سيرة الصورة (*)

إعداد
حسين المحروس


عبد الله الخان..
الضوءُ عُيون


(عبدالله الخان يلتقط صورا
سنة 1964 في خور فكان بدولة الإمارات)

عبد الله الخان..
الضوءُ عُيون.

"كانت بابل سبع مدن في كلّ مدينة أعجوبة. . . وفي المدينة الرابعة مرآة من حديد، فإذا غاب الرجل عن أهله، وأحبّوا أن يعرفوا خبره على صحته، أتوا تلك المرآة فنظروا فيها، فرأوه على الحال التي هو فيها" وفي الهند سبع مدن.. مائة مدينة.. ألف قرية.. كلّها مرايا، يرى فيها الهنود أساطيرهم، وأعجوباتهم التي لا يلتفتون إليها على الرغم من كثرة المرايا. يصنعون من الفضة، وتراب الأرض الرخيص مرايا، لا يسألها أحد كيف صارت، لكنّهم يسألونها عن صورهم المنعكسة، المقلوبة فيها. سألها مرةً (ريكله) عن قوامها، وعن ماهيتها، وسألها أبي ( محمد خان) عن مزيج فضتها المائعة، وعن كيميائها التي تعلق بها منذ طاولات الدراسة اليافعة، وتفوقه على أترابه فيها. هل كان يعرف أبي - الذي بالغ في مخالطة الهنود في شبه جزيرتهم- أنّ الناظر في المرآة يرى مقلوبه؟ شماله ليست شمالاً، ويمينه ليست يميناً، تهاضمت الجهات؟ هل اتهم أبي - رحمه الله - المرآة أنّها هي المقلوبة، وليس هو؟ إلى أيّ مدى خاف منها؟ كيف كان ينسى قوامها حين يبصرُ فيها مقلوبه؟

فضة المرايا:
عاد أبي من الهند بفتنة الكيمياء، وبفضة المرايا، وبالتصويرَ الفوتوغرافي... وببهجة حلوى الأطفال الأبيض اللذيذ (شَعر البنات). سيفتن أهل بيته بكيمياء الصورة.. سيدخلون فتنة الصورة واحداً واحداً حتى أمي، وخالي (محمد شفيع)، في بيت بحيّ (البنعلي) بجزيرة المحرق.. هم يسمونه (بيت)، فيه غرفة واحدة، حُجز جزءاً (قاطعاً) منها ليكون حماماً لكلّ شيء.. البيتُ كلّه غرفة! تشتعل بالكيمياء والفضة، ليس فيه كهرباء، ولا ماء. في هذا البيت ولدت في أغسطس 1937م.
بدأ أبي -المشحون بالأساطير - يصوّر بعد عودته سنة 1948م، مستخدماً كاميرات كبيرة، تُعرف باسم(Camera Box)، تستخدم أفلام، ُعرفت باسم(4X6 ). لكن ظروف العالم في هذه الفترة جعلت الحصول على بعض المواد الكيميائية الخاصة بالتصوير، مثل الأحماض والأفلام صعباً. لم يفقد أبي الأمل، ولم يوقفْ التصوير، ولا التعمّق فيه. راح يستغل خبرته في صناعة المرايا، بطلاء مواد كيميائية حسّاسة على ألواح زجاجية، ثمّ عرّضها لضوء عدسة كاميرته.. جربّها مراراً حتى نجح، لكنّه كان يمحو الصورة من عليها بعد طباعة الصورة، يمحوها ثمّ يصوّر غيرها. مازالت هذه الألواح عندي حتى الآن، حجم الواحد منها (5X4) بوصة. كانت التجربة إلى حدّ ما ناجحة، لكنّها لم تكن في جودة الأفلام. أليس العالم هو القادر على إشعال فروة الرأس ساعة لا اشتعال؟
أشعل أبي جزيرة المحرق بكيمياء الصورة، وفضة الضوء. كان عدد الأفلام التي يحمضها، ويطبعها قليلة جداً، بالكاد يكفي مردودها لإعالة أسرته الصغيرة. وما إن عرف بعض جنود الجيش البريطاني، الذي يُعسكر في شمال جزيرة المحرق، أنّ أبي يعمل في الصورة، حتى تحسن مدخول الأسرة. لم يكن عدد الجنود الذي يعرفون ذلك كثيراً، وسرعان بدأ خبره ينتشر، فكانت سيارة الجيش تأتي إلى بيتنا لتدفع إلى أبي مجموعة أفلام كلّ مرةً، ليحمضها ثمّ يطبعتها.
عرف البريطاني السير جيمس بلجريف، مستشار حكومة البحرين، أن ثمّة شخص يسكن جزيرة المحرق يحمّض، ويطبع الصور الفوتوغرافية، فجاء ليتعرف عليه. لكن كيف عرف السير بلجريف أنّ أبي يفعل كلّ ذلك؟
ثمّة مشكلة كبيرة بدأ أبي يواجهها في تحميض وغسل الأفلام أرجعها أبي إلى عدم نقاوة الماء، الذي يدخل بشكل فاعل، في عملية التحميض. فالمواد الكيماوية الخاصة بالتحميض، لا تذوب بشكل فاعل في المياه غير النقية. أنّها تحتاج إلى ماء حلو، لا تطغى الأملاح فيه. ولكي يتأكد أبي من ذلك خاطب أصدقاءه الهنود ، فكان الجواب: "ماءكم مالح لا يتوافق مع خاصية الذوبان لمواد التحميض" بدأ أبي يبحث عن حلّ. كيف نحصل على ماء حلو؟
استعان بـ(تنّاك)، وهو اسم يطلق على مَنْ يعمل في صنع الأواني، وغير من المستلزمات اليومية من الحديد، أو المعادن؛ ليصنع له ما يشبه جهاز تقطير يعتمد على غَلي المَاء، وتبخيره، ثمّ تكثيفه. ولكي ينجز (التنّاك) مهمته، استعان برسم وضعه أبي. تردد أبي على هذا (التنّاك) حتى آخر لحظة، لكنّه لم يكن يعرف أنّ الشرطة كانت تراقبه، وتتحيّن فرصة القبض عليه متلبساً. لم المراقبة؟ عمّا تبحث الشرطة؟
لم يكن يعرفُ أبي كلّ ذلك!! وفي عصر أحد الأيام داهمت الشرطة البيت، يتقدمهم السير بلجريف، والضابط (علي ميرزا)، الذي فاجأ أبي بقوله: " في المسجد أنت في الصفوف الأولى من صلاة الجماعة، والآن تفعل هكذا؟"، لم يعرف أبي قصده. تقدّم بلجريف من الجهاز، بينما كان (علي ميرزا) يهزّ رأسه في انتشاء، ويبتسم؛ لرؤية الجهاز!! سأل بلجريف أبي: ماذا تفعل بهذا الجهاز؟ فشرح له أبي مشكلة التحميض كلّها، وشيئاً من سيرته، فتفاجأ بلجريف، وتابع شرح أبي حتى نهايته، ثمّ التفت لـلضابط(علي ميرزا)، وقال له: "أنت أحرجتني. في المرّة القادمة تاكد من أخبارك! هذا الرجل ذكي، وفاضل، وأنت تقول لي إنّه يصنع الخمر في بيته؟!!"
عرف أبي سبب هذه المداهمة، وفهم جملة الضابط (علي ميرزا): " في المسجد أنتَ في الصفوف الأولى من صلاة الجماعة، والآن تفعل هكذا" عرفَ أبي كلّ شيء. وقبل أن يغادر بلجريف البيت، طلب من أبي الحضور إلى (المستشارية)، وهو اسم يُطلق على المكان الذي فيه مكتب المستشار بلجريف بالمنامة. في صباح اليوم التالي كان أبي في مكتب المستشار، يستمع إلى تقرير حول مشكلة تصوير المسجونين! قال المستشار: " نحن نصور المساجين، ثمّ نُرسل الأفلام إلى مدينة البصرة؛ لتحميضها وطباعتها، فهل تستطيع أن تفعل أنت ذلك؟ إذا وافقت سوف نحضر لك الأفلام إلى بيتك؟ " وافق أبي على الفور، وتعزّز بذلك اقتصاد البيت، وصرنا نعرفُ كلّ شَخص يدخل السجن!! كنتُ حينها صغيراً في المرحلة الابتدائية، بمدرسة الهداية الخليفية.
كانت الأفلام التي تأتينا من أوروبا نوعين: نوع صنع لأوروبا، وآخر صنع لنا، ليلائم حرارة جونا، ويسمى(Tropical Film ) تتحمل مواده الكيميائية حرارة أعلى من المصنوع لأوروبا. تحايل أبي على ذلك بوضع الفيلم بعد فتحه، وقبل أن يُزيل عنه غلافه القرطاس، في ماء مثلج، لولا هذه العميلة التي يجريها لفقدنا الكثير من الأفلام. وفي فصل الشتاء، تتوقف صناعة الثلج، فيستعين أبي بمادة كيميائية شبيهة بالثلج لكنّها لا تذوب، تُسمى(بوتاسيوم ألوم)، وهي بيضاء شفافة، شبيهة بمادة (الشَب) نضع فيها الفيلم بعد تحميضه، ثمّ نضعه في (مثبت). أسند أبي لخالي(محمد شفيع) عملية التحميض، وأسند لي القيام بعملية (التثبيت). أمّا أمي فقد كانت مسئولة عن لصق الصور- بعد طباعتها- على صفائح معدنية، ثمّ تعرضها للشمس لتجفّ. البيت كلّه يعمل في التصوير عدا أخوتي الآخرين.
لم تكن مهمّة أمي تنحصر في تجفيف الصور، بل كان عليها مهمّة أكثر صعوبة من ذلك، هي حساب وقت التحميض! كيف، ولم يكن في بيتنا ساعات للحساب، وليس ثمّة كهرباء؟! كانت غرفة التحميض مظلمة للغاية، لو قرّبت يدك عند وجهك لن تراها، فكيف يتسنى لأبي أن يحسب وقت التحميض؟ كانت الغرفة المظلمة عبارة عن (قاطع)، وهو اسم يطلق في (المحرق)، وأماكن أخرى، على مكان قضاء الحاجة البايولوجية عند الإنسان. ما إن يضع أبي الفيلم في محاليل التحميض، حتى يضرب على جدار (القاطع) الخشبي، فتعرف أمّي أنّ عليها أن تتحول إلى ساعة توقيت!! كانت تلفّ في البيت وتقول بصوت عال يسمعه أبي (واحد)، أي دقيقة واحدة، ثمّ تقول (اثنان)، أي مرت دقيقتان، وهكذا بينما هي تقضي حاجات البيت الذي لم يتجاوز عدد غرفه غرفة واحدة، و(قاطع)!! زارتها إحدى النساء عصراً. كانتا تتبادلان الأحاديث عندما اندهشت المرأة لرؤيتها أمي تقطع حديثها وتقول (واحد)، ثمّ تقطع الحديث مرّة ثانية، وتقول (اثنان) حتى انتهاء وقت التحميض. خرجت المرأة إلى صويحباتها المحرقيات تخبرهن أنّ زوجة (محمد الخان) جَنّتْ!! ثمّ نشرت الخبر في الحيّ متأسفة على جنون أمي " أنّها امرأة لا تستحق ذلك"!! جاء نسوة يسألن عن أمّي فألفينها على ما يرام. أخبرنها بما يحدث..ضحكت.. ثمّ أطلعتهن على أنّها تساعد أبي لحظة التحميض. كان ذلك قبل أن أخلق! في بيئة هذا البيت عشت أنا، لذا لم تكن دروس الكيمياء صعبة عليّ في المدرسة، بل كنت أتفوق فيها دائماً. هيأني البيت لجنة الكيمياء.
زاد أبي - الذي كان منظماً - من انتشاره في البحرين، عندما عيّن مراكز معروفة في المنامة، وغيرها، يتمّ جمع الأفلام فيها؛ ليتسلمها هو لاحقاً أو مَنْ ينوب عنه، ثمّ يُعيدها مرةً أخرى، بعد إنجازها. إحدى هذه المراكز في متجر (اشرف)، وأخرى في متجر( جاشنمال). في هذه الفترة لم يكنْ هناك غير أبي، وثلاثة هنود تقريباً، يحمضون ويطبعون الصور في البحرين كلّها. لم يكن متجر التصوير (جنرال ستور) قد أسِّسَ بعد.
نحن خَمسةُ أخوة، أنا المُطيع بينهم لوالدي حتى النخاع!! كنت ضعيف البُنية، صغير الجسم، كأنّ جسدي مضغوطاً للداخل. هذه الصفات هي السبب الأوّل المباشر في خوفي من أبي، وشدّة طاعتي له. ولعلها سبب دخولي التصوير الفوتوغرافي. لو لم يكن لي اسم لُسمّيت بـ(المطيع)!!

