أَنْعَي لكم محمد الفيتوري

فاروق شوشة
(مصر)

محمد الفيتوريالمصادفة وحدها هي‮ ‬التي‮ ‬جعلتني‮ ‬أعلم بهذا النبأ الحزين‮.‬
‬كنت في‮ ‬جلسة من الجلسات الجانبية لمؤتمر مجمع اللغة العربية في‮ ‬دورته الأخيرة منذ أيام،‮ ‬ومعي‮ ‬المفكر المغربي‮ ‬الدكتور ميلود حبيبي‮ ‬رئيس مركز تنسيق التعريب بالمغرب والأديب الباحث العراقي‮ ‬علي‮ ‬القاسمي‮ ‬عضو المجمع المراسل عن العراق الذي‮ ‬يقيم ويعمل في‮ ‬المغرب منذ سنوات‮. ‬
‮ ‬ولما كان المغرب حاضرًا بقوة،‮ ‬فقد وجدت نفسي‮ ‬أسألهما فجأة عن‮ " ‬محمد الفيتوري‮" ‬المقيم في‮ ‬المغرب منذ سنوات،‮ ‬باعتباره دبلوماسيًّا ثقافيًّا ليبيًّا،‮ ‬عمل مستشارًا ثقافيًّا لليبيا في‮ ‬بيروت والقاهرة والرباط،‮ ‬وفوجئت بإجابتهما معًا في‮ ‬نفَس واحد‮! ‬لقد‮ ‬مات منذ أسابيع‮!.

