حسين بن حمزة
(لبنان)

زهير غانمهو أحد شعراء السبعينيات في سوريا، لكنه لم يواكب التغيّرات التي لحقت بقصيدة السبعينيات نفسها. ظلّ زهير غانم (1949) - الذي ووري في الثرى منذ يومين في مسقط رأسه بسنادا في اللاذقية - ميّالاً إلى طبائع التفعيلة. في وقت ذهب فيه معظم مجايليه، ومن جاء بعدهم، إلى قصيدة سردية متخفّفة من البلاغات المعجمية والتهويلات الوجودية، ومحتفية بمشهديات الحياة الواقعية. الشاعر الذي أطلّ بمجموعة «أعود الآن من موتي» (1978)، أظهر صلات قوية بتراث القصيدة الإيقاعية وتجاربها المتعددة، وحاور - وإن بخفر - بدايات المنعطف الذي صنعته بواكير عدد من شعراء نهاية السبعينيات في سوريا. تجربة غانم ابنة زمنين شعريين.

لم تنقطع قصيدته عن الغَرف من تجارب الجيل الستيني. بقيت حائرة في البدايات، قبل أن تتواصل بنبرة وحساسية مختلفة عن أقرانه. ولعلّ إقامته الطويلة في بيروت، جعلت المسافة بينه وبين جيله تتّسع. هكذا، راحت قصيدته تتشابه مع نفسها، وتبتعد عن الطرق الجانبية التي سلكتها التجارب اللاحقة. في الحالتين، عاش صاحب «مدائح الأشجار» على الهامش، مكتفياً بحياة قليلة وشاقّة يتقاسمها مع أصدقاء الجريدة والمقهى والحانة. إلى جانب الشعر، كان زهير رساماً وصحافياً مواظباً. أقام معارض عديدة. كتب مئات المتابعات النقدية لمعارض تشكيلية، ولم ينقطع عن مجاراة ما يحدث في حركة الإصدارات الشعرية والروائية.

في ديوانه الأخير «عبير الغيوم»، كتب: «هذا زمن الموت الذي لا موت فيه/ غير موتٍ عابرٍ فينا وفي ليل المدينة (..) كنت ميتاً فاخراً وتلوتُ الفاتحة/ فوق روحي وأرحتُ القدمين/ من مشاويري وتربيعي لهذي الدائرة». كأنّ الشاعر الذي بدأ مسيرته بموتٍ افتراضي، راح يكتب غيابه الحقيقي ببروفات شعرية مبكرة. الموت - وكذلك الحب - كانا المفردتَين الأكثر حضوراً في دواوينه الأخيرة. في ديوان «مياه المرايا»، قرأنا: «ما الذي أحتاجه حتى أموتَ/ غير حبٍّ لا أراه/ لهفتي فيه/ وأحيا في صداه». وفي مكان آخر، كتب: «أُساكنُ جثتي».
لم يُخفِ زهير غانم مرارته وخيبته اللتين تتناهيان إلى القارئ، وإلينا نحن الذين عرفنا صحبته وحضوره الخافت والموارب. كأن الشاعر الذي «عاد من موته»، أكمل «تربيع الدائرة» وذهب إلى «جهة الشعر» التي جاء منها.

