عبد الكبير الميناوي
مراكش – المغرب
كلاديس مطر
اللاذقية – سوريا

غبار المكاتب
فجأة. تذكرت أني لم أنته إلى نص أنشره هنا أو هناك، منذ أكثر من أربعة أشهر.
"هل من جديد ؟"، تسألني كلاديس مطر.
"أجد نفسي هذه الأيام مثل ذاك الذي قتل الليل في شرب خمر رديئة، فانتهى إلى صباح اليوم التالي بنوم ناقص وجسد مهدود، فيما بقايا عربدة آخر الليل تخيم على المكان"، أجيبها، قبل أن أستدرك : "أشعر بتعب فكري وجسدي. رأسي تكاد تهرب مني. أرى نفسي غريبا عن الكتابة. ربما أنا في حاجة إلى منشطات حتى أنخرط في "منافسات" الكتابة من جديد فأوقع على نصوص جميلة".
في الجهة المقابلة من الهوتمايل، حيث تجد الرسائل وجهتها المعتادة، هيئ لي وكأني أسمع ضحكة أنثوية من كلاديس تنفجر أمام الشاشة. ضحكة تجمع سحر الشام بعطر الكتابة وصفاء الذهن بعد نوم هادئ.
أقرأ أيميل حادة قادر : "افْتح عينيك على صفحة كيكا". أفهمًُ من كلامها أنها أضافت نصا إلى سلسلة نصوصها الجميلة. حادة قادر الباحثةً هناك في ديجون الفرنسية عن تقليعة جديدة يتساوى فيها الماعز بالخنزير من دون أن تدين من يأكل الخنزير وحده أو الماعز وحده، مادام همها الأوحد أن تحفظ السلم. السلم وحده.
أعود إلى نفسي. أفتح عيني على ما يؤثث للمكتب، بالإدارة حيث أشتغل. مراسلات تًرد. أخرى تنتظر الرد. تقارير ودراسات تنتظر اللمسة الأخيرة. ياه ؟؟ هل من الممكن أن يقتل الفرد عمره في تقليب ومتابعة عمل الإدارة من دون أن تتحجر عيناه ويتخشب جسده وذهنه ؟
أعود إلى نفسي. أفتح عيني على المواقع الثقافية المشتتة عبر مختلف عناوين الانترنيت. أقرأ النصوص المنشورة نصف مرتاح فيتملكني شعور بالغبن والغيرة. الغيرة من كل هؤلاء الموقعين نصوصهم المرتاحين أمام شاشات الحواسيب أو في مكاتبهم حيث ينعمون في هامش معقول من الوقت للكتابة.
أعود إلى نفسي. أخفض عيني قليلا، فيما أجول ببصري عبر غبار غير مرئي يملأ المكتب. أرسم ابتسامة بمذاق مختلف. لعلهم في كيكا أو جهة الشعر أو أبسو أو غيرها من المنابر اقتنعوا أني اعتزلت الكتابة. لعل الآخرين المتسكعين على هامش الكتابة وفي المواقع الخلفية من الإبداع ابتسموا شامتين مردِّدين أني استهلكت مخزوني من الجمل والكلمات والعناوين فركنت إلى الصمت. لعلهم، هنا أو هناك، ظنوا أني أمسكت عن الكتابة تضامنا مع هدافي المنتخب المغربي لكرة القدم الذين صاموا عن التهديف خلال النهائيات الإفريقية الأخيرة.
لاشيء من كل ذلك يا أصدقاء. لازلت هنا في مراكش. أقرأ لكم بين الحين والحين نصوصا يرصعها الكلام الجميل والبناء الفاتن، فيما أشفق على كتاب وأتحسر على نصوص كتبت باستسهال واضح. لازلت هنا في مراكش حيث العمل الإداري يقتل ساعات النهار، فيما يتكفل ليل المدينة الساحر بملأ الفراغات.
ليلٌ، إذا جرك إلى طيباته فلن تقنع بليلة واحدة ولا حتى بسبع ليالي.
بين نهار قانع ببياضه وليل ساحر يغري بالسهر، ربما يحتاج يوم مراكش إلى ساعات إضافية. هذا كل ما في الأمر.
بين نهار مراكش وليلها، تخذلني يدي الثالثة ويتأجل الحماس يوما عن يوم، في انتظار أن يباغتني هواء الكتابة ذات منعطف، داخل بناية الإدارة أو في بهو فندق الأندلس.

