بسام حجار (في حديث لم ينشر): أكون أنا فعلاً عندما أكتب

صالح دياب

بسام حجار:
12 مفردة كافية
لتفسير العالم

أعاد الشاعر اللبناني بسام حجار طباعة مجموعاته الشعرية النافذة واختار قصائد من مجموعات أخرى، وصدرت كلها في كتاب عنوانه «سوف تحيا من بعدي» عن المركز الثقافي العربي «انطولوجيا شخصية غير مكتملة تضع أمام القارئ من جديد أهم المجموعات الشعرية للشاعر «لأروي كم يخاف أن يرى»، «فقط لويدك»، مهن القسوة ومختارات من «مجرد تعب» و«بضعة أشياء» قصائد طالما قرأناها وأحببناها لشاعر له صوته الخاص في راهن القصيدة النثرية العربية، ولغته الملتبسة التي تنفتح على الجروح الداخلية الشخصية قبل أن تنتقل إلى الآخر. لغة يذهب فيها الشاعر إلى القبض على الجوهر في العارض والإمساك بما لا يمسك، ينثرها الشاعر ويجعلها تدخل مدخل اللبس.

في لوديف عام 2001 التقينا بالشاعر بسام حجار وكان هذا الحوار:

* حذفت من «سوف تحيا من بعدي» مجموعتك الشعرية الأولى مشاغل رجل هادئ جدا». هل أردت الإشارة إلى أنك لا تتحمس جماليا لهذا الكتاب ضمن سياق تجربتك؟

أعتبر أن مجموعتي الشعرية الأولى «مشاغل رجل هادئ جدا» منطلق تجربة اختلفت كثيرا عنها الآن. هذا لا يعني أنني لا أحب هذا الكتاب أو أنني أتنكر له. هذا الكتاب ليس أنطولوجيا شخصية، بمعنى أن هناك قصائد كثيرة من كل مجموعاتي . لو أردت أن أصدر أنطولوجيا شخصية لضمنتها إياها، لكنني ـ هنا ـ إنما كنت أعيد طبع مجموعاتي الشعرية النافذة عمليا، وهي غير موجودة أو متداولة، ونصحني ناشري بطبعها مرة أخرى، ففعلت، وأضفت إليها مقدمة صغيرة، لا أعبر فقط عن الالتباس والحيرة اللذين يكتنفان نظرتي وفهمي لما هو أو لما قد يكون عليه الشعر . «مشاغل رجل هادئ جدا» إنه حقا بداية تجربتي وربما عملت على إعادة طبعه في وقت آخر بمفرده. مجموعاتي الشعرية الثلاث: «لأروي كمن يخاف أن يرى»، «فقط لويدك»، «مهن القسوة» طبعت كاملة، وقد اخترت قصائد من مجموعتي «مجرد تعب»، «بضعة أشياء». قد لا تكون هذه النصوص هي ما يحبه الآخر، لكنها تعنيني أنا. كان باستطاعتي لو ترك لي الخيار لأعدت طباعة «حكاية الرجل الذي أحب الكناري» لكنني لا أملك نسخا منه والناشر أيضا؟

* تبدو قصيدتك كما لو أنها مكتوبة دفعة واحدة، لكن مع ذلك نشعر باشتغال طفيف أو قلما نحس بأي قصقصة وحذف وتشذيب لغوي على جسد القصيدة، هل تحدثنا عن محترفك الشعري هذا وأثر التلقائية فيه؟