الاخبار

* * *

ذكراك التي تهب مثل ريحٍ بلا ذئاب

شوقي بزيع

إذن هو الموت يا زهير. الموت الصاعق الذي يضرب دفعة واحدة وبلا مقدمات. الموت الرحيم الذي لا يريد لضحيته أن تتآكل في فراشها ببطء او أن تتضاءل بالتدريج بين نظرات المشفقين ومباضع الأطباء. فمن كان بمثل صلابتك لا يطاله الموت الا بقلم مباغت في القلب أو بطعنة في الظهر تشبه الاغتيال.
إنه الموت يا زهير غانم الذي لم يكن أبداً في حسبانك ولم يكن مبرمجا في جدول يومياتك، وكيف لك أن تفعل ذلك وأنت المتوثب أبدا كالنمر في أدغال التهيؤات، والموشح بسمرة القراصنة وهم يبحثون عن طرائدهم في أعالي البحار وفي لمعان النحاس الذي لا يصدأ. أنت الأعزل من كل شيء الا من الشعر، فيما الشهوات تعول في بؤبؤي عينيك مثل ريح بلا ذئاب. أما وسامتك الرجولية البادية في ملامحك وتغضنات وجهك فكانت موزعة بالتساوي بين أغمار الحنطة وتلحظ الشبق في عيون النساء الجائعات إلى الحب. ولأنك كذلك فقد زينت لك نفسك أن تهيم على وجه العالم مثل «زكريا المرسنلي» في روايات حنا مينة، محولا روحك إلى عاصفة وجسدك إلى شراع.
لم يكن غريباً إذاً ان تختار بيروت من بين جميع المدن موطئاً لقدميك وميناء لقلبك الرجراج كسفينة بلا هدف. ولأنها المدينة التي تضارعك في الشهوة وتضاهيك في الصبر على الألم أشحت بوجهك عن نحيب الزيتون في جلول «بسنادا»، منحدراً من جبال العلويين التي تسند ظهر الشاطئ السوري، مقايضاً بهواء بيروت الجارح طفولتك وأهلك ومرابع صباك ومنحازاً بكامل تشردك إلى حرية باهظة الثمن إلى حد الارهاق. ولم تكن في الحقيقة تنحاز إلا إلى قصيدتك التي راحت تفور كاللهب في عروق المدينة او تسيل كالينابيع فوق أرصفتها الخائرة من التعب. صحيح ان كتاباً وشعراء عرباً كثيرين شــاطروك تلك التجربة الفريدة قبل ثلاثين عام وأن كثراً غيرك جاءوا لشحذ قصائدهم ولوحاتهم على سكـــاكين الألم ولكن السفن التي حملتهم بعد ذلك على ظهورها كانت خالية منـــك. فبيروت لم تكن بالنسبة لك نزلاً مؤقتاً او شقة مفروشة او محطة عابرة على طريق الفقدان بل كانت الملاذ والحبيبة والمأوى وملاذ أنفاسك الأخير.
ثلاثون عاماً مضت وأنت تجوب المدينة بقامة مستلة من الفولاذ وعينين زائفتين باتجاه المجهول، وتذرع مثل باعة اليانصيب أرصفة هدها التعب، وشوارع لم تكن رحيمة بك، ومكاتب صحف لم تعصمك مكافآتها القليلة من جوع ولم توفر لاقامتك سوى شقق بائسة مطلية بالكوابيس. غير ان كل ذلك لم يثنك عن اختيارك للمدينة التي أحببت والتي رأيت في مقاهي رصيفها الآهلة بالضحكات وجلسات النميمة البيضاء ما يعوضك عن شقائك المتعاظم وخساراتك المتراكمة. وكان لك مقعدك الدائم في جميع المقاهي التي أقفلت أبوابها في وجوهنا الواحد تلو الآخر بدءا من الاكسبرس والمودكا والويمبي والكافي دو باري وصولاً إلى مقهى الروضة حيث كان وما زال صديقك عصام العبدالله يدير مسرحه اليومي متنقلاً كالبدو الرحّل بين مضارب الكلمات. وفيما كنا نتراشق بالطرف والنكات ككرات الثلج كنت أنت تكتفي بالضحك وبعض المداخلات الخجولة والقصيرة. ورغم ان جعبتك كانت مليئة بسهام الذكاء اللماح فلم تكن تسدد نحو مجالسيك إلى رشقات من اللطف لا يتعدى وخزها ما يفعله شوك الورود في القاطفين.
لم ينتبه أحد يا زهير إلى الألم الذي يعتصر روحك. ربما لأننا لم نر فيك سوى صلابة في الجسد لم تكن تفسح لنا مجالا لرؤية الشقاء الذي كان ينخرك من الداخل. الشقاء المختبئ خلف صلابة الجسد الرياضي الذي طالما حسدناك عليه. الشقاء الذي كان يبري أحشاءك ويغلفها كالزجاج المطحون بسياج من الكرامة. أنت الذي ينزل إلى البحر في عز الشتاء مروضاً بجسده الفاتن هيجان الأمواج ونحن نرمقه بغبطة تقارب الحسد. والذي كان يمشي على يديه عشرات الأمتار فيما نحن نمشي على أقدامنا بتثاقل فاضح. أنت الذي لم يشك أبدا من وهن أو مرض أو صداع في الرأس، ولم يعرض أوجاعه على أحد فيما كدنا نحن نحول المقهى إلى مأوى للعجزة او عيادة دائمة يتعهدها برعايته كل من الطيبين محمد وهبي ومحمد شهاب الدين.
ولم ينتبه أحد يا زهير إلى كــرم لغتك المشــتعلة بالاستــعارات وإلى مقالاتك المحبة التي أغدقتها على الجميع من دون أن تنتظر تحية أو كلــمة عرفان. وكنت تصدر المجــموعة تلو الأخـــرى غير آبه بلا مبــالاتنا المريبة وإشاحة وجوهنا عن النهر الذي يتضور عطشاً إلى قطرة حب.