بركات عشتار
يتصور عبد الكبير أن منشطات الكتابة خذلته. وكما هيئ له أنني أضحك أمام شاشة الكومبيوتر وأنا أكتب سعيدة، كعشتار توزع بركاتها على الرعية، كما شبهني مرة علي السوداني، كذلك كنت أتخيله في عزلة المتصوف الخاشع أمام نص خفي لن يعلن عنه إلا في وقته. قلت في نفسي مرات، الله وحده يعلم ماذا سيخرج من بين يديه. الأحداث العربية على كل المستويات تتوالى من حولنا وتكبر ككرة ثلج ناثرة حولنا كل منشطات الدنيا. من يأبه إلى عمله الإداري حينما تهطل على المرء رمال الكتابة القمرية المشعة؟ سوف يترك سماعة الهاتف وينسى محدثه ويغلق أذنيه عن صخب الدنيا ويكتب هذا النص الذي طال انتظاره. من يستطيع أن يقف أمام إغواء السرد والصفحة البيضاء الالكترونية ! ؟
وأخذ خيالي يستطيل ويتمدد، وبدأت المشاهد المختلقة عن عبد الكبير وكل أصدقائي الكتاب تتوهج في عقلي فتصورهم منكبين بين مراجع الأدب والنقد يقرأون ويكتبون ويصيغون الوجود بحسب هواهم .
ترى ماذا تفعل المسافة بنا ؟! ماذا يفعل البعد، الصمت، الغياب ؟! إنه يصور لك الآخر في حالات غير حقيقية تخشى تصديقها. المسافة تخلقه من جديد في عقلك، ككائن وككاتب. المسافة تعيد قولبته، بحيث تصوره خلف المنبر يلقي نصه الذهبي أو في معرض للكتاب يمهر توقيعه على أولى صفحات إنتاجه الجديد أو بين أصدقائه الشعراء على قهوة رصيف في ليلة من ليالي القمر، وأنت هناك تصارع الكلمات بضراوة تارة أو تلقي بجسدك المنهك وذائقتك الباهتة فوق سرير الأمس المهمل.
غريبة هي الدنيا. أدخلت حتى الكاتب في سباقاتها الماراثونية الكثيرة. أصبحنا نخاف أن نضيع من ذاكرة من أحبونا وقرأوا لنا وشجعونا. أصبحنا نخاف أن نخذلهم. أن نبدو أقل بهاءً في نصوصنا أمامهم. أصبحنا نستجدي الوقت والمكان اللازمين لنكتب ما تحمله الروح وتراكمه طوال الليالي البيضاء !
إنه عالم من ورق بلا منشطات ... اللهم هذا التَّوق العميق لأن تترك كلمتك بصمتها في قلب طالما بحثت لكي تقتنيه، ومجد صاغته كاميرات التلفزة وميكروفونات المنابر، وجنوح غريب لكي ترى نصوصك في الكتب المدرسية الممهورة بأختام وزارة الثقافة.

شجرة الحياة
تتحدث كلاديس عن أصدقاء تتصورهم منكبين بين مراجع الأدب والنقد يقرأون ويكتبون ويصوغون الوجود بحسب هواهم. أنا لست منهم يا كلاديس. لا. لا. لا. لم أقصد أني لست من بين أصدقائك. أعني أني لست من بين الأصدقاء الذين ينكبُّون على المراجع والكتب تحت وعد الانتهاء إلى نص أو مؤلف. نظريات الأدب هَدَتْني بُرودتها وأنا أُهيئ رسالة دكتوراه. غرقتُ وقتها في بحر من النظريات والتصورات. العربية والغربية. من قدامة بن جعفر إلى هنري ميشونيك. والنتيجة التي خرجتً منها هي أن النظريات لا تصنع كاتبا وأن شجرة الحياة / النص هي خضراء على الدوام.
عادة، لا أتعامل مع الكتابة بتقطيب الحاجب أو المغالاة في رسم الحدود المكانية والزمانية، التي تستوجبها اللحظة. لماذا نعقد المسألة؟ الكتابة مثلها مثل الحياة. علينا أن نعيشها من دون تعقيدات. قد تأتيني الفكرة وأنا أشاهد مباراة في كرة القدم أو أستمتع بسهرة مراكشية ذات ليلة ساحرة. الفكرة أولا. العنوان ثانيا. ربما أُعَدِّل في العنوان قليلا. بعد ذلك تتواتر الجمل والفقرات، انتهاءً إلى نص لا نعرف إلى أين سيتوقف بنا شكله أو مضمونه.