برعم ضوء:
أعود من المدرسة، لأساعد أبي في تحميض الأفلام، وتجفيف الصور، وكلّ ما يسنده لي من عمل. استمر ذلك حتى المرحلة الثانوية، التي افتتح فيها ناد للتصوير، فكنت أحد أعضائه، معتمداً على خبرتي التي اكتسبتها من العمل مع أبي في بيت صار كلّه معمل تحميض وطباعة. في هذه الفترة لم يكن هناك وزارة إعلام ، لذا كانت حكومة البحرين حينها، تستعين بهذا النادي المتواضع في تصوير الوفود والزيارات، والمراسيم، وكلّ ما يسند إليه. صار مدير المعارف آنذاك الأستاذ (أحمد العمران) يقوم بالتنسيق بين الحكومة، ونادي التصوير، إضافة إلى مهمة أخرى هي استقبال الضيوف، ومرافقتها حتى قصر المغفور له (الشيخ سلمان بن آل خليفة)
كثيرا ما تمّ اختياري للتصوير في هذه المناسبات، التي تحتاج لتصوير مختلف عن الموضوعات الأخرى. عليك أن تنظر في الشكل المناسب، كما أنّ عليك التركيز على الوجوه المهمّة في الموكب، أو في الوفد، بحيث تكون الصورة تُوحي أنّ ما يحدث فيها رسمي للغاية، وأنّها زيارة، أو لقاء، أو أنّها إبرام عقود اقتصادية. ذلك ليس سهلاً، فقد لا توحي الصورة بذلك!!
هذه بدايتي في التصوير. اشترى لي أبي في هذه المرحلة كاميرا (ايدوكس)، ألمانية الصنع، من متجر ( يعقوبي) بسوق المنامة. كنت في الصف الأوّل ثانوي في المدرسة الوحيدة في البحرين بالمنامة سنة 1953م، عندما سمعت أبواق سيارات القصر تشير إلى قدوم وفد رسمي. نظرتُ من نافذة الفصل فرأيتُ سيارات الوفد تدخل بوابة قصر القضيبية. استأذنت من المدرس الذي يعرف مهمتي فوافق. بعد دقائق كنتُ في القصر أحمل كاميرا المدرسة. كان موكب الملك (الحسين بن طلال)، ملك المملكة الأردنية الهاشمية، بعد تعينه ملكاً، وهذه هي الزيارة الأولى له للبحرين. لم استطع التحرك بحرية أمام الوفد عندما ظهر الضابط (علي ميرزا) مرّة أخرى!! كنتُ كلّما اقتربت من منصة القصر نهرني، وأعاق تقدّمي. فعل ذلك مرّات حتى لفت نظر المغفور له (الشيخ سلمان)، فسألني: "ماذا تريد؟ " فشرحت له مَنْ أنا، وماذا أفعل؟ فأمر سموه (علي ميرزا) أن لا يتعرض لي مرّة أخرى. هنا شعرتُ بانتشاء المنتصر، وبإصرار محبّ التصوير، وأنا أمام شخصيات غير عادية. لقد انتصرت على نفسي، وعلى ترددي بين دراسة الطبّ، أو دراسة التصوير الفوتوغرافي. هنا كأنّي حسمتُ أمري وقررت أن أكون مصوراً، لا طبيباً. مازلت أحتفظ بالصور، وبصورة التقطها لي مصور (بابكو) وأنا أصوّر في القصر.
في هذه المرحلة الثانوية كنت أجمع الأفلام من التلاميذ والمدرسين، لأطبعها. كان مردودها جيدا، استفدتُ منه كثيراً. وفي نهاية العام يتبادل الطلاب صورهم، لذا كان بعض الطلاب يحضر سلبية صورته(Negative)، لأطبع منها عشرين صورة. إنّها عملية مُربحة بلا شك.
لمازا فكرت في احتراف التصوير، وليس الطب؟
في سنة 1954م، جاءت بعثة من مؤسسة دار الهلال المصرية، يترأسها الأستاذ (فِكري أباظة)، رئيس المؤسسة. زار هذا الوفد المغفور له (الشيخ سلمان)، فأرسل الأستاذ أحمد العمران إلى مدير مدرستنا يطلب فيها مصوراً، يصور الوفد مع حاكم البحرين، فكنت أنا. طرتُ بجسدي الخفيف إلى قصر (القضيبية). وبينما كنت أصوّر، سأل (فكري أباظة) الشيخ سلمان: " هل هذا المصور فلسطيني؟ " فردّ عليه الشيخ سلمان، وكان بجواره المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان، وسمو الشيخ خليفة بن سلمان، والشيخ محمد بن سلمان: " نحن نعتمد على عيالنا ". دخل جوابه قلبي مباشرة، وأحسست بأهميتي، ومكانتي، فتعلقت بالتصوير أكثر. بِمَ تشعر عندما ينسبك حاكم لنفسه؟ تعلقت بالتصوير هنا أكثر، لكن الطب لم يبرح رأسي!!
لست الوحيد الذي تخرج في الثانوية، وهو يعشق التصوير الفوتوغرافي. كان معي مَنْ عشق التصوير أيضاً.. كان معي منذ ذلك اليوم حتى هذه اللحظة، الأستاذ (جواد العريض). مازلت الاتصالات قائمة بيننا، وغالباً ما أدرنا حواراً حول آخر تطورات التصوير.
بعد تخرجي في الثانوية اتجهتُ نحو دراسة الطبّ!! وكأنّي لم أحسم أمري بعد. وزاد في ترددي زميل الدراسة ( عبدالله عبد الرحمن الباكر) الذي قرر أن يكون طبيباً، بعدما طُرد من البحرين، فتوجه إلى مصر. راسلني (الباكر) من مصر: قال لي "عبد الله تعال ندرس الطب هنا". كانت ( الهيئة التنفيذية العليا)، التي يرأسها (عبد الرحمن الباكر)، والد صديقي، قد أرسلت مجموعتين من الطلاب إلى الخارج للدراسة، ضمن أنشطتها في البلاد. أُدرِج اسمي في قائمة المجموعة الثالثة. وقبل أن يأتي موعد إرسال هذه المجموعة، تمّ حلّ الهيئة فلم تعد قادرة على متابعة الذين أرسلتهم إلى الخارج، فضلاً عن إرسال مجموعة جديدة. لم تكن الهيئة تُغطي كافة مصاريف الطلاب، بل كانت تتدبر بعضها، مثل تذكرة السفر، وتنسق مع الدول المرسل إليه طلابها، لتأمين ظروف العيش لهؤلاء الطلبة.
على الرغم من حل الهيئة سافرت إلى مصر، واقْتُرحَ عليّ مقابلة (أنور السادات)، الذي كان يشغل منصب رئاسة المؤتمر الإسلامي. قال لي: "ليس لدينا منح لدراسة الطب، ولا بَعثات، لكن هناك فرصة واحدة لك، هي أن تدرس في الأزهر إن شئت ". شعرت بضيق، وبدأ الإحباط يحومُ فوق رأسي. زرتُ الأزهر مع صديقي (الباكر)، سجّلت فيه، وانتظمت في الدراسة. مرّ أسبوعان في ثقل سنتين!! لم أستطع الاستمرار، فانسحبتُ من هذه الدراسة. لم تكن الدراسة الدينية تروق لي أصلاً. جئتُ لدراسة الطب فكيف أعود شيخاً بعمامة؟ تصوّر عبد الله الخان بعمامة؟!!
كتبت إلى ملك العراق (فيصل) عن رغبتي في دراسة الطب في العراق، فجاءني الردّ من وزير التربية- أذكر أنّ لقبه: الدوري - كتابياً بأنّ جلالة الملك يرحبَ بك طالب طبّ، لكننا نريدك أن تُحضر خطاب عدم مُمَانعة من حكومة بلادك. عدت للبحرين، دخلت على رئيس المعارف الأستاذ (أحمد العمران) مرتين: في الأولى وبّخني، وفي الثانية جئته برسالة من والدي -الذي كان معه في فصل دراسي واحد، في المدرسة- يُذكّره فيها بأيام الزمالة، لكنّه رفض مرّة أخرى!! قال لي هذا الأستاذ الكبير: " جسدك هنا، وقلبك في إيران! " قلت له: " سأكون طبيباً يعالج أي إنسان في العالم " فطردني، بعد أن مزّق رسالة أبي، صديق الدراسة!! عرفت حينها سبب الرفض، وليتني لم أعرف.