‮ ‬لم‮ ‬يكن الموت وحده في‮ ‬هذه الجملة القصيرة هو الصدمة،‮ ‬فقد كنت ومعي‮ ‬قلة باقية من أصدقائه في‮ ‬القاهرة‮: ‬المرحوم صبري‮ ‬العسكري‮ ‬والشاعر عبد القادر حميدة وأنا،‮ ‬نتابع أخباره الصحية،‮ ‬والجلطة التي‮ ‬أصابته في‮ ‬المخ منذ أربع سنوات‮. ‬وكنا قد نجحنا في‮ ‬إقناعه بالمجيء إلي القاهرة هو وزوجته المغربية وابنته‮ " ‬أشرقت‮" ‬بعد أن قررت لجنة الشعر بالمجلس الأعلي للثقافة تكريمه ضمن احتفالاتها بربيع الشعر،‮ ‬وكان مترددًا،‮ ‬ثم وافق علي المجيء‮. ‬وعندما التقينا أحسسنا أن الجلطة تركت تأثيرها في‮ ‬لسانه وفي‮ ‬تفكيره،‮ ‬وأخبرنا أنه لن‮ ‬يتكلم في‮ ‬حفل التكريم،‮ ‬لكنه سيكتفي‮ ‬بالاستماع،‮ ‬واختيار ما‮ ‬يود الاستماع إليه من قصائده‮. ‬كانت حركته قد ثقلت،‮ ‬وفقدانه لكثير من حيويته قد حدث،‮ ‬وإحساسه باقتراب النهاية،‮ ‬قد بدأ‮ ‬يقلقه،‮ ‬ويثير أعصابه الثائرة دومًا‮. ‬
‮ ‬أقول لم‮ ‬يكن الموت وحده هو الصدمة والمفاجأة،‮ ‬ولكن أن‮ ‬يموت شاعر بحجم الفيتوري‮ ‬وتاريخه،‮ ‬ولا‮ ‬يشار إليه بكلمة واحدة في‮ ‬الإعلام المصري‮ ‬كله،‮ ‬ولا‮ ‬يهتم به الإعلام المغربي‮ ‬بدوره،‮ ‬الذي‮ ‬رُبّما لو اهتمَّ‮ ‬به لانتقل هذا الاهتمام إلي إعلام العالم العربي‮ ‬كله‮!‬
‮ ‬هل كان ارتباط الفيتوري‮ ‬بنظام القذافي‮ ‬في‮ ‬ليبيا،‮ ‬وراء هذا التجاهل المغربي؟ وهل حدثت وفاة الفيتوري‮ ‬نتيجة لصدمة أصابته بعد مقتل القذافي‮ ‬علي هذه الصورة البشعة،‮ ‬وإحساسه بأن حبل اتصاله بليبيا قد انقطع،‮ ‬وأنه لم‮ ‬يعد له مكان في‮ ‬الحياة الليبية الجديدة،‮ ‬ومجتمعها الثوري‮ ‬الجديد؟‮. ‬هل أتيح للفيتوري‮ - ‬في‮ ‬عامه الأخير‮- ‬من صفاء التأمل والمراجعة ما جعله‮ ‬يلوم نفسه ويحاسبها علي تحوله من موقع الثورة والثوار الذي‮ ‬بدأ به تاريخه الأدبي‮ ‬منذ ديوانه الأول‮ "‬أغاني‮ ‬أفريقيا‮"‬،‮ ‬إلي صوت تابع لأسوأ حاكم عربي‮ ‬في‮ ‬العصر الحديث،‮ ‬وأكثر الحكام العرب جميعًا شذوذًا وتخلّفًا ودموية؟‮. ‬هذه الأسئلة وغيرها،‮ ‬ظلّت تدور برأسي،‮ ‬ورأسي‮ ‬يدور بها،‮ ‬منذ معرفتي‮ ‬بنبأ رحيله،‮ ‬وانتظاري‮ ‬للصدي المتوقع في‮ ‬أكثر من قطر عربي‮ ‬وعاصمة عربية،‮ ‬وبخاصة تلك العواصم التي‮ ‬عاش فيها الفيتوري‮ ‬معظم سنوات عمره،‮ ‬وأنجز فيها معظم دواوينه وإبداعاته الشعرية وهي‮ ‬القاهرة وبيروت والخرطوم وطرابلس والرباط‮.‬
‮ ‬وعدت بالذاكرة إلي الوراء،‮ ‬ما أسرع دوران الزمن‮! ‬كان لقائي‮ ‬الأول بالفيتوري‮ ‬حين التحق بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة في‮ ‬العام الدراسي‮ ‬1953‮-‬1954،‮ ‬وكنت قد سبقته بعام‮. ‬وما هي‮ ‬إلَّا شهور قليلة حتي أصبح واحدًا من شلَّتنا وصحبتنا من طلبة الكلية‮: ‬أبو المعاطي‮ ‬أبو النجا،‮ ‬والطالب الأردني‮ ‬خالد الساكت والقصاص التونسي‮ ‬الطيب الشريف ومحمد إسماعيل هاني‮. ‬كان قادمًا من الإسكندرية التي‮ ‬عاش فيها طفلًا وصبيًّا بعد أن انتقل أبوه الليبي‮ ‬وأمه السودانية الأصل،‮ ‬من ليبيا إلي‮ ‬غربيّ‮ ‬السودان،‮ ‬حيث تعرف‮ ‬بزوجته أم الفيتوري،‮ ‬ومن‮ ‬غربي‮ ‬السودان إلي الإسكندرية،‮ ‬حيث التحق الابن محمد مفتاح الفيتوري‮ ‬بمدرسة الأخلاق الأولية بـ"المكس‮" ‬لحفظ القرآن الكريم،‮ ‬تمهيدًا لالتحاقه بالأزهر الشريف‮. ‬وتفاقم أمر الحرب العالمية الثانية عام‮ ‬1944‮ ‬والصبي‮ ‬في‮ ‬عامه الخامس عشر فانتقلت الأسرة بسبب الغارات الجوية الألمانية علي الإسكندرية إلي الريف المصري،‮ ‬حيث اتصل شاعرنا بالطبقة المصرية وحياة الفلاح المصري‮ ‬ومأساته الحقيقية‮. ‬الأمر الذي‮ ‬انعكس في‮ ‬قصائده المبكرة‮. ‬وتنتهي‮ ‬الحرب العالمية لتعود الأسرة إلي الإسكندرية،‮ ‬ويتابع الفتي دراسته بالمعهد الديني‮ ‬الأزهري‮ ‬في‮ ‬الإسكندرية لمدة عامين،‮ ‬ثم في‮ ‬المعهد الديني‮ ‬الثانوي‮ ‬في‮ ‬القاهرة‮ ‬،‮ ‬ومن الأزهر إلي‮ ‬كلية دار العلوم ليدرس فيها لمدة عامين أيضًا،‮ ‬ثم‮ ‬يتركها إلي العمل في‮ ‬الصحافة بعد أن نشر ديوانه الأول‮ " ‬أغاني‮ ‬أفريقيا‮" ‬عام‮ ‬1955‮ ‬وهو طالب فيها،‮ ‬وأقامت له الكلية احتفالًا مهيبًا حضره عدد كبير من أساتذة الأدب ونقاده،‮ ‬كان من بينهم،‮ ‬عبد القادر القط وأنور المعداوي‮ ‬وزكريا الحجاوي‮ ‬ومحمود أمين العالم وغيرهم،‮ ‬وكان الديوان من أسباب شهرته وذيوع صيته،‮ ‬حيث تعرَّف علي كامل الشناوي‮ ‬الذي‮ ‬عينه مشرفًا علي الصفحة الأدبية لجريدة‮ "‬الجمهورية‮"‬،‮ ‬وتغيرت حياة الفيتوري‮ ‬تمامًا ماديًّا ومعنويًّا،‮ ‬وهو‮ ‬يدفع بسفينته في‮ ‬غير مجال التعليم الجامعي‮ ‬دون أن‮ ‬يكمل تعليمه في‮ ‬كليته،‮ ‬مؤمنًا بأن العمل العام في‮ ‬الصحافة الأدبية،‮ ‬والمجلات الثقافية هو وسيلته إلي اقتحام العالم‮ (‬المزيد من التفاصيل عن حياة محمد الفيتوري‮ ‬منذ الطفولة حتي العمل الدبلوماسي‮ ‬سفيرًا ومستشارًا ثقافيًّا ليبيًّا موجود في‮ ‬المقدمة الضافية التي‮ ‬كتبها الدكتور منيف موسي للمجلد الثاني‮ ‬من ديوان محمد الفيتوري،‮ ‬طبعة دار العودة‮/ ‬بيروت‮).‬