لا أستطيع أن أزعم أنني لا أشتغل على النص الذي أكتبه، ففي معظم الأحيان تأتي الكتابة في سياق واحد دفعة واحدة، وفي فترات زمنية متقاربة، ثم بعد ذلك أجدني عاجزا عن الكتابة أحيانا لوقت طويل. حين أكتب النص أكتبه دفعة واحدة ولا أحذف منه أي شيء مهم وهذا الأمر أساسي في نظرتي للشعر نفسه، لأن التلقائية التي تصاحب السياق الشعري الأول جوهرية في تكوين النص الذي أكتبه وأشعر أنه في ما بعد لا يحق لي أن أتدخل كثيرا في تأديب النص، لأني أعتبر أن الكتابة تعبير عن تجربة عيش أكثر منها تمرينا لغويا.
قارئ شعرك يجد أنك تكتب من دون أن تلجأ إلى أي مساطر شعرية، كما أنك لا تعنى أبدا بالشعارات أو السجالات التي انشغل بها جيلك. ماذا عن محل الالتباس الذي تقل نصوصك فيه؟
لا ألتفت إلى النص بصفته متناً جمالياً خالصاً، ليس هناك معيار أنطلق منه لذلك تجدني لا أعرف كيف أصنف النصوص التي أكتبها والتي تتراوح بين النثر الخالص (نثر النثر) وما يطلق عليه عادة صفة الشعر. كل ما أستطيع قوله أنني أكتب النص انطلاقا من حاجة داخلية للقول وهذه الحاجة الداخلية هي التي تخلق إيقاعه، إذا كان له إيقاع، وترتيبه على الورق.
في إضاءاتك للتفصيلات الوقائعية العادية تولي الصمت أهمية كبرى ضمن متن خطابك الشعري والنثري. من أين ينبثق هذا النبض الرتيب للصمت منسربا في نصوصك؟
في كل ما أفعله أحاول ألا أتعمد شيئا، فقط أستأنس باللحظات، وأحاول أن أقترب قدر الإمكان من النبض الجواني الداخلي للأشياء والوقائع البسيطة المحيطة بعيشنا التي ترافقه وتصنع سياقه ومعناه . لا أسعى وراء العادي لان حياتي عادية، ولا يتخللها تقريبا أي شيء لإطلاق مشروع ما، أو لتغيير ما، أو لرفض ما. كل ما هنالك أنني لحظة الكتابة أحاول أن أصغي جيدا لما يكمن وراء المظهر الرتيب، وعندما تصغي تتعلم أمرا أكيدا هو مقدار البلاغة الذي ينطوي عليه الصمت. كل ما أكتبه أعتقد أنه محاولة لإصغاء من هذا النوع، ثم استكشاف لا ما تقوله اللغة بل ما تضمره، أو لا تقوله، لذلك أحسب أنني خلال عشرين عاما أو خمسة وعشرين عاما ما زلت أكتب الشيء نفسه، ولا أحسبني أستنفدته كله. عالمي في هذا الحجم، وما أريده فعلا أن أستكشفه فيه ليس الاتساع بل العمق، حتى لو راوحت في متر مربع.

* مع أن قصيدتك تطل على المعيش الذي هو محل البيت، العائلة إلا أننا نشعر أن ثمة ما هو وجودي ينبثق من ثنايا النص محيلا على الأسئلة الكونية الكبرى، ما مصدر هذا الإحساس في رأيك؟

أعتقد أن هذه الأسئلة التي تسميها أنت كبرى هي أسئلة يطرحها الوجود نفسه وعلاقتنا بالأمكنة، بالأشخاص. علاقتنا بما نبنيه في حياتنا أو نهدمه، علاقتنا بأولادنا، بعملنا، بقراءاتنا كلها، هذه أسئلة ملازمة لوجودنا اليومي وليس علينا أن نسعى وراءها في سعي استشرافي أو تنبئي أو رسولي. هذه الأسئلة تصدمنا كل يوم، تبقى طريقتنا في التعبير عنها، أي أن نتمكن من جعل الأجوبة كوى أو نوافذ على أسئلة جديدة إضافة الى أننا جميعا مصنوعون من ثقافة شخصية، الثقافة بمعناها الأوسع جدا من القراءة والكتابة. الثقافة التي تشمل العيش بتفاصيله كلها، ولا بد من أن تظهر هذه المكونات الثقافية الشخصية في كل تعبير، لذلك قد أزعم أنني أكون أنا فعلا عندما أكتب.

في كل تجربتك الشعرية نجد أن قصيدتك تأخذ محل الضد من الثراء اللغوي، فهي تنهض على مفردات قليلة تتكرر دائما، كأنك تراهن على لا نهائية المعني من خلال القاموس الضيق؟
يقول كاتب فرنسي أحبه كثيرا أنه كتب مؤلفاته التي تربو على المئتين بعدة لغوية لا تتجاوز الثلاثمئة كلمة. وقبيل وفاته عمد دارسون جامعيون إلى وضع قاموس خاص به، وتوصلوا خلال عامين من البحث في كتبه من وضع هذا القاموس الذي يتضمن خمسة عشر ألف مدخل لغوي جديد. هذا يعني أن مباشرة العالم تكون بالحواس وبالقليل القليل المتوافر من أدوات التعبير، في كتابي الأخير «كتاب الرمل» أفردت في نهايته في نوع من اللعب المقصود معجما لمفرداتي التي تتردد في كل أعمالي لأكتشف أنها لا تزيد عن (12) مفردة. أعتقد أن (12) مفردة كافية لتسمية العالم وأشيائه. في مقترب أولي، وبعد ذلك في إمكان هذه المفردات أن تتوالد إلى ما لا نهاية. يجب أن نتذكر دائما أننا أبناء ثقافة قامت وتقوم على الاشتقاق، على التوليد الذي ينجب حتى شقاقا، هذا الشقاق هو العصب الفعلي لعلاقة الكاتب سواء أكان شاعرا أو ناثرا بالكتاب. فحين أكتب لا أكون أنا كليا ولا أكون الآخر كليا، نكون أنا والآخر مشتركين في حالة واحدة للتعبير. المعجم الضيق يتسع لما هو أكبر مني بكثير لان المفردة في اللغة تتضمن على الأرجح عالما قائما بذاته، وليس علينا إلا أن نقصده باحثين، لكي نكتشف ما يختزنه من المعاني.