أن أكتب نصا، يعني أن أنتهي إلى نص أعجب به قبل الآخرين. أقرأه قراءتي الخاصة قبل أن أرمي به إلى دنيا القراءة. لا أقرأه ككاتب. أقرأه وأنا أسترجع أياما كنت فيها مجرد قارئ عادي يقصد المقاهي ليستمتع بقهوة الصباح وتصفح الجرائد والمجلات. أقرأه فيما أتقمص أعين القراء. أوزع نفسي عبر انتظاراتهم وردات فعلهم. قراءة تؤكد على احترام ذكائهم وتوقعاتهم .
أليس من مهام الكاتب أن يتبنى نبرة ويحتفظ بها ويجعل القارئ يتقبلها ؟
فعلا. هذه هي سعادة الكاتب. أن يرى القارئ نفسه في ما كُتب. أن يتوجه إليه بإحساس أنه كان بإمكانه أن يكتبه، وأن يقرأه "كما لو كان هو نفسه الذي كتبه"، على رأي عبد الفتاح كيليطو.

قطار الكتابة
تشبه الكتابة علاقة حب غير مستقرة. حين تأتي لحظات الفرح تكون جنونية وحين يبتعد الشريك تظلم الدنيا فجأة ويبدأ الخيال بنزهته المرة اللامعقولة. في لحظة القبض على الإلهام يضيء العالم بمفرداته الذهبية ويلوح الكاتب جموحا، منطلقا، متدفقا، منتعشا، يتعالى في سطوته الروحية وإحساس نادر بالرضى وحين يتمنع إلهامه يميد مشهد الحياة أمامه ويبدأ خياله لعبته الجهنمية معه.
أعرف بالعمق أن عبد الكبير ليس كاتبا صنميا، أو أكاديميا ولا حتى ناقدا كلاسيكيا، وإلا لكانت هذه الصفات قد دفنت ألق نصوصه وحولته إلى "كاتب آخر" على رف المكتبة العربية. أراه "ينتظر" اللحظة لتأتي بملء إرادتها كامرأة مطيعة. اللحظة المباركة. لحظة القص الدسمة المنهمرة كمطر مفاجئ في عز الصيف.
إنه يشبهني في هذا كثيرا ... فلست أغالب أدواتي والكلمات لأصوغ نصوصي ولا أجهد لكي أستخرج العبارة. أريدها أن تأتي بملء إرادتها، أنيقة، متدفقة، بسيطة، مبتسمة، جذابة، ومتجددة. أريد أن تحمل بذور جودتها الفنية في ذاتها. أن تقدر على حوار المتلقي. أن تلتف حوله وتغريه بعمقها وشفافيتها. كلانا معا، أنا وعبد الكبير، نعرف أن هناك أوقاتا طويلة ربما يجب أن تمضي قبل أن تحضر لحظة القص المباركة فتقتحمنا مثل حبيب طال غيابه. لكننا نظل في انتظارها. من يمنع هذا الخيال الجامح من أن يسافر إلى "الآخرين" فنراهم يمهرون تواقيعهم فوق النصوص، التي ستنطلق إلى مواقعها الثقافية وتستقر فيها.
و لكن مم نخاف أنا وأنت يا عبد الكبير ؟!! ألم نولد وفي فمنا ملعقة القص الذهبية ؟!! ألسنا محكومين بقدر الكتابة حتى ولو قررنا كل يوم ألا نمسك القلم ؟!! ألا نعرف كلانا أننا لا نرى الدنيا كما يراها الآخرون، كمشهد باهت، مثقل بأبنيته وفواتيره والتزاماته والأقارب ؟!!! ألسنا نكتب كل شيء تقع أعيننا عليه بقلم الروح الذي لا يجف، حتى في قمة الذهول نرى الدنيا كصور درامية متحركة وربما أضفنا الموسيقى والمؤثرات الصوتية من خيالنا عليها ؟!!
أنا أعرف مم نخاف أنا وأنت ! نخاف أن يغدرنا الوقت. أن يغدرنا العيش. أن تغدرنا الاهتمامات المملة والمكررة والمستهلكة ويفوت قطار الكتابة ولا يبقى منه سوى الرغبة !
هناك نص نريد أن نكتبه ونتنفس الصعداء. نص أخير، لا نعرف كيف نبدأ به. إنه النص الأجمل على الإطلاق. ولكنه لا يأتي !

غربة السؤال
في المنزل.
أفتح عيني على القنوات الفضائية. أخبار العراق وأغاني هيفاء وهبي. مراوغات رونالدينهو وابتسامة عمرو خالد. أفلام جيمس بوند وحكاية طوم وجيري.
