في كل مرة أجلس فيها إلى المرآة أصطدم بخيالات لانهائية لوجهي ، في البدء ظننت أن المرآة من الأنواع الرديئة الصنع فاستبدلتها مراراً ، وفي كل مرة كنت أصطدم بهذا العدد الهائل لانعكاسات وجهي في المرآة . ذات يوم استسلمت لواقع التعايش مع هذه الصور ، فبدأت أمد الجسور مع ذاتي المتشكلة على هذه الشاشة أمامي ، والحق أني شعرت بسعادة غامرة لتشكلاتي المتعددة ، وبالصدفة البحتة امتدت إصبعي إلى أحد الوجوه لتزيل بعض العوالق على سطح المرآة ، وكانت المفاجأة فمع اقتراب الإصبع كان الوجه يقترب ويطغى على ما حوله ، وما إن لامست إصبعي المرآة حتى اختفت كل الصور وأخذت الصورة المشار إليها حجم المرآة كاملة .
سعدت كثيراً لما حدث ، فهأنذا بوجه واحد على المرآة ، أستطيع إذاً أن أمشط لحيتي أو أضمخها بالحنّاء ، كما أستطيع أن أمرر قلم الكحل بين جفني على سنة كثير من المشايخ والمتفقهين .
وذات يوم خطر لي أن آتي بمرآة تريني الحجم الطبيعي لجسدي ، ذهلت لمئات الصور التي ارتسمت لي على سطح المرآة وتكفي إشارة من إصبعي لتطغى إحداهن على ما تبقى ، وبذلك أستطيع إلقاء نظرة كاملة على جبتي وعمامتي ، وأطمئن على قيافتي ، والجميل في الموضوع كله أنه يكفي الخروج من المرآة لتعود المرآة إلى صفائها الأول ، وفور عودتي إليها تعاود الظهور جميعها .
وما زاد في الموضوع متعة أن لا أحد غيري يلاحظ ذلك ، إذ لا يرى الناظر إلى صورتي في المرآة غير الصورة التي أنا عليها في الواقع ، إحساس جميل حقاً ، أعيشه منذ اليوم الأول لوصولي أرض الكويت قبل تسع سنوات ، نعم تسع سنوات كانت كافية لبناء عمارة تقوم على عدد محترم من المحلات التجارية ، لهذا بدأت رحلة التفكير بالعودة ووضع حد لهذه الغربة المقيتة ، فأنت لا تستطيع التصرف بحرية هنا ، خاصة وأن خطواتك محسوبة عليك ... إمام المسجد شخصية عامة في المجتمع . بالإضافة إلى عضويتك بلجان جمع التبرعات والزكاة وفوق هذا نشاطك الواضح في جمعية " صلاح المؤمنين " صحيح أنك لا تعرف من أين تتدفق عليك الأموال لكن وهج الحياة بعيد عنك ، خاصة وأن الله يحب أن تظهر نعمه على عبده . أضف إلى ذلك أيضاً ذلك المسؤول القميء الذي يتحين الفرص للإيقاع بي ، فقد ثقب رأسي بأحاديثه التي لا أعرف من أين يأتي بها ، وبآياته القرآنية التي لم أستطع حفظها يوماً . أطلت اللحية أكثر ولم أعجبه ، حلقت شاربي ولم أعجبه ، قصّرت " دشداشتي " ولم أعجبه ، وفي كل مرة يدقق بالحسابات علّه يقع على خطأ ، لكنه والحمد لله لم يستطع فأنا أعرف كيف أتعامل مع الحسابات جيداً ، ثم إني التزم التزاماً تاماً بما ترسله وزارة الأوقاف من خطب ليوم الجمعة ، ملتزماً بكل الخطوط الحمر ولا أعطي مجالاً لمخلوق بأن يمسك أدنى هفوة ، حتى الفتاوى التي أقدمها للناس أتوخى فيها الحذر ولا أقدمها هكذا جزافاً ، خاصة وأن الله سبحانه قد حباني بلغة دقيقة وبحدس رائع في معرفة الناس فإن كان طالب الفتوى من عامّتهم سكبتها في وجهه سكباً ، نعم فأنا لا أخاف في الله لومة لائم ، أما إن كان من علية القوم فالأمر يحتاج إلى ذكاء من نوع خاص في تقديم الفتوى ، ذلك أن بعض الناس إن لم تعجبهم الفتوى ضمروا لك العداء واتهموك بالغباء وبالتالي يستخدمون معارفهم وكل ما تصل إليه أياديهم النافذة ، وتكون النتيجة تسفيراً مؤكداً ، وبالتالي يُحكم عليك بالحرمان من نعيم هذا البلد .