لم ننتبه يوماً إلى قصيدتك التي «تتصاهل» مع الخيول، وفق تعابيرك المترعة بالاشتقاقات. وحين كنا نأخذ عليك استسلامك المفرط لهيجان اللغة واندفاعها الجامح كنت تكتفي بنظرات العتاب المريرة وهي تتجمع كغيوم داكنة في سماء عينيك. ربما كانت اندفاعة لغتك الشعثاء لا تسمح لك بتنقية الزؤان المبعثر بين حقول الكتابة ولكننا تناسينا، عن عمد أو غير عمد، أن فوضى الغصون اليابسة لا تقلل أبداً من جمال الغابة وتناسقها الإجمالي. ولم ينتبه أحد منا إلى اللقى الثمينة التي تشع كالذهب في ثنايا المدينة التي أدماك حبها حتى الثمالة وأنت القائل «وتشهد هذي المدينة أني انتميت لها بعد جهد جهيد/ وما زلت أحسب خطوي على أرضها نعمة «تشبه الكارثة». ولا إلى غربتك المقيمة حتى الموت في عراء العالم حين قلت «وحدي أقول قصائدي بفم يموت/ وحدي كأن لا بيت لي/ لا أهل لي/ لا حب لي/ يغتالني هذا السكوت». ولا إلى صبرك التراجيدي على القهر والجوع. وانعدام اليقين الذي لا تنفك ألغازه إلا بخاتم الموت «أحيانا أجيد الشعر لكني أجيد الصبر أكثر/ ها هنا في القبر/ أعرف ما الذي يجري». ولم ننتبه لرثائك لنفسك وأنت تتخبط بين مستشفيات بيروت التي أخذك سحرها على حين غرة مختارا لجنازتك يوماً آخر غير ليلة السبت التي لفظت عند منتصفها آخر أنفاسك: «إذن مت/ والجنازة كانت كما قرر الراحلون نهار الخميس/ ولكن أضدادهم في الحنين ارتأوا أن تكون نهار الأحد/ وفي سحر بيروت يبقى لموتي شميم العطور التي لا تحد».
أخطأت حساب الأيام يا زهير ولم تخطئ حدسك بالموت. أما الجنازة فكانت من التواضع بما لا يليق بشاعر مثلك. وكما واكب جنازة بدر شاكر السياب أربعة فقط من أصدقائه المقربين الذين عبروا به من المستشفى الأميري في الكويت إلى مسقط رأسه في جيكور ذات شتاء غابر شاءت المصادفات ان يواكب جنازتك الخارجة من مستشفى رفيق الحريري الحكومي في بيروت أربعة مماثلون من أصدقائك هم بلال شرارة وخيرات الزين وعبير عربيد وكاتب هذه السطور. ومعنا ابنك الوحيد مهيار والفنان جمعة الناشف. ولم تكن الجنازة تسير الهوينا كما يليق بمهابة الجنائز بل كنا نتسابق مع النهار في شتاء غير ماطر لكي نقلّك إلى ضريحك مثل مغيب الشمس. ومع ذلك فلم يتح لنا الطريق الطويل وإجراءات الحدود الصارمة ان نصل إلى بسنادا الا بعد حلول الليل حيث لم يكن ينتظرنا عند الوصول إلى منزلك غير المكتمل سوى نفر صامتين من الأهل والأصدقاء. هناك لم يكن أحد ينبس ببنت شفة. لا عويل ولا بكاء باستثناء حشرجات مختنقة تصدر عن امرأة شبه مقعدة عرفنا أنها أختك. امرأة واحدة لم يثر بكاؤها النساء الأخريات، كما تمنى لنفسه مالك بن الريب، باستثناء النشيج المسموع لابنة أختك لجين الذي كان يصلنا عبر جهاز الهاتف الخلوي وهي تقطع الطريق الطويل من الحسكة، حيث تقيم، باتجاه بسنادا دون أن تستطيع الوصول في الوقت المناسب. وبعد أن غسلوك بسرعة ملحوظة وأدخلوك في رداء الموت الأبيض تركوا وجهك مكشوفاً لبضع دقائق لكي يتمكن من يشاء أن يلقي عليه النظرة الأخيرة. ومكننا للحظات حائرين بين أن نسدل ستار أعيننا على بهاء وجهك الأسمر كما ألفناه في الحياة وبين إلقاء النظرة الأخيرة على زرقته الرمادية المختنقة التي خطف منها الموت كل أثر للنضارة قبـــل ان نجازف بالخيار الثاني. بعد ذلك سرنا وراء الجنازة الخـــالية من الصــخب مئات قليلة من الأمتار وسط بيوت القرية الفقيرة وتحت ليل بلا أهلّة ولا نجوم.
انحدرت الجنازة الصامتة فوق طريق ترابية مليئة بالأحجار، ووسط الجلول المتدرجة المكسوة بأشجار الزيتون والزعرور والصبار كانت تتلألأ بعض المصابيح التي علّقها ذووك بين الأشجار لكي تضيء لهم الطريق إلى القبر ووريت الثرى يا زهير.
وحده قبرك المحفور تحت شجرة زيتون قديمة تدلت غصونها فوقك كقامات نساء ثاكلات كان يليق بك. ذلك القبر الذي تمنيته لنفسي والذي غبطتك عليه كان يطل على بحـــر اللاذقية المسربل بظـــلامه أســـفل المشهد متيحاً لك، لو أردت، أن تتلفت بالقلب باتجاه بيروت البعــيدة التي قلّ أن أحبها عاشق مثــلك والتي ستحتفظ بذكراك حتى زمن طويل.

