ملفّ من إعداد وتقديم: عبدالوهاب عزّاوي

هارولد بنتر

يجمع هارولد بنتر الإبداعَ إلى موقف سياسيّ راديكاليّ لا يقبل المهادنة. والأهمّ أنه يسعى إلى إقحام المتلقّي في عملٍ مليءٍ بفجوات الصمت ليقول ما يخشاه الجميعُ، وليعيد ترتيبَ الأشياء والأفكار المشتّتة في فسيفساء غامضةٍ من الذكريات والأحلام والأمل العاجز والخوف والقلق والعزلة، وذلك عبر حوادث غير مكتملة ومُشكَّكٍ فيها، تكرّس الالتباسَ بين الشخصيّات وفي ماهيّة العلاقة بينها. أعماله هي الحياة، بما فيها من غنًى وعمقٍ وعنفٍ والتباس، ومؤسِّسٌ لأرضٍ جديدةٍ يملؤها الصمتُ المتحفِّزُ دعيتْ: "الأرض البنتريّة" Pinterland.

اعتُبر بنتر رائدَ العبث بعد بيكيت، لكنه كسر القوالبَ التقليديّة للعبث رغم تحقّق سماته في مسرحيّاته: فنصُّه معبّأ سياسيّاً وإيديولوجيّاً، ويقترب من المسرح الملحميّ أحيانًا، كما في نصّ النظام العالميّ الجديد، مع ابتعاده عن الخطابيّة والوعظ، على ما يؤكّد بنتر دائمًا.

جعل بنتر من محاضرة فوزه في نوبل، التي صوّرها خلال ساعاتٍ قليلةٍ خرج فيها من المشفى أثناء علاجه من مرض السرطان، مرافعةً عن الإنسانيّة ضد الهمجيّة الرأسماليّة الكولونياليّة التي تجلّت في غزو العراق، وفيها يدعو إلى محاكمة بوش وبلير بصفتهما مجرميْ حرب. وفي إحدى المقابلات يقول: "لا أنوي أن أبتعد ببساطةٍ عن السياسة وأن أكتفي بكتابة مسرحيّاتي، مؤدّيًا دورَ الولد الشاطر، [بل] أعتزم البقاء مستقلاً ومفكِّرًا في الشأن السياسيّ على طريقتي الخاصّة. أستطيع أن أكون مزعجًا أكثر. وبما أني نجوتُ من السرطان، فينبغي أن أقول إني أعتزم أن أكون مزعجًا أكثر، لأني أعتقد أنّ مسؤوليّة كلّ مواطن في كلّ بلد أن يقولَ ما يفكّر فيه. وأعتقد أنّ ما يجري حقّاً في أرجاء العالم كلّه هو أنّ أولئك الملايين من البشر الذين حُرموا أن يقولوا ما يفكّرون فيه، لأنهم مذلولون ومضطَهدون، والذين يعْصف بهم الفقرُ ولا يملكون فرصةً للتعلّم والحصول على الضمان الصحّيّ، هؤلاء البشر الموزّعون في أنحاء العالم كلّه، هم المقاومةُ المتناميةُ ضدّ الطريقة التي تعبّر فيها السلطةُ عن نفسها في العالمين السياسيّ والماليّ."

راجع : "هارولد بنتر، حيثيّات الضمير وشعريّة الصمت،" ترجمة وتقديم: صبحي حديدي، مجلة الكرمل الفلسطينيّة، العدد 86، شتاء 2006.

***

مسرح بنتر، في رأيي، معدٌّ للفرجة أكثرَ من القراءة. فاللغة فيه لا تكتمل إلاّ باستخدام الجسد وأداء الممثّل، والصمتُ يأخذ مجاله الحيويّ على الخشبة. وأعتقد أنّ هذا هو ما دفع بنتر إلى أن يكون ممثّلاً في مسرحيّاته أيضًا، وهو ما شكّل عائقًا أمام قراءة مسرحيّاته: فالنصّ المسرحيّ يُقرأ ببعدٍ روائيّ، ومن الصعب تخيّلُه على الخشبة فعليّاً. هذه النقطة، فضلاً عن اعتماد نصوصه على العالم الداخليّ، تتيح للمتلقّي العاديّ الذي يعتمد على التعامل الحسّيّ أن يشكّل علاقةً أكثرَ حميميّةً مع المسرحيّة من النقّاد.

***

أتذكّر فرحي الغامر عندما فاز بنتر بجائزة نوبل عام 2005، خاصةً بعد أن علمتُ مواقفه السياسيّة الحادّة، وألقَه الإبداعيَّ الذي يعبّر عني ـ وأنا في بلد من بلدان الجنوب ـ بشكلٍ أعمق بكثير من الأسماء العربيّة التي رُشّحتْ لنوبل.
ذلك "المثقف المزعج،" الذي اعتزل الكتابة مؤقّتًا بعد نوبل ليتفرّغ للسياسة وليدافع عن أرواحنا، ظلمه عددٌ من العرب باعتباره يهوديّاً، وذلك وفقًا لقِصَر النظر السائد، وتمّ تفسيرُ نصوصه على أنها دفاعٌ عن الكيان الصهيونيّ. لقد توفّي هذا الحالمُ قبل أيّام قليلة من بدء المحرقة في غزّة، وأتساءل ما الذي كان سيفعله هذا المثقّف الإنساني المناصر للعدل لو بقي حيّاً بيننا، وما الذي يكتبه لنا الآن من "قبره الزجاجي."

مقتطفات من مقابلات مع بنتر، ترجمة سامر أبو هواش، نُشرتْ في موقع "جهة الشعر." راجع مقالة عبدالغني داود ،"الملامح اليهوديّة في مسرح هارولد بنتر،" مجلة الرافد، العدد57، مايو 2002. استعارة من مسرحيّة "أصوات العائلة" لبنتر، وفيها يكتب الأبُ لابنه من قبره الزجاجيّ الذي يرى الحياةَ منه [منشورة في هذا العدد من الآداب].

ع.ع
دمشق

عنف اللغة الملتبس
عمر قدّور*

في قصيدة "موت،" التي كتبها بنتر لمحمود درويش، تتكرّر كلمةُ "جثّة" 19 مرة في 21 سطرًا، حتى يبدو وكأنّ المقصود إزعاجُ القارئ أو استفزازُه، مع أنّ ورود كلمة "جثّة" في قصيدةٍ عن الموت أمرٌ متوقّع. هنا بالضبط تبرز واحدةٌ من أهمّ سمات نصوص بنتر، وهي الرهانُ على تحويل المتوقَّع إلى شيءٍ استفزازيّ. ولعلّها من الإشارات النقديّة المهمّة ما أشارت إليه الأكاديميّةُ السويديّةُ، في معرض ذكر أسباب استحقاق بنتر لجائزة نوبل، إذ تمّ التنويهُ بالحوارات غير المتوقّعة في مسرحه "حيث يعيش الناسُ تحت رحمة بعضهم البعض." على الصعيد ذاته يصف المخرجُ الشهير بيتر هول أعمالَ بنتر بالقول: "إنّ الكلمات أسلحة تستخدمها الشخصيّاتُ ليزعج كلٌّ منها الآخرَ، أو ليدمّره."
توحي التوصيفاتُ السابقة، لغير العارفين بنصّ بنتر، بأنه يستخدم ألفاظًا قاسيةً سواء في مسرحه أو شعره. لكنّ قراءة النصوص تحيل على ألفاظ تبدو عاديّةً ومتداولة، ومع ذلك يتمّ شحذُها كأسلحةٍ حادّة. الكلمات لا تبقى هي ذاتها، بل تتبدّل خصائصُها مع الشحنات الانفعاليّة التي تتوالد باستمرار. فالتكرار هنا لا يلعب على التقليب المكشوف في المعاني، بقدْرِ ما يحاول استنفارَ طاقة المتلقّي الشعوريّة وتفعيلَها، أو بالأحرى استنفارَ ما هو عنيفٌ ومكبوت. الكلمة أو الجملةُ هنا أشبهُ بنقطة الماء التي يتوالى سقوطُها على البقعة ذاتها إلى أن تفلح في حفرها؛ ولربما نستطيع استخدامَ التشبيه السابق، على أن يتوالى سقوطُ تلك النقطة على مكانٍ بعينه من الرأس!

لعلّ مسرحية النظام العالميّ الجديد تشكّل نموذجًا صارخًا للإرهاب الذي تنطوي عليه اللغةُ رغم بساطتها الظاهرة. وحتى إنْ جرّدنا النصَّ من بعده الإيديولوجيّ الظاهر، أو من هجائيّته المعلنة تجاه النظام العالميّ الجديد، فسنقع على الجوهر الفظّ للقمع مهما يكن مصدرُه، من دون أن نشْهد (مباشرةً) أيّ فعلٍ من أفعاله باستثناء اللغة. هكذا يدير بنتر حوارًا بين شخصين يشيران إلى رجلٍ معصوبِ العينين، ويقرّران أنْ لا فكرة لديه عمّا يمكن أن يفعلا به؛ ثم يتكهّنان بأنّه قد يملك فكرة غامضة عن ذلك، وربما فكرةً صغيرةً عمّا يمكن أن يفعلا بزوجته أيضًا. القتل الموحى به في النهاية ليس هو الفعلَ الأهمّ،؛ فالواقع أنّ بنتر يستدرج إلى المخيّلة مجموعةً من الفظاعات القابلة للتحقق بمجرد أن يستقرّ الرأيُ عليها أو يوحى بها. وعندما يُشار إلى أنّ الرجل "الضحيّة" المعصوب العينين قد يملك فكرةً غامضةً عمّا سيفعلان به، مع تكرار هذه الجملة، فهذا يعني ببساطة أننا نحن أيضًا نملك فكرةً صغيرةً وغامضةً عمّا يمكن أن يفعله القمعُ، وأنّ الإرهابَ المضمرَ في هذه الجملة لا بدّ أن يفوق تصوّراتِنا بكثير.

