعات، يقوم جل ببو ويجلس القرفصاء في زاوية الغرفة مسندا ظهره على الصندوق ويملئ غليونه الشبيه بالجوزة، سرواله الازرق القصير ينزلق من على ركبتيه، ساقاه القويتان عجنتا السروال بضغطهما،لاح فخذاه الابيضان وزرين كلاه تبكي حالها، قال لها : مرأة ماذا عندنا الليلة ؟؟؟
تقوم زرين كلاه متمايلة متغنجة لتضع ( الديزي ) (5) في طبق نحاسي وتثرد الخبز فيها وتقطع البصل ثم تمسح يديها بطرف ثوبها.
فقط عندما ينزل زر الضوء الكهربائي ويذهبان للنوم على السرير الاحمر المزين بالورد الاخضر والاسود، يقوم جل ببو بتقبيل عيني زرين كلاه النازفة لدمع مالح.
هذا الامر يتكرر كل ليلة، حتى ولو كانت زرين كلاه تاخذ نصيبها من الجلد والآهات ولكن في الحقيقة هي تلتذ به.
تشعر انها صغيرة امام جل ببو، وكلما جلدت اكثر منه يزيد حبها له، تريد تقبيل يديه القويتين، خديه الاحمرين، رقبته اللغليظة، العضلات المفتولة، جسده المشعر، الشفتين الممتلأين، الاسنان البيضاء، خاصة رائحة جسده، رائحة جل ببو تشبه رائحة الاسطبل.
تصرفاته الخشنة، و اكثر ما تحب فيه هو ضربه لها، وهل هناك زوج افضل منه ؟
في الشهر التاسع ولدت زرين كلاه ولدا، وحمل الطفل خطين احمرين على ظهره، شبيهة بآثار الجلد، وتعتقد زرين كلاه أن الاثر ظهر من جراء الجلد الذي نزل عليها فانتقل إلى طفلها، الطفل كان دائم المرض،ووضعت زرين كلاه اسم ( مانده علي ) لولدها، واستلهمت هذا الاسم من شخصية ( ماندغار علي ) صاحب اللحية البيضاء حتى يبقى هذا الاسم على ومع طفلها.
بعد فترة يصيب الكساد عمل جل ببو، و احد حميره يموت والآخر باعه ليشتري به ترياقا، وكان يخرج ليجد عملا صدفة، تمر سنة على هذه الحال، وفي احد الايام يعطي جل ببو خمس تومانات لزرين كلاه مصروف عشرين يوما ليذهب بحثا عن عمل.
عشرون يومه اصبح شهرا بل اكثر،وان كانت زرين كلاه اعتادت الاقتصاد في مصروفها وتغض الطرف عن جوعها وجوع ابنها وتستمر في العمل، وتستطيع أن تبقى سنة كاملة تنتظره او سنتين شرط أن يعود لها.
فزرين كلاه تظن أن اي امرأة ترى جل ببو لن تتمالك نفسها، ومن الممكن أن يطردن من ذهنه العودة إلى زوجته.
لهذا قامت بالبحث عنه، ذهبت وسأ لت عن الاماكن التي يترددعليها وسالت عدة اشخاص عنه، ولكن لم تحصل على شيئ . ذهبت في احدى الليالي إلى مقهى ( خانه رضا سبيلو ) فتحت باب المقهى فتسرب دخان الترياق، الجالسين وجوههم مصفرة، عيونهم ميتة، اشكال لا تصدق، يحلقون بافكارهم الحزينة في عالمهم اللاهوتي، عرفت زرين كلاه (جل غلام ) نادت عليه وسالته عن زوجها اجابها كل غلام :
تقصدين ببو؟ ذهب هناك والعام القادم يعود مع نزول الثلج. تركك وترك الطفل، ذهب إلى قريته (زينا باد ) وقال لي لا تعطي عنواني لاحد.
زرين آباد ؟
نعم زينا باد.
ابهام زرين كلاه اخبرها أن جل ببو خدعها وهرب من يدها، ذهب إلى قريته، كثيرا ما حدثها عن عائلته في قرية ( زرين آباد ) التي تقع على طريق ساري ولديه هناك اخوان وقطعة ارض وماء وعلف .
جل ببو حدثها عن آماله واحلامه ولانه كسول سيذهب هناك ويبقى بلا عمل، ياكل وينام او على حد تعبيره : آكل الخيار وارمي رجلي على الحائط لانام. وزرين كلاه تعده انه سيجد عملا هناك، ويجيبها بتمتمة مغتضبة.