لا نصدق

احمد بزون

نقصت الكأس التي تشربها المدينة كل يوم، ويشربها المقهى، وعيون القرّاء، وبات شارع الحمراء والشوارع المؤدية إلى غاليريات بيروت من دون خطوك. إنه ربع قرن ليس أقل، صارت أقدامك ختماًً، وانطبعت صورك على الواجهات الزجاجية، وتعوّد الهواء أنفاسك، وتعوّدنا أن تحزن لأن الجميع مقصرون بحقك، فالمدينة تأخذ من الجميع يا صاحبي، وتبدل جلدها كلما لمع بريق جديد.
ربع قرن من الكتابة في صحف بيروت، خصوصاً «اللواء»، التي لا يزال حبرك ينساب على صفحتها الثقافية. ربع قرن من الكتابة في صحف عربية أيضاً... ذرفتَ نهراً من الحبر، وغابة من الأوراق، وبحراً من الكلام، وزرعت أربع عشرة مجموعة من الشعر، وألوف المقالات، ولم تترك معرضاً تشكيلياً إلا أمعنت فيه تحليلاً، وزينته بقصائد نقدك.
أتعبتك بيروت، نعم. لكنك أنت القائل «وفي بيروت يرتاح الهوى». كنت تحلّق في المدينة بجناح أرهقه التعب وشجون الحياة وجناح يخفق دائماً بالحب. أتعبتك هذه المدينة المغوية، لذا لم تستطع فراقها بعينين مفتوحتين. كنت ذلك العاشق الذي تلوّعه المعشوقة ويقول «زيديني»، يملّ منها في المساء، ثم يستفيق صباحاً مشدوداً إلى حضنها.
كنت أكثر مثابرة من كل النقّاد الذين يتابعون المعارض التشكيلية من أبناء الوطن، تسبق الجميع، من دون أن تتسابق معهم، حريصاً ألا يفوتك ضوء لوحة أو إيماءة منحوتة. لم تدع فناناً يعتب عليك، ولا عملاً إلا علّقت قلمك عليه، ولا صالة إلا ملأتها بدورانك الصامت. وكم من الفنانين طبعوا كلامك في ألوانهم، ووجدوا في جملك زينة لكتبهم وكاتالوغات معارضهم، أو خزّنوا حبك لأيام آتية.
... ومع ذلك تقول بوجع طالما كررته في شعرك «ليس للموتى سوى الموتى». وقولك صحيح! لكن موتك لم يصلنا بعد، ولم يفرّ الدم من وجهك حتى نصدّق، ولا القهقهات غادرت آذاننا، ولا غسلْتَ زعلك من الأصدقاء تماماً، حتى إننا لم نودعك بعد، فمناديل الوداع ضاعت، وخطفوا جسدك في لحظة سهو، وما زالت إقامتك مفتوحة على البحر والبر. لم نقرأ الفاتحة، ولم نصدّق أنك صرت تمتلك شاهداً فوق رأسك، واسماً ورقماً كي يكون لك عنوانٌ جديد.
غداً، وكل صباح، عندما لا نجد مقالة لك في «اللواء» لن نصدق أنك حبستها في غرفتك، أو أنك لم تكتب، لن نصدق أنك نسيت الحبر. سوف نقرأ على زجاج الدمع ما لم نجده على جدار ورقة، نتذكر ما كتبته أمس، ونصدق أن حبره لا يزال طازجاً، بل نصدّق أن الحبر ينبض أيضاً.
زهير.. لا تصدق أنك متَّ، أو غادرت بيروت. لا تصدّق أن أحداً «سيولم جثتك للوقت والأسماك والغربان»، كما كنت تخشى أيام الحرب، أو أن الطرق التي كنت تهديها خطوك قد رحلت... لا تصدق أنك متّ، فأنت أرحت قدميك من تجوال يومي، وأسلمت أنفاسك لعتمة النوم، وما عدت تشقى بسماع أنين قلبك.
نم إذاً يا صاحبي.. غداً نقرأ مقالتك في فنجان قهوة، أو على جدار دمعة تحجرت في العين!