‮***‬

كان صدور‮ "‬أغاني‮ ‬أفريقيا‮" ‬لمحمد الفيتوري‮ ‬عام‮ ‬1955‮ ‬بمثابة الطلقة المدوية المعلنة عن ميلاد شاعر كبير،‮ ‬وموهبة شعرية طاغية‮. ‬تمامًا كما كان صدور المجموعة القصصية الأولي‮ "‬أرخص ليالي‮" ‬ليوسف إدريس،‮ ‬وديوان‮ "‬الناس في‮ ‬بلادي‮" ‬لصلاح عبد الصبور،‮ ‬و"مدينة بلا قلب‮" ‬لأحمد عبد المعطي‮ ‬حجازي،‮ ‬و"مقتل القمر‮" ‬لأمل دنقل بمثابة طلقات مدوِّية،‮ ‬معلنة عن مواهب أصحابها واقتحاماتهم‮. ‬وكانت حركة التحرر الأفريقية في‮ ‬عنفوانها،‮ ‬ومؤازرة مصر لكل الأحرار والثوّار الأفريقيين علي مدار العهد الناصري‮ ‬واضحة ومؤكَّدة‮. ‬وجاء صوت الفيتوري‮ ‬الناطق باسم ملايين السود الأفارقة المستعمرين والمنبوذين والمضطهدين في‮ ‬وقته تمامًا من المشهد السياسي‮ ‬والإنساني‮. ‬وحين قال عنه محمود أمين العالم إنه أسقط مأساته الخاصة‮ (‬السواد والزنوجة والفقر والتشرُّد‮) ‬علي مأساة قارّة بأكملها،‮ ‬لم‮ ‬يكن بعيدًا عن ملامسة الحقيقة التي‮ ‬صوَّرها الفيتوري‮ ‬نفسه شعريًّا في‮ ‬قوله‮: ‬
إفريقيا،‮ ‬إفريقيا استيقظي

استيقظي‮ ‬من حُلمك الأسودِ
قد طالما نمْتِ‮ ‬ألم تَسْأمي؟
ألم تملِّي‮ ‬قدم السيّد؟
قد طالما استلقيْتِ‮ ‬تحت الدجي
مجهدة في‮ ‬كوخكِ‮ ‬المُجْهدِ
مصفرَّة الأشواق،‮ ‬معتوهةً
تبني‮ ‬بكفَّيْها ظلام الغدِ
جوعانة تمضغ‮ ‬أيّامها
كحارس المقبرة المُقعدِ
عارية الماضي،‮ ‬بلا عزةٍ
تُتوِّج الآتي،‮ ‬ولا سؤددِ‮!‬

‮***‬

إفريقيا،‮ ‬إفريقيا النائيه

يا وطني،‮ ‬يا أرض أجداديه
إني‮ ‬أناديك،‮ ‬ألم تسمعي
صراخ آلامي‮ ‬وأحقاديه
إني‮ ‬أناديك،‮ ‬أنادي‮ ‬دمي
فيكِ،‮ ‬أنادي‮ ‬أمتي‮ ‬العاريه
إني‮ ‬أنادي‮ ‬الأوجه الباليه
والأعين الراكدة الكابيه
فويْكِ،‮ ‬إن لم تحْضني‮ ‬صرختي
زاحفة من ظلمة الهاويه
عاصفة بالأبيض المعتدي
عليك‮ ‬يا إفريقيا الغاليه‮!‬

