أتى كنبيٍّ ومضى كنبيٍّ من عالمٍ آخر ومن حُلُمٍ مختلفٍ ، علامةً بُعِثت من قِوىً أعلىً " حتى هو لم يكن واعياً بها " . بيننا مرَّ ، بعيداً ، بعيداً جدّاً ، كنجمٍ حزينْ ، ولمحْ : كنّا نفعيينَ ، وما كانَ قِدِّيساً ، ولكنهُ كانَ يرمي وجههُ في يديهِ كبرتقالةٍ في الثلوجِ ، ويبدو ، في لحظاتٍ كتلكَ بلا حلمٍ ، مثلَنا كُلَّنا .
لم يكُ ما يكفي من الأرضِ لخُطْوَةٍ حين جاءْ، ولا ما يكفي من السماءِ لوجهٍ ماطرٍ أو لدعوة، ولم يكُ أيضاً حزيناً، وكأنّهُ شعر بإزاحةٍ من المكانِ، شَعَرَ كمن جاءَ يودِّعُ سكّانَ الأرضِ. وأعرف: تعاليمُهُ كانت بلا فائدةْ، وكنا نحنُ أيضاً متعبين، مياهٌ كثيرةٌ وقمرٌ واحدٌ، أقمارٌ أكثرُ مما يجب، في هذه الصحراءِ الحمراءِ ولم يكُ ماءٌ ولا أمل. وحتى هو كان ينفلتُ أحياناً كسعدانٍ آليٍّ بفيضٍ من كلماتٍ مُتلبِّسةٍ يُشْعَرُ بها كتشابيهَ نحاسٍ في ذاكرةِ دميةٍ من الخشب.
أنتظرُ شجراً عارياً في الضَّباب لكي يبدأ بالرنينِ كالجرس،
أنتظرُ عصافير المطر عند النهرِ لكي تشربَ سوادَ عينيهِ،
ويا إلهي كم كان متكبِّراً ! كان يهتمّْ، يهتمُّ بكلِّ شيءٍ في هذه البراري التي هجَرَتْها الآلهة والتي ندعوها بوطننا، وفي لحظةِ إيحاءٍ مفاجئةٍ، كومضةِ برقٍ في شتاءِ الأوديةِ، شعَرَ بالحاجةِ لأن يمضي، شعَرَ وفعلْ. ونظرَ إلى الخلفِ، بدا كشفقٍ، ولم يهتمّْ أحدْ، حَزِنَ، قالَ بأنَّ ما حدثَ كانَ حظّاً، أو جنونـاً إلهياً، أو قدراً، أو ميلاً، إن شيئاً، قالَ، حلَّ بهذه البلاد. وكان من الكبرياءِ بحيثُ لا يبقى، ومن القوّةِ بحيثُ لا يُصلبُ. ومضى عيونُهُ واسعةٌ كقارّاتٍ، وفي قلبهِ كلُّ أنواعِ النهورِ ودعوات الأدغالات.
لم أرَهْ. كان غامضاً كحدسْ، ولم يكُ يرى قربَ النهرِ في صباحٍ ماطرٍ لكنهُ كان يتخلَّلُ الفضاءَ الأزرقَ الغامضَ كموسيقىً حالمةٍ وتأتي من أعلى، بعضنا قالَ جاء من المستقبلْ، آخرونْ، بأنهُ من يعيشُ للمستقبلْ. ولكن فعلنا كلَّ ما بوُسْعِنا كي نُشعِرُهُ بوحدتِهِ أكثرَ من ذي قبلْ،وجهُهُ كان مصنوعاً من كلماتٍ ومخطوطاتٍ قديمةٍ، ويتحرَّكُ كقطةْ. ويستمعُ، فقط، يستمعُ لنا، كطفلٍ، ثم يدفنُ وجههُ في يديهِ كما في عشِّ موسيقىً عن مدينةٍ تجذبُهُ للأسفـلِ
حتى تمتصَّ منهُ الحُلُمَْ، ولم يكُ ضحيّةً، أو مبتــذلاً، أو انتحاريّاً، ولكن فعَلنا كلَّ شيءٍ كي يكونَ كذلكَ، لا لشيءٍ إلا لأننا نحبُّ المرايا في هذه:
"البلد القديمةْ
لمصابيحِ الزيتِ والحزنْ
بلدِ الصهاريجِ العميقةْ
بلدِ موتٍ بلا عيونْ،
وسهامْ"
كتبَ أغنياتٍ عن العزلةِ والنشوةِ، لقطعانِ ضباعٍ سودٍ، مِثلنا، ولنا، نحنُ الذينَ علينا لا تصحُّ قواعدُ اللغةْ. وفكّرَ بأنّهم ـ أي نحنُ قديماً، فلم نعدْ بعدهُ مثلما كنّا عليهِ قبلهُ ـ فهِموا، وقالوا نتهيّأُ للمسِ الزنبقةِ الأخرى للروحِ، سننضُجُ، قالوا، أما الآن فلا نستطيعُ الغناء على العتبةْ. ربما بدأوا بالتهامِ الأرانبِ والزهورِ، وكان عليهِ بأن ينتظرَ “أنصافَ النباتاتِ وأنصافَ الأشباحِ هؤلاء“ لكي ينتقلوا إلى أكلِ العشبِ فقط، وعندها قد يبدأونَ بفهمِ الرسمِ، ولكن ذا كان سيستغرقُ قروناً سحيقة. وكذا ابتسمَ، فقط إبتسمَ، ونظرَ إلى جهةِ البحرِ، وسمعتُهُ يغنّي:
في الأبيضِ والأزرقِ كنتُ وكنتُ أخضَــــــرَ بُنِّيَّـــاً خذي قلبيَ كالعصفــورِ
| بقربِ نارٍ شتائيّـــــــَةْ بجمالٍ ودفءٍ في الرغبة واتركي لي هذه الوردة الزهريَّةْ |
"كلما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارةُ "، قال النِفَّريّْ. ورأيتُهُ يدخلُ الصحراء" غريباً كوحشِ اللهِ في الجبل "، بين عروةِ بنُ الوردِ يحسو قُراحَ الماءِ، والماءُ بارِدٌ، وبين وقفات النِفَّريّْ.
جاءِ إلينا منحدراً من الكهفِ، بعد أن نامَ سبعَ قرونٍ، وكلبهُ باسطٌ ذراعيهِ بالوصيدْ. كان غريبَ الزيِّ واللغةْ، وعِملتُهُ من مملكةٍ قديمةٍ، قلبُها تجارُ السوقِ والحراسُ والجباةُ، ما لهذا النبيِّ يمشي ويأكلُ في الأسواقْ؟ قالوا. فقالَ بأنَّ الشِّعرَ منضبطٌ، والروحُ تشطحُ، والقلبُ والقالبُ مفصولانِ بحرفِ الألفِ الذي يرعى العشبَ كالثيرانِ، ويشربُ الماءَ من بحيرةٍ منعزلةٍ خلفَ غاباتٍ مقمرةِ الإتِّساعْ.