حسن جوني

يمرّ ببالي، زهير غانم، الناقد التشكيلي الآتي إلى مفاهيم اللوحة، من خلال تلمسه لمتاهات تطورها. لانه رسم ولوّن، وعرف كيف تتغلغل معاناة الفنان بالخطوط والألوان وصولاً إلى المشهدية المتكاملة..
يعني، ان زهير غانم، لم يكن ناقداً محايداً، بل هو عمليا ونظريا عرف كيف يواصل رغباته النقدية بما يفعل ويرى. رسم ولوّن كي يتذوق قبل هاجس الكتابة النقدية، وأدرك غريزة الفنان وامتثاله لرغباته الإبداعية ونبضها الجمالي.
كتب زهير غانم، بلغة عربية ذات نسيج مجسّم، دلتني لاحقاً على زهير الشاعر الممتلئة غنائيته بالشجن واضطراب المنفى وقلق المصير.
شاعريته التي تماهت وتقاطعت مع معرفته النقدية التشكيلية جعلت منه مثقفا ثلاثي الأبعاد.
زهير... منذ زمن بعيد، والحنين يلتهم عصبك ويشرذم حياتك مما جعلك عاشقاً مقيماً في سراديب منفاك لعل الموت الذي تقدم إليك مسرعاً ليصرع قلبك إلى الأبد ويهدم ما استعصى على مقادير الحنين الفتاك...
زهير غانم... وداعاً.

زهير.. ونوارس الشمال

صفوان حيدر

ما الذي ستقوله النوارس للأسماك، والرياح لقمم الجبال، والأمطار لشوارع بيروت ومقاهيها، بعد رحيلك يا زهير؟! أحقاً، أخفيت عنا آلامك وأوجـاعك طــوال ثلاثة أيام، انسجاماً مع ثباتك على الألم، وقدرتك على الاحتمال، حتى عرفنا أنك دخلت دهليز الموت الأخير بعدما قلت لنا على التلفون: ـ أنا تعبان! كأن هذه الجملة خرجت من شفــتيك عنوة ورغم كبريائك ورغم جبروت احتمالك الأحزان والآلام التي عشتها معنا، وعشناها معك طوال ثلاثين عاما مضت، كنت فيها الشاهد والشهيد، الكاتب والكتاب، والشارح والناقد لعشرات المعارض واللوحات.. ومع من سيتشاجر عصام العبدالله حول نظريات علم الجـمال بعد غيابك؟ ومع من سيتشاجر حسـن عبد الله حول فقه اللغة وأسرار الصرف والنحــو والبلاغة بعد غيابك؟ وإلى فم مَن ستعطي خيرات الزين بونبونتها بعدما ننتحب قائلين: أواه يا ماما خيرات؟... وما الذي سأقوله للصديقة هدى في باريس مخففا أحزانها. هل سأقول لها إن زهير غادرنا وحيداً وفقيراً ومهمشاً.
ونحن اليتامى، شبان مقهى الروضة المسنين ما الذي سنفعله بالكرسي الذي كنت تجلس عليه بيننا كل ظهيرة. هل نترك عليه شالك الباريسي الأسود ومحفظتك الجلدية الممتلئة بالقصائد والمقالات وتصاميم الأغلفة لكتب ما زلنا نتنافس على إصدارها ونشرها، كأنما مراهقاتنا الأدبية فتـية دائماً ولا تهرم ولا تشيخ...
لم يرحل زهير غانم إلى اللاذقية بل سيبقى جالساً في مقهى الروضة، فأمواج بيروت هي نفسها أمواج اللاذقية وأوغاريت، ونوارس بيروت المتجهة جنوباً إلى صيدون وصور ستعود في كل أيلول، إلى أمواج اللاذقية وأوغاريت، وسنلتقي بزهير غانم في شارع الحمراء.