ظلٌّ محسوم:
تلفتُ حولي أبحث عن حلٍّ فلم أجد. مرّت ثلاثة أشهر.. لن أكون طبيباً.. عرفتُ ما سيحدث، وما لن يحدث. توجهت لشركة (بابكو) فرحبت الشركة بي على أن ألتحق بقسم(IBM) وهو قسم الكمبيوتر، لكنّي سرعان ما رفضت. صرت حبيس البيت في فترة حرجة جداً من حياتي، بلا عمل وبلا دراسة، حتى تسلل الإحباط إلى نفسي. وفي يوم من سبتمبر، وأنا في غمرة الإحباط لاحظ جاري ما بي فطلب مني الحضور إلى شركة (بابكو) حيث يعمل، ووعدني بأن يُدخلني على مدير الشركة، ويشرح له حالتي، على أن أقوم أنا بسرد ما أريد. لم أزر جاري في العمل لكنّي كتبتُ رسالة إلى هذا المدير الأمريكي، الذي يسكن في حيّ ( البستان) بمنطقة ( القضيبية) بالعاصمة ( المنامة). طرقت باب فيلاته فخرج لي الناطور. قلت: " له أنا أريد مستر (لب) " فقال: " هو في حيّ (النعيم) بالمنامة، يفتتح مصنع المشروبات الغازية (الكندادراي)" سلمته الرسالة وغادرت.
بعد أسبوع طُلب منّي الحضور إلى شركة (بابكو) مرّةً أخرى على أن أكون هذه المرّة مصوراً فوتوغرافياً متدرباً، معتمداً على مهارتي فيه، وخبرتي، وحسّ أبي.
كانت (بابكو) تُرسل مندوبيها إلى المدرسة كلّ حين؛ تدعو التلاميذ للعمل فيها، بعد أن تعرض أفلاماً وثائقية متحركة، عن سير العمل في أقسامها، ومستقبل العامل فيها. استعنت بالصور التي التقطها لمندوبي الشركة في مدرستنا وهم يرشدوننا تلاميذ، فكانت خير دليل على قدرتي على التصوير، وحبّي له. كان مكتب العلاقات العامة حديث التأسيس في الشركة، أعضاؤه ثلاثة: إنجليزي وهنديان، فدخلت بينهم كأنّي أعرفهم منذ زمن طويل. كان تصويري بدائي! لم يكن متقناً بما فيه الكفاية! بعد مرور تسعة شهور، أدخلتني الشركة -ضمن مجموعة من العمال تختارهم كلّ فترة- في مدرستها الخاصة، لكي أُأهل لدخول الجامعات الأوربية. كان عدد طلاب المدرسة خمسة وأربعين طالباً، حصل خمسة عشر منهم على بعثات للخارج، أنا منهم.
كانت (بابكو) -بهذه الدراسة- تهيئني للحصول على شهادة(O-Level)، التي تُجيز دخولي في جامعات بريطانيا في تلك الفترة. حصلت على بعثة لدراسة التصوير، لمدة ستة أشهر. رتبت (بابكو) لهذه البعثة مع شركة (كودك)، لكنّي رفضت. كنت أريد دراسةً أكاديمية، متخصصة. أعادت الشركة النظر في اقتراحي، فوجدته مقنعاً. مرّت فترة وجيزة فأرسلتني إلى كلية(إيلنج تكنكل كولج)، (Ealing Technical college). وهي كلية متخصصة في التصوير في لندن بالمملكة المتحدة، لكن الكلية لم تقبلني في البداية؛ لأنّ الشهادة التي عنـدي(O-Level)، والكلية تريد(A-Level)، وبعد حوار هادئٍ وافقت الكلية، قبلتني!
يقضي برنامج الكلية أنّ يدرس المنتسب إليها مدّة سنتين. في السنة الأولى كانت الدراسة نظرية، وعملية في آن. وفيها يطوفون بالطالب على مصانع لندن، لالتقاط صور مختلفة، يهتمون فيها بنوع من التصوير، هو التصوير الصناعي. ولأنّي جئت من شركة نفط هي (بابكو)؛ لذا صار تصويري في هذه الكلية تصويرا صناعياً متخصصاً (Industry photography).في مصانع لندن تابعتُ صناعة الطائرات بالكاميرا منذ اللحظة الأولى حتى خروجها من المصنع.
أمّا السنة الثانية، فهي تُخصص لمتابعة مشروع واحد فقط، منذ اللحظة الأولى حتى انتهائه. خَصصتِ الكلية لي متابعة مشروع بناء عمارة ضخمة جداً. كان هذا البناء هو أكبر فندق (هيلتون) في أوروبا. تابعتُ البناء منذ تخطيط الأرض حتى الانتهاء من البناء. كنتُ أصوّر المشروع مَرة كلّ أسبوعين. هذه هي أطروحتي: صور وتاريخ هذا الفندق، لا كتابة، ولا شيء غير الصورة. عرفتُ بعد انتهائي من المشروع، وتسليمه، أنّي لم أكن حاذقاً في صوري بما فيه الكفاية. هذه الدقة لم أحصل عليها إلا بعد عودتي إلى البحرين، وممارستي لتصوير المشاريع العمرانية. في هذه الكلية ليست الدراسة محصورة في التصوير وشئونه، بل لابدّ من دراسة علوم أخرى معه. كان عليّ أن أدرس الموسيقى إجبارياً، لاعتماد دراسة التصوير السينمائي على الصوت، على الرغم من أنّي لم أتخصص في التصوير السينمائي، كما فعل المصور البحريني (خليفة شاهين) بعدي في الكلية ذاتها.
انتهت دراستي فعدت إلى البحرين براً بالسيارة، أحمل معي كاميرتي وعدداً لا بأس به من الأفلام. كنت ألتقطُ الصور من لندن إلى البحرين. ليس أجمل من ذلك. وددتُ الدخول في فرنسا فتفاجأت بمنعهم لي ومَنْ مَعي من العرب!! كان ذلك في سبتمبر 1962م حيث تجري المباحثات بين فرنسا و(جبهة التحرير الجزائرية)، ممّا زاد خوف فرنسا من دخول العرب إليها في هذه الفترة، لذا توجهنا إلى بلجيكا. سارت بنا السيارة لا نعرف حدوداً، ولا نلتفت للعلامات في الشوارع، والطرق، فكانت النتيجة أنْ وجدنا أنفسنا في مدينة (إفيان) الفرنسية!! قُبض علينا ونحن نحمل أكثر من كاميرا!! وبعد محاورة بيننا والشرطة، سمح لنا قائدهم بمغادرة (إفيان) حالاً. عدنا من حيث أتينا، فمررنا بإعلان عليه اسم (إفيان)!! توقفت للتصوير، فلحق بي القائد ونهرني. ماذا سيحدث لو كنت في مدينة عربية ساعة حرب؟
وصلت البحرين سنة 1961م. هنا التقيتُ بمهندس عراقي اسمه ( مكية)، عمره واحد وستون سنة، صاحب مكتب استشاري كبير في لندن، ولديه مشاريع مشتركة مع الأستاذ (جواد العريّض). كانت البحرين قد بدأت تدخل مرحلة العمران. طلب منّي( مكية) تصوير مشاريعه البنائية، فوافقت. أليس هو تخصصي؟ راح المهندس (مكية) ينظر في صوري بدقّة، لم أر مثلها بعد. كان يحاسبني على كلّ شيء في الصورة. فرحتُ بالعمل معه، وهو أيضاً. كانت ملحوظاته لها دور كبير جداً في تجربتي في التصوير الفوتوغرافي. هو أكبر سبب في ارتقائي بالاعتناء بموضوع التصوير. قلت له: "الذي لم أفعله في لندن في التصوير فعلته هنا". كان يخاطبني بلغتي العربية في أعماقي. فرحت لذلك أيمّا فرح، وهو أيضا فرح بي، عندما وجدني تلميذاً يستوي على عينيه. كان يقول لي: "أنت مصور محترف، فلا ينبغي لي أن أعملك"، فأردّ عليه: "أنا تلميذك" عملت معه سنة تقريباً.
انتظمت في قسم التصوير الفوتوغرافي بشركة (بابكو). وبعد عام كلفتني الشركة برئاسة قسم التصوير كلّه، بعد أن تمّ ترحيل الرئيس الإنجليزي السابق، اسمه (ستاند هاو) -على ما أتذكر- فراح يعمل في شركة (Elford) العالمية للتصوير. في هذه الفترة استلم المغفور له (الشيخ عيسى بن سلمان) مقاليد الحكم في البحرين. وهي فترة ازياد ونماء الحركة الاقتصادية في الخليج كلّه. وجدت الحكومة الجديدة في البحرين أنّها في حاجة كبيرة للتصوير الفوتوغرافي فزاد الاعتماد على شركة (بابكو)، ووصل الأمر أن ثبّت الديوان الأميري هاتفاً خاصاً في بيتي، لأكون على اتصال مباشر بفعاليات الديوان. كنت أصور للديوان أكثر من الشركة، حتى فكر الديوان في فتح مكتب لقسم التصوير لديه، ولكن للتنسيق الجيد بيني وبين الديوان عن طريق السيد (يوسف ارحمه الدوسري)، رئيس الديوان، ألغت الفكرة.
كان قسم التصوير في (بابكو) قسماً صناعياً فقط، لا علاقة له بالمجتمع، ومشكلاته إلا بعد عام 1956م. فقد دعت الظروف السياسية التي مرّت بها المنطقة العربية (بابكو) إلى التفكير في تطوير علاقاتها بشعب البحرين، ووجدت أنّ قسم التصوير قادر على فتح هذه العلاقة من خلال الصورة. وقليلاً قليلاً بدأت (بابكو) في الدخول إلى الناس، ولم يعد هذا القسم قسماً صناعياً خالصاً كما كان. إنّه لا يتابع غير يوميات الناس، وقضاياهم.
زادت أنشطة هذا القسم فرحّلت الشركة قسم التصوير الصناعي إلى مصنع التكرير، وأبقت على هذا القسم في مدينة (عوالي) ليكون أرشيف البحرين، أكثر منه أرشيف شركة نفط!! سرعان ما تحوّل إلى قسم عُرف بقسم (العلاقات العامة)، لأوّل مرة في تاريخ الشركة. يمكنني أن أحدد مطلع سنة 1957م تاريخاً لبدء العلاقات العامة في الشركة، وفي البحرين كلّها. في هذه الفترة لم يكن رئيس (بابكو) يتصرف رئيساً للشركة فحسب، بل كان له دور في الشئون السياسية أيضاً. فعندما يجلس حاكم البحرين في القصر، كنّا نرى إلى جنبيه المعتمد البريطاني، ورئيس شركة (بابكو).
كانت (بابكو) لا تقبل في مدرستها التي طورتها لاحقاً، إلا خريجي المرحلة الابتدائية فقط، ولم تكن تسمح بدخول خريجي الثانوية لهذه المدرسة، مما أثار حفيظة أعضاء (الهيئة التنفيذية العليا) على الشركة ، فاتهموها بمحاولة قطع طريق الدراسة على طلبة البحرين، وبالتالي حرمانهم من شغل مناصب تخصصية، مثل الطب والهندسة، في المستقبل. كانت خطة الشركة على لسان مسئوليها أنها تعلّم أهل البلد مهناً جديدةً ليست موجودة في البحرين، ولا في المنطقة. هؤلاء الذين تخرجوا في الابتدائية والتحقوا بـمدرسة(بابكو) هم الآن كبار الشخصيات الاقتصادية في مملكة البحرين، ولهم دورهم الفعّال في ذلك، وهم أقدر الناس على التواصل مع الاقتصاد العالمي.
كان لون زيّ طلبة مدرسة الشركة الخاكي، وتعرف سنته الدراسية من خلال شريط قماشي، يوضع على كتف الطلاب، كل سنة لها لون. كانت ثلاثة ألوان بهيجة.
في السنة الثالثة لهؤلاء الطلاب تمرّ بهم (بابكو) على جميع أقسام الشركة، بحيث تبقى كلّ مجموعة منهم في كل قسم فترة من الزمن محددة، يمارسون فيها أعمال ذلك القسم. كنت أفحص التلاميذ الذين ترسلهم الشركة لقسم العلاقات العامة، ومدى مقدرتهم على التصوير، وتفاعلهم معه. اخترت منهم اثنين فقط، ليعملا معي بدلاً من الآسيويين. وافقت الشركة، فصار القسم كلّه بحرينيين. مرّ التلميذان بفترة تدريب جيدة على التصوير، ممّا دعا الشركة إلى طلب تعيين أحدهما رئيساً لقسم التصوير في مصنع التكرير، وهو (راشد مبارك الدوسري) بعد أن رحّلت الرئيس الإنجليزي. بعد نقل (راشد) تمّ تعيين شخصاً بحرينياً آخر. وهكذا كنّا ثلاثة دائماً.
هذا القسم مسئول عن تأمين، وتجهيز كافة الصور للصحافة غير الصناعية التي تهتم بها (بابكو) عبر جريدة (النجمة)، ونشرات أخرى. أسير في الأسواق أو الشوارع فيشير لي البعض قائلين: هذا مُصوّر (النجمة). يقصدون مصور مجلة ( النجمة) التي ينتظرها الناس بفارغ الصبر!! في الستينيات لم تكن هناك جريدة في البحرين. قد يراني من صورته من قبل فيلح على الحصول على صورته، فيدخلني الضيق.
الكاميرا تُدخلك كل بيت، وكل مكان. كل ما عليك فعله هو المحافظة على أسرار الناس، وأن لا تستغل المكان الذي أنت فيه. أن تشعر الآخرين أنّك تحترمهم. كان من نشاط (بابكو) مساندة المدارس بتوثيق أنشطتها عبر التصوير المجاني. كنت أدخل المدارس لأصور التلاميذ، خصوصاً مدارس البنات!! أذكر الأستاذة (وفيقة نائل) التي كانت تمنع دخول الذكور مدرستها إلا أنا!! فقد للتصوير مرّة في مدرستها برفقة صديق لي، وهو محرر من (بابكو، ) فأدخلتني أنا فقط، وترك ينتظر خارج المدرسة!!