صممت زرين كلاه بالذهاب إلى مازندران لتجد جل ببو، الم يكن شهرا كافيا ؟ اتستطيع أن تبقي عينيها اكثرمن هذا على الطريق منتظره ؟
بعاده لم يعد يحتمل، انفاسه الحارة، حرارة جسده، شعره الكثيف وتلك الرائحة الشبية بالاسطبل، والان مع فراقه وابتعاده، ذكرياته المشبعة بالرموز والجاذبية تدفعها إلى الامام، لن تستطيع العيش بدونه.
فليكن ما يكن، هي تريده، ليس في يدها حيلة. سنتان هما التي ادمنته فيها وشهر، واكثر من شهر يمر ولا خبر عنه.
زرين كلاه تأمل نفسها أن تجد جل ببو مرة اخرى حتى تلسعها الجلدات تلك الجلدات التي يصبها على الحمير، ويضمها ولو مرة واحدة إلى صدره وهو يعضها كما كان يفعل، اثار السوط الحارة الزرقاء الباقية على ذراعيها، على هذه الآثار يقبلها ويمسح وجهه عليها وياخذها إلى الصور القديمة.
تريد تقبيله من رأسه حتى قدميه، تشمه، وتلاعبه.
ما لم تقم به سابقا او لم تجرأ على فعله تعرف الان قيمته، جل ببو بيديه الخشنتين وهما يضغطان على صدرها تعطيها لذة لا يمكن أن توصف، الحا جبان المتصلان،الاهداب الثائرة، واللحية ذات الون الاحمر،الشبية بالمكنسة، الانف الافطس، الوجنتين المحمرتين،ا نفاسه الحارقة وراسه الاصلع، الفم الواسع، شفتيه، عندما ياكل ( اللواشك) (6) يلوكها مثل حجر آسيا باسنان بيضاء، عينان واسعتين تلمعان مثل البرق، هذا الشكل اذا رآه طفل في الليل سيخاف ويظن انه غول بلا قرون ولا ذيل، وهو في عين زرين كلاه احلى وجه.
وبعكس ذكريات منزل اهلها، ترتعش اوصالها، سب وغضب، لا يرغب قلبها بالعودة إلى الذل مرة اخرى، الم يكن جل ببو ملاك الرحمة ؟
اما من تود رؤيته منهم فهي مهربانو بنت جيرانهم، ولكنها لا ترغب بالعودة إلى بيتهم، الوجوه الذابلة، الاخلاق النتنة، لا، لا تريد أن تراهم وترجح الموت على العودة إلى ( الويز ).
تتذكر يوم عرسها غنت كشور سلطان :
((خونه بابا نون وانجيل خونه شوور چوخ وزنجيل
ايشالا مبارکباد )) (7)
زرين كلاه فضلت الخشب والجنزبيل في بيت زوجها على الخبز والتين في بيت ابيها، وهي حاضرة أن تشحذ في زوايا الازقة على الا تعود، لا، مازالت صرخات امها تجول، يوم عرسها طلبت قراءة ماتم عرس القاسم وشرعت بالبكاء لم تنسى ذلك، تلك اليدان النحيلتان الموشمتان وهي تشعل الغاز، وكأنها تحكي مع قوى مجهولة وتطلب العون منها، تصرخ بوجهها بغضب وتقول : ( هذه الشعلة الملتهبة تاكلك، أن شاء الله ينقلب عرسك عزاء.)
تعود إلى الامر والنهي، اقفزي إلى اليسار مع ألف سبة، اقفزي إلى اليمين مع ألف تهمة، وعندها تقول لها امها : الم اقل لك أن هذه اللقمة اكبر من فمك، انت لا تناسبين احدا، لا يمكن أن يكون جل ببو زوجا لك.
وهلم جرا.
ارتعدت فرائصها من هذه الصور، سترجح اي ذلة على العودة إلى بيت امها.
لا تريد زرين كلا لهذه الافكار أن تجد طريقا لداخلها فلا ترى جل ببو، الوحيد جل ببو يستطيع اعادة النور إلى عينيها المظلمتين، أن ينفخ روحا جديدة في هذا الجسد الذابل، مهما يكلفها عليها أن تجده، حتى لو تزوج امراة اخرى او لا يريد أن تبقى معه، أن تكون قريبة منه يكفيها، وحتى لو وقفت في قارعة الطريق تستعطي على الاقل انها ستراه في اليوم مرة، اذا ضربها لن تغضب، يحقرها افضل من العودة إلى بيتهم.