كان المسافةَ بين الوردةِ والفيضـــانِ، بين الفوضى والتحنيط، حوارَ الهندسةِ مع الماءِ، وجهاً نصفُهُ الأولُ من رخامٍ والآخرُ من نارٍ ورقصٍ جنونيّْ، وكان العتمَ الكامنَ في روحِهِ يحاولُ ذبحَ النارِ بلونِهِ، فتهدأَ ريحْ.كنا نرتادُ مقهى النردِ في سوقِ تدمرَ القديمةِ، أيّامَها، كي نستريحَ منَ التجارةِ في بخارى. وكانت جمالُنا تَعْلِكُ الوردَ عندَ البوابةِ الشرقيةِ، ونسخرُ من مشاغلِهِ بحرفٍ أو بجملةٍ. لِمَ؟ قلنا. وعرضنا عليه الخزَّ والخبزَ، قال بأن إبداعَهُ جفَّ، وواد عبقرَ خالٍ، وعرافةُ القمرِ التي دلتهُ أرتهُ محيطاً، أو محيطينِ منحوتينِ من حجرٍ، والموجُ المنحوتُ من حجرٍ يوحي بوهمِ الحركةِ الزرقاءَ. وكذا كانت جمالُنا تَعْلِكُ الوردَ، فبكى، مختلفاً عنا. لم يكُ يبحثُ عما يتشابه في ملامِحِنا من تضاريسْ. قالَ: نصفُ القمرِ أسودٌ، والنصفُ أصفرٌ، وسـأل عن هذا الصوفيِّ الذي وقعَ في حبِّ بحيرةٍ. وتحدَّثَ عن مخطوطاتٍ في معبدٍ صينيٍّ، ربما تشاو-لين. وكما قلتُ لكْ، كان غريبَ الزيِّ واللُّغةْ. كنا نلتفُّ عليهِ كزنزانةٍ، فينبسطُ كبحرٍ وينسرحُ، ومحيطاتٌ أخرى فيه ظلتْ خارجَ العِبارةْ.
وكنا نخافُ منه أيضاً، لأن نساءنا انجذبنَ إليه، حتى أن جاريةً رزينةً مشتْ في نومِها، والهواءُ يطيِّرُ ثوبَها الأزرقَ الشفافَ، كمن داختْ من القمرِ والنظرةِ في النيران المُمَغْنَطةِ، مشتْ نحو تمثالِ إلهٍ عند البوابةِ الشــــرقيةِ، ونزلَ
التمثالُ ببطءٍ كي يدخُلَها، قلنا جُنَّتْ ! فقالت إنّهُ هو الذي لا مناصَ منه، الخيطُ الممتدُّ في الحُلُمِ، هو، الذي لا ينسى. وأُزحْنا من بين أفخاذ نسائِنا، مِنهُنَّ أُزِحنَا وبسبَبِهِ. وكنا نسمعُ ضِحكَتَهُ في قاعاتٍ مغلقةٍ لعرضِ اللوحاتِ، ومن خلفِ البواباتِ الحديدِ نُحسُّ بحريةِ الصوتِ فيهِ، ونحزنْ. سافرَ نرجسُهُ في مرايا ظلامنا !
لم تعدْ الأنهارُ هيَ هيَ، وبواباتُ طيبةَ لم تَعُدْ هيَ هِيَ، عندما مرَّ، كأنّ شيئاً ما حدثْ. عيونُنا كانت تشذُّ فنعيدُها إلى السويّ، كما أعدنا جِمالَنا إلى بخارى. بعضُنا قالَ الإستثناءُ هو الإستثناءُ، وآخرونَ بأنَّهُ مُتَلَبِّسٌ وجُنونٌ، قلتُ شاذّاً عنهُ، وقلتُ فذّاً، وخِفْنا منه. لم يعدْ يذكُرُهُ أحدٌ من جيلِنا، لا يبكي عاديٌّ على استثناء. أخرجناهُ إلى الهامشِ، كان "التطرُّفَ" كنا لسنا "التطرُّفَ" أعني احتجناهُ لكي نُعَرِّفَ من نَحنُ، وسَامَ، خرجَ من الصفحةِ والهامشِ إلى شيءٍ أبيضٍ، وعيٍ أبيضٍ ربما، وسمِعنا بأنه غادر.
صار صامتاً، يتأرجحُ عندَ البوابةِ الشرقيّةِ في أُرجوحةِ قشٍّ مُعلَّقةٍ بين شجرتينِ، كتلكَ المستخدمةِ في الأمازون، وكنا هناك نزوِّجُ أبناءنا لبناتِنا، نعزفُ النايَ ونحتفلُ، ويبقى صامتاً، ويهزُّ رأسَهُ كقط.
لِمَ لا يفرحُ؟ قلنا. ليست هذه نشوةً، قالَ، فخطوتُنا لا تذوِّبُ الثلجَ في زُرقَةِ السماءِ، ولا الظلَّ في الضوءِ، ولا الروحَ فيها، وكان حزيناً لأن نشوَتَهُ أعمقُ من فرحِنا، ربما لم نَكُ آلهةً، بل تُجّاراً، نسهرُ بينَ الجواري اللواتي يعزفنَ العودَ، ووجوهُهنَّ محمرَّةٌ كالشفقِ عند البوابةِ الشرقية.
وكأنه لم يكُ يعي حدودهُ، كنهرٍ يفيضُ، وكان فناناً في التجَنُّبِ حتى أن زوجتي “سكارلت” بطلة “ذَهَبَ مع الريح“، حاولت مرّةً إغراءهُ، فحدَّثتْهُ عن الملَلِ، وعن لوحةٍ فيها رجلٌ يصوِّبُ بندقيتهُ إلى رأسِ ظلهِ الساقطِ على الحائطِ في ساحةِ الظهيرة، ولم يفهمْ. لِمَ؟ قالت، فقال كلماتُها أجراسُ زجاجٍ تتلاطمُ كنجومٍ معلّقةٍ بسلاسلَ من ذهبٍ في فضاءٍ خالٍ، وقالَ بأنه سَمِعَ أبعدَ مما يجب، وبأن الصوتَ سوطٌ، والكلماتِ كتلُ جليدٍ أو حجر. وهكذا نامت معي لوحدِها، إنفصَلَتْ عنّي ولم تتَّحِدْ بِهِ، وحَمَّلَتْهُ الإنهيار. ورأيتُهُ ينظرُ للخلفِ، نحو البوابةِ الشرقيةِ التي تُغْلَقُ بقِفلٍ مفتاحُهُ المساومات، لا ! ليس حلاًّ وسطاً. كان هو ليس حلاًّ وسطاً، لا ذاكَ ولا هذا، وكان يبدو بلا حلٍّ أبداً. وكان يهزأُ بالإرتياحِ، ويفضِّلُ المغامرةَ على السعادةِ، والعقلَ الأوَّلَ عندَ الفارابي على المعقولِ عندنا في طنجة، ويتنقل بحثاً عن امرأةٍ قال بأنها عَرَفَتْهُ في حيـــاتِهِ السابقة، ولا يتورَّعُ في البحثِ عنها في الماخوراتِ في الدارِ البيضاء، وقال الأشياءُ فَشِلَتْ في العيشِ حسب مفهومِها، مفهوم الأشياءِ ما يقصدُ، فَشِلَتْ، وقال الظلُّ لا يكفي للقاءِ الأصلِ. وعندما يعودُ الحصانُ الأصفرُ إلى سفح الجبلِ يبدو منتشياً بالعودةِ من الخارج.