سكنُ الظلّ:
في قسم التصوير أسستُ أرشيفاً هاماً، عُرف بعد ذلك باسم (أرشيف بابكو)، تعبتُ كثيراً في تنظيمه وتعديله، وترقيم جميع الصور التي فيه، وترقيم السلبيات(Negatives)، وفرز موضوعاتها بحيث لا يتعب الباحث في الحصول على ما يريده من صور لبحث علمي، أو بحث خاص به. كان هذا الأرشيف مفتوحاً على كلّ منْ يودّ الاستفادة منه من الناس. أسستُ هذا الأرشيف بناء على خبرتي التي اكتسبتها من برامج كلية التصوير في لندن. في هذه الكلية برنامج يلزمك بدخول دورة خاصة ببناء أرشيف الصور، وأخرى في إدارة العلاقات العامة. كانت الدورتين في مدرسة خاصة تُعرف باسم (ريجنت). أعدت الكلية لنا زيارة إلى الـ( B.B.C) حيث اطلعتُ على أرشيف هذه المؤسسة العظيمة. كما أخذتنا الكلية إلى العديد من المتاحف لنرى إلى أرشيفاتها.
هذا الأرشيف في(بابكو) جعلني أشعر أنّي رددت الجميل لها، وأني أعطيتها أكثر ممّا أخذت منها. أنا متأسف لأنّ أرشيف (بابكو) اليوم غير قادر على تقديم المساعدة للراغبين في الاستفادة منه كما كان يفعل لأبناء البلد، ولغيرهم من زوار البحرين. متأسف لأنّه تحوّل إلى مُتحف، ليس فيه غير خزانات مغلقة، وعقول أشدّ انغلاقا. لقد تمادى المسئولون فيه حتى أنّهم حاولوا إبعادي عن هذا الأرشيف الذي صنعته صورة صورة، سلبية سلبية!!..آه.. هل يمكن لأطفالك أن ينكرونك في يوم ما؟ لا يعترفون بأبوتك؟ أنا أبو هذا الأرشيف.
إنّ 90 % من صور هذا الأرشيف من تصويري.. من عدستي.. أنا غير قادر الآن على الاستفادة منها على الإطلاق. هل هو الحسد؟ أم هو مرض من نوع آخر؟ إنّي أتعجب!! كيف قدمت شركة (أرامكو) كلّ أرشيف الصور لديها إلى وزارة الإعلام في المملكة العربية السعودية، بعد أن كان مفتوحاً دائما للباحثين، وكيف يفعل المسئولون الآن في أرشيف (بابكو)؟
كانت آلية الأرشيف في (بابكو)، طبع نسختين من الصور: واحدة للأرشيف، لا تغادره أبداً، والثانية للإعارة. تُتلف نسخة الإعارة بعد إعارتها بأربعين مرّة تقريباً، ويُستنسخ مكانها صورة أخرى، وهكذا. هناك صور في الأرشيف لا أحد يعرف عنها شيئاً. لقد قلت للشيخة مي بنت محمد آل خليفة، الوكيل المساعد للثقافة والتراث الوطني، بوزارة الإعلام، في آخر لقاء لي بها، بأنّ المكان المناسب والصحيح لصور أرشيف (بابكو) الآن هو إدارة الثقافة، لتكون في أيدٍ تعرف قيمتها، وتعرفُ قيمة البحث العلمي، وتقدر جهد الصورة. قلت لها: "ما عند (بابكو) من أرشيف حقّ من حقوق الشعب كلّه، لا حقّ فرد يتصرف فيه بالمنع"
جاءت بعثة أمريكية إلى البحرين سنة 1955م، لتعرض اختراعاً جديداً في عالم التصوير اسمه (سينوراما)، وهو ما عرف بعد ذلك بالـ(بانوراما)، أي الصورة العريضة. الأمريكان هم الذين اخترعوا ذلك. ولكي يحصلوا على صورة كهذه استخدموا ثلاث كاميرات متجاورة، وثلاث شاشات عرض. كانت البعثة تعمل على فيلم اسمه(عجائب الدنيا السبع). زارت البعثة قصر القضيبية، والتقطت صوراً للشيخ سلمان. كنت معهم أحمل كاميرتي الفوتوغرافية، أصورهم وأصور الشيخ سلمان. هذه الصور موجودة الآن في أرشيف (بابكو)، لا أحد يعرف عنها شيئاً. أنا الوحيد الذي يعرفها. أنكرني الذي يدير الأرشيف الآن. أنا أتألم لذلك. لِمَ كلّ هذا الجحود؟ أنا صنعت أرشيف بابكو.

يقظةُ الصَقر:
في سنة 1969م كانت البحرين تسعى لاستقلالها، وشركة (بابكو) تسعى لترشيد مصروفاتها على غير النفط. في هذه الفترة كنت أنسق مع جهاز إعلامي صغير أسسه السير (بلجريف) قبل أن يرحل، و قبل أن يحلّ محلّه الأستاذ (حسين منديل)، الذي صار يدير الإذاعة الصغيرة، ومطبوعات الحكومة. في هذه الفترة عاد الشيخ محمد بن مبارك إلى البحرين بعد أن أنهى دراسته في بريطانيا. عمل الشيخ محمد مع (حسين منديل)، في تنظيم مكتب العلاقات العامة هذا، ليصبح له استقلالية أكبر. مكتب مثل هذا حتماً سيحتاج إلى التصوير. اتصل بي الشيخ محمد لأكون عضواً فعالاً في هذا الفريق، الذي صار يقوده بنفسه.