وبعد‮ "‬أغاني‮ ‬أفريقيا‮" ‬أصدر الفيتوري‮ ‬ثلاثة عشر ديوانًا،‮ ‬هي‮: "‬عاشق من أفريقيا‮"‬،‮ ‬و"اذكريني‮ ‬يا أفريقيا‮"‬،‮ ‬و"سقوط دبشليم‮"‬،
و"معزوفة لدرويش متجوّل‮"‬،‮ ‬و"الثورة والبطل والمشنقة‮"‬،وأقوال شاهد إثبات‮"‬،‮ ‬و"ثورة عمر المختار‮"‬،‮ ‬و"ابتسمي‮ ‬حتي تمر الخيل‮"‬،‮ ‬و"شرق الشمس‮ ‬غرب القمر‮"‬،‮ ‬و‮"‬يأتي‮ ‬العاشقون إليك‮"‬،‮ ‬و"قوس الليل قوس النهار‮"‬،‮ ‬و"أغصان الليل عليك‮"‬،‮ ‬و"عريانًا‮ ‬يرقص في‮ ‬الشمس‮" (‬وهو آخر دواوينه صدورًا حمله معه إلي القاهرة عندما جاء لحضور تكريمه في‮ ‬مهرجان ربيع الشعراء بالمجلس الأعلي للثقافة‮) ‬ويقول فيه‮: ‬
‮"‬لم أجد‮ ‬غير نافذة في‮ ‬سمائكَ

مبتلَّة بدموعي
فألصقت عينيّ‮ ‬فوق الزجاج
لعلي‮ ‬أراكَ
لعلَّك تُبصرني‮ ‬وأنا هائمٌ
مثل سربٍ‮ ‬من الطير
منهمك في‮ ‬مداكَ
لماذا تلوِّح لي‮ ‬من بعيدٍ
وتتركني‮ ‬مغلق الشفتين
وتدخلُ‮ ‬في‮ ‬غابة من سناك
لماذا تغيب؟ كأنك لم تدْرِ‮ ‬أني‮ ‬زرعْتُكَ
في‮ ‬جسدي
فازدهرْتَ‮ ‬نقوشًا
وأني‮ ‬نشرْتُك في‮ ‬أفقي
فاشتعلْت شموعًا
وأني‮ ‬رسمْتُك أودية،‮ ‬ومدائن مسحورة
وتشكّلت مثلك في‮ ‬زرقة الكائنات
وما زلت أولدُ‮ ‬في‮ ‬زَهَر الكلمات‮!"‬

الفيتوري‮ ‬واحد من شعراء عصرنا العربي‮ ‬الكبار،‮ ‬واحد من المغنّين العظام في‮ ‬قافلة الشعر العربي‮ ‬المعاصر،‮ ‬الذين اختلطت في‮ ‬شرايينهم وفي‮ ‬دواوينهم مختلف النزعات والأعراق والتيارات الذاتية والواقعية والصوفية والرمزية،‮ ‬كما التحم نموذج القصيدة العمودية بنموذج قصيدة الشعر الحر دون أن‮ ‬يستوقفنا احتشاد دواوينه جميعها بالنموذجين مكتملين ومتفاعلين‮ ‬يؤكدان انتصار الشعر الحقيقي‮ ‬وتوهّجه علي ثرثرة المتمحِّكين في‮ ‬القوالب والأشكال والوزن واللاوزن‮. ‬شعر الفيتوري‮ ‬منذ بدايته حتي أفق اكتماله هو شعر الصحة والعافية،‮ ‬شعر بهاء اللغة وعظمة مجازها وروعة قدرتها علي الإيحاء والتجسيد والتصوير‮. ‬هو الشعر المتأبِّي‮ ‬علي التصنيف،‮ ‬لأن المصنفين استندوا إلي‮ ‬مرجعيات هزيلة وهشة،‮ ‬فاقدة للوهج والعنفوان اللَّذيْن جسّدهما شعر الفيتوري‮ ‬في‮ ‬كل محطات رحلته الشعرية‮. ‬