حاولتُ أفلقَهُ كحبّةِ جَوْزٍ كي أفضحَ داخِلَهُ، لا داخلَ فيهِ، أو هكذا شعرتُ. وكان واضحاً، ووضوحُهُ يُخيفُنا، فنلتفُّ بعباءةِ السرِّ وننفضحُ نحنُ، وكنا نحبُّ الغموضَ، وكان واضحاً، وهذا ما كان غامضاً فيه، حتى أن عاهرةً مقدسةً، من أوغاريت، على ما أعتقدُ، إتَّهَمَتْهُ بأنه لا يغسلُ ملابسَهُ الداخليّةَ، وجرحَتْهُ. ربما كانت على حقّ، ولكنني رأيتُهُ يسبحُ في الزبدِ المُشمسِ كلَّ صباحْ، ولم يتكلمْ عن الرّملِ الذي فينا. وفي احتفالاتِ الربيعِ قالت له مالكةُ عبيدٍ بأنها تشعرُ بالذّنبِ لأنها تستعبِدُ غيرها وتودُّ تسريحَ عبيدِها، قال لها الأدنى يخيفُ، وقال بأن جمهرةً من أرواحٍ عبدةٍ تسكنُ في روحِها هي، ونَصَحَهَا بالخروجِ، وقال غامضاً.
كان استثناءً، لذا ركّزنا على عمامتِهِ الخضراءِ، وكان يلبسُ زنّاراً من حريرٍ مطرّزٍ، وحذاؤه قوقعتيّْ سلحفاتينِ مرصّعتينِ باللؤلؤِ، وكنــا نتوشوَشُ سرّاً عنهُ، وأخيراً في طنجةَ لَبِسَ كاهِلَها وصارَ من بيننا، قلنا تنازل، لكنه لا يجدُ جدوىً في الصراعِ على اخضرارِ عمامة، وتجنب، وكان فناناً في التجنب، وأعتقدنا بأنه صار عادياً، وكذا صارَ، ولكن هذه من أغربِ خطواتِهِ: أعني عاديّتهُ.
وفقدنا الكثيرَ حين فَضَّلَ الصمتَ و العزلةَ في بيت تخفقُ الريحُ فيه، وكنا نرى مصباحَهُ مضيئاً بحمرةٍ شاحبةٍ، حتى ساعاتٍ متأخرةٍ، ورأيناهُ يرقصُ منفرداً على موسيقى للهنودِ الحمرِ، وازددنا حيرةً، فهو لم يرقصْ لنا ولم يرقصْ له، بيتُهُ كان يطلُّ على البحرِ من الجبلِ، وعلى البوابةِ الشرقيةِ من الغربِ، من حيث كنا نمرُّ عليه في احتفالاتِ ديونيسيوس، حامليَن عضواً ذكرياً ملقىً كالحبلِ على أكتافِنا، قلنا لِمَ لا يفرحُ؟ قال فرحتُنا نمطْ، وضحِكَ بعمقٍ، مطلاًّ من شباكِهِ، كمن وجدَنَا ثانيةً بعد سفرِ قُرونٍ، مستغرباً وبمرحْ، ورأيتهُ ليلتَها يحاول إغراءَ ابنةِ تاجرٍ من أصفهان تحملُ إكليلَ غارٍ وتلبسُ الأبيضَ في الإحتفالاتِ، وتحملُ سلّةً فيها سعفُ نَخْلٍ، لكنها فضّلَتْ غيرَهُ، ولم يكُ عاهراً [ إلا حينما يميلُ النخلُ في معبدِ القمر كي يوحي للعرافاتِ بوحيٍ قديمْ ]، و لا قدّيساً، بل أشبهَ بنايٍ تُصَفِّرُ الريحُ فيهِ، أغانيهِ ليست منهُ، ولم نلُمْهُ، وأدرَكْ، وكان يتعرّى ويمســـحُ جسمَهُ بالزيـتِ في الإحتفالاتِ، فأُعْجِبَــــتْ بجســــدِهِ سكارلتْ، زوجتي، بطلـةُ "ذَهَبَ مع الريح"، قالت تتمنّى الخضوعَ لقوّتِهِ، قال لا قوّةَ فيهِ على إخضاعِ أحدْ، وقال اللذَّةُ أعمقُ من الممنوعِ، وهي اللذّةُ تحتَ الممنوعِ كالماءِ تحتَ العشبِ، وكنا عُشباً ممنوعاً نتأرجحُ كمشنقةٍ في غروبِ الأشيـاءِ، قال خيرُ تعاليمي وجودي هنا، وهناك مسافةٌ من وعيٍ بين اللهِ وبين المؤمنِ به، قال، وازددنا حيرةً.وأكثرُ ما حيَّرَنا فيهِ أنّه لم يكن امرأةً، ولا رجلاً. كلُّنا نعرفُ، كان رجلاً، بمعاييرِنا،وحَسَبَ عرافةِ طنجة كان أنثىً، بمعاييرها، وسألناهُ، قال الأُنوثةُ و الرجولةُ ضفّتانِ لنهرٍ واحدٍ وهوَ اختفاءُ النهرْ عندَ لقاءِ الضفتين، بِلُغَتِنَا. لكنه كان أبعدَ مما يجبُ، لا ذاكَ ولا هذا، غامضاً، وراءَ اللغةِ، ورَمَتْهُ سكارلت بإناءِ زهورٍ عندما تحدَّثَ
عن منطقةٍ كهذه، بمعاييرها، فتجنَّبْ، وكان فناناً في التجنب، قال عن زوجتي "وعيُها طبقة"، وقال، لاحقاً، بأنه تجوَّلَ حول ضواحي الجنونِ، وعاشرَ سكانَ هذي البلد، وتوقفَ بين المألوفِ والجنون زَمَنَاً، لا يرجع من حيث جاءَ، ولا يوغِلُ في حيثُ يتجهُ، سأَلَتْهُ إن كان هناك لم يـزلْ، قال التردُّدُ بين المألوفِ والجنونِ طبقة، وهو قبيلةٌ جديدةٌ من أستراليا، والقاراتُ بيتَهُ، والإمبراطوريةُ محدودةٌ، ولم نَفْهَمْ.
وانتظرتْهُ سكارلت، زوجتي، وكانت كمن تزرعُ البصلَ والثومَ في الشمالِ، لكي تفهم عودَتَهُ بين القراصنةِ القُدامى، كذكرىً بلا عاطفة، قال الذاكرة متحفٌ ميِّتٌ، والجليدُ مهمٌّ، قعرُ الجحيمِ عند دانتي من جليدٍ، وهكذا كنت أَنْشَعِبُ ولا يوحِّدُني بي.