كنت أراوح بين (بابكو)، ومكتب الإعلام الصغير، ولكثرة العمل في هذا المكتب اقترح الشيخ محمد أن أقوم باختيار مصور فوتوغرافي يظلّ دائما في هذا المكتب. لم يكن الشيخ يريد إخراجي من (بابكو) لمنصبي الجيد فيها. وافقت على اقتراحه، وأرسلت له أخي (عبد الرزاق) بعد أن كنت قد أشرفت على تدريبه جيداً.
تغيّر الوضع أكثر سنة 1970م، قال لي الشيخ محمد: " أنّ البلد على وشك الاستقلال، سوف نحتاج إلى سفارات في الخارج، ووزارات، وووو.. إنّها دولة، ستحتاج إلى مصورين، وإلى إعلام.. نحن نحتاجك أكثر من ذي قبل" كان معي في هذا اللقاء صديقي، وزميل العمل (خليفة شاهين). عرفت أنّ هناك زيارات رسمية، وشركات قادمة، وبنوك، ومؤسسات، واستثمارات، وغير ذلك كلّها تحتاج إلى التصوير. كان هذا مغر لأن نفكر في شيء غير قسم التصوير في (بابكو).
كنت أعرفُ (خليفة شاهين) قبل العمل في (بابكو)، فقد كان أخوه صديقاً لي، كما أنّي التقيتُ (شاهين) في المدرسة بجزيرة (المحرق). في (بابكو) كان رقم مكتبه ( 127) ورقم مكتبي (137)، كان بابا المكتبين متقابلين. لقد مرّ صديقي (شاهين) بذات الأدوار التي مررت بها أنا. فقد التحق بقسم التصوير في (بابكو) ثمّ درس في مدرستها ليأهل لدخول الكلية التي درست فيها. فبعد أن عدت أنا من لندن أرسلته الشركة لدراسة التصوير السينمائي.
في أحد الأيام وجدت (شاهين) يتحدث مع تاجر سعودي في همس شديد، فلما غادر الرجل سألته: لِمَ كلّ هذا الهمس؟ ما الذي يدور بينكم؟ فقال: نُفكر في إنشاء شركة تصوير. قلت له: ما رأيك أو أدخل شريكاً معكما، لأهتمّ بالتصوير الفوتوغرافي؟ رحبّ (شاهين) بالاقتراح.
في هذه الفترة الزمنية كانت (بابكو) قد عزمت على إغلاق قسم التصوير غير الصناعي. اقترحت على (شاهين)أولاً استبعاد التاجر السعودي، الذي بدأ يغرينا بملاينه، ثمّ اقترحت على التاجر السعودي ثانياً الدخول معنا بعد تأسيس الشركة، لكنّه أصرّ على الدخول منذ البداية. أخيراً اقترحت عليه الدخول شريكاً في القسم السينمائي فقط، الذي لم تكن سوقه رائجة في تلك الفترة، إذ كان الاعتماد على الفوتوغرافي. أسّس التاجر السعودي شركة أخرى مع شخص آخر، باسم (شركة البحرين للسينما)، بينما تقدمنا نحن نحو الأفضل في مشروعنا. ستكون مؤسسة ذات نوعين من التصوير: سينمائي يديره (شاهين)، وفوتوغرافي يهتم به (الخان). في الحقيقة (شاهين) قادر على ممارسة التصويرين معاً؛ فهو لم يمرّ إلى السينمائي دون المرور على الفوتوغرافي. أمّ أنا فلا أجيد التصوير السينمائي، بل لا أجيد كلّ فروع التصوير الفوتوغرافي. لم افلح في تصوير البورتريه أبداً. إنه نوع من التصوير يحتاج إلى إمكانيات كثيرة. فلكي أصورك بورتريه أحتاج إلى أن أعرفك، وأعرف سلوكك، أن أفهمك ولو سريعاً. مصوروا البورتريه الذين لا يلتفتون لذلك فاشلون. عندما أصورك بورتريه وترتاح إلى صورتك أكون أنا غير ذلك تماماً. أعيد تصويرك مرّة أخرى فتكون الصورة أفضل لأنّي بدأت أفهمك. هذا الفشل في تصوير البورتريه، يقابله أنّ أفضل مصوري البورتريه في الخليج موجودون هنا في البحرين.
بدأ العدّ التنازلي لقيام مؤسسة لها عينا صقر، تجمع بين القدرة على النظر إلى أبعاد المستقبل، وقوة جناحي الصقر.
ولدتْ مؤسسة الصقر للتصوير.. غادرت (بابكو) سنة 1971، وكنت قد التحقت بها سنة 1957م.
أعطتنا الحكومة عمارة صغيرة كانت مخصصة لتكون مطعماً، لكنّ صديقي (جواد العريض) الذي كان مسؤولاً عنها، سهّل لنا الأمر. هذه بداية مؤسسة الصقر. بدأت المؤسسة تعمل بجد، وسرعان ما صار لها فروع في البحرين.
كانت ردة فعل شركة (بابكو) إيجابية جداً إزاء تأسيس المؤسسة، فقد منحتنا الثقة، وصارت تتعامل مع مؤسستنا في كثير من الأمور التي تقدمها مؤسستنا في التصوير، وخصوصاً أنّ ما نقدمه مطابقاً لمواصفات الجودة. هنا في مؤسستنا لا تتلف السلبيات، كلّ شيء يبقى، ونعتني بصورنا، ولا نقبل أقلّ من الجودة العالمية.
تعاونت (بابكو) معنا كثيراً، فعند التأسيس اشترينا الكثير من معدات التصوير من (بابكو)، ولم ندفع لها ثمنها نقداً، بل كنّا نقدم لها خدمات يمّ خصم قيمتها من المبلغ المتفق عليه بيننا. استمر ذلك ثلاث سنوات حتى تمّ تسديد المبلغ بالكامل. كان سعر المعدات رمزياً. إنّها مساندة رائعة، وذكية من الشركة.
في بداية التأسيس كنت المُصور، والسائق، والمحاسب، والمراسل، والمنظف، وكلّ شيء!! وكذا صديقي(خليفة شاهين). كانت معنا امرأة انجليزية مهمتها تسجيل أعمالنا اليومية، وتسجيل الطلبات. بدأت المؤسسة بثلاثة فقط.
ظلّ الموقع الرئيسي هنا حتى بدأت فكرة تطوير مدينة عيسى، حيث فوجئنا بقرار من وزارة الإسكان يقضي بضرورة إخلاء المبنى، وإلا طردنا. ولم ينته الأمر عند ذلك بل هددتنا الوزارة برمي أدوات المؤسسة في الشارع. كانوا قاسين علينا جدا! في هذه الفترة حصلت المؤسسة على جائزة في جودة التصوير من (أسبانيا). قدمنا هذه الجائزة للمغفور له الشيخ عيسى بن سلمان، قلنا له: نحن وما نملك لك، لكن وزارة الإسكان تودّ طردنا من المبنى. فأمر لنا بأرض كبيرة لبناء المؤسسة عليها. أثناء تفعيل البناء الجديد كانت فروع المؤسسة قد انتشرت في البحرين، حتى صار عددها عشرة فروع. كنّا نحمّض ونطبع خمسائة(500) فيلم في اليوم الواحد!! ولم تكتف المؤسسة بهذا بل مدّت استثماراتها إلى منطقّة الخليج العربي كلّه.
في المؤسسة لا نتحدث عن أيّنا يعمل أكثر، هذا لم يحدث قط. قد تمرّ علينا فترات تصاب فيها علاقتنا بالبرود، لكنها لا تستمر كثيراً. صديقي (خليفة شاهين) أرحم منّي بكثير، أنا قاس في العمل، وعلى أهلي. أمور كثيرة تثيرني، وتخرجني عن السيطرة على نفسي، ولا يحدث شيء من هذا لديه!! كان يقول لي: "أنت تحترق من الخارج، وأنا احترق من الداخل!" لدى (شاهين) طاقة، وصبر غريبين للجلوس مع الزبائن. أنا لا أستطيع فعل ذلك. يخرج الزبون من عنده مرتاحا، فرحاً، ولا يحدث ذلك عندي. هو يقول "إن الزبون دائما على حق!" ، وأنا أقول إن الزبون زبون، هو يودّ أن يرتاح، وأنا أودّ كذلك. الزبون ليس مهماً كثيراً عندي! هذا السلوك لم يكن عندي قبل إنشاء المؤسسة.
صار التصوير الفوتوغرافي اليوم من الكماليات، ولم يكنْ كذلك من قبل. لم يعد الناس يكترثون بالتصوير كثيراً. لذا فكرنا في مخرج آخر نحبب من خلاله التصوير إلى الناس، ولكن بصورة أكاديمية علمية، فجاءت فكرة إنشاء معهد للتصوير الفوتوغرافي.
لم تكنْ هذه الفكرة جديدة لكنّها صارت الآن مُلحّة في ظلّ هذه التغيرات تجاه الصورة. قدمنا هذا المشروع لوزراء العمل في البلاد منذ عشرين سنة، وزيرا يتلو وزيراً، لم نرَ منهم أكثر ممّا نسمع. الوزير الوحيد الذي يسّر لنا الأمر، واستقبل مشروعنا بحماس العارف هو الأستاذ عبدالنبي الشعلة؛ لأنّه يَعي متطلبات التجارة. بل تجاوز اهتمامه إلى إصراره على المضي في تنفذ المشروع.
لم يتجاوز عدد الفوج الأوّل عشرين دارس ودارسة من البحرين والسعودية، بينهم سعوديات، رتبنا دخولهم مع وزارة العمل. هؤلاء العشرين عملوا كلّهم قي التصوير، بعد تخرجهم، عدا ثلاثة فقط. بعضهم أسّس له استويهات خاصة، والبعض الآخر عمل في وزارت الحكومة. هذه نتيجة جيدة، ومحفزة للاستمرار، جعلتنا نرسم خريطة جديدة للتصوير في البحرين، لكنّ هذه الخريطة امتلأت بالحدود، والمقاطعات، والفُرق، والضغائن. حدثت قضايا تحت الطاولة (Under Table) لم تأتِ مصادفة أبداً. على إثر هذه الضغائن أُغلق معهد التصوير - الوحيد من نوعه في الخليج - متأسفين على هذه التجربة، وعلى هكذا عقول، ونفسيات نالت ثقة البلد. ولم تتوقف سيرة المعهد عند هذا الحدّ، بل فوجئنا بقرار إيقاف معونات كنا نستلمها من وزارة العمل، لضخ الدم في روح المعهد، وقرار آخر يقضي بدفع رسوم على فترات زمنية لهذه الوزارة. لقد مات المعهد، وكدنا نموت معه.
يتكون برنامج المعهد من أربعة كورسات: الأوّل مدّته شهر، والثاني مدّته ثلاثة أشهر، والثالث مدّته ستة أشهر، أو تسعة، والرابع مدّته سنتين. كانت الشهادات التي تمنح لطلابه لإثبات الحضور فقط، على أن يتمّ الربط بين المعهد، والمعاهد العالمية في التصوير، لكن ذلك لم يتمّ لما جرى في سيرة هذا المعهد. كان خريجو المعهد يتحولون إلى سفراء خير للمعهد، وللمؤسسة.
قبل إغلاق المعهد عرضت اقتراحاً على وزارة العمل بأن تتبنى هذا المعهد، وتوفر له مديراً من عندها. قلت لهم بأنّ المؤسسة لا تريد غير استمرار المعهد. جاءنا الردّ بأنّ الوزارة ستدرس الاقتراح. بعدها قالت إنّها بصدد التفكير في إنشاء معهد لتعليم التصوير!! لكن ذلك لم يحدث. هكذا تستطيع القضاء على أيّ مشروع في البلد!
اعتمد في مؤسسة الصقر على الفني، والعامل البحريني، والبحرينية، أكثر من الأجانب والوافدين. يعجبني العامل البحريني، والعاملة البحرينية في مجال التصوير؛ لذلك الصبر الرائع الذي لا أره في غيرهم/غيرهن، مع دقّة في تنفيذ كلّ إمكانياتهم/ إمكانياتهن في مجال الصورة.
كثير من الأجنبيات يتركن العمل بعد الزواج. ولعلّ هذا أحد أسباب فتح معهد التصوير في المؤسسة، لإمداد البحرين بمصورين بحرينيين. المصورة البحرينية تفهم ماذا تريد منها بيسر، وهي لا تترك المكان حتى تنهي عملها بكلّ جودة. أما ما يعرفهم الناس بالمصورات الأجنبيات في المؤسسات فهي خدعة كبرى!! هؤلاء خادمات غير مؤهلات، تقوم كلّ مؤسسة بتدريبهن لسدّ الحاجة فقط. انظر للصور التي ينتجنها في الأفراح، والمناسبات؟!! لقد صار ذلك عادة لديهن..عادة ممّلة أيضا، لذلك صورهن ممّلة أيضاً.
عندما أذهب لتصوير زواج ما أراه زواجا جديداً دائما، فيه مواقف جديدة، وناس جدد، وفرحة جديدة، مما يترتب عليه أخذ صور جديدة، تُدهش الآخرين. إنّي أحاول أن أوصل هذه الفكرة، والإحساس لمصوري المؤسسة. نجحت مع البحرينيات، والعربيات، لكنّي عانيت كثيراً لإيصالها للأجنبيات اللواتي ينظرن في ساعاتهن كلّ لحظة، ويطوين الأفلام طوياً سريعاً، لحظة التصوير.
عندما يتمّ طباعة الصور أستدعي المصورة، أخبرها ببعض العيوب، أو ملحوظاتي، لعلها تتفادها في العمل القادم. أحياناً لا أستطيع فعل ذلك عندما لا يرغب صاحب الصور في إطلاع غير النساء على صوره. منذ أن صارت رغبة الناس في البحرين في أن يكون مصور الزواج امرأة، وأنّ الذي يطبع الصور امرأة أيضا، لم نحصل على نتائج جيدة لصور الزواج.
الأمر الذي لا يعرفه الناس أن هؤلاء المصورات، والطابعات، لا يستطعن طباعة الصور على غير الآلة!! التي لن تكون نتائجها أفضل من تلك الصور التي تنتج يدوياً مهما كان حداثة هذه الآلة. هذه الصور اليدوية الكبيرة لا تستطيع النساء إنتاجها، على الرغم من الإعلانات الصحفية كل يوم!! هي كذب!! بعض المصورات قادرات على إنتاج صورا يدوية، لكن حجمها محدود جداً، بعدها يترك الأمر للفنيين من الرجال!