قد يجوز لنا أن نعدّ بنتر شاعرًا في مسرحه، كما في شعره، من حيث حساسيّتُه اللغويّة، وقدرتُه على الإيحاء والتحفيز. فاللغة وفق هذا المعيار لغةٌ تحريضيّةٌ قبل أن تكون لغةَ قول. قد تكون اللغة مفتاحًا للفهم والتواصل، لكنها أولاً تنطلق من سوء الفهم، أو من سوء التفاهم. ومع سوء الفهم أو التفاهم، تبدو الحواراتُ في مسرح بنتر مشروعَ استنزافٍ بين المتحاورين، وكأنّ كلّ طرف يقول للآخر: أنت لا تعي جيّدًا ما أتحدّث عنه، وها أنذا أكرّر كلامي، أو أعيده بصياغة أخرى، لتدركَ مراميَه. وعلى نحوٍ ما قد يكون سوءُ الفهم متولِّدًا من عدم الرغبة في الفهم عندما يتعارض مع الرغبات أو المصالح الأخرى للشخصية، مثلما ينمّ سوءُ التفاهم عن التعارض الدراميّ بين الشخصيّات. إنّ قسوة بنتر، إذا جاز التعبير، تنبع من الانطلاق من موقع السكينة الموهومة، ومن ثمّ تبديدها باطّراد، إلى أن يحلّ التوتّرُ والقلقُ محلَّها، ويفضحان سطحيّتَها وزيفَها.

بين الواقع والصورةِ المتخيّلة عن هذا الواقع تكمن الفجوةُ التي يحاول بنتر تعريتَها باقتصادٍ لغويٍّ وغنًى دلاليّ، فكأننا نبدأ معه دائمًا من ذاكرةٍ مشوَّشةٍ أو انتقائيّة. لذا لن يكون مستغربًا في النهاية ألاّ يبدو الواقعُ حقيقيّاً، بالقدْرِ الذي لا تبدو الصورةُ المتخيَّلةُ عنه حقيقيّةً هي الأخرى. في مسرحيّته أمسية، مثلاً، حوارٌ بين زوجين في العقد الرابع، يحاول فيه الزوجُ تذكيرَ زوجته بأوّل لقاءٍ غراميّ جمعهما، فتجادله بأنّ هذه الوقائع قد تكون حدثتْ له مع نساءٍ أخريات، وتسترجع تفاصيلَ اللقاء ذاته على نحو مغاير. فهل اختلط الأمرُ على الزوج فلم يعد يفرّق بين لقائه إيّاها ولقائه أخريات؟ أم اختلط الأمرُ على الزوجة فراحت تجادل بتفاصيل تعود إلى لقائها رجلاً آخر أو رجالاً آخرين؟ الواقع أنّ أحدًا لا يملك أحقيّةً ترجّح روايتَه عن ذلك اللقاء الأول، وعلى هذا لن يكون مهمّاً كيف حدث. ولا تعود للحوار بينهما وظيفةٌ سوى نبشِ تداعياتٍ مشوَّشةٍ لكلٍّ منهما، والكشفِ عن الاختلاف بينهما، وربما أيضًا عن حالة الافتراق الهادئ والمتصالح مع النفس ما دام كلٌّ منهما يحتفظ لنفسه بصورةٍ مغايرةٍ عن واقعٍ لم تعدْ بالإمكان معرفتُه.

يحيل البعضُ هذه المسرحيّةَ على رومانتيكيّةٍ طارئةٍ على بنتر بسبب ما تَؤول إليه من تصالحٍ بين الزوجين. ومع ذلك لا نستطيع إغفالَ العنف الذي يمارسه كلٌّ منهما وهو ينتهك ذاكرةَ الآخر، ويهدّد يقينيّاتها. فالتقبّل المسالم للتهديد لا يلغي واقعَ الإحساس بأنّ العلاقة برمّتها مهدَّدةٌ بالخراب، سواء أانتهت المسرحية بذلك أمْ لم تنتهِ.
يدمّر بنتر العتبةَ التواصليّةَ الأولى للغة، أو ما يمكن تسميتُه بالوظيفة الاستعماليّة المباشرة لها. وربما يتجلّى بعضٌ من قسوته في الكشف عن انعدام العتبة التواصليّة أو انقطاعها. وعلى هذا الصعيد يجوز لنا أن نصف مسرحَه بالمسرح الفقير، لا من حيث افتقارُ مكوّناته إلى البذخ، بل من حيث افتقارُ الشخصيّات إلى العدّة اللغويّة التي تجعل تواصلَها ممكنًا وسلسًا. ففي عالمٍ من الاغتراب يعزّز بنتر فكرةَ أنّ الأصل هو الانقطاع؛ فاللغة التي تعرّيه غيرُ كافيةٍ لإعادة وصله، وهي بهذا لغةٌ مشتّتةٌ مطابقةٌ فنّيّاً للواقع.

وفي مسرحيّة خيانة يلجأ بنتر إلى تسلسلٍ كرونولوجيٍّ معكوس، وكأنه يثْبت بذلك أنّ التسلسل الدراميّ المعهود يمكن عكسُه، والحفاظُ في الوقت نفسه على التوتّر الدراميّ، ما دامت البدايات مضمرةً في النهايات. وكما هو متوقَّع من العنوان، تدور أحداثُ المسرحيّة بين الزوج والزوجة والعشيق، والأخير شريكُ الزوج في التجارة وصديقُه المقرّب. ويختلف العشيقان، هنا أيضًا، بعد سنوات من انفصالهما حول تفاصيل صغيرةٍ تعود إلى زمن العشق، وتخبره بأنها أبلغتْ زوجها بعلاقتهما، وأنها والزوجَ سينفصلان. ولكنْ في مكاشفةٍ متعثّرةٍ لاحقة بين العشيق والزوج يكتشف الأولُ أنّ الزوج كان على درايةٍ بخيانته منذ سنوات، وأنّ الزوجة حينها أبلغته بذلك. باختصار سنكتشف أنّ الخيانةلم تعد اسمًا على مسمّى منذ زمن طويل، ما دام الزوج عارفًا بالأمر ومتواطئًا على إغفاله. الأهمّ من ذلك هو الكشفُ عن حجم الانقطاع في صداقةٍ ظلّت متواصلةً بين الزوج وصديقه، وبالتالي فإنّ تقبّل الزوج للخيانة نابعٌ من هذا الانقطاع، ومن الانقطاع الذي يعتور علاقته بزوجته أيضًا. العودة إلى الوراء في هذه المسرحيّة تدلّل على أنّ التواصل كان ضعيفًا دائمًا، وأنّ اللغة المتداولة بين الشخصيّات كانت دائمًا فقيرة دلاليّاً.

تنوب اللغة عند بنتر عن الأفعال العنيفة المتوقّعة. لذا تخلو أعمالُه، مع كلّ التوتّر الذي يتخلّلها، من المشاكل المتوقّعة، أو تلك التي تحدث في نصوص الآخرين، وكأنها بذلك تطابق ما يقوله بنتر عن نفسه: "هناك عنفٌ في داخلي، لكنني لا أمضي هنا وهناك باحثًا عن المشاكل." هذه الطاقة العنيفة لا تقترح لها نصوصُ بنتر لحظاتِ غضبٍ تُفْرغها من شحناتها، ولا نكاد نرى اشتباكًا بين الشخصيّات وإنْ على المستوى اللفظيّ نفسه. واللغة التي يتمّ شحذُها كأسلحة تتحوّل غالبًا إلى أسلحة ردع، وأحيانًا إلى أسلحة تفاوض. بهذا المعنى تبدو الشخصيّاتُ وكأنها تحصّن نفسَها من عنف الآخر، في الوقت الذي تلْجم فيه عنفَها الداخليّ أيضًا. كأنها شخصيّات تَنْشد السلامَ ولا تجده؛ بفعل الطاقة المكبوتة في داخلها أولاً، ومن ثم بفعل الانتهاك الذي يُمارَس عليها من الخارج بشكلٍ منهجيٍّ فعّال.

لقد فهم بنتر المسرحَ كحيّز ضيّق ومغلق بإحكام على الشخصيّات، وهو ما يدعو إلى اصطدامها بعضها ببعض. وقد لا يكون من المصادفة أن تدور أحداثُ مسرحيّته الأولى في غرفة وأن تحمل الاسمَ نفسَه: "The Room". فالتضييق المكانيّ على الشخصيّات يوحي بوضعها في زنزانة، ولا مناصَ لها من أن تحْفر في ذواتها، أو أن يحفر كلٌّ منها في الآخر. لقد كان انشغالُه بالأحرى هو العالم الداخليّ للفرد، وهنا تنفتح فضاءاته المسرحيّةُ المفضّلة. ولربما أتت انشغالاتُ بنتر السياسيّةُ لتستولي على مسرحه المفضّل؛ فتضْحي اللغةُ رهينةَ الخطاب المباشر، وتفقد قدرتها السابقة على توليد حقولٍ دلاليّةٍ متشعبة. وفي وقتٍ لاحقٍ توقّف الكاتبُ عن كتابة المسرحيّات، معلّلاً ذلك بأنّ شؤون السياسة الدوليّة باتت تضغط على رغبته في الكتابة (لعلّها من الحالات الدارجة أن تكسب السياسةُ ما يخسره الأدب!). لكنّ بنتر يعاود تأمّلاته الهادئة فيما بعد، ويسْهل علينا أن نردّ ذلك إلى إصابته بالسرطان، لولا أنه يستأنف إرثه الشخصيّ؛ فتعود اللغةُ إلى خفوتها وتوتّرها الوجوديّ، وتكفّ عن إرسال الإشارات الواضحة والأحاديّة. وعلى هذا سيُحْسب لبنتر أنه قام بعملٍ مزدوجٍ متناغم: فمن جهة استبطن أقصى حالات التوتّر المولِّدة للعنف، لكنه استطاع إبقاءها على شفير العنف الماديّ؛ ومن جهة أخرى، استبطن إمكانيّاتِ اللغة، وذلك المخزونَ الدلاليَّ الذي يجعل من اللغة بحدّ ذاتها عنفًا؛ فكانت اللغة أداة التوازن الصعب في الوقت الذي كانت تكسر فيه التوازنَ القائم. قد يجوز لنا أن ندعو ذلك نوعًا من "القتال الحميميّ،" مستخدمين تعبيرَ بنتر نفسه في واحدة من القصائد المتأخّرة التي يقول فيها: "أنا وورمي نتقاتل بحميميّة.. لنأملَ موتًا مزدوجًاً."

