11:55 م
ستدّق، بعد قليلٍ، خلال خمس دقائق، السّاعةُ، ساعة ميعاد سعادتي. قبل خمسين عاماً، استبصرتْ عرّافة عمياء، ولم أصدّق، قبل خمسين عاماً حينها أيضاً، أن سعادتي لن تبدأ إلا بدقّات السّاعة الثّانية عشرة من صباح يومٍ يُوافق بحساب الثّواني والدّقائق والسّاعات والأيام والشّهور والسّنين غداً. بدتْ السّعادة بعيدة ومستحيلة وقتها، لكن بعد مضي خمسة وعشرين عاما من تنبؤها، بدأتُ أُوقن أن سعادتي لا يمكن حتماً أن تتأتّى إلا بانقضاء ذلك القدر المُفجع من الزّمن حينما يتعلّق الأمر بشخص مثلي.
11:56 م
اليوم، حال استيقاظي صباحاً، تنفّستُ، خلال شهيقي، بعُمق واتسعتْ رئتاي بالهواء، دون أن أشعر بوطأة الألم الخانق في صدري الذي اعتدته بعد زفيري، ولأول مرّة تمكّنتُ من النّهوض بقليل من الجهد، وشعرتُ بمرونة، لم أعهدها منذ زمن، في حركة جسمي، حال انتهائي من ممارسة التّمارين الطبيعيّة، وبلا مراودةِ رغبةٍ قديمةٍ في الانتقام من مطلّقتي، اعتدتُ استفتاح صباحاتي الهشّة بها، وبلا حقد على ابني الوحيد الذي تركني بدوره وحيداً في دار المسنين بعد أن تخلّتْ أمه الشابة عني وأثبتتْ للمحكمة عدم جدارتي للعيش معها، وجدارتها للمضي قُدُمَاً في حياة سعيدة مع غيري. لقد تسامحتُ معهما حقاً هذه المرّة، وتمنيتُ لهما السّعادة من أعماق قلبي الهَرِم. سأطلب من ابني زيارتي، غداً، لأخبره عن هذه السّاعة الخشبيّة التي ورثتُها عن أبي، والذي ورثها هو عن أبيه أيضاً. سنتحدّث، وسيُسرُّ لي، رغم كل شئ، وسأمنحه السّاعة إياها، لعلها تبعث له بالسّعادة، هي الأخرى، إلى قلبه اليافع، في المُقبل من الأيام..
أقف، الآن، بكامل أناقتي، خاشعاً، أمام السّاعة، وعقرب الثّواني يهتزّ ببطء مهيب.
11:57 م
بالأمس، قمتُ بـ"بروفة" بسيطة مع نفسي، وارتديتُ أفضل ملابسي لأجرّب إن كانت لا تزال ملائمة وأنيقة بما يتواءم والمناسبة. رغم أنه استغرق مني وقتاً طائلا، إلا أنني قمتُ بنفسي بِكيّ قميصي القُطنيّ الأبيض (ذلك الذي أهدتني "السِّتْ أنوار" سراً)، وارتديتُ سترةً بيضاء واتبعتها بسروال أبيض، وتردّدتُ قليلاً في ارتداء رباطة العنق السّوداء الوحيدة التي أملك وارتأيتُ أخيراً عدم انسجامها مع باقي لباسي، لكنَّ إقدامي على هذا التهيؤ، دون اطلاع أحد على تفاصيل المناسبة، أحدث بلبلة كبيرة في الدّار، فلدى هؤلاء المسنين أوقات طائلة لا تتكفل حياكة القطنيّات بملئها، فيحيكون القصص، ويتندرون ويتربصون بأدنى التفاصيل التي تحدث، ويتوهمون ما لا يحدث في أغلب الأحيان. لقد أحرجوا "السِّتْ أَنْوَار" التي غادرت، بخجل وأدب جم، قاعة الطّعام بخطى متعثّرة، رغم معاناتها المريرة من مضاعفات الفقرات السّفلى من عمودها الفقري، ما أشعرني بالأسف، حين تعالتْ وشوشتهم وتلميحاتهم، بأنني كنتُ سأعلن رغبتي في التقدّم لخطبتها أمام الجمع أثناء وجبة الإفطار. لعلّه لم يعدْ بالمقدور إخفاء إعجابي الشديد بـ"السِّتْ أنوار" التي أظنّها تبادلني ذات الشّعور، لكننا لم نتحدّث في الأمر إلا بالعينين، وكادتْ الكلمات أن تفلتَ من لساني، خلال نُزهة اليوم الصّباحية، لكنّي أرجأتُ ذلك للغد.