فتاة الكاميرا:
كنت صغيراً أدخل بيت جارتنا في جزيرة (المحرق) أشتري حليباً، وبيضاً، وأرى إلى طفلة صغيرة أعجبتني. كبرنا وكبر إعجابي بها. تمنيت لو تكون لي. انتظمت الدراسة لتكون معلمة فتمنيت لو تكون زوجتي. أعجبتني كثيراً. تقدمت لخطبتها، فقيل لي إنّها خُطبت لابن عمها. كان ذلك في أغسطس 1964. لم أتألم كثيراً!!.
لم أر وجهها كثيراً، على الرغم من مرورها أمام بيتنا أيام دراستها، تحمل كتباً ودفاتر، وأحمل لها أنا ودّاً. كيف يكون حبّ أهل الجزر؟
وفي ليلة لا أنساها ما حييتُ، كنتُ عائداً من مشاهدة فيلم في سينما (البحرين) بالمحرق. كانت الساعة الحادية عشر. إنّه وقت متأخر كثيراً في هذه الجزيرة الهادئة. وصلت باب بيتنا.. هم يسمونه بيتاً!! فوجدت صديقي (أنور) ينتظرني!! دهشتٌ. عسى أن يكون الأمر خيراً. قال لي:
ـ أريد أن أتزوج، وأريدك أنت وليس غيرك تصور زواجي.
ـ جميل هذا الخبر.. لا تهتم سأعتني بصورك، ولكن مَنْ هي الفتاة؟
ـ ابنة عمّي.
آه.. عرفتها.. تلك التي أحببت. حان الوقت لكي أراها الآن.. أراها معه لا معي! انتظر الليلة بصبر مَنْ وُعد برؤية ذاته.. وفي ليلة الزواج أمعنتُ النظر إلى وجهها عبر عدسة كاميرتي السعيدة الحزينة. هذه هي إذن! ليلتها مرّ شريط طفولتي أمامي.. حليب.. بيض.. دراسة.. توفي صديقي(أنور) -رحمه الله- ومازالت سلبيات فيلم تلك الليلة عندي، لا أعرف لمَنْ أعطيها. كتبتُ لأخيه بأنّي أريد لقاءه فلم يهتم.
بعد تخرجي في الثانوية طرقت أبواب البعثات، كان منها واحدة للهند يتنافس عليها اثنان، أنا أحدهما، والثاني الأستاذ (حسن المحري). نجحتُ أنا ولم ينجح هو!! لم أذهب إلى الهند ولكن إلى لندن لدراسة التصوير. بعد عودتي من لندن رغبت في الزواج فأخذتني أمّي إلى بيت في حيّ (العوضية) بالمنامة، قالت لي: سأدخل أنا فقط. لم أكن أعرف ما الموضوع؟ وبعد مرور أسبوعين قالت لي: "كنتُ أخطب لك!! لم أشأ أن أخبرك حتى تتأكد الموفقة، لقد وافقت الفتاة على أن تكون زوجها" ولكن قبل أن أتقدّم للفتاة رسمياً ليمّ إعلان الخطبة، كان الأستاذ (حسن المحري) قد خطبها!! قلتُ له: هذه بتلك!! خسرت أنتَ البعثة، وخسرت أنا الفتاة!!


الصَقرُ وحدَه يطيرُ:
في سنة 1963م أحضرت شركة صناعة الطائرات(VIP) طائرة صغيرة، ذات مروحتين. كان سبب إحضارها الترويج لها، وللشركة المنتجة لها. اختاروني لأطير فوق البحرين، وألتقط صوراً جوية. طرتُ فيها وصورت مستشفى (السلمانية) من الجو لأوّل مرّة في حياتي. ومنذ هذا التاريخ وحتى هذه اللحظة (سبتمبر 2003م) أطير للتصوير. مرتِ الآن أربعون سنة من التصوير الجوي في البحرين.
بعد رحيل هذه الطائرة استخدمنا طائرات سلاح الجو البريطاني للتصوير. كانت (بابكو) ترتب لكلّ ذلك مع الجيش البريطاني. كنتُ أصور حقول النفط، أو صور مختلفة للتقويم السنوي. في سنة 1965م استخدمت حكومة البحرين طائرة سلاح الجو البريطاني أيضاً، لكن لا لتصوير آبار النفط، بل لإلقاء القنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين القوميين، والناصريين، ومَن شارك معهم من العمال. ولإخفاء هذه الطائرات تمّ كتابة كلمة (شرطة البحرين) على قماش يثبت على الطائرة!! كانت بريطانيا تودّ الظهور بالمظهر الحسن أمام الشعب. صورت هذه الطائرة وهي تلقى القنابل قرب أحد المساجد.
انتهت أحداث 1965م فارتأت الحكومة ضرورة تشكيل سلاح جو خاص في قلعة شرطة البحرين. أعلنت الحكومة عن ذلك، وتمّ توظيف أخويين بريطانيين توأمين، اشتدّ بينهما الصراع على رئاسة سلاح الجو! حتى استطاع أحدهما إثبات اضطراب الآخر، فسُرح من عمله.
ضمّ أوّل فريق بحريني للطيران -في قلعة الشرطة وتدرب في بريطانيا-كلّ من: مهنا النعيمي، وعلي سليل، وعبدالعزيز المناعي. طرتُ مع هذا الفريق فشعرتُ براحة غير محدودة. معهم أتحدث بلهجة وطني. فريق يُشعرك بنشاط وحيوية ابن البلد. كان أوّل طيار بحريني طرت معه هو (مهنا النعيمي) -رحمه الله- كنت أنظر إليه في الجو، وإلى لون ثياب الطيران حتى دمعت عيناي.
أطيرُ للتصوير في الشهر مرّة أو مرتين، تكون فيها الكاميرا ثابتة في موضع على الطائرة. في التصوير الجوي تحتاج إلى عَدسة مُنفرجة(Wide Angel) تغيّر في فتحة العدسة بين البحر واليابسة، لاختلاف لونيهما، ودرجة العمق، والضوء. ففوق البحر تحتاج إلى زيادة فتحة العدسة، والعكس فوق البر. أمّا سرعة غالق الكاميرا (SHATER SPEED)فينبغي أن يكون ثابتاً. لكن المهم في التصوير الجوي هو أن تكون عينا الطيار عينيك التي يرى بهما. ففي الجو يوجّه المصور الطائرة لا الطيار! هنا تكمن صعوبة من نوع ما لكنها بعد حين تمكنك من معرفة لغة الطيران. وعلى الرغم من أنّي أكون فوق البحرين، إلا أنّي لا أرى - في الغالب - غير سطوح المنازل والعمارات، والمشاريع. أي أنّ الذي أره وأنا أمشي على الأرض أكثر، وأجمل ممّا أراه وأنا في السماء!! لذلك لا يذهلني النظر من الجو كثيراً، ولا يُدهشني.
مرّةً كانت الحكومة تُهيئ بحرينياً ليُصبح مسئول جناج الطيران، بدلا من الإنجليزي. اتفقتُ معه يوماً على الطيران في الساعة التاسعة صباحاً، لكنّه تأخّر ولم يأتِ إلا في العاشرة. دخل عليّ وأنا أتحدثُ مع المسئول الإنجليزي. قال الطيار:( Good morning) فردّ عليه المسئول:( Good afternoon)!! أصرّ الطيار على الطيران فهدده المسئول بقطع الاتصالات به، فلم يكترث الطيار البحريني لذلك. طلبت منه الاستجابة لمسئوله العسكري -بعد أن نفّد ما هدده به، فقُطعت كافة الاتصالات بالأرض- فوافق على ذلك. وفي إحدى المرّات قال لي أحد الطيارين بأنّه سيملأ الطائرة وقوداً من المطار ثمّ يعود لأخذي، فرجوته تأجيل الموعد لليوم التالي، لكنّه أصرَ على الطيران. وما إن وصلت الطائرة دار الحكومة (وزارة الخارجية حاليا) بالمنامة حتى سقطت. لم يُصبْ أحد بأذىً.