دمشق
*شاعر وروائيّ سوريّ

في مسرح هارولد بنتر
ميسون علي

يُعدّ هارولد بنتر ألمعَ مسرحيّ بريطانيّ في القرن العشرين، تمثيلاً وكتابةً وإخراجًا. وقد أحدث ثورةً في المسرح البريطانيّ باستخدامه لغةً جديدةً حادّةً مرمَّزة، وكشف النفاقَ وعدمَ الاستقرار والذعر التي تقبع تحت أقنعة أيّ سلطة، متسائلاً: «كيف يمكن أن تكتب مسرحيّةً سعيدةً، ومضمونُ الدراما يُعنى بالصراع والمستويات العامة للقلق والانزعاج والتشويش والفوضى؟»
تميّزتْ أعمالُه المسرحيّة بميلٍ شديدٍ نحو البحث عن الحقيقة؛ وفي هذا يقول: «إنّ البحث عنها يجب ألاّ يتوقّف أو يؤجّل، بل يجب مواجهتُها في مكان الحدث.» هكذا بحث هارولد بنتر عن الحقيقة على خشبة المسرح، وعبّر عن قلق الإنسان وحساسيّته تجاه قضايا عاشها العالمُ المعاصرُ بعدما خرج من حربين عالميتين.

احترف بنتر التمثيلَ منذ عام 1949، وكان معظم هذا الاحتراف في المسرح التجريبيّ. وقد كتب للمسرح نحو سبعًا وعشرين مسرحيّة، وأعلن عن توقّفه عن الكتابة وانصرافه إلى العمل السياسيّ في الأعوام الأخيرة من حياته.
أولى مسرحيّاته، الغرفة (1957)، قصيرة. وفي العام نفسه كتب مسرحيتين أخريين: النادل الأبكم، وحفلة عيد الميلاد، وهذه أول مسرحيّة طويلة له، ثم مسرحيّة الحارس (1960). لكنّ الجمهور والنقّاد لم يتقبّلوه بسهولة، وصُنّف ضمن "مسرح الغضب" (Theatre of Anger)، وهي تسميةٌ مأخوذةٌ من مسرحيّة انظرْ خلفكَ بغضب (Look Back in Anger) للكاتب والممثّل الإنكليزيّ جون أوزبورن (1950). ويُعدّ مسرحُ الغضب جزءًا من حركة الشباب الغاضب التي ظهرتْ في إنجلترا بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية (1945). وقد غيّرتْ مسرحيّةُ أوزبورن وجهة النظر البريطانيّة لما يجب أن يكون عليه المسرح، فبدأتْ معها موجةُ "الكتابة الجديدة" لأنها كانت فاتحةً للتجديد والتجريب بعد فترة من الركود دامت سنين عديدة. ومن أهمّ أعلام هذه الموجة، إضافةً إلى جون أوزبورن، أرنولد ويسكر (1932-...) وجون آردن (1930-...) وهارولد بنتر (1930- 2008) الذي أسّس "مسرح الحجرة" دامجًا بين النزعتيْن الوجوديّة والعبثيّة المرتبطة بظرفٍ تاريخيّ محدّد هو: صدمةُ الحرب العالميّة الثانية، وظهورُ النازيّة، وسيطرةُ الآلة في العصر الصناعيّ، وتجرّدُ الإنسان من إنسانيّته وغربتُه في مجتمعٍ تداعت فيه العلاقاتُ الاجتماعيّةُ التقليديّة.

ومن هنا فإنّ السمات البارزة في كتابات بنتر هي غيابُ الرابطة المنطقيّة بين أجزاء المسرحيّة، وبين العمل ومرجعِه، الأمرُ الذي يؤدّي إلى اضطراب المعنى وصعوبة التفسير العقلانيّ. وبالتالي فإنّ مسرحيّاته تجْنح نحو الغرابة لدرجة الإدهاش، أو الإضحاك، أو خلقِ الشعور بالتشاؤم. كما أنّ شخصيّاته لا تسيطر على الأحداث، وأحيانًا لا تسيطر على نفسها، وهذا ما يظهر في حركتها وكلامها وعدم قدرتها على التركيز على نقطة محدّدة؛ وبالتالي فإنّ فعلها يَفقد كلّ معنى، وكأنّ بنتر يغيِّب دورَ الإنسان في مجرى التاريخ.
والمتمعِّن في البنية الدراميّة لمسرح بنتر يجد أنه لا يستخدم عددًا كبيرًا من الشخصيّات في نصوصه. ففي الحارس ثلاثُ شخصيّات: آستون (حِرَفيّ)، وشقيقُه ميك (جزّار)، وديفز (متشرّد)؛ وفي الخادم الأخرس هناك: بنْ، ومرؤوسُه جسّ، وهما عضوان في منظمةٍ سريّةٍ للاغتيالات، وخادمٌ أخرس. أمّا في الأرض الحرام، فهناك هيرست (شاعرٌ وكاتبٌ ثريّ)، وسبونز (متشرّدٌ يتحدّث بلغة الشعر يلتقطه هرست من حانة)، وخادمٌ، وسكرتير. وهذا ينطبق على نصوصٍ أخرى مثل الخادم الأبكم، والخيانة. وشخصيّاتُ بنتر غالبًا من الرجال، ولا توجد شخصيّاتٌ نسائيّة؛ أو بمعنًى أصحّ لا تظهر هذه على خشبة المسرح، ولكنّ الحوار يتضمّن ذكرياتٍ عن نساء، ربما تكون من ابتداع خيال المتحدّث. ففي الحارس مثلاً لا تظهر المرأة إلا عبر الحوار بين آستون وديفز:
«آستون: اسمعْ هذه الحكاية. كنتُ جالسًا في أحد المقاهي ذات يوم. وتَصادفَ أنْ كنتُ أجلس على مائدةٍ واحدةٍ مع هذه المرأة. وبدأنا... بدأنا نتحادث. لا أتذكّر بالضبط ما تحدّثنا عنه. ولكننا تحدّثنا عن إجازتها السنويّة وأين قضتها. كانت سافرتْ إلى الساحل الجنوبيّ. لا أستطيع أن أتذكّر المكان بالضبط.»( )

وما يميّز مسرحيّات بنتر أنّ أحداثها تجري دائمًا في فضاء داخليّ مغلق. فهو في الأرض الحرام مكانٌ واحدٌ لا يتغيّر (غرفة جلوس في منزل هرست)؛ وفي الخيانة يتغيّر المكان لكنه داخليّ مغلقٌ دائمًا (غرفة المعيشة، مطعم، غرفة في فندق)؛ وكذلك في الخادم الأخرس (قبو) والمسرحيّات الأخرى. ولذلك سُمّي مسرحُه بـ "مسرح الحجرة." وهذا الفضاء المغلق يرمز لدى بنتر إلى المكان الآمن ضدّ أخطار العالم أو ضدّ المجهول – لكنه مكانٌ آمنٌ جزئيّاً فقط، والحماية التي يقدّمها مؤقّتة: فالقدر قد يخلع الأبوابَ ويدمّر الحجرة. ذلك أنّ فلسفة بنتر تنحصر أساسًا في أننا نسير في هذا العالم على حافة هاويةٍ سحيقة لا قرارَ لها، محاصرون برعبٍ وتوتّرٍ لا نستطيع أن ندرك كنهَهما ولا أن نحْذر منهما أو نتحاشاهما. إنّ عالمنا يتهدّده خطرٌ دائمٌ سيؤدّي إلى المصير المحتوم. وليس من الأفضل أن نغلق البابَ في وجه هذا المصير لأنّ في استطاعته أن يقتحم هذه الأبواب، وبالتالي لا داعي لأن ننادي بالإصلاحات الاجتماعيّة والتعليميّة وغيرها لأنّ الرعب من هذا المصير في طريقه إلينا، بل يجتاح العالم الآن. فلا بأس، إذنْ، من بعض السخرية أو الكوميديا السوداء قبل أن يصل إلينا.