لا تستطيع، ليس اجبار، هكذا خلقت.
طفلها مانده علي هو كائن لم تكن تتوقعه ولا تشعر ناحيته باي عاطفة.
كما فعلت امها معها اذ لم تشعرها بالعاطفة، ولكن سرعانم شعرت باحتياجها لوجوده، فهي سمعت أن الطفل كمسمار امام المقص وعليها تعتمد على هذا السلاح الذي تملكه.
قد تتمكن أن تعيد المحبة المتهشمة بطفلها، تقوم الان باعطائه وجبات جيدة، وتشتري له الفواكه ليلتصق بها، والعاطفة القليلة التي ولدت لديها ناحية ابنها كانت من اجل شعره الشبية بشعر جل ببو، ولكي لا يبكي الطفل تعطيه قطعة صغيرة من الترياق ويظل الطفل في حالة اغفاء وعيناه ناعستين دائما، واطمانت زرين كلاه من خلال بحثها ستجد جل ببو، قلبها واحساس خفي يقولان لها انها ستصل إلى هدفها، هذه الاحاسيس الفطرية لم تخنها في يوم.
في نفس اليوم الذي قررت الذهاب خلف زوجها نذرت شمعة لسبيل الماء القريب من بيتها لتجد جل ببو، وقامت ببيع السماور والقدر النحاسي وهذا كل جهازها، بتومانين وقرانين لتسافر بها، اعطت اثني عشر قرانا لدائنيها في محلتهم، تومانان وقرانان بقت لتسافر بها، وما بقي من اغراضها وضعته في صندوق وامنته عند صا حب البيت، قميصان وبدلة من اجل مانده على مع خبز وجبن وقطعتين لواشك مثل تلك التي يمضها جيدا جل ببو، وضعت كل هذا في صرة، وبعد ثلاث ايام من الجري اخذت ورقة عبور لمازندران.
في الصباح البارد بدات مسيرتها، ولانها فقدت تركيزها بدل أن تستقل السيارة الذاهبة إلى مازندران استقلت السيارة الذاهبة إلى شميران، شرطي اركبها السيارة العائدة إلى دوازه شميران ومن هناك ركبت إلى مازندران.
توقفت السيارة في (( شاهي ))، السماء تلبس السواد، بيوت جديدة، الناس السمر بين ذاهب وآتي، الرجال لبسوا العباءات الزرقاء، بكويهم (8) وسراويلهم الفضفاضة يشبهون جل ببو.
نزل راكبان فاتسع المكان قليلا، سارت السيارة مرة اخرى، الهواء رطب، هطل الليل، شعرت زرين كلاه براحة وسعادة غريبة مثل سعادة شخص بلا مال وبلا مستقبل في مدينة يسير غريبا، جسد متعب، شفتان جافتان وتشعر بالجوع، ولكن حركة وصوت السيارة المتكرر، العتمة، الناس الذين يدورون حولها،صوت انفاس طفلها وخاصة تعبها اجبرها كل ذلك على أن تاخذ غفوة.
عندما صحت وجدت نفسها في مدينة ساري، حملت صرتها وحملت طفلها ونزلت من السيارة. المدينة داخلة في ظلام وسكوت، وكأن البيوت والاشجار والزرع صنعت من الدخان او من السخام. صوت دجاجة يكسر بين فاصلة واخرى صمت السكو ن، صرخة متجبرة اتت من بعيد، الاضواء تلمع من على بعد، وقفت فتاة على شرفة منزلهم بعباءة بيضاء، وزرين كلاه لا تعلم شيئا مما يدور حولها ولاتسمع الا صوت جل ببو ولاترى الا وجه جل ببو.
امام دكان وقف رجلان سالت منهما عن (زرين آبا د) احدهما قال : انها على طريق ساري .
كان هناك قدح فيه ماء اخذته شربت منه، بلا مأوى وبلا ارادة ولا تعرف احد هنا ومع كل هذا ولانها اطمانت بقربها من جل ببو تلاشى اضطرابها، احست أن المكان مكانها والناس كرماء. اخرجت قرانا واشترت خبزا طازجا وخضرة ودبسا وذهبت لتجلس امام بيت تحت مصباحه المتدلي .
فتحت صرتها واخرجت منها عشاءها وبدات بالاكل واعطت ابنها منه، ثم ذهبت ونامت تحت سقف.
اول الصبح صحت وذهبت إلى ميدان المدينة وبعد جدل طال ساعة اخذت حمارا باربع قرانات ونصف قران حتى يوصلها لزرين آبا د.