على رف المكتبة أبحلق في مقدمة ابن خلدون. مواقف النفري. أبجدية أدونيس. فروسية المجاطي. حداثة محمد بنيس المعطوبة، قبل أن أتوقف للمرة الألف عند عنوان ديوان محمود درويش "لاتعتذر عما فعلت".
أفتح "الحداثة المعطوبة" على "غربة السؤال". أتذكر أيام الرباط والحافلة رقم 11. محاضرات محمد بنيس عن بنيات الشعر العربي المعاصر وإبدالاتها، وأحمد الطريسي عن مطر بدر شاكر السياب وفحولة الشعراء المعاصرين. مشية أحمد المجاطي المتثاقلة وحيرة الطلبة بين "السقوط والانتظار" و"الشهادة والاستشهاد".
أحن إلى الأيام التي كنت فيها طالبا. تلك الأيام التي كنا نمني فيها النفس بوظيفة عمومية تضمن لنا استقرارنا المادي والنفسي، فيما نلعن الوقت الصعب.
كم هو صعب أن تكون طالبا في المغرب.
في المغرب. أن تكون طالبا، يعني أن تتعب كثيرا. أن تتعب معك الأسرة. وأن يتعب معك الأصدقاء والجيران.
أن يتعب معك الخضار والجزار وسائق الحافلة ومراقبها.
وأن تتعب معك الطالبة التي طاوعت قلبها فصاحبتك.
من هؤلاء من يتعب معك بالمال. منهم من يتعب معك بالدعاء (لك أو عليك). منهم من يتعب معك بالشفقة عليك. ومنهم من يتعب معك لأنه يرى أنك محظوظ وأنت تتفوق في دراستك.
منهم من يذهب مع التعب إلى نهايته.
منهم من يودعك في منتصف التعب.
سيتعب معك اللحاف. ستتعب معك الوسادة وأنت تجرجرها خلفك من بيت لبيت ومن مدينة لمدينة.
ستفقد الوسادة لونها الأول، ومع ذلك ستكمل معك المشوار، حتى وهي تبدو مثل شاة تقطعت أوصالها وخرجت مصارينها.
أعود إلى "غربة السؤال"، فأقرأ : "عبء تخلصنا منه، وانتهى الأمر".
أتذكر مسارا دراسيا وجامعيا طويلا في أعوامه وتعبه.
أتذكر أصدقاء الدراسة بالبراديا والفقيه بن صالح وبني ملال، ممن حصلوا على أعلى الشهادات وانتظروا وعد الوطن لسنوات ثم ركبوا القافلة كالجميع. أتذكر نور الدين وعبد الهادي وحكاية السعدية وكل من تبللت أجسادهم وارتعدت فرائصهم، فيما سكنهم الخوف من حوت المتوسط وبواخر الحرس الإسباني. أتذكر مشهد كل تلك الجثث التي ظل البحر (ولازال) يلفظها مشوهة. أتذكر تلك العبارة الشعبية المكرورة التي تفضل "قطران لبْلاد" على "اعْسل ابلادات الناس".
يمر أمامي بهو مَارَسَة ومنظر الدكاترة والمهندسين المضربين عن الطعام.
أتذكر علي، ربيعة، عبد الحق والآخرين.
أتذكر وقفاتنا الاحتجاجية أمام بناية البرلمان ومقرات الأحزاب والوزارات.
أتذكر مروري بجريدة "الصباح".
أتذكر صمت عبد الله الدامون. ابتسامة عبد المجيد ابزيوات. ضحكة خديجة العامودي. لكْنة طلحة جبريل. عطْر ناصر جبريل.
أتذكر حسن العطافي وخديجة ادرايسي وفتيحة أعرور و"مشاكل" رشيد نيني مع ربطة العنق !!
أتوقف عند تجربة "الجمهور". جريدةً وصحافيين. أتذكر شيطنة ادريس عدار. أناقة سعيد بلفقير ونظرات حنان بكور.
أتذكر عمر جاري وطارق جبريل.
أتذكر يونس، محمود وجليلة ميكري. عبد الكبير الركاكنة ومحمود عبد الغني. نجيب العوفي ووفاء العمراني.
أتذكر عبد العزيز كوكاس وحادة قادر.
أتذكر صوت عبد الحميد عقار وحوارات حسن نجمي.
أتذكر المثلث الأحمر والأوداية. مساءات السويقة وجميلات شارع محمد الخامس. صالون باليما ومقهى شهرزاد. مسرح محمد الخامس ونادي الأسرة.