* تكتب قصيدة تنهض على لغة عادية أليفة مألوفة تقترب من الحوار الحميمي، إلا أنك في «معجم الأشواق» ذهبت في بعض النصوص إلى منطقة لغوية تخالف ما درجت عليه، سرعان ما اتضحت في «كتاب الرمل» على شكل لغة لا تخفي بحثها المعجمي، كيف تفسر هذا الافتراق بين لغتيك؟

هنا يدور الحديث حول كتابين «معجم الأشواق» الذي هو تجربة خاصة و«كتاب الرمل» الذي ربما لم يجد قارئا متحمسا. كتاب «معجم الأشواق» متواليات من النصوص تصف علاقتي الغرامية بمن أحب بمظاهرها الحسية، واتكاء هذا الكتاب على نصوص العشق العربي التي تتردد في الشواهد خصوصا هو تلميح مقصود الى خطاب العشق العربي الذي حجب لمصلحة النص الايروتيكي «البورنوعرافي». كنت أريد القول إن الحب كما يفهم، وكما يعبر عنه في لغة حداثتنا، لم يعد سوى طيف الحب لأنه بات يقفل الدرجات الصفر من العلاقة الحسية بين العاشق والمعشوق. لغوياً كان هناك بحث معجمي لمعرفة أصول الكلمات ودلالاتها وما آلت إليه. الآن أعتقد أنني في هذا الكتاب بالذات أفلحت في اكتشاف حفنة من المفردات التي من دون أن أدري صنعت مجمل لغتي. في المناسبة «معجم الأشواق» وجد قارئا متحمسا، لاقى الى الآن حماسة كبيرة. «كتاب الرمل» أعتبره جزءا من تجربتي في كتابة الشعر حتى لو بدا أنه بداية لانعطاف ما، إذ أراني الآن غير قادر على فهم التعبير إلا بصفته تعبيرا نثريا محضا، وأحسب أن هذا المفترق قد يكون خطرا وقد يليه صمت لعجزي عن الكتابة بطريقة أخرى، لكنه في الوقت نفسه درب جديد لأحاول أن أكتشفه بصرف النظر عن قبول الآخرين أو رفضهم، إنني أبحث عن شكل نثري خالص وقد يكون سرديا لقول ما اتضح لي أنني لم أوفق في قوله بعد، وقد يكون هذا الشكل هو الصمت. الصمت المطبق.
بالنسبة إلى لسان العرب لابن منظور أو القاموس المحيط للفيروز أبادي يشتملان على متعة سردية قد توازي أو ربما تتجاوز حكايات ألف ليلة وليلة لان اقتفاء أثر الكلمات واشتقاقها هو في حد ذاته تتبع لسرد تاريخي اجتماعي لغوي قد يفوق أي رواية أو أي قصة تشويقا.

* افتتحت قصائدك الأولى على الشخص الوحيد الساقط في العزلة، ثم انتقلت إلى ما هو حميمي (الزوجة، الابنة) ومن ثم دخل خطابك في فضاءات الموت والغياب (الأب، الأخت، الأنا) كأنك لا تستطيع الكتابة إلا عن أشخاص محددين؟

أنا لا أكتب إلا وفي ذهني شخص ما يحثني على الكتابة أو شخص ما يدفعني إلى المخاطرة في التعبير له عن أحاسيس. لا أستطيع أن أكتب أحاسيس مجردة. حين أكون في حال عزلة، وهذا إحساس عميق، أكتب عن العزلة، وحين أكون عاشقا ولا أراني لحظة في حياتي غير عاشق أكتب عن هذا العاشق، لشخص ما محدد وليس في المطلق. عندما أختبر تجربة الموت فهناك دائما شخص يموت ويدفعني الى الكتابة. هناك أسرتي، أولادي، المرأة التي أحب، هناك أيضا ثلاث تجارب للموت العنيف أمامي. لا أكذب عليك، فأنا ما زلت الى اليوم تحت صدمة فقداني شقيقتي وهي في عز شبابها والتي توفيت أمام ناظري، وتجربة وفاة والدي التي دفعتني إلى اكتشاف من كان هذا الشخص الذي رافقني خمسة وثلاثين عاما أو ثمانية وثلاثين عاما من دون أن أعرفه، وهناك أيضا تجربة موتي الشخصي بمعنى أني من جراء حادثة توفيت ســريرياً لمدة ثوان ثم أنعشت وعدت إلى الحياة، هذه التجارب كان لا بد من أن أكتبها لأنها أصبحت المناخ الذي يمازج حياتي اليومية وعلاقتي بالآخــرين والكتابة، أقول كل هذا لأقول ببساطة إنني لا أنطلق من أفكار بــل من أحاسيس أحاول استكشافها لكي أفهمها أنا أولا.