وأريدُ أن أُحدِّثَكَ عن تلك الحفلةِ في قصرِنا في أصفهانْ،
سوف أحدثكَ أنا، تايريزياس، الذي رأى كلَّ هذا، عنه،
وعن الوجعِ الذي لا بحرَ ولا إيقاعَ له،
الوجعِ المحشورِ كالنمرِ البِنغاليّ في قفصِ الصدرِ،
الحزنِ الذي في الروحِ يسري كأفعى الماءِ،
وعنها،
تلك الخارجةُ من الرواياتِ لكي تَئِنَّ تحتَهُ وتتأوَّه،
وأنا، تايريزياس، في الغرفةِ المجاورةِ،
أنا الذي يمزجُ الحزنَ باللصوصيةِ،
ويمنعُني الإفتعالُ عن الإنفعالِ، والكبرياءُ عن الشكوى،
أنا، من ينكرُ حين يرى،
حين كانت تئنُّ تحتهُ كذئبةِ اللَّذَّةِ، راميةً رأسها للخلفِ،
مع ذلكَ البرنزيّ الذي لفحتهُ شمسُ الصحراءِ الحمراءِ،
وقالت، بين التأوُّهِ والإستثارةِ، عني،
أنني آمنٌ مثل بيتِ اللهِ الحرامِ، ويوثقُ بي،
ومعي لا تشعرُ بعد فِعْلَتِها بالضياعِ،
ولكن اللذَّةَ معهُ،
ذلك الطفلُ القادمُ من الصحراءِ وقبيلةِ التوريغ،
مثيرةٌ بجنونٍ وبِدئية،
وكنتُ واقفاً، بحواجبٍ الشيبُ سرى فجأةً فيها،
في الغرفةِ الأخرى، بين القططِ، والكتبِ، والإضاءاتِ الخافتةِ، أرى كلَّ هذا،
أنا الذي حاصرتني مَرّةً أخرى العادةُ،
وفيَّ تحدو قوافلُ غروبٍ شاملٍ في أفقٍ من رملٍ،
ووجهي يحتملُ أقنعةً عِدّة،
تايريزياس، العرّافُ الأعمى،
حيث الرؤيا لا تجدي في وطنٍ فيه الجريمةُ أفضلُ الخياراتِ، وأفضلُ الخياراتِ جريمةٌ،
والموهبةُ لا تجدي بين الإمتيازاتِ،
وطنِ المجاعةِ والفراغِ، حين المعرفةُ فارَقَتْها دفقةُ الحياةِ،
أنا الذي سيحدِّثُكَ عنه !
كان يبدو تحتَ السطحِ، كامناً، حتى لحظةِ النظرِ إلى الداخلِ، حين يسري في الروح كأفعى النهـرِ، وما كان فظاً، كنتُ أحتاجُهُ مولاي، ما كان فظاً، فأراني كهفاً فارغاً مقمراً في أعلى جبلِ الروحِ وقالْ: هنا أتعبَّدْ، والصمتُ كلامي فانظرْ فيهْ، أغناءُ الروحِ حاجتُكَ الجوهرةُ المنقوشةُ على شكلِ فارسٍ من البرونزِ والتأمُّلْ، لما يتعمَّقُ وعيُكَ ويحتاجُ الفيضانُ هذه المدنَ لن يبقى من هذهِ المدنِ إلا الريحُ التي عَبَرَتْها الخيانةُ في الروحِ نفضٌ لغبارِ المللِ، الملذاتُ كَثْرَةٌ، وكذا التضاريسُ كثرةٌ، قالَ، أرى البوابةَ الشرقيةَ مَعْتَمَةً من حديدٍ، والسيرُ في الطرقاتِ التي تفوحُ برائحةِ الحلاقينَ والجندِ ملذاتٌ مألوفةٌ يا عبدُ، قالْ. وفي تلك الليلةِ المغلقةِ بندمٍ وبنفسجٍ في قصرِنا في أصفهانَ المدعوَّاتُ معطراتٌ والمدعوّونَ معطرونَ الأيادي شموعٌ تشــعُّ في صـــالاتٍ مفروشةٍ بالفروِ الأبيضِ الناعمِ، المرايا كَثْرَةٌ، وعبيدٌ عراةٌ وعبداتٌ عارياتٌ في أياديهنَّ سعفُ نخيلٍ يروِّحْنَ عن الضيوفْ، وفي الطابقِ العُلويِّ، قبلَ الكشفِ، حيثُ لما أنّتْ تحتهُ قالت تُثيرُ، لهُ قالتْ، يا إلهي تُثيرُ، ورأسُها ذاتَ الشمالِ وذاتَ اليمينِ يروحُ كطيرٍ شدّتهُ اللذَّةُ للأرضِ، قالت ما يخرجُ منكَ جميلٌ، واللغةُ الممنوعةُ تطفحُ باللذاتِ المحزونةِ بعدما فرضَ الأمنُ المشبوهُ الكتمَ على الأحرفْ
توحَّدْ عندما تفكَّكُ الأشياءُ، يا عبدُ، قالْ
كانت واقفةً في الشبّاكِ الخلفيِّ كاشفةً نهديها للغروبِ كإقوحانٍ في إناءٍ، وأما هو ففي إيماءاتِ ضوءٍ أمْيَلِ للإخضرارِ، نصفُهُ في اللونِ ونصفُهُ خارجَ عتبةِ غرفةِ النومِ، بدا كقدرْ، لم تَرَني ولم يَرَني، لا يرى غيرُ المرغوبِ فيه، أحياناً. ورأيتُ بأن سكارلت تتقنُ الإنسحابَ إلى الداخلِ، كالأقباطِ خارجَ مصرْ، تتقوقعُ كسلحفاةٍ، وتمشي بزاويةِ 45، كسرطانٍ بحريٍّ، وهناك تختفي هويَّتُها حيثُ لا أصلُ، وأوهمْتُها بأن قلبي يَصِلْ. مَنْ قالَ هذا:
"تركتُ الحبيبةَ - لم أنْسَها - في غروبِ الشجرْ...
توهَّمْتُ أن السمواتِ أبعدَ من يدِها عن جبيني
وأوْهَمْتُها أن قلبي يَصِلْ"؟
وبعدها غادرْ. راقَبَتْهُ سكارلت من شُبَّاكِنا الخلفيِّ، مددتُ يديَّ إلى قبابِ نهديها النحاسيةِ تحتِ الغروبِ قالت البحرُ هاديءٌ وبأنها سترحلُ إلى بحرِ إيجةَ، وتَبِعَتْها قِطَّتُها السياميةُ التي لم تكن تحبُّ أحداً،
وجلَسَتْ على حقائبِ الجلدِ الأحمرِ الكالحِ بانتظارِ شعوبِ البحارِ. وتجوَّلتُ وحيداً في رَدَهاتِ القصرِ، فتحتُ قناني النبيذ ونصَّ اللآليء.
"حتى من أجلِ شربِ الخمرِ، احتجتُ إلى النصحِ..
أنها نهايةُ الزهُوِّ..
وفي النهايةِ كلُّ شيءٍ باطلْ.
فدخل مولايَ وجلسَ بقربي في المكتبةِ، وكان خفيّاً كشبحٍ، فأثارَ غبارَ المخطوطاتِ عليَّ وحـوليَ، وبكيتُ، فقالَ يا عبدُ، جُزْ هذه المنطقةَ، أحياناً نعمى حين نرى.
جاءَ من الشرقِ ليلاً، ووقفَ تحتَ شُبَّاكِها، لم تَكُنْ تعرفُهْ، في قدميهِ غبارُ سفرٍ من أتيكا، وفي شعرِهِ ورقُ صنوبرٍ من بلادٍ غامضةْ، بيتُها كان كَذِباً يمتدُّ ثلاثةَ آلاف سنةٍ للوراءِ، قبلَ بناءِ الهكسـوسِ للخليلِ، وقبل مقتلِ الإله بَعْلٍ في غابـــاتِ الأرزِ في لبنانَ كي يبزغَ من دمِهِ قطيعُ الأقحوانِ، كان بيتُها كذباً، والشريطُ الأصفرُ الذي يضمُّ شعرَها المجدَّلَ ذيلَ فرسٍ كان حديثاً مُلَفَّقاً عثرَتْ عليهِ على الدرجِ ملفوفاً على ضمَّةِ وردْ، ولما وقفَ في شارعٍ خفتتْ الإضاءةُ فيهِ عَرَفَتْ بأنه هو، وحتى كلبَها الأبيضَ الكبيرَ كوعلٍ في عنقِهِ زردٌ لم يحرُسْها من وقعِ خطواتِهِ في حديقةِ قصرِنا في أصفهانْ. جاءَ من قبلِ ثلاثةِ آلافِ سنةٍ يفتعلُ العاديَّةَ حتى تألفَ سنَّهُ الذهبَ الذي يبينُ إن ضحِكَ بعد عزلةٍ كهذه. طقوسُهُ مختلفةْ، يختفي عندما يتَّضِـــحُ، ويصمتُ عندما يلفِظُ، وقبل قدومِهِ عَرَفَتْ بأنه سيأتي.