إلاّ الصورة:
كلّ الصور التي نشرتها خارج البحرين في أوروبا دفع لي ثمن نشرها، أو استخدامها، بعد احترامها، إلا هنا!! يشتري البعض بطاقات مؤسسة الصقر بمائة فلس، فيظنّ أنّ الصورة ملكه!! واجهت مشكلة كبيرة في حفظ حقوق ملكية الصورة في البحرين. قال المسئول لي بأنّهم سيعتبرون كلّ صورة عمل فنّي منفرد عن بقيّة الأعمال، وبالتالي علي عمل إجراءات حقوق الملكية لكلّ صورة!! وهذا يعني دفع خمس وعشرين دينارا لكلّ صورة!! ماذا أفعل إذن بالملايين من الصور التي عندي؟! أليست هذه الفكرة غبية؟
أذكر حينها أنّ وكيل وزارة الإعلام (عبد الحسن إبراهيم بو حسيّن) اقترح عمل ختم معتمد في إدارة المطبوعات لكلّ مصور فوتوغرافي، يُعرِّفُ صوره من خلاله. هذا الاقتراح جميل ورائع يُعمل به رسمياً في بريطانيا، لكن محامية إدارة المطبوعات لم تقتنع بهذه الفكرة، فقد م اقتراحاً آخر، هو اعتبار كلّ ألبوم به مئات الصور كتاباً تحفظون حقوق ملكيته لمصوره فوافقوا! وفعلا سجلت مجموعة من الصور التي نشرت في بطاقات(Post Cards) بهذه الكيفية.
ليست الصورة وحدها مهدورة الحقوق، بل حقوق المصورين البحرينيين المحترفين أيضاً. كنت أودّ منع سماسرة التصوير الأجانب بطرق حضارية شتّى، باتت معظمها فاشلة، أو شبه فاشلة. نسقت مع الفوتوغرافي (حسين علي) لتأسيس نقابة للمصورين الفوتوغرافيين تحفظ حقوقهم، لكنّنا لم ننجح في الحصول على أسماء كافية! كنا نودّ إيقاف سماسرة التصوير الأوروبيين الذي يزورون البلاد في شهور الكساد عندهم، وهي شهور البرد، ليوقعوا عقود تصوير زهيدة مع الشركات، التي تحتاج إلى التصوير في البحرين. هذه العقود تؤثر على استوديوهات التصوير في البحرين كثيراً. ليس ثمّة مراقبة عليهم على الإطلاق!! كنّا نحتاج إلى عشرة أشخاص فقط. زاد في استقبال مثل هؤلاء الأوروبيين، انفتاحهم على شئون التصوير المختلف والمتعدد، وانكفاء البحريني على نوع أو نوعين من التصوير غير المتخصص، ولا تتجاوز الأستوديو. هم لا يعرفون ماذا يحدث للصورة في العالم!! مع ذلك هم مصورون شاملون!! قلت لأحد الوزراء: "لِم تستعينون بهؤلاء السماسرة الأجانب وتتركوننا؟" فقال لي " وهل أنتم تصورون" ؟!!!

المحرق على عيني:
أعرف وطأة الصورة على الآخرين، وقدرتها على الكشف، لذا لم يغبْ ذلك عن عيني، ولا عن كاميرتي. صورتُ سوق المحرق القديم، ودكاكينها المهترئة، وأزقتها غير النظيفة، ثمّ صنعتُ منها تقريراً مصوراً، ليس فيه غير الصور. قدمته لوزير الإسكان السابق الشيخ خالد بن عبد الله، وقلت له: "هذه حال عاصمة البحرين القديمة!! هل تقبل به؟ " فقال: "هذه أملاك خاصة، ولن تفعل فيها الحكومة شيئا!! " كان الملف به خمسون صورة، أبيض وأسود، مقاس:( 20X16) بُوصة، كلفني الكثير من جيبي الخاص حبّا في المحرق، التي يُرثى لها. خرجت من مكتبه دون أن يشكرني.
في اليوم التالي عاد النشاط إليّ، ورأيت ضرورة تقديم نسخة أخرى من الملف نفسه للمغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، أمير البلاد في تلك الفترة، فلما رأى الصور سألني مندهشاً: "هذه المحرق؟ " فقلت له: نعم. وعدني خيراً، ثمّ شكر جهدي. وبعد يومين أرسل إليّ وزير الإسكان يريد أن يراني. وما إن دخلت عليه حتى قال لي: عبد الله لماذا شكوتني لدى الأمير؟ بينت له أنّي زرته أولاً لكنّه لم يستمع إليّ.
لما رأيت عمل الصورة، وشدّة حضورها، صنعت تقريراً مصوراً آخر عن الجزء القديم من مدرسة الهداية. فقد زرتها يوماً فوجدتها في حالة مضجرة، سرق أحدهم بعض الأخشاب منها. قدمت التقرير للأمير الراحل مباشرة، فأمر المسئولين بوزارة الإعلام بالاهتمام بها. كتب لي رسالة شكر، مازلت أحتفظ بها. بعدها طلب مقابلتي، قال لي: "يقولون البحرين سنغافورة الخليج! أريد الآن عمل تقرير عن مدى نظافة البلد من الحد إلى رأس البر" عملت التقرير وقدمته له - رحمه الله - فلما رأى التقرير قال: "هي أكثر من ذلك!! " كان - يرحمه الله - يعتمد على صوري أكثر من الوزراء.
الصورة شهادة إثبات، وتخليد لكل ما يدور حوله. الصورة تلفت نظر القارئ أكثر من الكتابة، لكنها مطية الكسالى أيضا.
صورت الحياة اليومية في المحرق، والنشاط اليومي العادي فيها. صورت (أم جان)، تلك المرأة التي ولّدت الكثير الكثير من نساء المحرق. صورتها وهي تحمل حقيبتها، فيها معدات طبية ربما تحتاج إليها في عمليات التوليد. (أم جان) كانت ممرضة مرخصة من قبل وزارة الصحة، وقابلة ماهرة، لم يتوقف عملها بعد تقاعدها، وإحالتها على المعاش. ومَنْ لا يعرف (أم جان)؟ توفيت سنة 1991م تقريباً.
عندما تدخل برادات المحرق قديماً لن تجد البيض كما تراه الآن. لكنّك حتماً سترى رجلاً فارسي الأصل، قصير القامة، عُرف باسم ( جير مَرد)، يحمل سلة، يدور المحرق كلّها ويصيح (مَنْ عنده بيض؟)، فإذا امتلأت السلّة، باعه كلّه على معسكر الجيش البريطاني في المحرق، الذي عرف باسم(آر إف )، وهو اختصار لـ(R.A.F) التي تعني(Royal Air Force)
في سنة 1957م تعطلت كاميرتي التي اشتراها لي أبي، فدفعتها لأستاذ الفيزياء (محمد راضي) مصري الجنسية، يزعم أنّه قادر على صيانتها. عرفتُ بعد أنّه على وشك العودة إلى مصر. كان ذلك شهر أغسطس الحار في البحرين. ذهبت إليه أطلب إعادة الكاميرا قبل رحيله، فأخبرني أنّه أصلحها. ولكي أجربها وضعت فيها فيلماً جديدا على الرغم من قسوة الجو.
خرجت من عنده فتفاجأت بحريق كبير في المحرق. كان حدثاً مثيراً فعلاً. صورت الحريق ثمّ احتفظت بالفيلم. فلما دخلت (بابكو)، حمّضت الفيلم خلسةً، واحتفظت بالسلبية دون طباعة الصور. بعد فترة نبا إلى علمي أنّ الحكومة تريد تقريراً حول هذا الحريق، الذي وقع في أرض تعرف باسم أرض مصطفى. أخبرتُ أحد محرري مجلة (النجمة) -وهو مصري الجنسية- بأنّي أملك هذه الصور، لكنّي أخاف من رئيسي يوبخني. فقال المحرر: "لا.. سوف يكافؤك لا يوبخك"
كانت الصور رائعة، لكن ثمّة خلل في الكاميرا أفسد بعضها. كانت الكاميرا لا تحرك الفيلم بشكل مناسب؛ لذا تداخلت بعض الصور قليلا!! صارت الصور على شكل(بانوراما). تمّ تقديم الصُور لـ(بابكو)، التي نشرتها بشكلها الجديد (البانورامي) على الصفحة الأولى لمجلة (النجمة). مازلت أحتفظ بسلبيات هذا الفيلم!!

ضوء مهدورٌ ظلّه:
قيمة المصور الفوتوغرافي قديماً في البحرين تُشبه قيمة النادل في المقهى، تُومئ إليه بإصبعك فيأتيك صاغراً طائعاً. لم تكن قيمة المُصور أحسن من ذلك، ولا أفضل. درجة حضوره واطئة جداً.
تقدمتُ مرّة للزواج من فتاة، فقال لي أهلها: "لا.. مادمت مصوراً فوتوغرافياً.. هل نزوج مصوراً" !! لقد رفضوني لأنّي مصور!! هل رأيت أكثر من هذا التكريم للكاميرا وللصورة؟! كانوا من أهلي!!
على الرغم من ذلك كنتُ أحمل الكاميرا وأخرج بها مجاهرةً أمام الجميع. كان أبي يحمض ويطبع الصور، أكثر ممّا يحمل الكاميرا للتصوير، بل نادراً ما رأيته يصور! كنتُ جلوداً، لكن لا أخفي تأثري باحتقار الكثيرين للكاميرا. بسبب ذلك كلّه حاولت قدر الإمكان أن لا يخرج من أسرتي مصور فوتوغرافي.. أبعدت أولادي عن ذلك قدر المستطاع. الحمد لله لم يدخل واحد منهم هذا المجال. ليس معنى ذلك أنّي أراها مهنة باطلة، لا، بل هي فن له حضوره اليومي الذي لا يفتر، لكنّي كرهت عدم حضورها في نفوس الناس بالشكل الذي يليق بها في البحرين. لا أنكر انّي هيأت ولدي (ماجد) للرسم، حتى صار يرسم جيداً، وله لوحة معلقة في مكتب شريكي (خليفة شاهين)، ثمّ حاولت إدخاله مجال التصوير فلم أفلح. الحمد لله أنّي لم أفلح، كما أفلح أبي في إدخال واحداً من أبنائه في التصوير، هو (عبد الله الخان)!! دخلت التصوير لأنّي كنت الإبن الوحيد الذي يخاف أبيه. كانت بُنية جسدي ضعيفة جداً جداً بحيث لا تكفي لأن أملك قدراً من شجاعة الرفض! لكنها تكفي - حتماً - للمزيد من الخوف. كنت الولد المطيع لا عن رغبة!!
كان التصوير فنّاً، واليوم صار صناعة بعد ثورة التصوير الرقمي (Digital). صار أشبه بالوجبات السريعة، جميلة الشكل، لكنّها لا شيء. أنا لا أحبّ هذا التصوير الرقمي، أشكّ في الآلة دائماً، أشكّ في الدوائر الالكترونية، هذا النوع من الكاميرات تخذلني، ولم تخذلني الكاميرات اليدوية (Manuel) قطّ. قديماً كانوا يقولون (المصور خلف الكاميرا)، واليوم يقولون( الكاميرا أمام المصور). هي التي تُوجّه حاملها لا هو!!. عندما ظهرت كاميرا البلوريد قلنا إن التصوير انتهى، واليوم نُعيد ذات الفكرة أمام التصوير الرقمي. صار التصوير ضوء مهدور ظلّه! زادت مساحة الكذب في الصورة.