ولا أنكر فضل مرآتي في هذه المواضيع فهي تمنحني الوجه المناسب في الزمان والمكان المناسبين ، ولولاها لما استطعت مواجهة ما توالى على رأسي من مسؤولين ما زلت أجهل أسباب تآمرهم علي حتى الآن ، مع أني لم أرتكب خطأ ، في الواقع لقد مللت وعلي التفكير جدياً في العودة إلى وطني وطن المرابع والمتع والجمال ، وأترك هذه الوجوه الكالحة التي تحاصرني . لا أخفيكم سراً .. من كثرة الحسد بات بعض الزملاء يكنون لي الكره والعداء ، ويسخرون من أي كلام أتكلم به ، لقد بدأت أشعر بالضيق . نعم ومؤكد أن أحدهم قد وشى بشيء ما لست أعرفه للمسؤول وإلا فلماذا يستدعيني وما الذي يريده ، سيسمعني أسطوانته المشروخة عن الشرف والأمانة وتقوى الله وينظر إليّ وكأني بلا صلاة ولا عبادة .
جلس رشوان أبو كحلة أمام مرآته ، استعرض ما عليها من صور ، اختار أشدها دلالة وإيحاءً بالزهد والعلم ، أشار إليها بإصبعه فغطى وجهه سطح المرآة تمعن فيه أصلح كحلته ، تناول من درج على يمينه علبة مرهم أبيض مسح بقليل منه وجهه فبدا له أكثر إشراقاً ونوراً ، وضع على كتفيه عباءته الشفافة :
ــ هكذا افضل فالوجه يشع نوراً والعباءة تجللني بالوقار ، للشكل الحسن تأثير على الآخر ، نعم فثمة حرب أستشعرها ستشن ضدي بعد سويعات .
استقبله المسؤول بحفاوة وتكريم بالغين ، على غير العادة ، طلب له كأساً من " الحلبة " ، فرش له بساط الأمان فارتخت أسارير الشيخ رشوان وظهرت البسمة على الوجه وراح يحدث نفسه :
- الظاهر أن حدسي أخطأ هذه المرة فالشيخ نواف ــ والله أعلم ــ سيصيف عندنا هذه السنة ويريد أن أستضيفه هناك وأصحبه إلى مرابع الأنس والاستئناس كما اصطحبت غيره ، إذا كان كذلك فهذا يعني أني سأضعه في جيبي بإذن الله .
- ها يا شيخ رشوان سمعت أنك موسوعة للطرائف والنكت .
- والله هذا من فضل ربي فقد حباني الله بروح مرحة وذاكرة طيبة ، وماذا سمعت عني أيضاَ؟
- سمعت عنك طرفة أعجبتني كثيراً وضحكت لها كثيراً .
اتسعت ابتسامة الشيخ رشوان وهو يفرك يديه قائلاً :
- حول ماذا ؟
- عن ذلك المغفل الذي جاءك يسأل عن الزنى بالخادمة . أحلال هو أم حرام ؟
جلجلت ضحكة مصطنعة من أبي كحلة ثم أردف قائلاً :
- المغفل يقول أنه عاد منتصف الليل ولم يجد زوجته فدخل غرفة الخادمة ، الغبي لم يسأل نفسه أين كانت زوجته بل بادرني بالقول أليست الخادمة من مُلك اليمين ؟
تابعه الشيخ نواف على ذات الوتيرة من الضحك وهو يقول :
- لكن جوابك كان مفحماً تماماً (( الشافعي لا يفتي لمالكي ))
- يا شيخ نواف أطال الله عمرك مثل هذا الرجل يسبب لك صداعاً في رأسك ، فإن قلت له : إنه حرام . أقام الدنيا عليك واتهمك بالجهل ، وساق إليك آيات ملك اليمين وغيرها ، فاخرج من المأزق بحكمة .