***

وفي ما يتعلّق بالحوار لدى بنتر، فهو بسيط وسلس، يُراعي فيه بنتر المستوياتِ اللغويّة حسب الشرائح الاجتماعيّة التي تنتمي إليها الشخصيّات. ولكنّ هذا الحوار يعتمد غالبًا تقنيّةَ التكرار: «آستون: كنتُ أشعر بأنني أرى الأمور واضحة جدّاً... كلّ شيء.. كلّ الأمور.. كانت تبدو لي واضحة. كلّ شيء كان يبدو لي هادئًا جدّاً. نعم. كان كلّ شيء هادئًا جدّاً.. كان كلّ شيء واضحًا جدّاً.»( )
وإضافةً إلى التكرار، هناك تفكّكُ الكلام، وغيابُ الصورة المتجانسة. إذ يكثر في الحوار الحذف، أو الجملُ التي نشعر بأنها ناقصة أو مبتورة. فهذا آستون في الحارس يتحدّث عن التجربة التي مرّ بها في المستشفى: «آستون: وعندئذ كان كبيرُ الأطبّاء قد وضع هذه الكمّاشة فجأةً على جمجمتي، وكنتُ أعرف أنه ليس من المفروض أن يفعل ذلك وأنا واقف، وهذا هو السبب في أنني... على أيّ حال، لقد فعل ذلك.»( )

والحوار يعتمد على الانتقال من نقطة إلى أخرى، من موضوع إلى آخر، ثم العودة إلى النقطة الأولى:

«آستون: على أيّة حال، كنّا جالسين هناك نتحادث... وفجأةً وضعتْ يدها فوق يدي.. وقالت: ما رأيك في أن ألقي نظرةً على جسمك؟
ديفز: لا تمزح.
آستون: قالتها بهذا الشكل، في وسط الحديث. بدا لي ذلك غريبًا.
ديفز: قلن الشيء نفسَه لي.
آستون: صحيح؟
ديفز: النساء؟ كم مرةٍ جاءتني إحداهنّ وطلبتْ مني الشيء نفسه تقريبًا!
آستون: لا. اسمك الآخر. اسمك الحقيقيّ. ما هو؟
ديفز: ديفز. مالك ديفز. هذا هو اسمي الحقيقيّ.»( )

5 - هارولد بنتر، الحارس، ترجمة عبد الحليم البشلاوي (القاهرة: مكتبة مصر، 1961)، ص 59.
6 - هارولد بنتر، الحارس، ص 104. الحارس، ص 104.

***

وتتميّز البنية الدراميّة لدى بنتر بأنها ليست بنية هرميّة، أيْ ذات بداية وذروة ونهاية/حلّ، وإنما هي بنيةٌ غير تقليديّة تبدو في الظاهر مفكّكة مضطربة. ومنطق بنتر في ذلك أنّ الحياة الواقعيّة لا تنتظم بشكل مرتّب، وهذا هو السر في بنية مسرحيّاته غير التقليديّة.
وهذه البنية الدراميّة أشبهُ بقالب الرابسودي الموسيقيّ (الحرّ)، وهو عكس قالب السيمفوني المنتظم. وفي هذه البنية الدراميّة تتناوب في المسرحيّة موجاتٌ من التوتّر الداخليّ تتكرّر وتتعارض، مثل التعارض بين النور والظلام أو المعرفة والجهل أو الضحك والخوف. وهذا يشبه إيقاعين متناقضين في الموسيقا.

***

يجنح بنتر إلى خلق جوّ من الغموض والإبهام، وإلى نهايات تنحو نحو الترميز العالي، حتى يحار المرءُ في إيجاد تفسير له. ففي مسرحية العودة إلى الوطن (1965)، تدور الأحداث في حيّ يقع شمالَ لندن، تقطنه شرائحُ من الطبقة العاملة. يعود تيدي، أستاذُ الفلسفة، إلى بيت عائلته بعد سنواتٍ في الولايات المتحدة تزوّج خلالها رُوث وأنجب ثلاثة أبناء. يتمّ التعارفُ بين أسرته وبين زوجته وأبنائه، وما نتوقّف عنده في نهاية المسرحية هو أنّ العودة عودتان: عودةُ روث إلى نفسها بفضل هذه الزيارة، وعودة تيدي لاحقًا إلى أمريكا بعد أن خاب أملُه في عودته الأولى إلى وطنه بصحبة زوجته. والمسرحيّة لا تحمل أيَّ حدثٍ حقيقيّ، بل جملة من المواقف والتطورات التي تعيشها الشخصيّات. ونتساءل هل يمكننا أن ننطلق من هنا لنصل إلى مستوى ترميز أكبر فنتحدث عن عودة إلى الديار على مستوى الذهنيّة الجماعيّة، مستوى العلاقة بين انجلترا وأميركا؟

ويبلغ الغموض حدَّه الأقصى في الخادم الأخرس التي نتعرّف فيها على بنْ، ومرؤوسه جسّ، العضوين في منظمة سريّة للاغتيالات. يدور الحدث في فضاءٍ مغلق (قبو بناء) في انتظار الأمر بتنفيذ العمليّة القادمة، ونجد بنْ وجسّ يقتلان الوقتَ في نقاش أمورٍ لا تبدو ذات أهميّة. وبين مخبئهما في القبو والدور العلويّ في البناء الذي يبدو أنه مطعم، تتحرّك عربةُ طعامٍ صعودًا ونزولاً. وثمة خادمٌ أخرس يضغط زرّاً فتنقل العربةُ إليهما رسائلَ وطلباتٍ بطعام غير متوفّر. ويلحّ جسّ في سؤال بنْ عن موعد العمليّة وعن شخصيّة الضحيّة، ولكنّ بنْ ينهره بوحشيّة. وقبيْل النهاية يتلقّى بن الأمرَ ونراه شاهرًا مسدّسه، وجسّ راكعًا أمامه وذراعاه إلى جنبيه وقد جُرّد من ثيابه وسلاحه.( ) هكذا يستمرّ الغموض حتى نهاية المسرحيّة، التي تثير الكثير من التساؤلات من دون أن تقدّم عنها إجابات.

وبنتر يخلق هذا الجوّ من الغموض والإبهام دائمًا، إذ إنه لا يريد من الجمهور أن يجلس مترقّبًا متوجّسًا ينتظر ما سيأتي في اللحظة التالية، وإنما يجعله مشدودًا إلى الحاضر، يفكّر فيه ويريد أن يعلّله، ويتساءل عما يحدث الآن، في هذه اللحظة التي نحن فيها، ليقول: "أنا لا أفهم شيئًا من هذا، ماذا يجري الآن؟" بدلاً من أن يقول: "أنا أعرف ما يجري الآن، فما الذي سيحدث بعد ذلك؟"

وفي مسرحيّة الخيانة تغلب النزعةُ التهكميّة، ويغوص الكاتبُ عميقًا في التحليل النفسيّ لشخصياته. لنجد خطّاً قاسيًا للرغبة والألم والأذى والحزن والحدّة والغضب، هو مزيج من مشاعر مضغوطة. والكاتب في هذه المسرحيّة ينتزع من عقول المتفرجين سؤال "ماذا بعد؟" ليُحلّ محلَّه سؤالاً أعمق حول "كيف ولماذا؟"؛ ذلك لأنّ السؤال في النصّ يتمحور حول سبب انقضاء الحب، وكيف تعايشت الشخصيّات مع الكذب والمراوغة والخطر المفاجئ والذعر وراء أقنعتها الحاذقة المهندسة بمهارة. فموضوع المسرحية ليس الجنس ولا الزنا، بل سياسة الخيانة، والخطر الذي مس كلّ المشاركين في لعبة الخيانة هذه.( )

***

إن المتأمل في مسرح هارولد بنتر سيجد أنها تحمل الكثير من السمات السابقة التي تحدّثنا عنها. كما أنها محمّلة بالرموز والإشارات الواضحة التي تدين الاضطهاد والعنصريّة والقمع والتسلّط بكافة أنواعه وأشكاله وأماكنه. ففي عام 1985 أسفرتْ رحلته إلى تركيا مع الكاتب المسرحيّ الأمريكيّ آرثر ميللر عن كتابته لنصّ لغة الجبل الذي تطرّق فيه إلى الاضطهاد الواقع على الأكراد. والرسائل المتبادلة بينه وبين ميللر تكشف تفاصيل الرحلة.

***

شغل بنتر الأوساط السياسيّة بمواقفه الصداميّة الجريئة. ولم يخش المرض والموت بعد إصابته بسرطان الحنجرة، فشارك في احتفاليّة الذكرى المئوية لولادة الكاتب المسرحيّ صموئيل بيكيت، وقدّم كممثل (رغم مرضه) مونودراما الشريط الأخير لكراب. وقد شغلت المواضيع الإشكاليّة التي عالجها (الاضطهاد والقمع وكبت الحريّات) أوساطًا مسرحيّة عديدة: فقدّمتْ فرقةُ «المسرح الحرّ» في روسيا البيضاء عرضًا مسرحيّاً بعنوان: أن تكون هارولد بنتر، وهو عبارة عن مشاهد من ستّ مسرحيّات لبنتر، مطعّمة بمقاطع من خطابه الشهير أمام الأكاديميّة السويديّة لدى تسلّمه جائزة نوبل 2005، والذي تكلّم فيه على الحروب الأمريكيّة منذ ما بعد الحرب العالميّة الثانية إلى اليوم، وانتقد بحدّة سياسةَ جورج بوش وطوني بلير اللذين قادا الحربَ على العراق. وهذا الموقف الأخلاقيّ جعله أحدَ أهمّ الوجوه المشرقة للثقافة الغربيّة وضميرها الحيّ بوقوفه ضدّ الفكر التوتاليتاري والحكومات التي تدّعي الديمقراطية ولكنها تستعمر الشعوب.

دمشق

***

مؤتمر صحفيّ
هارولد بنتر
ترجمة: خالد الجبيلي

الصحفي: سيّدي، قبل أن تصبح وزيرًا للثقافة، أعتقد أنك كنتَ رئيس الشرطة السرّيّة.
الوزير: هذا صحيح.
الصحفي: هل تجد أيّ تناقض بين هاتين الوظيفتين؟
الوزير: لا، أبدًا. عندما كنتُ رئيس الشرطة السريّة، كانت مسؤوليتي تتركّز بالتحديد على حماية تراثنا الثقافيّ وصونه من القوى الهدّامة. كنّا ندافع عن أنفسنا ضدّ الدودة. ولا نزال.
الصحفي: الدودة؟
الوزير: الدودة.

الصحفيّ: عندما كنتَ رئيس الشرطة السريّة، ماذا كانت سياستك تجاه الأطفال؟
الوزير: كنا نعتبر الأطفال تهديدًا إذا... كانوا أطفالاً ينتمون إلى أسَرٍ مخرّبة.
الصحفيّ: وكيف كنتم تطبّقون سياستكم عليهم؟
الوزير: كنا نختطفهم ونربيّهم تربية صالحة، أو كنا نقتلهم.
الصحفيّ: كيف كنتم تقتلونهم؟ ما الأسلوب الذي كنتم تتّبعونه؟
الوزير: كنا ندقّ رقابهم.
الصحفيّ: والنساء؟
الوزير: كنا نغتصبهنّ. كان كلّ ذلك جزءًا من عمليّة تربويّة، كما ترى. عمليّة ثقافيّة.