جاءَ من جهة البحرِ الأحمرِ يمشي مع القمرِ والموجِ، بعدَ أن انحسرَ الجليدُ عن ملامِحِهِ تاركاً إمكانيّةَ الغاباتِ والينابيعِ المعدنيةِ الساخنةِ، وكانت تنتظرهُ عاريةً في شُبَّاكِنا الخلفيّْ، وعندما لَسَعَ البردُ حلمتَيْها انقبضتْ، ولفَّتْ الغروبَ كالشَّالِ عليها، فجاءَ في حُلْمِها، ووقفَ قربَ مِخَدَّتِها يحملُ كأساً من نحاسٍ فيه نبيذٌ أحمرٌ للقرابيْن، جاءَ متسلِّلاً بين الحُلُمِ واليقظةِ، مازجاً في ملامِحِهِ المطرَ بالوحلِ، والعشبَ بالخرابِ، واللّذَّةَ بالممنوعْ، متأبِّطاً خرائطَ الأناشيدِ وشـــراً لم تعرِفْهُِ، فأستيقظَتْ سكارلت، عَرِقَةً، تهــذي من كوابيسِها فحشرْتُها بين يديَّ، قالتْ: بأنها رأتْهُ واقفاً خلفَ البوابةِ، شاحباً كالليمونِ، وفي عينيهِ جفافُ التلفزيونِ الأبيضِ والأسودْ، وكانَ يُنْشِدُ
"ليسَ للنّارِ ظلٌّ
وليس لمن تمتاز نارٌ بالحصولِ عليهِ وجودٌ،
قبلهُ أو بعدهُ ولهُ
أن يستحلَّ من الأرضِ ما يستحلُّ
كان وجهُهُ بين الأصفرِ والأخضر، في مزجةٍ واحدةٍ، ويبدو كلوحةٍ، لما فَتَحَتْ لهُ البوابةَ الحديدَ التي بقيَتْ وَرَقَةٌ منها مغلقةً بينما الأخرى مُنسَرِحةْ. وقفَ متردِّداً، وسألَ عن أبي الفرجِ الأصفهانيِّ، قلتُ ماتَ ولا يسكنُ هنا، فدخلَ مُتفرِّساً في الحديقةِ: قِردٌ عجوزٌ لهُ لحيةٌ طويلةٌ بيضاءُ، وحاجبهُ كثٌّ، كان على حافةِ البئرِ يُدلي بدلوهِ في الجفافْ، وكان القمرُ بين الصنوبرِ والرخامِ، وطواويسٌ كنتُ جَمَعْتُها من رَحَلاتِ ابنِ بطّوطة تتمشّى بخيلاءٍ مُنْعزِلةْ. “كان جدّيَ ملاَّكَ خيولٍ عربية “ قلتُ“ وبنى القصرَ على مُنْحَدَرِ الوادي“ هزَّ رأسهُ كنرجسةٍ، وكانت يداهُ بيضاءَ صغيرةْ، كيدِ ملكِ إمارةٍ مُصطنعةٍ شرقيّ النهرْ، أو هكذا شَعَرْتُ.
نظرَ إلى جهةِ جبالِ زاغروسَ، واقفاً على دَرَجِ القصرِ. زاغروسُ، قالَ، حنينٌ إلى الأُصولْ، سؤالٌ للسائلِ عن كيفَ بزغتِ الأسئلةْ، زاغروسُ، تلك الجبالُ الجرداءُ التي شهِدَتْ ولادةَ الزمنِ واكتشافَ الزراعةِ، لم تزل نفقاً في الوعيِ وأسئلةْ. والتاريخُ كذلكْ: نفقٌ في الوعيِ وأسئلةْ.
وأدركتُ لاحقاً بأنهُ يرى العالمَ بطريقةٍ مختلفةْ، فيرى العالمَ متزامناً، ما حدثَ قبلَ عشرِ آلافِ سنةْ، ربما في زاغروسَ، موجودٌ في ذاكرتِهِ كغُرْزَةِ تطريزٍ بقُربِ غُرزةِ تطريزٍ أخرى هي ما يحدثُ عندنا الآنَ في أصفهانْ، فالأزمنةُ متجاورةٌ وليست متتابعةْ. التاريخُ تطريزٌ ومفهومُ الزمنِ نافعٌ، قالْ، الماضي مساحةٌ كالغابةِ، قالْ، والآنَ مساحةْ، قالْ، وأنا مسَّاحٌ، أردفَ، ولا يهُمُّني الزمنُ المتتابعُ، بل انفتاحُ المساحاتِ كتطريزٍ متجاورٍ لا أسبقيةَ فيهِ لغرزةٍ على أخرى، ولا تَتَابُعَ. وبالتالي كان يرى الجرةَ كصفحةِ نهرِ الفراتِ، مستقيــمة، ممدَّدة، مطرَّزةً بالموجِ الأحمر، ربما من الدَّمِ الذي سَفَكَهُ المغولُ في احتلالِ بغدادْ، ومن الحبرِ المتحلِّلِ، والجريمةُ مساحةٌ، قالْ، وصَعَدَ الدَّرَجْ.