أعود إلى نفسي وإلى"أشواق" ميادة الحناوي.
ينطلق صوت الأغنية ممتلئا بأنوثة وصورة صاحبته... صافيا جميلا.
كانت الساعة جاوزت منتصف الليل.
أغوص في دنيا الخيال. يخف وزني شيئا فشيئا. فيما أهيئ نفسي وجسدي لنوم سيقذف بي إلى صباح يوم مراكشي جديد، حيث العمل الإداري يقتل ساعات النهار، فيما يتكفل ليل المدينة الساحر بملأ الفراغات !!

خيال الكاتبة المرهقة
في المنزل .
بين صور العائلة المنتشرة على الجدران. صور شهادات أشقائي. صوري عندما كنت صغيرة في ثوب العيد الأبيض والقبعة الملفوفة بشريطة الساتان. صور الأحفاد. صور الوالد في ثوب التخرج. صور جدي وجدتي في "بُوزْ" رومانسي قديم حيث الرأس يميل على الرأس ... بين هذا الزحام من الذكريات والتيه أمضي ساعات طوال في غرفة مكتبي.
أعرف أن هذا الإرث يحرك ذائقتي في اتجاه ما.
في ما مضى. في مرحلة دراستي الثانوية كنت أقضي تسعة أشهر في العام بالزي العسكري. كان كل شيء باهتا عدا الكتب وهذا الطريق المشجر الطويل باتجاه المدرسة. الذهاب والإياب إلى دير الكرمليت، صمت الراهبات الصباحي ورائحة الصابون التي كانت تفوح منهن وجرس الدخول إلى الصفوف. نظارة المُدرسة وأحمر شفاهها. رسائل الحب الصغيرة التي كانت تقفز إلى مقاعدنا من الخارج عبر الشبابيك المفتوحة. الجوع ساعة الظهر. الصداع بعد الظهر. النعاس في صف العلوم. الخوف في صف اللغة الفرنسية، ذكريات تحرك هذا القلم الذي يشعر بالوجود حوله و يكتبه.
اليوم، كلما استللت كتابا من مكتبة المنزل لأقرأه أجد ملاحظات الوالد على الحواشي. كم كنت مغرورة في ما مضى ؟ كان يقرأ بصمت طوال الوقت. وأنا اليوم أُجن إن لم يسعفني الإلهام لليلة هاربة من بين يدي !
لكن الإرث أخذ يكبر.
ما يتفرج عليه عبد الكبير في قنوات العروبة الفضائية أتفرج عليه أنا كذلك. بعد ساعات الكتابة الطويلة والإرهاق الفكري، أسمح لنفسي بتأمل نساء ناصلات اللون مثل هيفاء وهبي وأخريات نسيت أسماءهن، ممن يجعلوني أفكر بهذا الجانب الذي أريده أيضا أن يكون منتعشا وأنيقا وحيا في حياتي. لكني أقول في نفسي إنه لا يوجد حد وسط. إما أنا هنا أو أنا هناك !
أتطلع في المرآة، التي تظهر فيها أيضا، بشكل جانبي، ملفاتي وكتبي المرتاحة على الرفوف. تطرف عيني وأبتسم. أتخيل نانسي عجرم في معرض للكتاب توقع على مؤلف جاد عن "اللسانيات ونظرية شومسكي" مثلا، بينما تتطلع في الجمهور الملتف حولها بعدساتها الزرقاء المتوهجة. أووووف ! إلى أين يمكن أن يجنح خيال كاتبة مرهقة !؟
يكبر الإرث أكثر وتتداخل العلاقات. تومئ الغيرة منك برأسها. يتخلى عنك كتاب صاروا يهاجمونك، بعد أن كانوا أصدقاءا مقربين. يهاجمونك بصمت، وفي حلقات "المثقفين" يتهمونك بأنك من برج عاجي أتيت وإلى برج عاجي ستنتهي.
يصبح لك أعداء فتقرر أن تنزوي لتكتب وتنشر نصوصك بهدوء.
أصبحت لديك الآن فلسفة في الحياة. هاأنت تكبر. هاأنت تصبح حكيما. وعندما يأتون ليتحدثوا معك تتحول جملك إلى حكم. تموت ... !
في المغرب. تتعب معك الدنيا حين تكون طالبا.
في سوريا. يتعب التعب نفسه معك حين تريد أن تكون أي شيء.

تشابك الصور الغريبة
"قل ماتشاء". هكذا يعنون محمود درويش قصيدته، مع دعوة لأن نضع الحروف مع الحروف لتولد الكلمات غامضة وواضحة ويبتدأ الكلام. ولأن نضع الكلام على المجاز على الخيال، بحيث يولد الإيقاع عند تشابك الصور الغريبة.