«زهير غانم».. صديقاً إلى الأبد

(قبل ان يضع ألوانه في بيت النار) (قبل ان يستل ريشته ويمضي على خيله إلى ليله) قبل ان يغلق لوحات معرضه الأخير: «الوداع الأخير» قبل ان يتهيأ للذهاب إلى موعد لقائه مع الشاعر جوزيف حرب ليسجل شهادته عن الوطن والشعر والحب. قبل ان يعيد ترتيب مشهد نهاره مع الفنان التشكيلي فوزي بعلبكي. قبل ذلك بخفقه لفظ «زهير غانم» أنفاس قصيدته الأخيرة عندما أصابته نوبة شعرية متوحشة في صدره جعلت قلبه ينفتئ ويمضي سريعاً إلى أحضان اللاذقية ووالدته ياسمين. في لحظة الذبحة القلبية الشديدة التي زلزلت جسده انتبهنا ان «زهير غانم» يحتاج إلى استثناء كبير يمكنه من الاستشفاء على حساب وزارة الصحة وهذا الأمر أجازه وزير الصحة كرامة للشعر، ولكن الواقع الأليم ان «زهير غانم» عاش في لبنان شاعراً وفناناً تشكيلياً وناقداً حتى الموت دون ضمان صحي أو اجتماعي. قبل أن نعود ونسلك الطريق إلى مغامرة ثقافية جديدة عبر «مقاربات» كان «زهير» عاتباً وليس حزيناً لأننا تأخرنا في نشر غسيل ألواننا ونصوصنا وأنغامنا في مطبوعة وتحدي موت الصحافة الورقية واثبات اننا نستطيع ان نمكِّن المبدعين من الصوت والصدى والضوء والظل في مكان أقوى من الموت. يوم 30/12/2010 دخل «زهير غانم» «مستشفى الساحل» وكان لازال فيه نبض وفي اللحظات الأخيرة والعام السابق يلفظ أنفاسه سلكت روح «زهير غانم» الطريق إلى سورية ورفلت عبر أمكنة الجنوب التي أحبها: «صيدا وصور وبنت جبيل صعوداً إلى الجولان ونزولاً إلى حوران وتوقفت قليلاً في دمشق لتفرغ رئتيها من الماء وتملأهما بعطر الياسمين ثم تلقي نظرة أخيرة على قاسيون وتغادره إلى الساحل مروراً بحمص وصولاً إلى طرطوس وبسناده ـ اللاذقية. غادر «زهير غانم» بيروت التي أحبها من القلب وافتتن بها وعشقها حتى الموت. غادرنا «زهير» وفي يده العدد السنوي من «مقاربات» الذي اشتغله من الغلاف إلى الغلاف وحمله بفرح وقد حققنا فيه إنجاز مجلة للثقافة العربية فيها خلاصة صبرنا

بلال شراره

حقاً عاش

عباس بيضون

كنت أتفقد بالتلفون أصدقاء بعد ظهر العيد أو يتفقدونني بالطريقة ذاتها. خرجت من الجولة بخبرين محزنين: وفاة ابن صديق، شاب، ورحيل زهير غانم. يكفيني خبران هكذا. لم أكمل الجولة. حين وصل زهير غانم إلى بيروت قبل عدد غير محدود من السنوات بقي كما جاء. لهجته وطبعه وربما ملابسه كما كانت. لم يكن في هذه كلها ذرة من عصبية. ظل زهير السوري لكنه صار لبنانياً وبيروتياً بالبساطة نفسها، كان بينه وبين بيروت مساحة من اللغة ومساحة الفن ومساحة من العيش ولم يأتها زائراً بل جاء ليبقى وبقي في صحفها ومجالسها ومقاهيها إلى حمل أصدقاء من هذا البلد جسده الهامد إلى مسقط رأسه في سوريا. كان دائماً مع «الشباب» في الكافيه دو باري وانتقل مع «الشباب» إلى ليناس والسيتي كافيه والروضة. كان، دائماً ضمن عائلته اللبنانية وأحرص الجميع على أن يكون ضمنها وأول القادمين إلى اجتماعاتها. واليوم لا أعرف كيف ستكون من دونه وكيف يمكن أن ينعقد مجلس في غيابه وكيف يلتئم اجتماع من غير حضوره؟ ستجتمع «العائلة» على غيابه كما اجتمعت في حضوره، سيكون غيابه أول الوافدين وسيبقى في المجلس فجوة وانقطاع وسيعلم الجميع انهما محله ومكانه. سيعود بالبساطة ذاتها التي حضر بها. لن يعود شبحاً ولا حتى ذكرى. سيكون هنا بجسده الغائب وصوته المختفي. سيكون بطيبته وهدوئه وصبره، بل وبشعره ورسمه أيضا. سينتقل مع «العائلة» من الروضة إلى السيتي كافيه. الموت يربح أخيراً لكن الحياة تمانع. الصداقة تمانع، الصداقة المكسورة وهي الحب المكسور أكثر حضوراً في انكسارها. بل لا تتوهج بقدر ما تتوهج لحظة الانكسار. زهير، الذي رحيله صدع في القلب. صدع في طمأنينة اللقاء وفي أنسه. سيقول الجميع انه عاش، ويشهد الجميع انه عاش. الرجل الذي فنه الصداقة وربما مهنته. سيتألم الجميع لأن صداقتهم لم تسعفه وانه انخطف من بين ايديهم وخفية عنهم، وان واجبهم وربما طقسهم من الآن ان يبعدوا النسيان. داوم زهير على الحضور حتى كأن غيابه «سيبدو أكذوبة أو ان الحضور في غيابه سيكون ناقصاً. كان أحرص الناس على «العائلة» فكيف ستكون من دونه؟ ستكون من أجله وعلى اسمه، سينعقد ولو مجلس للحزن. سيحمل كأس اسمه، سيُكسر كأس على اسمه. سيقال عندئذ ان هذا تكريم الحياة قبل ان تغادر. تكريم الحياة بعد أن تغادر.