‮ ‬شعر الفيتوري‮ ‬يعيدنا دومًا‮ - ‬وبخاصة بعد رحيله‮ - ‬إلي‮ ‬عصر من الشعر كانت له راياته وملامحه وفتوحاته وقسماته،‮ ‬هو عصر المجددين الكبار،‮ ‬والحالمين الكبار،‮ ‬والمغامرين الكبار‮. ‬يخلعون علي القصيدة بهاء أرواحهم،‮ ‬وأشواق وجدانهم،‮ ‬ومطامح نفوسهم،‮ ‬ويعيدون إلي أوتار الشعر العربي‮ ‬فتنتها بالإيقاع،‮ ‬وزهوها بالصورة الشعرية‮ ‬غير المألوفة،‮ ‬وعفوية اكتشافاتها المفاجئة،‮ ‬ويطهِّرون فضاء الشعر من المدّعين والكذَبة،‮ ‬وما أكثرهم في‮ ‬كل عصر وأوان‮!.‬
‮ ‬ولقد امتزجت في‮ ‬هذا الشعر أعراق ثلاثة‮: ‬سودانية وليبية ومصرية،‮ ‬وبيئات شتي،‮ ‬عربية وأجنبية،‮ ‬مكوّنة هذا النموذج الشعري‮ ‬المغاير والفذ،‮ ‬الذي‮ ‬وصفه محمود أمين العالم في‮ ‬تقديمه للديوان الأول‮ "‬أغاني‮ ‬أفريقيا‮" ‬بأنها رحلة من طراز فريد‮.‬
‮ ‬ومن بين كل قصائد الفيتوري،‮ ‬في‮ ‬كل ديوانه،‮ ‬ستظل قصيدة واحدة هي‮ ‬بالنسبة لي‮ ‬لوحته القلمية الذاتية وصورته الإنسانية والشعرية في‮ ‬مرآة نفسه،‮ ‬كما رسمها ولوّنها وصاغها علي عينه،‮ ‬وهي‮ ‬قصيدته‮ "‬معزوفة لدرويش متجول‮". ‬وستظل عبارة‮ "‬الدرويش المتجول‮"‬،‮ ‬هي‮ ‬العبارة الأكثر انطباقًا علي روح هذا الشاعر وجوهره وحقيقة نزعته الإيمانية وتمرده،‮ ‬واستغراقه الصوفي‮ ‬وصحوه الوجودي،‮ ‬وفنائه الحلوليّ‮ ‬وتحقّقه الحياتي‮ ‬في‮ ‬آن‮. ‬إنها القصيدة البديعة السبْك والتشكيل،‮ ‬الحارّة الصادقة الأداء،‮ ‬الجياشة بالنَّفَس الشعري‮ ‬للفيتوري،‮ ‬في‮ ‬أوج تملكه لعناصر هذا العالم الشعري‮ ‬في‮ ‬أروع تجلياته‮. ‬

يقول الفيتوري‮ ‬درويش الشعر المتجول‮:‬

شحُبتْ‮ ‬روحي،‮ ‬صارت شفقًا

شعَّتْ‮ ‬غيمًا وسنًا

كالدرويش المتعلق في‮ ‬قدميْ‮ ‬مولاهُ‮ ‬أنا
أتمرَّغُ‮ ‬في‮ ‬شجني
أتوهج في‮ ‬بدني
غَيْرِي‮ ‬أعمي،‮ ‬مهما أُصغي،‮ ‬لن‮ ‬يُبصرني

فأنا جسدٌ،‮ ‬حجرٌ

شيءٌ‮ ‬عبْرَ‮ ‬الشارع
جُزرٌ‮ ‬غرقي في‮ ‬قاع البحرِ
حريقٌ‮ ‬في‮ ‬الزمن الضائع
قنديل زيتيٌّ‮ ‬مبهوت
في‮ ‬أقصي بيتٍ،‮ ‬في‮ ‬بيروت
أتألق حينًا،‮ ‬ثم أرنّقُ،‮ ‬ثم أموت

‮***‬

ويْحي،‮ ‬وأنا أتلعثم نحْوكَ‮ ‬يا مولايَ
أُجَسِّدُ‮ ‬أحزاني
أتجرّدُ‮ ‬فيك
هل أنت أنا؟
يدُك الممدودةُ‮ ‬أم‮ ‬يديَ‮ ‬الممدودة؟
صوتُكَ‮ ‬أم صوتي؟
تبكيني‮ ‬أم أبكيك؟

‮***‬

في‮ ‬حضرةِ‮ ‬مَنْ‮ ‬أهوي
عبثتْ‮ ‬بي‮ ‬الأشواق
حَدّقْتُ‮ ‬بلا وجهٍ
ورقصْتُ‮ ‬بلا ساق
وزحمتُ‮ ‬براياتي
وطُبُولي‮ ‬الآفاق
عشقي‮ ‬يُفني‮ ‬عشقي
وفنائي‮ ‬استغراق
مملوكُكَ،‮ ‬لكنِّي
سلطانُ‮ ‬العشّاق‮!‬‮

اخبار الأدب
29/04/2012 02:32:26 م