11:58 م
لَمْ أشعُر من قبل بترقّب مُرتبك تجاه هذه اللّحظة طيلة حياتي. كيف سيعتاد الآخرون علي، غداً، صباحاً؟ كيف سأعتاد على نفسي سعيداً؟ لابد أن بعض ملامحي ستتغيّر. أظنُّ أن وجنتي ستتقلّص قليلاً إذ لا يمكن أن أكون سعيداً بوجه مترهّل. ستتقلّص حُفر السّنين في ملامحي. لابد أن سيغطّي الشّعر رأسي من جديد. غداً صباحاً، سأحمل الجريدة الإنجليزية بخطى حثيثة إلى حجّي سلمان، الذي لا يفقه لغتها، وسيقلّبها صفحةً صفحةً ببطء شديد من اليمين إلى اليسار، أو بالمقلوب، ويتفحص ببصره الضعيف صور النساء الملونة، ويستدعي، دونما مناسبة مباشرة، أحياناً، أيّام الفُحولة التّليدة التي قضاها في انتزاع اللآلئ من المحار قبل تدهور حياته وصحته، وسأشعره بالتعاسة: "تدري أن فاتنات يافعات، على الشّطر الآخر من المحيط، يتحلين باللآلئ التي اصطدتْ، ولعل إحداهن تتزيّن بها، من بين الغانيات التي تتفحّص في الجريدة. ستموتُ كَمَداً قبلي، وسأفضح حكايا نسوانك كلها، يا حجّي"، وسأقهقه بفجور، ومن ثم سيرفع بصره نحوي ويقول لي:" مبسوط يا ملعون! ما الذي حدث لك البارحة؟ هل حدثتها ولم تخبرني؟ "، وسأبتسم لحجي سلمان، وانظر إلى نفسي بتأنق في المرآة، وأتمتم:"ليس بعد، يا حجّي، ليس بعد."
11:59 م
تكاد عيناي أن تندلقا من محجريهما، وأنا أرتقب حركة عقرب الثواني، وأصيخ لوقعها المنتظم:
تِكْ..
تِكْ..
تِكْ..
لكنَّ العقرب توقّف عن حركته فجأة، والزّمن تجمّد لحظتها. أزحتُ، بهلع، السّاعة عن الحائط، ورججتها، ثم استبدلتُ بطاريتها بأخرى جديدة، لكنَّ العقرب ظلَّ ساكناً لا يبرح مكانه. تصبب جبيني عرقاً، وشعرتُ بدوخة ورغبة في التقيؤ. رفعتُ السّاعة بكلتا يدي ورميتُها بهلع على الطاولة، فتهشم الزجاج، ولم يتحرّك. لمستُ عقرب الثواني بيدي محاولاً تحريكه، فانتابتني لدغة لاسعة حارقة سرعان ما استشرتْ في دمي. أسندتُ، بعجز، جسدي المُتهالك على الحائط، وهويتُ على الأرض، بعد أن أوهنني الإعياء، وعجزتُ عن تحريك أطرافي. خلال تلكَ الثواني، لمحتُ، قبل أن تغمض عيناي الغائرتان، العرافةَ العمياء، وحجّي سلمان، والسِّتْ أنوار، ومُطلقتي، وابني، وأبي، وجدي. أمعنتُ بصري في ملابسي البيضاء، وحين لم ألمح وجهي في شظايا زجاج الساعة المتهشم، دقَّ قلبي اثنتي عشرة دقة بطيئة متباعدة...