ركبت، السماء غائمة، قبيحة هي و وقحة وتهدد تهديدا غامضا وهادئ يكاد يخنق القلب، لسعت بعوضة انف ابنها وتورم.
بقي السائق يسير بحماره مدة طويلة، مروا من بين العشب من تحت اشعة الشمس والمطر، في الطين، الاماكن من حولهم في غاية الجمال، الجبال الخضراء، الوديان المنبسطة، الغيوم البيضاء والرمادية تشبه صدر البط البري، متلاصقة هي ومتنازعة.
عندما وصلوا إلى (آسيا سر ) اصابتهم السماء بالمطر، مطر شديد، العباءة فوق راسها تبللت، احتموا بالاشجار، رائحة نشا ممزوجة برائحة كريهة تحيط المكان، مرة اخرى ساروا، التصقت زرين كلاه بمانده على محدقة في نفس الوقت بارجل الحمار، ضربات قلبها تتسارع وتفكر في اللحظة التي ستجمعها مع جل ببو. قريبا للظهر دخلوا زرين آباد، في اللحظة التي نزلت فيها وارادت أن تخرج النقود من زاوية فوطتها، رأت أن العقدة مفتوحة وسقطت النقود.
هل سرقها أحد ؟
لا، لا يمكن أن يسرق احد النقود من زاوية فوطتها ولا تشعر بذلك.
هل نستها ام هوتاثير التعب وعدم التركيز ؟
كل ذلك ممكن، وبعد صياح وغضب سائق العربة ذي اللهجة التركية أخذ الصرة من يدها وركب حماره وقفل عائدا.
وما اهمية ذلك، الم تصل زرين كلاه لمقصدها ؟ اليست قربية من جل ببو وفي قريته الان ؟
الان ستذهب لتجد منزله وستشرح له قصة سفرها، آلاف التومانات فداء لشعرة من شعر ببو (9).
نظرت حولها، هذه القرية الصغيرة المتخلفة والوقعة في آخر الوادي، من بعيد وكأن القرية حصدت محصولها، ومن يرى القرية يتخيلها واهلها غاطين في نوم، كلب قطيع ينبح وصوت رجل ياتي : (( ببو..... ببو هو ))
ذاب قلب زرين كلاه مع سماع هذا الاسم، ولكن رات الرجل الماشي ناحيتها ليس ببو، تحت السقف نامت اوزتان ودجاجة تبحث في التراب بكل دقة، تبعثر التراب وتبحث فيه.
فوق القمامة المتكدسة سطل مكسور وقطعة قماش اخضر ممزقة وقشور خيار، طائران تكوما على نفسيهما مستندان على الارجل المخدرة، زقزقة العصافير الهادئة تعطي للمكان شكلا لا يشعر بالغربة، في الميدان ثلاثة اطفال قرويين بافواه مفتوحة يبحلقون فيها.عجوز جالس قرب دكان عطار، حلق في السماء سرب بط مصدرا صوتا غاضبا، اقتربت زرين كلاه من العجوز وقالت له :
اين اجد بيت بابا فرخ ؟
اشار بيده إلى بيت عالي نسبة وظاهر، وقال :
ذلك البيت ترينه ذو الضوء، ذلك هو.
حملت زرين كلاه ابنها وذهبت إلى ذلك البيت حاملة آمالا بحجم الدنيا، مع وصولها لباب المنزل طرقته، خرجت أمراة كبيرة في السن ذات وجه مجدور.
مع من لديك حاجة ؟
اردت جل ببو.
ماذا تريدين ؟
انا زوجة جل ببو اتيت من طهران هذا ايضا ابنه مانده علي.
حسنا، حسنا، جل ببو طلق زوجته، ما تقولينه هراء.
نادت العجوز :
ببو هو........ ببو هو.
بشعر غير مرتب وعالي، وصدر قميصه مفتوح خرج جل ببو، عيناه منتفختان ونعاس ظاهر، إلى جانبه أمرة هزيلة بعينين كبيرتين ذات بشرة صفراء ملتصقة به.
آثار الجلد ظاهرة على ذراعيها وجبينها، ترتجف وممسكة بذراعه وكأنها تخاف أن يأخذ منها.
ما أن رات زرين كلاه جل ببو حتى صرخت :
ببو عزيزي....... لقد أتيت.
ولكن جل ببو القى عليها نظرة وقال :
اذهبي، اذهبي، انا لا اعرفك.