جاءَ كقطعةِ خشبٍ من قاربٍ محطَّمٍ ساقها الموجُ إلى ضفافٍ غريبةٍ، ووصلَ إلى ساحةٍ ليست لهْ. وعندما فتَحتْ لهُ، فيما بعد، غانيـــةٌ طاقةً مُسَيَّجَةً
بقضبانِ حديدٍ في بوابَتِها، خائفةً منهُ، كعادةِ أهلِ بغدادَ أيامها، بينما أرادَ فقط أن يُسَلِّمَها رسالةً بعثَها لها تاجرٌ يحبُّها، لم تدعُهُ للدخولِ، وأساءت فهمَ نيّاته فأخذتْ الرسالةَ وتركَتْهُ وراءَ البوابةِ يحدّقُ في الحديدِ الباردِ كوجهٍ مغلقْ، وعندما التقتْهُ ثانيةً في تلك الحفلةِ في قصرنا في أصفهانَ اعتذرتْ: "أوه ! كنتُ وقحةً.. تدري.. متأسفةٌ جداً". فقال ببساطةٍ، أدري، كنتِ وقحةً، كالعالمِ، فارتبكَتْ فواصلَ شربَ الخمرةِ محدّقاً فيها كما في شهابٍ من سماءٍ ساقطةٍ لا يمتُّ لها بصـلةٍ، وتوتّرَ الجوُّ. كُنْ معتدلاً، قالتْ، الإعتدالُ وبالٌ و لا يكونُ مع الإعتدالِ إلا دوامُ الحالِ، قال. إذَنْ كُنْ لطيفاً، قالَ، أنا لطيفٌ بالطبيعةِ فهذا حقُّ نفسي عليّْ، وقالَ، لما سأَلَتْهُ سكارلتُ إن كان يفكّرُ هكذا فينا جميعاً، "عادتي" وأشار إلى شمعةٍ خضراءَ تشتعلُ وتسفو الريحُ شعلتَها، وقالَ الشعلةُ تقليدٌ باهتٌ لروحيَ، الفَهْمُ سيفُ ذهبٍ فاستعمليهِ. عمن تبحث فينا؟ "عن السيدة الغائبة"، ومن هي؟ "تعرّفتُ عليها في حياتي السابقةْ" وإن لم تجدها على الأرض؟ "في حياتيَ الحاضرةِ أحيا لأعرفَ، وفي حياتيَ المستقبليةِ سوف أمشي على الأرضِ طفلاً نبياً" من أينَ جئتَ؟ "من وطني". وأين هو؟
"لن تعرفيهِ إلا أذا غادرتِ وطنكِ". تبدو لي أحياناً، كبابٍ، وكمرآةٍ أحياناً، وكرجلٍ، من أنتْ؟. "أصيرُ كما تحتاجيني أن أكــونَ. ولا أقفز من فرعِ شجرةِ جوزٍ إلى فرعٍ آخر كالسّعادين" تفسِّرُ نفْسَكَ ببلاغةٍ، قالتْ.
"من ليس جديراً بالسرِّ وافِهِ بالتفسيرْ"، قالْ. من أنت؟ "كُلُّنا غرباءُ في أرضٍ غربيةٍ تدعى الحياةْ".
وخَرَجَ وهو يشرِقُ بالضّحِكْ حتى دَمَعَتْ عيناه. وأما سكارلت فبَقِيَتْ واقفةً في مكانِها لساعاتٍ، ولما عانَقْتُها وَجَدْتُ في يديَّ ثيابَها فقط، هي اختفتْ، أو تحوّلتْ إلى فضاءٍ مفتوح. لا أدري، كان غريباً وضرورياً لنا كلنا كالدموعِ والكتبِ المقدَّسةِ، تذكَّرْ: الحالمونَ يحتاجونَ لِمُثُلٍ، حسبتُهُ مِثالاً فاختفى كناقة. كان يَتَنَقَّلُ بين الأصفرِ والأخضرِ والورديّْ، وكلماتٌ تُلِحُّ عليه لتخرُجَ منه، وكان محجوزاً، ويحيا في قارّةٍ من التوتّرِ حيثُ يربّي الكنغارو والحيواناتِ الغامضةَ، رافعاً رأسَهُ للأعلى، عقربةْ صفراءُ سمـــائيَ، قالْ. ومــالَ نحو الضربِ في الأرضِ تلحقُهُ بحارٌ تفيضُ لتلتَهِمَ ما تبقّى من خُطاهُ حتى تاجَرَ بالعاجِ في أفريقيا، وأحزَنَتْهُ كفُّ قردٍ مقطوعةٍ في سلّةِ قشٍّ لكي تصدَّرَ إلى مصانعِ العطورِ في أوروبا، كفٌّ تبيعُها عبدةٌ سوداءُ للبيض، وأحْزَنَهُ دخـــــان أبيضُ في وسطِ الأدغالِ قريباً من المحيطِ الأزرقِ يتموَّجُ. وكان ينتظرُ السُّفُنَ لتنقلَهُ إلى جُزُرِ التروبْرِييانْدَرْزْ، ويحدِّقُ في اتســـاعِ المحيطِ في انتظارِ السفنِ، لم نكنْ نحنُ، كما قلتُ لكَ، نفهمُهْ.
وحينَ التقيناهُ في حفلة الكوكتيل في قصرنا في أصفهان جذب نساءنا، لم ندرِ كيف أتى ومن دعـاه، وفي عباءتيَ الخزُّ المقصّبُ حيث على صدريَ تتأرجحُ بوصلةٌ كنت أشتريتُها من بخارى، وأنا فخورٌ بوقع حذائي الجلد [ الذي رُسِمَتْ عليه صورةُ نفرتيتي وكتاباتٌ بالهيروغليفيةِ ] على البلاطِ، سألتُهُ إن كـــان مهتماً بالتجارةِ. "أنا فقيرٌ في الخارجِ" قالْ. وقهقهنا، نحنُ التجارُ الملتفّينَ حولَهُ، وسألناهُ عن أصلِهِ. "أصولي عِدّةٌ، هناك شجرٌ رأيتهُ في الأمازون ينقلُ جذورهُ من تربةٍ لتربةٍ وأحياناً ينبُتُ في زرقةِ السماءْ. خطواتي جذوري، قالَ مهيارُ الدمشقيُّ، "قالْ" لستُ منفيّاً لأحِنَّ، ولا مهاجراً لأتكيّفَ،" أردفْ، قلنا بأننا لا نعرفُ عن شجرٍ كلما تخلّعتْ جذورُهُ سَمَقَ وذهبَ في السماءِ، ونعرفُ عن شجرٍ يفترسُ من يرتاح في ظلهِ وبالأخصِّ في مدارِ السرطانِ، على ما نعتقدْ. "تتكلمونَ لغةً واحدةْ كالسعادين"، قالْ. فشتمتُهُ بعباءتيَ القصبِ، فتجنَّبْ، وكان فنــــــّاناً في التجنُّبْ وأخذ يُنَقِّلُ بيادقَ شطرنجٍ منحوتةً في العاجِ ويضعُها في جيبِهِ، قلتُ: أعِدْها ! قالَ، "ألا تلعبُ إلا لعبةً اعتدتَ قواعدَها؟ غامِرْ ! وجذبَ نساءنا اللواتي ذهبنَ مع الريحِ، وكان يحب التفافَ النساءِ عليه، ويبقى قصيّاً كمغارةٍ تَفْتَحُ أعماقُها على بحرٍ آخر، وخِفْنا منه.
لم يكن يملك سكّراً، أو سُفُناً، أو عباءةَ جوخٍ، إن أعطيتَني لا أمانعُ، قالَ، ولما مَنَحْتُهُ سفيـــنةً، قالَ: "لا مانعَ"، ونسيَها في الميناءِ، قالَ لا وقتَ عندهُ، وأحبَّ السفينةَ جداً، رَسَمَها على ورقِ البُردى، وكان لها رأسٌ من فينيقيا، وحبالٌ من صيدا، وبحارةٌ شتى رَسَمَهُمْ كلَّهم، وكأنَّهُ كان يكتفي بالشجرِ المسجَّى فوقَ ظلِّ الظلِّ من شجرِ الخُزامِ في مستقبلٍ آخر، دسَّ ورقةَ البردى في سترتِهِ الجـلدِ، ومشى، تاركاً التمرَ والسفينةَ، وما تبقّى، قلتُ بأنه عدوُّ إمبراطوريةٍ، ولكن لا أدري كان غريباً، ولا يُعقَلُ أن يعادي إمبراطوريةً كاملة.