آلـو زهيـر

قاسم قاسم

آلو زهير: أين أنت؟
: في اللاذقية
: إنما مضى أربعة أيام
: رحلت نهائياً، ولن أعود إلى بيروت
: لا أصدق، أهذه مزحة!
: لا، لا يا صديقي
: إذاً صارحني
: لن أخبرك المزيد
ولمن تترك شارع الحمراء، ومقاهيه، والروضة، والسيتي كافيه، والسباحة في عز الشتاء، ومعارض الرسم التي توحّدت معها، وجريدة اللواء، ومقالاتك اليومية في الفن التشكيلي، ومشاحنتك مع الياس العطروني، ومجلة مقاربات التي بدأت بتحريرها هل ستتركها أيضاً؟ سيزعل منك بلال شرارة، وأصدقاء العمر في المقهى هل أخبرتهم بقرارك المفاجئ؟
مع من سيشتبك الطبيب محمد شهاب الدين، وعصام العبد الله، ماذا يفعل عندما لا يراك يومياً، مع من سيتحدث ويعلو صوته؟ والمير طارق ناصر الدين وعلي سرور كيف نصالحك معهما، وشوقي بزيع وجودت فخر الدين ألا تريد لقلمك ان يبين جمالية نصيهما، وحسن العبد الله من يقف معه في طروحاته، هل تبقى خيرات الزين وحدها وهي لم تتعب من ألمك، وغادة المسافرة هل تعلم أنك أقفلت الخط، وفوزي بعلبكي من سيشاكسه في الفن، وصالح كيف سيتصرف، والشحرور، هل سيغرد عندما يعلم بعودتك وعلوية صبح ألن تحزن وأنت المبادر الأول إلى قراءة أعمالها، وعلي نصار الذي سيصدر ديواناً شعرياً هل أتاك الخبر؟
يا صديقي، أرجوك، ألا ترى ان غيابك مؤلم، للكتاب والشعراء والفنانين الذين حبّرت بإبداعهم مئات المقالات، حتى باتت غرفتك تضيء بنور قلبك.
يا صاحب القلم الكريم، حضورك على مدى أعوام لا ينسى بلحظة يا صديقي، مساء سنسير معاً في شارع الحمراء، نتدفأ بعيون الصبايا، نشعل قلوبنا بألوان مضيئة كروحك التي ترفرف في سمائنا، وداعاً يا صديقي الاسبرطي.

السفير- 3-3-2011

* * *

يضاف الى ملف الشاعر- زهير غانم

كيف يجوز لك أن ترحل ؟

صباح زوين
(لبنان)

عندما تكلمت معك يا زهير كان ذلك يوم الخميس مساءً. كنا في الثلاثين من الشهر، يوم واحد قبل رحيل السنة العتيقة ويوم واحد قبل رحيلك. صدمة كبيرة هي رحيلك عنا. للتو أخبرني أحد الأصدقاء وغرقتُ في عدم الإستيعاب. الصديق يخبرني وانا عاجزة عن التصديق. يا زهير يوم الخميس مساء هاتفتك لأعيّدك ولأشكرك على مجلة "مقاربات" التي وصلتني متأخرة وأنت سعيت جاهدا ً لأن تصلني، بعد انتظار طويل، فقط بضعة أيام قبل أن ترحل. هاتفتك بإسم صداقتنا الجميلة والقديمة يا زهير. لماذا رحلت دون إنذار وللتو سألت الروائي وصديقك الياس العطروني إن كنت تشكو من شيء وأكد أن لا، إطلاقا ً. لم تكن مبدئيا ً على موعد مع أي مرض ولا سابق إنذار لذلك، إلا أن قلبك خانك وكان عليك أن ترضخ لمصيرك. قيل لي إنك قلت قبل شهرين لأحد أصدقائك أن المعرض الذي أقمته هو آخر معرض لك وإن الكتاب الذي نشرته سنة 2010 هو آخر كتاب وإنك لم تعد تريد أن تكتب ولا أن ترسم. ما هو هذا السر الذي يلف الإنسان الذي يشعر مسبقا ً بأنه راحل، سرٌ لا يفهمه سوى من شارف على المغادرة، لكني اسألك لماذا يا زهير رغبت في الذهاب مبكرا ً ؟ كلنا نحبك لدماثتك ولطفك وخصوصا ً لنزاهتك.

نشرتَ 14 ديوانا ً ولم تكن يوما ً ملحاحا ً لدى الصحفيين من أجل الكتابة عنك. كنت واقعيا ً ورصينا ً في هذا الموضوع، وأذكر يوم الخميس، أي قبل موتك بيوم واحد، ومن دون أي سبب ولا مقدمة، قلت لي وكأنك تريد التأكيد على ما نشعر به جميعنا إن "الإعلام سطحي وغير مجدي. كل هذا هراء وما يبقى هو الكتاب الجيّد". هذه كانت يا زهير كلماتك الأخيرة لي وللعالم أجمع ربما. أنت لم تؤمن يوما ً بالبهورات الصحفية، وأنت كتبت في الصحف مدى سنوات وإسهاماتك لا تحصى، لكنك كتبتَ بعيدا ً عن المنفعية التي نعرفها وتعرفها.