"حصان نتشه" وعبد الفتاح كيليطو. وبنفس الابتسامة التي اعتدتُ رسمها عند كل نص أقرؤه للكاتب، وبنفس الفرح، ستترددُ في داخلي ذات الجملة : "ثعلب آخر يكتب بمتعة غريبة وفاتنة".
في نص "الشاب والمرأة"، نقرأ عن شاب يدخل إلى متجر كبير.
يتسكع الشاب لبعض الوقت من دون هدف محدد، قبل أن تسوقه خطاه إلى طابق النساء، حيث غاص في متاهة الملابس الأنثوية.
بعد أن استبد بالشاب الدوار وصار يبحث بيأس عن باب الخروج، رأى بغتة، على خطوات منه، امرأة شابة تبتسم له.
كانت ذات جمال خارق. كانت تبتسم له، لكن بتكتم، بنوع من الحشمة، كأنها لاتجرؤ على الاقتراب منه.
الشاب، الذي لم يكن قد رأى هذه المرأة من قبل، قال لنفسه إن الابتسامة لم تكن موجهة إليه، وأن الإشارة الخجولة من يدها كانت تقصد بها شخصا آخر.
التفت. كان وحده في هذا الركن من الطابق. إليه، دون شك، كانت تبتسم، وهو الذي كانت تستقبل. تقدم نحوها. لكنه ما أن صار قريبا منها، مادا يده إليها حتى توقف على الفور، محمر الوجه من الخجل.
لم تكن المرأة تنظر إليه. لم تكن تنظر إلى أحد. أكثر من ذلك، ماكان بإمكانها أن تنظر رغم عينيها الزرقاوين المفتوحتين على سعتهما. فقد كانت تمثالا لعرض الأزياء.
أخرُجُ من نص عبد الفتاح كيليطو، فيما يلبسني خجل الشاب.
أبحث دون هدف بين صفحات جرائد اليوم.
هيفاء الشاغلة الناس، عبر الفضائيات، بشكلها وآهاتها، هاهي تملأ الجرائد، أيضا. هاهي تتمختر في فستان مغربي من عهد سلاطين القرن الثامن عشر. لون أحمر وصدر ناهد وشفتان لإرواء العطش.
أهرب من وقفة هيفاء إلى باقي الصفحات. كثير من الكرة. كثير من أخبار الدم والمحاكم. أنفلونزا الطيور وأخبار الفنانين. قليل من الثقافة. أخبار الموضة والعطور. الطرائف تؤكد لك أن العالم يمكن أن يصير مدعاة سخرية وضحك. أحوال الطقس، وحديث عن "انتشار كثل من الضباب في السواحل الشمالية والوسطى"، فيما "الأجواء مشمسة بباقي ربوع البلاد"، أما "البحر فقليل الهيجان على الواجهة المتوسطية وشديد الهيجان في البوغاز"... وفي قلبي !
أفتح عيني على التلفزة من جديد. مباراة معادة. موجز للأخبار. ثم صوت ماجدة الرومي مخترقا بعذوبته رماد المشاعر.

القلب وما يرهقه !
يغدو العالم موزاييكيا أكثر كلما مرت الأيام علي وعليك يا عبد الكبير. خط أنترنيت رفيع، تائه، خفي يمرر هذه النصوص الجميلة. تطلب مني التدخل بقلمي الأحمر حين تكتب عن مراكش وأطلب منك التدخل بقلمك الأزرق حين أكتب عن الحب على الطريقة السورية. نعين أنفسنا على الإبداع كعجوزين قتلهم الشوق لهذا النص الأخير، البديع الذي لايأتي !؟ عالم من ورق يفرش عباءته على هلع الاقتصاد والمجتمع والسياسة وحتى الطبخ.
من وقت لآخر تظهر قصيدة في الأفق لشاعر فلسطيني أو مقال لكاتب لاتيني أو تقرير من جامعة أميركية يدين إسرائيل وسياسة أميركا الخارجية. تتحرك البوصلة من جديد، بوصلة القص المباركة لتغير اتجاهها وتدخل مصطلحات جديدة على الخط لنطرز بها النصوص القادمة.