كان يدركُ بأن الأشياءَ تزولُ، فزالَ معها بفرحٍ، من ذاكرتي، ويدركُ بأن الأشياءَ تتكرَّرُ، فرجَعَ معها، ولذا تكلمَ عن حياتِهِ التـاليةِ، وعن أين كان في حياتِهِ السابقةِ، وبدا كعالَمٍ ينهضُ من أنقاضِ عالَمٍ، كان كشعرةٍ تصلُ بين العبقريةِ والجنونِ، وكأنّهُ يتمرّنُ على التفكيرِ بشكلٍ مختلفْ، قال بأن أهرامَ خوفو، مثلاً، محضُ خيالٍ، ولما سألتُ عن لماذا اختارَ الفراعنةُ خيالاً حجرياً ضخماً، قال "حُبّاً في الثباتِ، أو إرادةً لتصوُّرِ الوجودِ، أو تحضيراً للخلودِ في العالمِ السفليّْ، كانوا على كل حالٍ يحبّونَ كسرَ مقاومةِ الكتلة". وسألتُ وأنتْ؟ ماذا تحبُّ؟ فقالَ: هناكَ لوحةٌ عند عَبَدَةِ النارِ في فارسَ ، النارُ مرسومةٌ على جدارِ الليلِ حتى لتحسِبَها حِبْراً أحمراً، ثباتٌ مخيفٌ في الحبرِ يوحي بحركةٍ مخيفةٍ في النار. قلتُ وما دخلُ هذا بي؟ قالَ، لا أدري، ولا أدري ما صلةُ هذا بالنقاشِ، ولا أدري حتى إذا ما كانت لوحةٌ كهذه موجودةً أصلاً، الإختلافُ، ربما، هو طريقةُ الآلهةِ في صياغةِ الهويةِ. أمن أجل التوضيح، اختلقْتَ وجودَ لوحةِ النارِ في فارسَ؟ قلتُ، فقالَ الروحُ التي تجهلُ الفرقَ بين الخلقِ والإختلاقِ، منافقةٌ، أنت منافقٌ، يا عبدُ، قالْ. وأردتُ أكسرَ فكَّهُ بتمثالِ برونزٍ كنتُ أعبثُ بهِ، فحجزتُ ما نويتُ وسألتُ ما النفاقُ؟ فقالَ: سؤالكَ هذا نفاق! تنوي على فعلٍ وتفعلُ غيرهُ، الأعمالُ بالنيَّاتِ، يا عبدُ، وهل يخْفَى على الضوءِ الأزرقِ القطُّ الأســودُ الكامنُ بين الورد، النيةُ سكّةُ القلبِ والفعلُ سكّةٌ أخرى لِمَ تمشي كالمشنوقِ بين السكّتين، فقلتُ ولكن يا مولايَ ولكن قلتُ أنا تجربتي، قال إحْذَرْ يا عبدُ أنا في أولِ الصبحِ أميّزُ بين الخطين الأبيضِ والأسودِ، إسألْ بَدَلَ أن تغضبْ، وافهمْ بدلَ أن تحتَدّْ، وتركني وخرجَ.
وسألتُهُ، لاحقاً لما وجدتُهُ جالساً في الظلِّ على درجِ القصرِ في أصفهانَ إن كان يحبُّ الأقنعةَ، قالَ عبورُ الحدِّ بين العوالمِ صعبٌ بدونِ طقوسٍ، الأقنعةُ من طقوسِ العبورِ، وأشعلَ عودَ بخّورٍ وقدّمَ لحماً مشوياً لقطةِ سكارلت الساميّةِ، قلتُ القطةُ ليست من الآلهةِ، قالَ القطةُ عالمٌ، مثلَ زيوس، والشواءُ قربانُ الدخــولِ، قلتُ لم أفهمْ، قالَ في وطنِهِ لا يحتاجُ لأقنعةٍ، قلتُ وهُنا؟ خذ وطنَنَا وطناً ! قالَ: هنا لا تحتاجونَ لوجوهْ ! وسألتُهُ عن وطنِهِ فتكلمَ عن نخيلٍ على شواطيءٍ مقمرة، نساءٍ سامرياتٍ، وسفنٍ غير آمنةٍ ورعاةِ نرجسٍ وأوزٍّ، وقالَ: إسمعْ ! إن أردتَ الوصولَ إلى وطني صِرْ قطّةً. سألتُ كيفَ؟ فقال: تقنَّعْ وانظر إليكَ بعينيها، ولا تنسَ، قدِّم البخورَ لهُبَلْ، الإلهِ القمريِّ القديمْ، وماذا إ ذا لم يكن الإنسانُ معيارَ أيِّ شــيءْ؟ القططُ رفاقٌ لنا في البلادِ الغريبةِ، قلتُ وما تلكَ الأرضُ الغريبةُ، قالَ: "الحياة".
النهرُ كان يكفُّ عن كونِهِ نهراً عندما مرَّ، وكأنَّ الماءَ يخرجُ من مائيتِهِ، فأحدق في نهر آخر كلُّ موجةٍ فيه أكبرُ من فكرتي عن الموجةِ، قلتُ كيفَ يكونُ النَّهرُ آخرَ، جنوناً ما؟ قالَ لكلِّ بلادٍ عِمْلَتَهَا، أعطِ مالَ قيصرٍ لقيصرَ، فدفعتُ إليهِ برزمةٍ من دنانيرَ ذهبيةٍ من أيامِ العباسيينَ فقالَ افهمني، لستُ قيصرَ، قالَ، وليست هذه عِمْلةٌ، قالَ، الذهبُ يختلفُ كالنهرِ حين تصيرُ قطةً، بالمناسبةِ، أنت سجينُ كونِكَ رجُلاً أو ذكراً، صِرْ قطةً وليسَ قطاً، وضحِكَ، وغمزَنِي، قائلاً عباءةُ الخزِّ جميلةٌ، رأيتُ مثلَها في بخارى. ما أغرب ما مرَّ عليكَ؟ سألتُهُ، قالَ، كثيراً ما طوّفْتُ وأغربُ ما أبصرتُ هو العاديُّ، قلتُ القطة ليست عاديةً، قال طبيعتُها تلك، وما يجعلُها عاديّةً، مثلاً في عينيكَ، يُذْهِلُني، أنتم الغرباءُ عنّي وما زلتُ أستألِفُ عالَمَكُمْ. فدفعتُ له بثمنِ قناعٍ كي يدخلَ عالَمَنَا فضحِكَ وقالَ: طقوسيَ من خلقيَ وحْدي.
جاءَ من الجهةِ الأُخرى، عبر نهرِ الإنفصالِ، وأعطاني صندوقاً من الصدفِ الملوّنِ فيه منحوتاتٌ من العاجِ نُقِشَتْ عليها أحرف بالخطِّ الكوفيِّ ورموزٌ صينيةٌ، تشبهُ النردَ، قال، بهذهِ أو بمثلِها يلعبُ القدرُ كلُّنا صدفةٌ، ورمياتُ نردٍ، إخترْ لغتَكْ. وافترقْنا لزمنْ.
كان شيءٌ يتشقّقُ فيه مثل جبالٍ من جليدٍ على وشك... تهيلُ في محيطٍ على وشكِ التصدّعِ... في روحه فتْح.
مرةً قالَ سورُ الصينِ وعيُ الإمبراطوريةِ بمحدوديّتِها، كان السورُ حجارةً تحتاجُ إلى خيالٍ مستديـــرٍ، كانقفالِ الأساورِ على الزندِ، قبلَ أن تصيرَ سوراً، أي فصلاً حجرياً بين الداخلِ والخارجِ بين المنغلقِ على ذاتِهِ والمنفتحِ على سواه، والقطّةُ خارجَ السورِ، تَقَنَّعْ وصِرْ خارجَكْ ! تجاوَزْ، قالَ، ولا تنسَ تقدِّم البخورَ لهُبَلْ، الإلهِ القمريّ القديمْ.