* تقترب بعض نصوصك الشعرية من نصوصك النثرية كأنك تعمل على تنثير ما تكتبه شعرا وشعرنة ما تكتبه نثراً. هل تحاول تقليب اللغة على وجوهها المختلفة لاستكشاف أعمق المعاني الداخلية؟

قيل دائما إن «مجرد تعب» هو صوغ نثري لـ«بضعة أشياء». «مجرد تعب» صدر قبل «بضعة أشياء»، لكنه كتب بعده؟ قال ناقد أثق به وأحترمه إن «بضعة أشياء» هو صوغ شعري للنصوص النثرية التي تضمنها «مجرد تعب». إلى حد كبير أوافق الناقد على قوله إذا جاز لي أن أوافق أو لا أوافق. الحقيقة أن نصوص الكتابين كتبت في فترة زمنية واحدة وكنت أكتب القصيدة وفي اليوم الثاني أصوغ نصاً نثرياً أضعه على حدة، كأنني أحاول أن ألتقط ما يحجبه القول الشعري بين السطور أو أحاول أن أصوغ شعراً ما تضمنه النص النــثري ولم يستــطع قوله كله لأكتشف في الحالين أنني أسعى وراء ما لا يقــال فعلا، وكانت النتيجة أن النص النــثري كــتب على هوامــش القصيدة في الوقت الذي كانت فيه القـصيدة تكتب على هوامش النص النثري.

* تفتتح بعض نصوصك بأقوال لكتاب وشعراء آخرين، لا بل أعطيت كتابا لك عنوانا هو عنوان كتاب شهير لبورخيس، ما الذي يدعوك إلى ذلك، هل هو الإعجاب أم تقاطع الأحاسيس والمناخات التي تتوسلها معهم؟

كل من أقتطف منه شيئا لمفتتح نص من نصوصي هو بالتأكيد كاتب عشقته سواء أكان بورخيس أو بيسوا أو ابن عربي .. إلخ هنالك نصوص يبلغ بي مقدار إعجابي بها درجة أنني أفكر أحيانا أنه لا جدوى من أن أكتب أنا نفسي. لأنني لن أضاهي هذه النصوص مهما فعلت، خصوصا أن بعض هؤلاء مثل بورخيس، بيسوا، ليسوا مجرد كتاب قرأت لهم أو أقرأهم، إنهم كتاب يسكنون عيشي إلى درجة أنني أعاود قراءة نصوصهم من دون توقف، أما إذا كان المقصود من السؤال أن هذه الشواهد هي التي تلهم فكرة النص، فأقول لك إنني لو أريد ذلك لما توانيت عن انتحال أي نص من نصوصهم أترجمه وأوقعه باسمي أنا. لقد انتحلت عنوان بورخيس عمداً، لكي أقول إنني لا أكتشف في ما أفعل قارة جديدة لا في الشعر ولا في النثر وإنما تطابقت هذه الأحاسيس مع أحاسيس أخرى، فلا بأس من يدري من أين أتى بورخيس أو بيسوا أو رينيه شار، كل ما نستطيع أن نفعله حيال ما كتبوه هو أن نقرأهم مرارا وتكرارا لكي نحيا في دعة الأحاسيس التي أعطونا أن نمتلكها من بعدهم وبفضلهم.

* على الرغم من أنك تكتب قصيدة تفاصيل يومية، إلا أن قصيدتك تنعقد على ما هو غير حسي. ماذا عن الافتراق والالتقاء بين الملموس وغيره في قصيدتك؟

بهذا المعنى الكتابة ليست سعيا وراء التفاصيل بل إنها سعي وراء الفروق، سعي وراء ما يزول، وراء الهش، وراء ما هو ماثل أمامك، حقيقي أو ملموس، لكنك تعلم جيدا أنه لن يتريث طويلا، إذ سرعان ما يتلاشى، ما يجعل عالمك ماثلا على العتبة بين الوجود الحسي والملموس وبين التلاشي التام، أنا لا أجد موقفا للحيرة على حد قول النفري أكثر من تعاطي الكاتب مع ما يبدو ملموسا، لكن كيانه ينسرب على الدوام باتجاه الغياب.