وبينما يرهق قلبك من "دراما الصحف المكررة" يرهق قلبي أنا أيضا من هذا الجنون الفالت من عقاله حولنا. لكن قلبينا يتعبان أيضا من تفاصيل صغيرة ربما لا تهم الآخرين. إنهما يتعبان من لحظات اكتشاف الجمال في النص. لحظة يغشى العين دمع الفهم. لحظة نرمي بقهر الورق من أيدينا ونقرر أن الدنيا تساوي قشة من دون الفن. لحظة ندرك بلمحة أن ما يجعلنا باقين على قيد الحياة ليس سوى توقنا المتواصل لتحرير هذا النص البديع الذي لا يأتي.
القلب ترهقه الأبواب المغلقة، المسافة، الحواجز، الجدران المرتفعة، الآذان الصماء وخطوط الانترنيت المقطوعة وسفر الأحباء إلى اللامكان. القلب يرهقه مشهد هاو للشعر يقرر بعد كتابة القصيدة الأولى أن يعتمر البيريه ويشرب البايب، أو كاتبة صغيرة تدعي أن نجيب محفوظ صديقها الشخصي، أو ممثل مبتدئ يبرر غيابه بسبب "اوردرات" التصوير، التي تنهال عليه ليل نهار، أو ملحن لا يعرف الـ (Do) من الـ ( Re)، يعطي رأيه بسيد درويش. القلب يرهقه الزيف يا عبد الكبير وكون الدنيا مقلوبة على قفاها الآن ...!
نحن العرب نداوي التعب بالترقيع ونساء الحب السريع، ونصوص الزوايا المنسية في صحف من الدرجة العاشرة.

جعة فاسدة ومعارك وهمية !
للقلب إبداع يحميه يا كلاديس. لكن من المسؤول عن هذا الذي يرهق القلب ؟
في المسرح، كما في السينما والشعر والرواية والقصة وغيرها من حقول الثقافة والأدب، نترك الباب مشرعا، ملطفين من دور النقد بدعوى التشجيع على الإبداع ومراكمة الإنتاج.
يحدث كل هذا ضمن واقع أدبي وثقافي يمتد فيه النظر على مثقفين يحترقون بلا ضمانات رسمية للإبداع والعطاء، كما يمتد على مدعين يحركهم منطق المعارك الوهمية وأضواء البرامج التلفزية والحوارات الإذاعية والصحفية.
مُدَّعُون ينشرون كتاباتهم ضمن مشهد ثقافي يودع رموزه إلى المثوى الأخير في صمت دامع أو يتفرج عليهم يقتلون لياليهم بكؤوس تعشق الثلج والحمرة، والتي بدا أنها صارت تسعف شاربيها أكثر من العبارة.
رموزٌ احتضنها القبر أو طويناها بالنسيان.
بين القبر وحرقة التهميش، يلمع مُدَّعُون يكتبون شعرا تافها أو يصدرون روايات أكثر تفاهة : أشباه مثقفين ليس بإمكانهم أن يحركوا فيك غير الرغبة في الصراخ في وجوههم. هم الذين يجيئون المسرح والسينما من ركن الشارع، أو يكتبون الشعر أو الرواية أو النقد بكل ما للكتابة وما عليها، أو يلطخون بياض الرسم والتشكيل كيفما اتفق.
بين استسهال الكتابة وتساهل النقد، يبقى القارئ متحكما في سوق التلقي، وإلا فما السبب الكامن وراء امتلاء القاعات بالجمهور إذ يلقي شاعر كمحمود درويش قصائده الباذخة، في حين لا يتعدى الحضور في لقاءات أخرى عدد أفراد فريق لكرة السلة، وفي أحسن الأحوال أفراد فريق للكرة المستطيلة ؟؟؟
بعيدا عن كلام الاستسهال والتساهل ... تبرز الحقائق مُرة أو صادمة.
شباننا تخلوا عن حيطانهم وذهبوا فرادى إلى مواقع الدردشة عبر الإنترنيت.
لم يعد يستهويهم التجمع في ركن الحي لقتل الوقت في الحديث عن أخبار المغامرات العاطفية ونتائج مباريات الليغا الإسبانية وآخر صيحات الموضة في اللباس والموسيقى.
لابد من الفعل. لذلك لابد من البحث عن أقرب طريق إلكترونية للزواج من شقراء تطوح بهم بعيدا عن "كسكس" العائلة و"السيجارة" المشتركة مع "أولاد الحي".
الشابات تركن مطبخ العائلة وفضائيات الرقص والموسيقى ودروس الرياضيات والأدب والجغرافيا، واستوين جالسات أمام الويب كام بحثا عن صداقات كونية وأزواج هولنديين.