وبعد رحيلِهِ كان يحتاجُ إلى قَتْلٍ مستمرٍّ، هذا الذي يسكنني مثل مملكةٍ ماطرةٍ مسيجةٍ بالحمامِ، ويتبعُني كذاكرةٍ، وله سطحٌ عميقٌ وبُعْدٌ واحدٌ، ويدفعني للبحثِ عن نظرياتٍ تفسّرهُ، وسألتُهُ مرةً كيفَ أبدو لهُ، قالَ: تشبِهُ طُرُقاً على بابي.
ولما رَجَعَ وصعدَ الدرجَ فتحتُ له البوابةَ، قالْ: جئتُ إلى بيتكَ الخالي على حافّةِ الليلِ، مدعوّاً بأعينِ ثعالبٍ صفراءِ، وبشمعةٍ تذوبُ، ولم تأتِ لي أبداً فأنتَ تتقنُ فنَّ الإنصرافِ، فتكوّمْتُ على بابِكَ كضمّةِ نرجسٍ تحتَ القمر، قلتُ لهُ يا سيّدُ أنا الشــاطيءُ اليابسُ الثـــابتُ الرملِ، وأشعرُ بكَ محيطاً هائجـــاً
متعكّـراً، والموجُ هو الموجُ ما يأتي إلى الشاطيءِ أنا مقيدٌ بالرملِ يا سيّدُ لا تحسدنَّ الشاطيءَ اليابسَ المقيدَ بالرملِ إنه يعجزُ عن المشيِ، وأنه العجزُ الجافُّ على حدِّ الزرقةِ، والحركةِ، المحيطُ يا سيدُ، قلتْ. قالْ: قالَ الشيخُ بن عربي "كلُّ سفينةٍ لا تجيئُها ريحُها منها فهي فقيرة"، نفخ اللهُ من روحِهِ فيكَ فروحُكَ من ريْحِهِ، أنفخ من روحِكَ في روحِكَ يا عبدُ، قالْ. "خَرْقُ العادةِ إن لم يصبحْ عادةً لا يعوَّلُ عليه"، قالَ، قالَ الشيخُ بن عربي. يا عبد أنت أسيرُ ما اعتدتَ عليه، أخرقْ ! قال، يا عبدُ تتكرّرُ في فمِ الزبدِ البحريِّ كلازمَةِ الأغنيةِ، قالْ، تكرارُك يا عبدُ لزومُ ما لا يلزمُ، غَنِّ، كُنْ عصفوراً من اللؤلؤِ، من يرث الصوتَ لا يحصدْ به عِنَباً ومن يرث الشوكَ لا يغتني يا عبدُ قالْ، إن لم تكن صدىً لا تُكرِّرْ ما قالَهُ غيرُك، يا عبدُ، قالْ
وتجلّى لي مولاي في أرضٍ بين الصبحِ والحلمِ، بعباءةٍ مطرزةٍ بزهورِ النرجسِ، قالْ: يا عبدُ، هناكَ مرايا تستطيع أن تلفَّها على عنقِكَ كمنديلٍ أزرقْ.
وأنهارٌ تستطيعُ أن تحمِلَها في كفّيكَ كقلائِدٍ من خَزَفْ،
هناك من إن التقطوا حصاةً صارت فراشةً من خشبْ،
ومن إن التقطوا خشبةً صارتْ أغنيةْ،
يا عبدُ ما وطنكَ من وطنْ، هناك مساحاتٌ من الأرضِ هي مخطوطةٌ كتبَها اللهُ بحبرٍ سريٍّ والشمسُ والعشبُ والماءُ حبرٌ فاقرأ ! ولا تقلْ لي ما أنا بقاريءْ ! يا عبدُ ميِّزْ بين الموجِ والطميِ، بين الأفعى والإقحوانْ.
ينغلق الصوت كبابٍ من جليدٍ وينقفلُ كبيتِ شعرٍ أو مغارةٍ، بجملةٍ موسيقيةٍ أو بحجرْ، بورك الحبيبْ.
قَلِّبْ كلماتي تدرِكُ أين تقيمُ الأفعى،
عندما تغتربُ تتساقطُ يا عبدُ، وعندما تتساقطُ تتحوّلُ، والعزلةُ زنبقةٌ بيضاءُ ماطرةٌ للبعضِ، وللبعضِ لعنةٌ، بورك الحبيبْ.
من يُحَبُّ ويحبُّ ينجو من الغرقْ، يا عبدُ، قال.
وحدثَ لسكارلت ما حدثَ عندما غادرْ. وَقَفَتْ في شبّاكنا البحريِّ تغزلُ الغروبَ بإبرةٍ، وصلابةُ نهديها للريح، وامتدادٌ لمساحاتٍ أخرْ، في تلكَ اللحظةِ التي تيأسُ الروحُ فيها من ارتقاءِ القممِ فتكتفي بالتقاطِ الحُفَرْ.
وكانت تغني:
هو كان يبدو مثلَ سطحِ بحيرةْ
حين يصفعُها المطرْ
تركَ الوردَ على درجِ البيتِ ومرَّ مرورُ الخطرْ
أشعلتْ في موقدِ الحبِّ عشرينَ شمعةْ
وانتظرتْ حتى يجيءْ
لكنه لم يعدْ هذا الشتاءْ
ومرَّ المساءُ عليها كقطٍّ بريءْ
بقيَ الخونَةُ !
لكنها انتظرتْهُ
وحدَهُ،
كان يبدو مثل سطح بحيرةْ
حين يصفعها المطرْ
كان يأتي إلى شباكِها، كالقمرْ
وحدَهُ، حتى تنامْ.
خِفْيةً كان يمشي في حديقتِها
ثم يحرُسُها من حقيقةِ عالمِها وحقيقتِها،
وحدهُ،
كان أجملَ من سطحِ بحيرةْ
حين يغمُرُها الغمامْ.
كان يأخذُها كي ترى لحظةَ الشمسِ بين الصنوبرِ
أو في اخضرارِ الحمامْ
عرِفَتْ معدَنَهُ جيّداً
جيداً عرفت معدنه
بقي الخونةْ !
بقي التافهونَ المبتذلونَ الخونةْ !
اللاقطونَ لبعضِ فتاتِ الموائدِ حتى يجيء السلامْ.
أشعلتْ في غرفةِ النومِ عشرينَ شمعةً
عصرتْ نهديها باليدينْ
عرِقتْ قبّةُ الحَلَمَةْ
من عصرةٍ أو عصرتينْ
قرأتْ شعراً من كتابِ النُّحاسِ،
فنَزَّتْ من العيِن دمعةْ
عندما ظهرِ الخونةْ
من مقطعٍ أو مقطعينْ.
بقي الخونة !
لكنها انتظرته وحدَهُ
كان أجملَ من مِجرَّةْ
في حُلمٍ
تختفي من غمزةِ عينْ
من قال هذا؟
أميراً كان في جهتينْ
للوردِ والحنّاءْ.
فتركتُها واقفةً في غروبِ الغناءِ لهُ وخَرَجْتُ.
****