وتدخلت العجوز :
- ماذا تردين من ابني ؟ أمراة عديمة الحياء، الا تخجلين ؟ هذا الطفل ابن حرام وتريدين أن تلصقيه بابني ؟
قال جل ببو :
- انت تائه وقد جات إلى المكان الخاطئ.
فار دم زرين كلاه، لم تحسب حسابا لانكار جل ببو لها .
- اذا خذ طفلك وربيه، انا لا املك المال.
قالت لها ام جل ببو :
هذا الطفل أبن حرام من اين لي أن اعرف من ابن اتيت به ؟
زرين كلاه عرفت انها خسرت كل شيئ، نظرت إلى جل ببو لم ترى جل ببو هكذا ابدا، وجه غاضب وعينان شرستان، مظهر يدل على أن حياته أًَََََمنت، اصبح سيدا، وصل إلى امله، ولا يريد العودة، ومن نظراته المحقرة لها تدل على انه ليس حاضرا ليراها ثانية.
فهمت زرين كلاه الا فائدة من الاصرار، نظرت بحسرة إلى آثار الجلد المرسومة على جلد المرأة الشابة التي التصقت بجل ببو، عادت زرين كلاه مكرهة.
شكل أم جل ببو شبيه بشكل امها، اليدان النحيفتان وهما تتحركان وتشتم بلغة لا تفهم.
زرين كلاه بخطى بطيئة رجعت إلى الميدان، وخطرت لها فكرة، توقفت امام المنزل وقالت لطفلها النعسان :
-عزيزي اجلس هنا ساعود لك.
جلس الطفل هادئ مثل لعبة، ولم تفكر زرين كلاه حتى بالعودة لطبع قبلة على جبين طفلها، لان هذا الطفل لن ينفعها، هو مجرد حمل ثقيل وفم اكول لا غير، وارتاحت منه الان، فمثلما طردها جل ببو وامه ومثلما تعلمت المحبة من امها، لا،هي ليست بحاجة لطفلها.
خلت يداها، بلا مال، بلا طفل، بلا حمل، تنفست الصعداء اصبحت حرة الان وتعرف ما عليها فعله.
عندما وصلت إلى الميدان رات ما حولها، مازال العجوز جالسا امام دكان عطار يلاعبه النوم، وكأنه قضى عمره امام الدكان وشاخ في هذا المكان الجالس فيه، الاطفال الثلاثة قرب الدكان يلعبون بالتراب، الجميع بلا اعتناء يقومون باعمالهم، ديك لم تره قبلا ضرب جنا حيه بشدة وصاح بنشاط، لم يهتم بها أحد، كأن الحياة لا تهتم بما وقع لها.
ماذا سيحصل لها ؟
ارادت أن تهرب على الاقل من طفلها.
الان كل المسؤليات سقطت من على عاتقها. الهواء رطب. بلا ارادة ولا خطط بخطوات سريعة مرت من امام المنازل و في الازقة، مرت من المزارع والحقول حتى وصلت إلى الطريق الرئيس، وفي هذه الاثناء رأت شابا بيده سوط راكبا على حمار وحمار آخر يسير امامه ورنين الاجراس يتصاعد منهما، ما أن اقترب منها قالت له :
ايها الشاب في عملك ثواب.
اوقف الشاب حماره وقال :
ماذا تردين ؟
انا غريبة وليس لي أحد، خذني معك.
ثبت حمارا واركب زرين كلاه، وركب هو الاخر، ولم يلتفت ليرى وجهها، وبعد ذلك رفع السوط وهوى به على رقبة حماره، ارتفع رنين الاجراس وساروا، من بين حقول الشعير اخذ الشاب عود ا ووضعه بين اسنانه، وبنغمة خاصة تعرفها زرين كلاه اخذ يصفر، نفس النغمة التي سمعتها من جل ببو اثناء قطف العنب، في ذلك اليوم الذي التقته في البوستان :
((گالش کوري آه هاي له له
بوشيم بجار آه هاي له له
بيا بشيم بجار آه هاي له له
بيا بيشم فاکون تو ميخواهري)) (10)
مرت امام زرين كلاه صور حياتها، شبابها، غضب امها، الليلة المقمرة التي جاءت بها إلى طهران مع جل ببو، غضب أم جل ببو، وان كانت عطشة وجائعة ولكنها من اعماق قلبها سعيدة، لا تعلم لماذا ركبت والى اين تذهب ؟
ومع كل هذا فكرت في نفسها :
(( قد يكون هذا الشاب قد اعتاد أن يجلد، وقد تكون رائحته شبيه برائحة الحمار والاسطبل.))