عند الإبحار، ربما غيروا واقعا بآخر. أسماءا بأخرى. المهم أن تصير النقرة إلى غاياتها، فتنتهي صاحبتنا إلى استوكهولم أو باريس أو روما أو برشلونة، ولو مواطنة من الدرجة العاشرة.
نحن شعب لا يقرأ. الكثيرون لا يفرقون بين حديقة عمومية أو شارع عام أو قاعة للعروض الفنية، لذلك يمكن لأحدهم أن يخرق جدار الصمت بحوار هامس مع صاحبه أو صاحبته ذات قراءة شعرية، كما يمكنه أن "يدخل" في النص المسرحي بكلمة طائشة أو صوت غريب.
نحن شعب لا يقرأ، ولا يعرف كيف يتذوق فن المشاهدة والسماع واحترام الغير. نحن شعب لا يقرأ، لكننا مفتونون بـأخبار وصور الفضائيات المتناسلة كالفطر. ندمن متابعة الجديد على مستوى أخبار الدم والأغاني ومباريات الكرة. نتابع برامج النقاش الثقافي والسياسي. وفي ركن الحي ومقاهي الشارع الرئيسي للمدينة نعيد مناقشة أخبار العالم ونتائج مباريات الكرة. نحسب أنفسنا مُهمين وعارفين بالشأن العالمي على مستوى السياسة والاقتصاد والفن والرياضة ... الخ، لكننا عوض اقتناء ديوان شعر أو تذكرة عرض مسرحي أو غنائي ... عوض كل ذلك نجد أنفسنا نبحث عن شتى التبريرات لتكريس حماقاتنا، ابتداءً من عدم الاقتناع بقيمة ما يكتب أو يعرض وانتهاء بغلاء المعيشة، مع أننا نقتل أيامنا في استهلاك خمر رخيصة أو جعة فاسدة أو تصيد سرطان رئة بسجائر دخانها يقتل النفس ويلوث الجو والملابس.

ثمن الانتماء !
في اتحاد الكتاب.
الباب مفتوح دائما. وجوه تأتي وتذهب. بعضها لا أعرفه، وأخرى أعرفها كثيرا أو سمعت عنها. هذا الباب تغير عدة مرات. تغيرت ألوانه، نوعية الخشب، المقابض، الحجم. لكنه بقي مفتوحا حتى في أكثر الأوقات بردا وصقيعا. مع ذلك ثمة غشاوة لامرئية تقف في فراغ الدخول كجدار صُب من الحديد الصلب. باب سحري يسمح لك بالدخول من دون أشيائك. تتركها كلها على الباب وتدخل. تترك لسانك. عينيك. قلبك. عقلك، وما تحمله في جيوبك. تترك رأيك. وجهة نظرك. كلها على الباب تتركها في كيس من أكياس الخضار البنية القديمة وتدخل. تدخل خفيفا، نظيفا، مرتاح البال.
إن كنت أنيق الملبس، فأنت برجوازي ونصوصك مشكوك فيها لأنها تكتب في هدأة برجك العاجي.
إن كنت متواضع الهيئة، فنصوصك مثل شكلك وظروفك لا تحرك ذائقة أحد.
هكذا، يصنفوك، منذ الطلة الأولى، بينما أشياؤك كلها في الخارج على الباب لم تدخل معك !
وتعود من جديد، لتبحث عن منشطاتك الإبداعية. تلُف المدينة على قدميك. تتطلع في كل الوجوه. تبحث عن كلمة فالتة بطريق الخطأ من فم أحدهم تحث إلهامك : مشهد صغير في التلفزيون. لحن يهيج شيئا من حنينك المتهالك. لمحة من شعر ممدوح عدوان أو نص من كتاب "سأخون وطني" لمحمد الماغوط، أو حتى رسالة على الموبايل تشعرك أن الدنيا بخير. قرعٌ على بابك. أحدٌ يناديك من الخارج. صوت سقوط أي شيء. ضحكةٌ من وراء باب البيت يطلقها أحد الجيران أو حتى بكاء طفل حديث الولادة، أو صوت المطر على النافذة.

وبعد... !
منشطات الكتابة منتهية الصلاحية في عالمنا العربي. أصبحنا متآلفين مع كل شيء ! بَهُت الإحساس بالدهشة الأولى، النسمة الأولى، الفرحة الأولى، القبلة الأولى، الاكتشاف الأول. أصبحت جلودنا سميكة وعيوننا زجاجية. العالم يمر كل يوم من أمامنا كما هو أو متبدلا.لا فرق!
لكننا نعرف، أنا وأنت، أين نعثر على هذه المنشطات !