تقطبت حواجب الشيخ نواف وغابت عن وجهه ملامح البسمة ، سكت زمناً ثم التفت إليه يسأله :
- خرجت من المأزق بحكمة أمام هذا الرجل ، لكن كيف ستخرج من المأزق أمام ربك يوم الحساب ؟
غاص الشيخ رشوان في مقعده أحس بثقل الورطة التي وقع فيها . تراءت أمام ناظريه مرابع الوطن ، استجمع بقاياه ثم التفت على الشيخ نواف قائلاً :
- أعرف أنك تتصيد لي الأخطاء والهفوات ، وأعرف أني شخص غير مرغوب فيه لذلك سأعطيك ما تريد .
أخرج من جيبه ورقة ناولها للمسؤول قائلاً :
- هذه استقالتي كتبتها منذ زمن ليوم كهذا ، في الغد أباشر تسليم عهدتي وتنفيذ إخلاء الطرف مع الجهات المعنية .
أدار ظهره وخرج ، عاد إلى البيت ، خلع عباءته والعمامة رماهما طرفاً ، ثم أتبعهما بالدشداشة القصيرة ، استلقى على سريره أغمض عينيه واستسلم لحديث النفس :
- إيه يا رشوان هكذا كتبت نهايتك . نعم هي نهاية لكن لا أظنها تعيسة ، صحيح أنك خسرت ما كان سيأتيك من مال ، لكنك تملك في بلدك ما يكفيك ويزيد ، فاستعد إذاً للخروج بأسرع ما يمكن .
نهض عن سريره ليجد نفسه وجهاً لوجه أمام المرآة ، ليس عليها إلا صورة واحدة واضحة المعالم ، بينما غطى الغبش ما تبقى ، نظر إلى المرآة غير مصدق ... !! كيف تلاشت تلك المئات من الصور ؟ ولم يتبق غير هذه ، راحت عيناه تتفحصان تفاصيل الصورة ، رجل يرتدي بنطالاً من الجينز وقميصاً عريضاً فضفاضاً ، لا أثر للحية أو كحلة ، مدّ يده متحسساً شعر لحيته ، مرر طرف إصبعه بين جفنيه ونظر إلى آثار السواد عليها ، أعاد النظر إلى المرآة ، لم ير شيئاً من هذا ، تناول " شرشفاً " غطى به سطح المرآة .
ــ آه ... كيف نسيت هذا ؟
أنجز أعماله وجهز أمتعته ، واستعد للسفر ، يعتوره شعور غامض بالفرح لفكرة خطرت له ، وسارع إلى تنفيذها ، ارتدى ملابسه الجديدة وتوجه إلى أبعد صالون للحلاقة عن بيته ، جلس على الكرسي ، أعطى الحلاق ظرفاً ثم قال له :
ضع شعر لحيتي في هذا الظرف ، ارتبك الحلاق قليلاً لطلبه ، لكن الشيخ رشوان أعاد عليه طلبه مبرراً ذلك بتحسس أصاب بشرته . حمل لحيته وخرج بها فرحاً وقبيل ذهابه إلى المطار توجه إلى مكتب الشيخ نواف ، فتح الباب دونما استئذان ودخل إليه .
تمعن المسؤول بوجه الزائر الذي وقف أمام المكتب ببنطال جينز وقميص فضفاض ، مدّ يده بالظرف قائلاً :
- جئت أودعك يا شيخ وفي هذا الظرف ما تبقى لكم عندي من العهدة .
20\5\2001
syr60@hotmail.com