الصحفيّ: ما طبيعة الثقافة التي كنتم تقترحونها؟
الوزير: ثقافة تستند إلى الاحترام وسيادة القانون.
الصحفيّ: وكيف تفهمون دوركم الحاليّ كوزير للثقافة؟
الوزير: تلتزم وزارة الثقافة بالمبادئ ذاتها التي تحمي الأمن القوميّ. إننا نؤمن بفهم صحيّ، قويّ، ورقيق لتراثنا الثقافيّ والتزاماتنا الثقافيّة. وبشكل طبيعيّ، تشمل هذه الالتزامات الولاءَ للسوق الحرّة.
الصحفيّ: وماذا عن التنوع الثقافيّ؟
الوزير: إننا نلتزم بالتنوع الثقافيّ؛ إننا نؤمن بتبادل الآراء بصورة مرنة وقويّة. إننا نؤمن بالخصب.
الصحفيّ: وماذا عن المعارضة النقديّة؟
الوزير: المعارضة النقديّة مقبولة - إذا ما بقيتْ في البيت. نصيحتي هي: اتركْها في البيت. ضعها تحت السرير. مع وعاء البول.
(يضحك).

الوزير: (يتابع) أيْ في مكانها المناسب.
الصحفيّ: هل قلت وعاء البول؟
الوزير: سأضع رأسك في وعاء البول إنْ لم تكن حذرًا.
(يضحك. يضحكان).
الوزير: (يتابع) دعني أوضح فكرتي جيّدًا. إننا نحتاج إلى المعارضة النقديّة لأنها تجعلنا متأهّبين، متحفّزين، متيقّظين. لكننا لا نريد أن نراها في أسواق مدننا العظيمة أو شوارعها وميادينها. لا نريد أن نراها في أيّ مؤسّسة من مؤسّساتنا العظيمة. نكون غايةً في السعادة إذا ظلّت في البيت. وهذا يعني أننا نستطيع أن نمدّ رؤوسنا في أيّ وقت نشاء ونقرأ ما يقبع تحت السرير، ونناقشه مع الكاتب، نربّت على رأسه، نصافحه، وربما نركله ركلة بسيطة على مؤخّرته، أو على خصيتيه، ونضرم النار في المكان كلّه. وبهذه الطريقة نحمي مجتمعنا لكي لا تنتشر العدوى. لكنْ بالطبع، هناك دائماً غرفة الاعتراف، والانسحاب، والتوبة.

الصحفيّ: إذن أنت ترى أنّ دورك كوزير للثقافة حيويّ ومثمر؟
الوزير: مثمر جدّاً. إننا نؤمن بطيبة جاك* الفطريّة وطيبة جيل الفطريّة. هذا ما نريد حمايته. نريد أن نحمي الطيبة الأساسيّة في جاك العاديّ وجيل العاديّة. إننا نفهم ذلك على أنه التزامٌ أخلاقيّ. إننا عازمون على حمايتهم من الفساد والتخريب بكلّ ما لدينا من وسائل.
الصحفيّ: سعادة الوزير، أشكرك على كلماتك الصريحة.
الوزير: هذا من دواعي سروري. هل أستطيع أن أقول لك شيئًا آخر؟
الصحفيّ: أرجوك تفضّل. نعم أرجوك. نعم!
الوزير: حسب فلسفتنا... المفقود موجود. شكرًا لك!
تصفيق. الوزير يلوّح بيده ويخرج.
(تطفأ الأنوار).

* جاك وجيل: أنشودة مقفّاة للأطفال.

أصواتُ أسْرة
هارولد بنتر
ترجمة: خالد الجبيلي

الصوت الأول: إني أمضي وقتًا سعيدًا جدّاً.
الطقس متقلّب، لكنه دافئ على نحوٍ مدهشٍ في معظم الأحيان.
أرجو أن تكوني بصحّة جيّدة، وألاّ تكوني متوعّكة كما رأيتكِ في آخر مرة. لا، لم تكوني متوعّكة، بل كنتِ على خير ما يرام. ببساطة، كنتِ تبدين نحيلة.
هل اشتقتِ إليّ؟
إني أمضي وقتًا جميلاً، وأرجو أن تكوني سعيدةً لسماع ذلك.
في هذه اللحظة أنا ثمل جدّاً. فلقد احتسيتُ خمسة باينتات في حانة فيش مونغر آرمز هذه الليلة، وأتبعتُها بثلاث كؤوس مزدوجة من الويسكي، وعدت مترنّحًا إلى البيت.

عندما أقول البيت، فإني أستطيع أن أطمئنك بأنّ الغرفة التي أقيم فيها جميلة جدّاً، وكذلك هو الحمّام. إنه رائع. إني أجد متعةً حقيقيةً في الحمّام، شأن جميع من في البيت. فهم جميعهم يستلقون عراةً تمامًا في حوض الحمّام ويحصلون على حمّام رائع. جميع من في البيت يتحدثون عن روعة الاستحمام والحمّام الذي نتقاسمه جميعًا. يقولون لكلّ من يلتقونه "ما أروع الاستحمام في هذا المكان، إنه مكان لا يكاد يوازيه مكان آخر، لا مثيل له." إنهم يقولون ذلك بصراحة شديدة. وإنّ لهذا علاقةً بصاحبة البيت، السيّدة ويثرز. لقد تبيّن لي أنها امرأة فاتنة، تأخذ بمجامع القلب.
بالطبع كنت أمزح عندما قلت إنني كنت ثملاً. أراهن أنكِ ضحكتِ.
أمّي؟ هل فهمتِ النكتة؟ إنكِ تعرفين أنني لا ألمس المشروبات الكحوليّة قط.
أحبّ أن أعيش في هذه المدينة الكبيرة وحيدًا. أتوقّع أن أتّخذ لي أصدقاء لي قريبًا.

أتوقّع أن أتّخذ صديقاتٍ أيضًا. أتوقّع أن ألتقي فتاة لطيفة جدّاً. عندما ألتقيها، سأحضرها إلى البيت لتلتقي أمّي.
أحبّ أن أمشي في هذه المدينة الضخمة، وحيدًا. من الممتع ألاّ أعرف أحدًا على الإطلاق. عندما أمرّ بجانب الناس في الشارع، أراهم لا يدركون أنني لا أعرفهم منذ أن خُلق آدم. إنهم يعرفون أناسًا آخرين، بل يعرفهم عددٌ أكبر من الأشخاص، ولذلك فمن الطبيعيّ أن يظنّوا أنني رغم أني لا أعرفهم فإني أعرف الآخرين. لذلك فهم ينظرون إليّ، يحاولون أن يلفتوا انتباهي، يتوقّعون مني أن أتكلّم. لكنْ، لأني لا أعرفهم، فإني لا أتكلّم. ولا أشعر بأدنى رغبةٍ في أن أفعل ذلك.
كما ترين يا أمّي، فإني لست وحيدًا، لأن كلّ ما حدث لي هو معي، يرافقني؛ طفولتي مثلاً، التي وجّهتماني أنتِ، يا أمّي، وهو، أبي، لتجاوزها.
أنا على علاقة طيّبة بصاحبة البيت الذي أقطنه، السيّدة ويثرز. تقول لي إنني عزاؤها. أتناول كأسًا معها عند الغداء، وأخرى بعد الظهر، وفي المساء، أرافقها لتناول كأسين في حانة فيش مونغر آرمز.

كانت تعمل في سلاح الجو النسائيّ في الحرب العالميّة الثانية. لا تذْكرْ هذا الأمر التافه يا تشارلي، كانت تحب أن تقول، خاطبه بعبارة "السارجنت في سلاح الجوّ" وعندها سيشعر بالسعادة مثلَ خنزيرٍ يلوغ في الغائط.
إني واثق بأنكِ ستحبينها، يا أمّي.
أظن أنّ الفجر قد بزغ الآن. أستطيع أن أراه وهو يبزغ. إنه يوم آخر. يوم أرحّب به بحرارة. وبهذه الكلمات سأنهي هذه الرسالة الموجّهة إليكِ، يا أمّي العزيزة، مع حبّي.
الصوت الثاني: حبيبي. أين أنت؟ الأزهار رائعة هنا. براعم الورود بدأتْ تتفتح. كم كنت تحبّها! لماذا لا تكتب إليّ؟ أفكّر بكَ وأتساءل باستمرار عن صحّتك. هل تفكّر بي، أنا أمّك؟ أبدًا؟ مطلقًا؟ هل غيّرتَ عنوانك؟ هل اتّخذتَ لك صديقًا؟ شابّاً لطيفًا؟ أو فتاةً رقيقة؟ هناك الكثير من الفتيان والفتيات الطيبين. لكنْ أرجوك ألاّ تخالط النوع الآخر؛ فمن الممكن أن يورّطنك في مشاكل فظيعة. إنك ستكره ذلك كثيرًا؛ فأنت ذو ضمير حيّ، خاصّ جدّاً.

