عندما تقرر فجأة، أن السبيل الوحيد لأنقاذ حياتك هو أن تقوم بعملية أخيرة لرفض كل شيء أن تعيش على الهامش، أن لا تكون الأشياء بل ظلها، أنت غير موجود الآن وليس هناك من يبحث عنك، أن تخلق هذه التصورات الفظيعة بأنك لم تكن سوى أثاث بيت مستعمل وينبغي التخلص منه، سوف تجد بشكل يصعب تصديقه أنك فارغ بشكل موحش، تمد يدك ولكن ليس هناك يد، إنها ليست يدٌ أصلا، وحبك الكبير، حبك الكبير الذي يشبه المصيدة قد تحول الآن إلى جلاد بسوط أسود، كلما شعر بأنه يريد أن يعيش مزَّقَ قميص ظهرك النحيل وبدأ بشكل مرعب مثل وحش جائع بتحطيم فقرات صمودك الأبدية.. يبدو لِي جلياً أن الإنسان إذا ما استطاع أن يجد الطريق يستطيع أن يفعل ما يريد وليس وليس الفوز بما يريد، وهذا بالضبط ما أتحدث عنه، إننا نسافر لأننا لا نستطيع البقاء، إننا نسافر لأننا مللنا من البقاء، خائفون من كل شيء، ترعبنا اللحظة، يرعبنا وجودها، مطموسون هنا بالقيد وهناك في الخارج قيد أيضا فمن جرب ذلك، أن يخرج من نفسه للعراء، تاركا كل شيء خلفه، هاربا من كل شيء، ألاّ يَأخذ سوى الفراغ معه، أن يكونَ حرا مثل الأبد، مجهولا بشكل هائل.. إنهما الجنون والدهشة، القضيتان اللتان لا يمكن للإنسان التوقف عن البحث عنهما وعيشهما ، من أراد ذلك ولا زال مصرّا عَلى فعله، ومن عبس وبقي في دوامَة وجوده تائها إلى ما لانهاية.. هذا الدرب الشاسع، ما لا بداية له ولا نهايه، رحلة طويلة الأمد، تشق الطريق بها وحدك، ووحدك فقط، تقرر في ذلك الوقت، أن تقتل الإبتسامة على شفاهك، أن ترفض تشنجات الفرح الخفية، وأن تطلب المزيد من العذاب، العذاب وحده من بإستطاعته أن ينتشلك من أهوال الحياة المخيفة، تكون جلادا بلا رحمة، ولكن عليك أن تكون حذرا في كل شيء تقدم على فعله، من الممكن أن لا تنجو.. لا أعلم من أين سأبدأ، ولكنني أريد أن أنطلق فحسب، أريد أن لا اتوقف أبداً قَبل أن أسقط أو يسقط كل شيء، ومع هذا كله، فإنني لا أعلم أين يستطيع الإنسان أن يذهب ليخفي جراحه، أو يخفي شيئاً عميقاً في داخله، حتى أن هذا الخيال يؤرقني يستجدي مني أن أكون عبده، يشدني إليه لأتكلم، يَشدني إليه لأغني معه لأرقص معه إنني عبدُه المطيع الذي لا حيلة له، ومع أنني في قرارة ذاتي أعلم جيداً أنه وفي بعض الأحيان أنال قسطا كبيراً مِن النَوم، ليس ذلك النوم الذي يحشر الإنسان نفسهُ به كي يفقد واقعه ووعيه، إنني اقصد ذلك النوم حيث يكون كل شيء هادئاً حيثُ يكون كل شيءٍ جَميلاً بصورة مفرطه، وحيث أنني أشعر في ذلك الوقت أنني تعاطيت مُخدّرا أو شربت شيئا مسكراً فَقدتُ من خلاله وعيي، ولكنني مع كل هذا لا زلت مستيقظا بطريقة ما، في ذلك الوقت يكون كل شيء حقيقيا بصورة لا تطاق.. لطالما تراكمت الأشياء في داخلي وتعفنت، حتى أنني أصبحت لا أطيق رائحتها ولا أطيقها داخل نفسي، لست قوياً أبداً، إنني جبان على أية حال، أخرج كل ما بجوفي عندما تحين اللحظة، أصرخُ وأشتم وألعن، أنا لَستُ قوياً أبداً، بعد ذلك، أعود مهزوماً، أدفن كل شيء في القاع، في ذلك العمق الذي يقتلني كل ليله، في ذلك العمق الذي يقتلني كل لحظه، لقد أردت ذلك، أن أتخلص من نفسي وألقي بها بعيداً، أن أتخلص من روحي وقلبي وجسدي دون أن يضطر الندم لنهشي، ودون أن يعرف أحدهم مكاني، ولكن هيهاتَ أيها العالم، لطالما كنت اقول: " كل معابر الموت في تلك المحطة مستأجرة، كان لابد أن أجد مكاناً آخر أدفن به جثتي ".. كنت أصلي، مثل أي شخص آخر كنت أصلي، ولكن أحداً لم ينقذنِ، أمشي في الشوارع مترنحا فاقداً معنى اللحظة نفسها، ما الذي يعنيه الوجود الآن؟ أهوالغرق أم الإنسلاخ عن الذات؟ لا يهم، لقد حطمتها، أقسم أنني حطمتها، هذه الذات المتعبة التي تخرج في وقت غير مناسب لتطلب مني أن أكون مؤدباً في جعل حياتي مقبولة. أريد أن أموت، أقول أنني أريد أن أموت، ولكنني خائف، خائف كثيراً، لأنني أريد أن أعيش.. يمر الإنسان في لحظات تقتل تلك اللحظات التي تأتي لاحقا، وما علينا فعله آنذاك سوى الإنصات لهذا الحجم الهائل من الموت الذي يحدث، ذلك الذي يسقط من السماء حينها، إننا نفرح من أجل ما هو فانٍ، ولكننا نحزن من أجل ما هو أبدي، ما لا يمكننا التخلي عنها في اللحظات الأشد يأساً، ولو أننا استطعنا نسيان ذلك لو أننا فقط، لكان بوسعنا حينها أن نكون احرارا، وجوهنا لا تبعث على الريبة.. مثل أي شخص آخر، كنت أريد أن أنجو، ولكن ما الذي أريد حقاً أن أنجو منه؟ الموت، العالم، البشرية، الوحدة، الحزن.. الحزن الذي يتسع في داخلي، أريد أن أنجو من كل شيء وحسب..
نقلاً عن موقع قصيدة النثر