بقايا صُور:
عندما تحمل الكاميرا على كتفك، عليك أن تتحمل الكثير من أحداث اليوم. بعض من الناس مازال يكره مهنة المصورين، وآخرين يرونهم فوضويي الشارع، والمناسبات. ألكاميرا تعني أحداث تنتظرك بعضها لم يخطر في بالي أبداً.
كنت أقترب من خشبة المسرح، عندما أحسست بيد عملاقة تحملني من قميصي، مثل ما يحمل القط الفأر!! كان هذا القط هو مخرج المسرحية الأجنبي في (بابكو). حملني ثمّ رماني خارج المسرح!! استصغرني، واستخفّ بجسدي. شكوته لدى المسئولين، فآزرني محرر مجلة (النجمة)، الذي رأى الواقعة. قيل إنّ المخرج القط نال عقابه.
مرّةً كنت مع محرر إنجليزي نعدّ تقويماً حائطياً سياحياً للعام القادم. وصلنا ساحلا خاصاً، به فتيات أجنبيات بلباس البحر الجميل!! قال لي نودّ تصوير هذا الساحل الجميل، فرفضت؛ لأنّه ملك خاص. أعاد الطلب بإصرار، قائلاً بأنّه هو المسئول عن التقويم، لا أنا! رضخت لأوامره، صورت الساحل، فاستدعيت للتحقيق معي في اليوم التالي!! أخبرت المسئولين في (بابكو) بأنّي فعلت ذلك تحت إصرار المسئول عليّ. عرف صاحب الساحل أنّي لم أطلع أحداً على صورة واحدة فكافأني. عندما أصوّر شيئاً أحافظ على أمانة الصورة.
ومن الأحداث ما آلمني كثيرا. استدعيت ليلة لتصوير حريق في مصنع التكرير. كان الحريق كبيراً جداً، والمطر يهطل، فلما رآني مسئول الحرائق، ويدعى السيد (كارنر)، قال لي: "عبدالله ابتعد عن النار". رأيته يجري نحو مطفأة حريق كانت في وسط ماء المطر المتجمع. لكنّه لم يكن قادر على رؤية سلك كهربائي مقطوع في ماء المطر المتجمع. مدّ يده ليرفع المطفأة فاستلمته الكهرباء. رأيته يحترق أمامي، فلم أجرؤ على رفع الكاميرا لتصويره!! شُلت يدي!! لم أصوره إلا بعد انتهاء المشهد تماماً، وهدأ كلّ شيء.
طلب مني شخص فضح شخصية تسافر كل عام إلى الخارج مع فتاة صغيرة جداً، في سن حفيدته، ومن ثمّ فضحه، فرفضت، لأنّي احترم الكاميرا. كنت أرى فعل الكاميرا غير ذلك تماماً.
من القضايا التي حدثت في مؤسسة (الصقر)، جاءني شخص ساخط، قال لي:
ـ أين خليفة شاهين؟
ـ هو غير موجود حالياً لكني أستطيع خدمتك. ما الأمر؟
ـ جاءت زوجتي للتصوير فتحرش بها مصوركم.
تحريتُ عن الأمر، وأحضرتُ المصور الهندي الجنسية. فلما سألته عنها قال لي إنّها لم تكن وحدها، كانت برفقة امرأة أخرى دخلت معها الأستوديو لحظة التصوير. أصرَ الرجل أنّها وحدها، لكنّ المُصور الهندي المهذب لم يَقبل ذلك. عدها سأله الرجل عن أوصاف المرأة المرافقة، فسرد له المصور وصفها. غادر الساخط المؤسسة، ثمّ عاد بعد فترة يقدم أسفه لي. قال لي تلك المرأة المرافقة قوادتها، وقد حذرتها مراراً من مرافقتها، لكنّها خذلتني ولكي تغطي ذلك اختلقت المشكلة.
من أغرب ما رأيته في المؤسسة امرأتين متقاربتين في العمر. كانتا في الخمسين تقريباً!!. طلبتا التصوير معاً، فتركتهما تجهزان بينما أنتظر أنا خارج الأستوديو. بعد قليل سمعت صوت إحداهما تطلب مني الدخول قائلة(عكّاس ادخلْ) فلما دخلت في الأستوديو، أغمضتُ عيني!!.. ما هذا؟ وجدتُ المرأتين عاريتين. أذهلني الموقف، ولم يذهلني جسداهما!! سألتهما عن ذلك فقالا: "نريدك أن تصورنا هكذا"!! قلت لهما سأذهب لأتصل بشرطة مدينة عيسى فهربتا بسرعة!! كثيرة هي الأحداث التي تأتي بها الكاميرا.
أخذتني الكاميرا إلى أحداث، ووجوه، وشخصيات كثيرة، وأحداث تاريخية، واقتصادية، واجتماعية، لا يمكن نسيانها. أرسلني الشيخ محمد بن مبارك مرّة، إلى مكان يكاد يكون براً، قال لي: ستجد هناك عمالاً يشتغلون صوّرهم، وأحضر لي الصور حالاً؟ عندما وصلتُ وجدت مجموعة من العمانيين يحفرون الأرض، ظننتهم آثاريين، لكني عرفتُ بعد ذلك أنّها أوّل حفريات لإنشاء مدينة عيسى!! وفي 1969م أرسلت من قبل (بابكو) للتصوير في موقع تمّ تحديده لي. هناك وجدت السيد محمود العلوي -رحمه الله- وثلاثة إنجليز. قلت له: سيد ماذا تفعلون؟ فقال: هنا ستكون مجموعة مصانع تسمى (ألبا) تهتم بالألومنيوم. ومرة أرسلتني وزارة الإعلام لتصوير جنوب منطقة ( الحد) بجزيرة المحرق، عندما ينحسر الماء، ولم أكن أعرف ما السبب؟ أخبروني بعد ذلك أن دول الخليج اتفقت على تأسيس شركة (أسري) لإصلاح السفن. وصورت منطقة (اللوزي) من الجو لتقيم عليها الحكومة مدينة (حمد). مشاريع كبرى قمت بتوثيق قيامها بالصورة الفوتوغرافية، وشهدت لحظتها الصفر.
ثمّة أشياء ما كنت أقترب منها لولا الكاميرا. أخذتني الكاميرا إلى العنب!! إلى كرم العنب في لبنان، فوضعتني وجها لوجه مع الشحرورة (صباح). كنت مرّة في لبنان أسكن في عمارة قرب فلا كبيرة لأحد شيوخ الخليج، لها حديقة كبيرة فيها عنب كثير، وفواكه، وعيون ماء. دخلت الحديقة فدعانا البستاني للأكل من العنب، ففرحت. ظننت أنّ هذه العين مثل عين (الرحى) بجزيرة (سترة) في البحرين؛ فدخلت الحديقة في اليوم الثاني بكارتون ملأته عنباً!! طبعا قُبض عليّ، وأُرسلتُ إلى فلا الشيخ. عند البوابة وجدت الشحرورة صباح تهمّ بالدخول، فلما عرفتُ القصة أمرت البستاني بأن يفرج عنّي. كان لقاء صباح لقاء العنب!!


تأتي الصورة أولا تأتي:
تأتي الصورة قبل الكاميرا عندي. كأّن الكاميرا ليست عيني.. كأنّها تأتي متأخرة!! عندما أريد تصوير موقع في مكان ما كنت أتخيّل المكان كيف سيكون، وكيف ستكون الصورة من جهات عدّة. أهيئ كلّ ذلك. ما لم أفعل ذلك لا أذهب للتصوير أبداً؛ لأنّي أعرف أنّني سأفشل، أو لن أرضى عن صوري. لا أذهب إلى الصورة.. هي التي تأتي. كلّ صوري رقصت بهذا الشكل، حتى التي التقطها في الجو. أحياناً أهيئ الناس للنظر في الصورة قبل تصويرها، أي أنّ المتلقي يحضر عندي لحظة التصوير، حتى أنّي أعرف كيف ستكون تعليقاتهم على الصورة، وملحوظاتهم. عند التصوير أتذكر كلّ صورة وتخطيطي لها، وحركة الضوء فيها. ربّما تستجد صور، ربما يخذلني الضوء، لكن أحلاها تلك التي سبقها تخطيط. عندما يذهب المصور الآن للتصوير، ينظر في ساعة يده كلّ لحظه. لم أفعل ذلك قطّ.

فضة المرايا:
لحظة التصوير لا أهتم بغير الصورة. إنّها لحظات الإنجاز.. لحظات الاتصال بالضوء. أكون حينها تحت مراقبة الضوء. أليس الضوء عيون؟ كلّ صوري مرايا فضة أرى فيها أبي، تتخلق الفضة بين يديه. وأرى فيها صوت أمّي (واحد).. (اثنان).. (ثلاث)..

أغسطس 2003

عبد الله الخان ..

الضوء عيون
معرض يضمّ 200 صورة
القاعة الكبرى لصور الأسود والأبيض
قاعة ثانية للصور الملونة
قاعة ثالثة للوحات الفوتوغرافية
مركز الفنون- قرب متحف البحرين
السادس من سبتمبر 2003
الافتتاح الساعة 7 مساء
حتى 12 سبتمبر 2003