غالبًا ما يخيّل إليّ أنني سأعيش سعيدةً في المستقبل معك ومع زوجتك الشابّة. لا بدّ أنها ستكون زوجة رائعة لك وسأتناول العشاء معكما من حين إلى آخر: العشاء الذي سيسعدني كثيرًا أنْ أعدّه لكما بنفسي، إذا كنتما مرهقيْن بعد يومكما، وإني واثقة بأنكما ستكونان كذلك.
في بعض الأحيان، أمشي في الدرب المؤدّي إلى الجرف الصخريّ وأتذكّرك. أتذكّر تلك الأوقات عندما كنا نتمشّى في هذا الدرب مع أبيك، نحمل سندويتشات الجبن. أليس كذلك؟ كنتما تجلسان فوق قمّة الجرف الصخريّ وتأكلان سندويتشات الجبن التي كنتُ قد جهّزتها لكما. هل تتذكّر النكتة الصغيرة التي كنا نقولها؟ امضغ، امضغ. لقد استمتعنا كثيرًا، كان أبوك يقول. فأقول له إنك تقصد – أنكما مضغتما جيّدًا. وكنتما تضحكان.
عزيزي. لقد اشتقتُ إليكَ. لقد أنجبتك. أين أنت؟ كنتُ قد كتبتُ لك رسالة منذ ثلاثة أشهر، أخبرتكَ فيها أنّ أباك مات. هل وصلتك رسالتي؟

الصوت الأول: لستُ واثقًا تمامًا بأني أحبّ كلّ مَن يقيم في هذا البيت، باستثناء السيّدة ويثرز وابنتها، جين، جين التلميذة التي تؤدّي واجباتها المدرسيّة بجدّ كبير. إنها تنكبّ على أداء واجباتها المدرسيّة باهتمام شديد، وذلك يثير إعجابي كثيرًا. لم يعد الكثيرون يفعلون ذلك في هذه الأيام. لكني لا أثق كثيرًا بالأشخاص الآخرين في هذا البيت.
أحدهم رجل عجوز، أحيل على التقاعد في سنّ مبكّرة، أصلع. والآخر امرأة ترتدي رداءً أحمر. والشخص الآخر رجل آخر، ضخم، أضخم بكثير من الرجل الآخر، شعره أسود. وله حاجبان أسودان، وقد نما شعرٌ أسود على قفا يديه.
أسأل السيّدة ويثرز عنهم لكنها ترفض أن تتحدّث عن أيّ شيء إلاّ عن الأيّام التي خدمتْ فيها في سلاح الجوّ النسائيّ في الحرب العالميّة الثانية.
قلتُ في نفسي إنّ جين ليست ابنة السيّدة ويثرز، بل حفيدتها. فالسيّدة ويثرز في السبعين من عمرها، بينما جين في الخامسة عشرة. إنّي مقتنع بأنّ هذه هي الحقيقة.

في الليل، أسمع همساتٍ تنبعث من الغرف الأخرى، لكني لا أفهمها. أسمع وقعَ خطواتٍ على الدرج، لكني لا أجرؤ على الخروج من غرفتي لاستطلاع الأمر.
الصوت الثاني: عندما أصبح أبوك على فراش الموت أخذ يتحدّث عنكَ أكثر وأكثر، برقّةٍ وانشداه. كنتُ أواسيه بفكرةِ أنك غادرتَ البيت لكي يصبح فخورًا بك. يخيّل إليّ أنني نجحتُ في ذلك. كانت إحدى العبارات الأخيرة التي قالها: "اصفعيه على ظهره بالنيابة عني. اصفعيه على ظهره بالنيابة عني."
الصوت الأول: توصّلتُ إلى اكتشافٍ رائع. فالرجل العجوز الأصلع الذي أحيل على التقاعد مبكّرًا يدعى ويثرز. بينجامين ويثرز. إنْ لم يكن ذلك مجرّد مصادفة، فلا بدّ أنْ يعني ذلك أنه أحد أقاربها.
سألتُ السيّدة ويثرز عن حقيقة ذلك. صبّت لنفسها كأسًا من الجين، ونظرتْ إليها قبل أن تحتسيها. ثم نظرتْ إليّ وقالت: "إنكَ قطّتي الصغيرة المدلّلة. كنتُ أرغب دائماً في أن أقتني قطّة صغيرة مدلّلة، لكني لم أقتنِ واحدة من قبل. وأما الآن فقد أصبح لديّ واحدة."
أحيانًا، تضمّني إليها وتحضنني، كما لو كانت أمّي. لكنّي لم أنس أنّ لديّ أمّاً وأنك أمّي.

الصوت الثاني: أحيانًا أتساءل إنْ كنت تتذكّر أنّ لديك أمّاً.
الصوت الأول: لقد حدث شيء. فقد أوقفتني المرأة التي ترتدي رداءً أحمر ودعتني إلى غرفتها لتناول كوبٍ من الشاي. دخلتُ غرفتها. كانت الغرفة أكبرَ بكثير مما كنتُ أتوقّع، وفيها أرائكُ وستائرُ وأحجبةٌ وبسطٌ وأقمشةٌ ناعمة تغطّي جدرانها جميعها، زرقاء داكنة. كانت جين تجلس على أريكة، وكانت منهمكةً في أداء واجباتها المدرسيّة، كما يبدو. دُعيتُ إلى الجلوس على الأريكة ذاتها. كان الشاي قد أُعِّد وأصبح جاهزًا في طقم شايٍ خزفيٍّ ذي تصاميم رائعة. قُدِّم إليّ الكوبُ. وقُدّم كذلك إلى جين التي راحت تبتسم لي. لم أقدّمْ نفسي. قالت المرأة: "اسمي السيّدة ويثرز." أخذتْ جين ترشف من كوب الشاي وساقاها ممدودتان فوق الأريكة. أرختْ فوق فخذي أصابعَ قدميها التي يكسوها جوربٌ نسائي. لم تكن أكبر أريكة في العالم. جلست السيّدة ويثرز قبالتنا على أريكة أكبر بكثير. وعندها تبيّن لي أنّ رداءها لم يكن أحمر، بل ورديٌّ. أما جين فكانت ترتدي ثوبًا أخضر، ما عدا أصابع قدميها، المكسوّة بجوربٍ أسود. سألتني السيّدة ويثرز عنكِ، يا أمّي. سألتني عن أمّي. قلتُ، بقناعة مطلقة، إنكِ أفضلُ أمّ في الدنيا. طلبتْ مني أن أدعوها لالي، وأن أدعو جين جين. قلت لها إنني أدعو جين جين. قدّمتْ لي جين كعكة. أظن أنها كانت كعكة. قضمت السيّدة ويثرز من كعكتها. قضمتْ جين كعكتَها، وأصابعُ قدميْها مستلقية على حضني الآن. بدا لي أنّ السيدة ويثرز تتمتّع بتناول كعكتها وهي على أريكتها. أنهتها والتقطتْ أخرى. لم أر في حياتي هذا العدد من الكعك. بإلقاء نظرة سريعة، رأيت أنّ هناك أطباقاً عديدةً من الكعك في الغرفة. أنهت السيّدة ويثرز كعكتها الثانية دون أيّ عناء، وراحت تلتهم أخرى على الفور. أما جين، فقد كانت تقضم كعكتها. بدا أنها كانت حالمة عندما التصقتْ حبّةُ زبيب فوق شفتها العليا، فلعقتها بسرعة كبيرة. لم أستطع أن أوفّق بين ذلك وبين أصابع قدميها التي لم تكن تتوقّف عن الحركة، بل كانت في حالة من الهياج. كان فمُها الذي يأكل ساكنًا، هادئًا، بينما كانت أصابعُ قدميها، التي لم تكن تأكل، قلقةً ومهتاجةً وشديدةَ التوتر، بل هستيريّة كما يقول البعض. تبيّن لي أنّ الكعكة التي أتناولها قاسية جدّاً. قضمتُ منها قضمة، لكنها قفزتْ من فمي ووثبتْ إلى حضني. أمسكتْها قدما جين. خفّ اهتزازُ أصابع قدميها. قذفت الكعكة كما يفعل الحاوي، بشيء من الخبرة.

تذكّرتُ أنها كانت قد أخبرتني في حديثٍ دار بيننا من قبل أنها تريد أن تصبح لاعبة بهلوانيّة.
الصوت الثاني: عزيزي. أين أنت؟ لماذا لا تكتب لي أبدًا؟ لا أحد يعرف مكانك. لا أحد يعرف إنْ كنتَ حيّاً أو ميتًا. لا أحد يستطيع أن يجدك. هل غيّرتَ اسمك؟
إنْ كنت حيّاً فأنت وحش. لقد لعنك أبوك وهو على فراش الموت. والحقّ أقول إنه لعنني أنا أيضًا. لعن كلّ منْ وقعت عيناه عليه... إلا أنتَ لأنك لم تكن في دائرة رؤيته. لا ألوم أباك تمامًا لاستيائه وتكدّره منك، لكنّ غيابك وصمتك شكّلا عبئًا كبيرًا عليه، عناءً شديدًا. لقد مات ممتعضًا وهو يجدّف. أكانت هذه هي رغبتك؟ الآن، أصبحتُ أعيش وحيدة، ما عدا ميلي التي تأتي بين الحين والآخر من دوفر. إنها تقدّم لي شيئًا من العزاء. عيناها تغرورقان بالدموع عندما تتحدّث عنك، عينا أختك الغالية تغرورقان بالدموع. إنها تعيش حياة زوجيّة سعيدة، ولديها صبيّ صغير رائع. عندما يكبر يريد أن يعرف أين خاله. فماذا سنقول؟

أو لعلّك ستأتي إلى هنا فجأة بسيّارة جديدة جميلة، يومًا ما، ليس في المستقبل البعيد، وأنت ترتدي بذلة جديدة أنيقة، وتضمّني بين ذراعيك.
الصوت الأول: نهضت السيّدة ويثرز . وبينما كانت جين منهمكةً في أداء واجباتها المدرسية، قالت: "لعلّك تريد أن تغادر الآن، وتأتي في يوم آخر." سحبتْ جين قدميها، وعلقتْ كعكتي بين أصبعيْ قدميها الكبيرتين. نعم، طبعًا، قلت، إلاّ إذا كانت جين تريد أن أساعدها في واجباتها المدرسيّة. لا شكرًا، قالت السيدة ويثرز، سأساعدها أنا في واجباتها المدرسيّة.
ما لم أقله هو ـ أظنّ أنني قدّمتُ نفسي بأني مدرّسٌ خصوصيّ ـ أنه يخيّل إليّ أنني مدّرس ممتاز للشابّة الصغيرة، في جميع الموضوعات. ستكون جين تلميذة مثاليّة. إنها مغرمة حقّاً بالتعلّم. هذا هو الإحساس الذي يحصل عليه المرءُ من كلّ نَفَسٍِ من أنفاسها، كلِّ تنهيدةٍ وكلِّ زفرةٍ تطلقها. عندما توجّه عينيها نحوك، فإنك ترى داخلهما معرفة بدائيّة، ساذجة، غير مدرّبة؛ لكنك ترى أيضًا حبّاً عميقًا للتعلّم.
هذه هي أفكار منتصف الليل يا أمّي، مع أنّ الساعة الآن العاشرة وثلاث وعشرون دقيقة تمامًا.
الصوت الثاني: عزيزي؟

الصوت الأول: عندما كنتُ مستلقيًا في حوض الحمّام بعد ظهر اليوم، أفكّر في هذه الأمور، بدا لي أني سمعتُ قرعًا على الباب الأماميّ. أظنّ أنّ الرجل ذا الشعر الأسود هو الذي فتح الباب. كانت هناك امرأتان تقفان عند المدخل. قالتا إنهما أمّي وأختي، وسألتا عني. أَنكرَ أنه يعرفني. لا، إنه لم يسمع بي. لا، لا يوجد أحد في هذا البيت يحمل هذا الاسم. هذا بيتُ أسْرة، ولا ترغب في أن يدخل غرباءُ إليه. لا، إنهم يعيشون بانسجام، شكرًا جزيلاً، بدون متطفّلين. أظنّ أنه طلب إليكما أن تعودا من حيث أتيتما، وأن تتوقّفا عن مضايقة الناس الكادحين الأبرياء بافتراءاتكما وأكاذيبكما وجميع الزوائد المتوقّعة للعقل المنحرف الذي بلغ منتهاه وانقطعتْ به الحيل. "يمكنني أن أشمّ نوعكما من مسافة ميل، ويمكنني أن أوجّه إليكما تهمة الإساءة والسلوك المهين والتشرّد؛ بمعنى آخر، إنكما تجولان وتتنقلان من بيت إلى بيت، بمعرفة مسبّقة، من دون أيّ وسيلة دعم مرئيّة. لذلك انصرفا من هنا قبل أن أستدعي شرطيّاً."
كنتُ مستلقيًا في حوض الحمّام عندما فُتح الباب. ظننتُ أني كنتُ قد أقفلتُه. قال اسمي رايلي، كيف هو الحمّام؟ قلت رائع. قال إنك قويّ البنية وجسدك رشيق. خُيّل إليّ أنك هزيل، ولم أتخيّل أنك قويّ البنية ورشيق كما أراك الآن. قلت له شكرًا. قال لا تشكرْني، يجب أن تشكر الله، أو أشكر أمّك. لقد طردتُ الآن محتالتين كانتا تقفان عند الباب. ستأتينا مشاكلُ كثيرةٌ في هذا الحيّ. ثم جلس على حافة حوض الحمّام وحكى لي ما حكيتُه لكِ.
ما يثير اهتمامي أنّ أبي لم يتجشّم عناء الرحلة.

الصوت الثاني: أسمع وقعَ خطوات أبيك على الدرجات. أسمع صوتَ سعاله. لكنّ وقعَ خطواته وصوتَ سعاله يتلاشيان. لا يفتح الباب.
يخيّل إليّ أحيانًا أنني أجلس دائمًا هكذا. أظن أنني أجلس أحيانًا هكذا، وحدي بجانب موقد تتّقد فيه نارٌ غير حامية، والستائر مسْدلة، في ليلة شتويّة.
كما ترى، توجد لديّ أفكاري أيضًا. أفكارٌ لا يعرف أحد أنها تخطر لي، أفكار لا يعرف أحدٌ من عائلتي أنني أفكّر فيها. لكنّي أكتب لك عنها الآن، أينما كنتَ. إني أقصد عندما كنتُ أغسل لك شعركَ مثلاً، بأرقّ أنواع الشامبو، ثم أجفّفه بلطفٍ بمنشفةٍ ناعمة، ولم تكن تندّ عنك أيُّ همهمة تنمّ عن ضيق أو تذمّر، ثم نظرتُ في عينيك، ورأيتكَ تنظر في عينيّ، وعرفتُ أنك لم تكن تريد أحدًا آخر، لا أحد على الإطلاق. أعرف أنكَ كنتَ سعيدًا تمامًا بين ذراعيّ، وأعرف أيضًا، مثلاً، أنني كنت أجلس بالقرب من موقدٍ تتّقد فيه نار هادئة، وحدي في الشتاء، في ليلة أبديّة بدونك...

الصوت الأول: السيّدة ويثرز تعزف البيانو. كانت هناك ثلاثُ نساء يجلسن في الغرفة، الغرفة التي كانت توجد فيها قناني نبيذ ورديّ لن أنساها أبدًا. كنّ يرشفن نبيذَهنّ بهذه الكؤوس الرائعة. كنّ يقمن بحركات وإيماءات أنيقة، وبكياسة كنتُ أظنّ أنها اندثرتْ منذ زمنٍ بعيد. كانت السيّدة ويثرز تضع قلادةً حول عنقها المرمريّ، عنقِ امرأةٍ شابّةٍ على نحو مدهش. كانت تعزف مقطوعاتٍ لشومان. ابتسمتْ لي. السيّدة ويثرز وجين ابتسمتا لي. اتّخذتُ مقعدًا. جلستُ عليه. وأنا عليه. لن أغادره مطلقًا.
أمّي، لقد وجدتُ بيتي، أسرتي. لم أكن أحلم بأني أعرف مثلَ هذه السعادة.
الصوت الثاني: ربما كان عليّ أن أنسى كلّ ما يتعلّق بك. ربما كان عليّ أن ألعنك كما كان يفعل أبوك. أوه، إني أتضرّع إلى الله، أتضرّع أن تصبح حياتُكَ عذابًا لك. إني أنتظر رسالة منك ترجوني أن آتي إليك. سأبصق عليها.
الصوت الأول: أمّي، أمّي، لقد تعرّضتُ لأسوإ مواجهة وأكثرها حيرة، مع الرجل الذي يطلق على نفسه اسم السيّد ويثرز. هل لديك نصيحة لي؟
ادخلْ يا بنيّ، ناداني. كان ينظر بحدّة. لا تعبثْ.

لم يكن لديّ الوقت لكي أنتظر طوال الليل. دخلتُ. دورق. حوض. درّاجة.
أتعرف أين أنت؟ قال. أنت في غرفتي. إنها ليست محطة إيستون. هل فهمتني؟ إنها واحة حقيقيّة. إنها الغرفة الوحيدة في هذا البيت التي يمكنك أن تختار فيها خانًا للمسافرين المتّجهين إلى جميع الجهات نحو الغرب. أفهمت؟ هل أنت مستعدّ لتتبعني إلى سفح الجبل؟ انظرْ إليّ. اسمي ويثرز. أنا هنا أو هناك. هل ستتبعني؟ يُمنع استخدامُ جميع المصطلحات التي لا فائدة منها. معي؟ يُمنع استخدام جميع الأشياء المكرّرة والزائدة عن الحاجة. جميع المناطق في ذلك الاتجاه ممنوعة. إنك في أرض موبوءة بالأمراض. إنك ملاكم. ركّزْ وزنكَ في قدمك اليسرى التي تستطيع أن تضع يديك فوقها. لا تتوقّفْ عن الرقص. إنّ رقصة الفوكستروت القديمة هي الردّ الكلاسيكيّ لكنها ليست الردّ الذي أتحدّثُ عنه. كما أنني لا أتحدّث عن الردّ الآخر. في الطابق الأعلى هناك الرقيق. اتبعني؟ هذا المكان يضمّ مخلوقات، فوق الدرج وأسفله. مخلوقات ذات إيقاعات متصدّعة، إيقاعات منحرفة، شراب الروم والروليت، معكرونة، فطائر مربّى بالمايونيز، تقذف قاذورات متداعية، أمتعة شخصيّة لا نهاية لها. اتبعني؟ لكلّ ذلك معنى. إنها أمامك وخلفك. إني المنقذ الوحيد للنعمة التي تجد أنها تنقصك. انتبهْ وأنت تسير. أنظر جيّدًا. افهم ما أقوله؟ لا تدعه يتعفّن كثيرًا. انظرْ إلى العفن. المسْه يا بنيّ.. لاحظْ كثافته. انظرْ إليّ.

وهكذا فعلتُ.
الصوت الثاني: أنا مريضة.
الصوت الأول: كأنك تنظرين في حفرة مليئة بالحمم المصهورة، يا أمّاه. نظرة واحدة تكفيني.
الصوت الثاني: تعال إليّ.
الصوت الأول: انضممتُ إلى السيّدة ويثرز في المطبخ لاحتساء كأس من الكامباري والصودا. راحت تتكلّم على أيّام صباها. قالت: كنتُ فتاةً يشتهيها الجميع. كنتُ مثل فطيرة أجّاص. كانوا يأتون من أميال عديدة ليجرّبوا حظّهم معي. وقعتُ في غرام رجلٍ يعمل في الأسطول الجويّ. عشقني. قتلوه لأنهم لم يكونوا يريدون أن نذوق طعمَ السعادة. كان من الممكن أن أتزوّجه وأن أنجب أطنانًا من الأبناء. لكنْ لا. فقد غرقتْ سفينتُه. سمعتُ ذلك بالراديو.
الصوت الثاني: إني أنتظرك.

الصوت الأول: في وقت متأخّر من تلك الليلة، احتسينا، أنا ورايلي، كوبًا من الكاكاو في غرفته. أحبُّ الفتيان الرشيقين، قال رايلي. رشيقون لكنْ أقوياء. إني لا أخفي ذلك ولا أجعل منه سرّاً. لكنْ يجب أن أكبح نفسي، يجب أن لا أطلق العنان لرغباتي. لأنّ الدين يجري في أعماقي. أنا رجل متديّن جدّاً، ويمكنك أن تتخيّل التوتّر الذي يحْدثه ذلك داخل روحي. إني أسير وأنا في حالة مستمرّة من التوتّر الروحيّ والعاطفيّ والنفسيّ والجسديّ. إنه أمر مدهش، ذلك الانضباط الذي أمارسه على نفسي. شهوتي متأجّجة إلى درجة لا يمكن تصوّرُها، لكنها تجري عكسَ ما أرغب، وهي أني يجب أن أبقى قريبَا من الله. وكما ترى، فأنا رجل ضخم الجثة، ويمكنني أن أسحق فتىً مثلك حتى الموت، أعني الموت الذي هو الحبّ، الموت الذي أفهم أنه يجب أن يكون الحبّ. لكني أُبقي تلك الرغبات مقيّدةً بالأصفاد والجنازير التي تكبّل الساقين. إني أجيد هذا النوعَ من الأشياء لأني أعمل شرطيّاً. ويكنّ لي الجميعُ احترامًا شديدًا. يكنّ لي جميعُ من هم في سلك الشرطة وفي الكنيسة احترامًا شديدًا. المكان الوحيد الذي لا يكنّ لي فيه أحدٌ أيَّ احترام هو في هذا البيت. لا أحد يأبه بي هنا على الإطلاق، مع أني شديدُ القرابة إليهم. نوعًا ما. إني أغنّي، لكنهم لا يدعونني أغنّي أبدًا. لعلّي أعيش وسط الصحراء الكبرى. في هذا البيت، يوجد الكثير من النساء، وهنا تكمن المشكلة. لا فائدة من التكلّم مع بالدي. إنه بعيد. إنه يعيش في منطقة أخرى، لا يعرفها أحد سواه. أحبّ الصحة والقوّة والأحاديث الذكيّة. وهذا ما جعلك تروق لي، بالإضافة إلى أنني بدأتُ أميل إليك. لا يوجد لديّ أحد أكلمه. تلك النسوة يعاملنني كشخصٍ مصابٍ بالجذام. مع أنني واحد من أقربائهنّ. نوعًا ما.

ما نوع القرابة ؟ هل السيّدة ويثرز هي أمّ جين أمْ أختها؟ في جميع الأحوال، لماذا لا تُدعى جين السيّدة جين ويثرز؟ أو ربما كانت كذلك. أو ربمالم يكن الأمر هكذا في أيّ من الحالين؟ أو ربما كانت السيّدة ويثرز هي فخامة السيّدة ويثرز؟ لكنْ إذا كان الأمر كذلك، فماذا يجعل ذلك من السيّد ويثرز؟ وأيّ ويثرز هو على أيّة حال؟ أقصد ما هي درجة قرابته إلى أفراد عائلة ويثرز الآخرين؟ ومن هو رايلي؟

لكنْ إذا وجدتني حائرًا، قلقًا، مشوّشًا، مرتابًا، خائفًا، فإنك تجدني راضيًا أيضًا. حياتي تكتسب شكلاً. تشيع في البيت أجواءً غايةً في الدفء، ولا ريب أنك لاحظت ذلك. ولا ريب أنك لاحظتَ من طريقة كلامي أنني أتكلّم بحريّة مع جميع النزلاء في هذا البيت، ما عدا السيّد ويثرز، الذي لا يكلّمه أحد، ولا يأتي أحد على ذكره، لسبب واضح جدّاً. لكني نادرًا ما أغادر البيت. يبدو أنْ لا أحد يغادر البيت. رايلي يغادر البيت، لكنْ نادرًا. لا بدّ أنه شرطيّ سرّيّ. لا تزال جين منهمكة في كتابة واجباتها المدرسيّة مع أنه يبدو أنها لا تذهب إلى أيّ مدرسة. ولا تغادر السيّدة ويثرز البيت مطلقًا. لديها زوّار. إنها تستقبل ضيوفًا. تلك هي الخطوات التي أسمع وقعها على الدرجات في الليل.
الصوت الثالث: أعرف أن أمّك قد كتبتْ لك تخبرك أني متّ. لا، لم أمتْ. إني أبعد ما أكون عن الموت، مع أنّ الكثيرين يتمنّون موتي، منذ الأزل، وخاصةً أنت. أنتَ من كنتَ تتضرّع لكي أموت، منذ الأزل. كنتُ أسمع صلواتك. إنها تقْرع في أذنيّ. تصلّي متمنّيًا موتي. لكني لستُ ميتًا. حسنًا، هذا ليس صحيحًا تمامًا، ليس الأمر هكذا تمامًا. إني أكذب. إني أضلّلك، أهزأ بك، أمازحك. هكذا هو الأمر. لأني ميت. ميت كمسمار. أكتب إليك من قبري. كلمة سريعة كرمى لأيامنا الماضية، لكي نبقى على اتصال. كلمة ترحيب قديمة من الظلام. قبلة أخيرة من أبيك.

لعلّي سأتوقّف هنا بعد كلّ هذا. لم يعد لديّ ما أقوله... لماذا أتجشّم كلّ هذا العناء؟ بسببك، على ما أظنّ، لأنك كنتَ ابنًا محبّاً. إني أبتسم وأنا أرقد في هذا القبر الزجاجيّ.
هل تعرف لماذا استخدم كلمة "زجاجيّ"؟ لأني أستطيع أن أرى من خلاله.
الكثير من الحبّ، يا بنيّ. واصلْ عملك الجيّد.
لكي أكون صريحًا معك، ثمة شيء واحد يزعجني. ففي حين يخيّم صمتٌ مطبقٌ في كلّ مكان، صمتٌ مطبقٌ على مدى ساعات طويلة، فإني لا أزال أسمع نباح كلب بين الحين والآخر. إني أسمع هذا الكلب. يا إلهي، إنه يخيفني.
الصوت الأول: قرّروا أن يطلقوا عليّ اسمًا. أخذوا يدعونني بوبو. يقولون صباح الخير يا بوبو، أو نراك في الصباح يا بوبو، أو انتبه، لا تدع خصيتيك تقعان يا بوبو، أو لا تنسَ طيرك يا بوبو، أو انتبهْ للكرة يا بوبو، أو سر على هذا الجانب من سكة الترام يا بوبو، أو كيف هو الرصاص في قلمك الرصاص يا بوبو، أو ما هي أسرار الصنعة يا بوبو، أو لا تضع الكثير من الصمغ في حذائك الطويل يا بوبو.
الرجل العجوز هو الشخص الوحيد الذي لا يطلق عليّ اسمَ بوبو. إنه لا يدعوني بأيّ اسم. وأنا لا أدعوه بأيّ اسم. لا أراه. إنه يقبع في غرفته. لا أقترب منها. إنه عجوز وسيموت قريبًا.

الصوت الثاني: الشرطة تبحث عنك. لعلك تتذكّر أنك لا تزال دون الحادية والعشرين من العمر. لقد وزّعوا أوصافك بالتفصيل على جميع الجهات. أكّدوا لي أنه لن يقرّ لهم قرار إلاّ بعد أن يعثروا عليك. قلت لهم إني أعتقد أنك وقعت في أيدي مجرمين يستخدمونك كمومس ذكر. صرّحتُ في الشهادة الخطيّة التي قدّمتها لهم بأنك لا تمتلك قوة شخصية على الإطلاق، وربما تعرّضتَ لأشدّ أشكال التملّق والمداهنة. إن النساء سبب سقوطك، حتى عندما كنتَ طفلاً. لا أنسى فرانسيس، الجارية الفرنسيّة، أو المرأة التي تنكّرت بأنها مربية، والآنسة كارميكل ذات السمعة السيئة. إنهم سيعثرون عليك، يا بنيّ، ولن يُظهروا لك أدنى رحمة.

الصوت الأول: سأعود إليك يا أمّي، لأضمك بين ذراعي.
إني عائد إلى البيت.
سآتي أيضًا لأضع يدي على كتف أبي. أين أبي؟ إني مشتاق للتحدّث إليه. أين هو؟ لقد بحثت عنه في جميع الأماكن التي يرتادها، بما في ذلك المنزل الصيفيّ القديم، لكني لم أجده. لا تقولي لي إنه غادر البيت في هذا العمر؟ فلن تكون هذه البادرة جيدة منه. ماذا فعلت له يا أمي؟
الصوت الثاني:سأقول لك شيئًا يا عزيزي. لقد يئستُ منك. أخبرْني شيئًا أخيرًا واحدًا. هل تظنّ أن كلمة "حبّ" تعني شيئًا؟
الصوت الأول: إني عائد إليك. إني على وشك أن أنطلق في رحلة العودة إليك. ماذا ستقولين لي؟
الصوت الثالث: لديّ أشياء كثيرة أريد أن أقولها لك. لكنني ميت الآن. ما أريد أن أقوله لك لم يعد من الممكن قوله الآن.

قصيدتان

1 ـ قنابل

لم تعد ثمة كلماتٌ أخرى تقال؛
فلم يبق هناك سوى قنابل
تنفجر من رؤوسنا.
لم يبق هناك سوى قنابل
تمتصّ آخر نقطةٍ من دمائنا.
لم يبق هناك سوى قنابل
تصقل جماجمَ الموتى.

شباط/فبراير 2003

2 ـ الديمقراطية

لا مفرّ.
لقد انطلقت الأيورُ الكبيرة،
لتنكحَ كلَّ شيء تراه.
انتبهْ لمؤخّرتك.

آذار/ مارس 2003
عن مجلة الآداب العدد 4/5/6/ 2009