كنت يا زهير تنظر بموضوعية إلى الكتب وأصحابها، كنت تميّز وتغربل بجدية وتواضع وقلة إدعاء، كنت مثقفا ً من أجل الثقافة لا من أجل تفاهات أخرى لا علاقة لها بالثقافة. كنت غزيرا ً في الشعر كما في الرسم والمقالة، وما قمت به بمثابة إنجاز كبير لكنك غادرت باكرا ً جدا ً. كان عليك أن تبقى في شوارع بيروت، تنظر إلينا بدفء ولطف كلما التقيناك، ولم تكن سوى صادق مع نفسك ومع الجميع. لا أزال أراك جالسا ً في زاوية في الكافيه دو باري قبل اندحاره، لا تزال صورتك محفورة هناك، كل صباح، مع بقية الشباب والأصدقاء، يا للحزن يا زهير، يا للحزن على أناس أنقياء عندما يتركوننا لتبقى أمكنتهم شاغرة إلى ما لا نهاية.
مساء الخميس قلت لك "ينعاد عليك"، وأنا متيقنة من أنه سينعاد عليك. لم يمكنني طبعا ً أن أتصور أنه لن ينعاد عليك أبدا ً يا زهير.

اللواء يوم 4 يناير 2011

* * *

الشاعر والتشكيلي الراحل زهيرغانم..تجربة إبداعية رائدة

دمشق: سانا

تمتاز تجربة الشاعر والفنان التشكيلي السوري زهير غانم الذي غيبه الموت منذ ثلاثة أيام في لبنان بالغنى والتنوع في مجالات الفن التشكيلي ونقده والأدب والشعر ونظمه فكان صاحب فعل تناغمي بين الفن التشكيلي والأدب.
وعلى امتداد سنوات عمره الإحدى والستين أثبت الراحل غانم حضوره في عالم الصحافة والإبداع الشعري والتشكيلي رسخه صدق وأصالة ذلك الإبداع تساندهما جرأة في الطرح ومقدرة على امتلاك مفاتيح التلقي سواء في التشكيل أو الأدب أو النص النقدي.
ولد الشاعر الراحل في مدينة اللاذقية عام 1949 وتخرج في قسم اللغة العربية من جامعة دمشق 1971 ثم توجه إلى بيروت ليعمل ناقداً فنياً وأدبياً لمدة ربع قرن قبل أن يعود إلى مسقط رأسه إثر أزمة صحية.
نشر زهير غانم للمرة الأولى قصائده في الصحف والمجلات السورية في مطلع سبعينيات القرن الماضي وأصدر خلال رحلته الشعرية أربع عشرة مجموعة شعرية منها /أعود الآن في موتي/1978/ و/التخوم.. 1979/ و/الشاهد../1985/ و/أحوال الشخص المتباعد 1989/ و/مدائح الأشجار../1990/ و/هديل الجسد اليابس 1991/ و/جهة الضباب 1995/ و/صخب الياسمين 1995/ و/في مجرة الرغبات 1999/ وزهرات وقبريات/و/ألفين شمس منتصف الليل2004/ و/يحبك من لا يحبك 2007/ ومياه المرايا 2009/ وقبل رحيله صدرت عن دار بيسان اللبنانية مجموعته الشعرية الرابعة عشرة /عبير الغيوم/ التي تميزت بقصائد التفاصيل والجزئيات وتلجأ أحياناً كثيرة إلى مقدمات شبه سردية.
عمل غانم محرراً ثقافياً في عدة مطبوعات دورية يومية وأسبوعية وشهرية في بيروت منذ عام 1984 حيث شارك في المقاومة الإعلامية للعدوان وللاحتلال الإسرائيلي عبر دوره كمدير تنفيذي في مجلة أمل 1985 إلى 1990 ثم في مجلة العواصف 1990 /1992 ثم ككاتب ومشارك في الصفحة الثقافية في صحيفة اللواء وعاد إلى قواعده في الحركة الثقافية في لبنان ليشارك في إصدار مطبوعتها مقاربات حتى وفاته.
وفي تصريح لسانا وصف الناقد الفني طلال معلا الراحل بالمبدع متعدد المواهب فقد امتاز بالجودة على صعيد النقد الفني والرسم والشعر عدا عن تذوقه الجيد للفن وانحيازه للمستوى الجيد منه.
وقال معلا: كان بيت الراحل غانم محطة وملتقى للفنانين والأدباء والشعراء الذين يهتمون بعقد الجلسات النوعية المعنية بقضايا الفن والنقد معتبراً أن غانم يعد اسماً سورياً مهماً عاش في لبنان أراد أن يعيش جو الأدب والفن الحقيقي فأنتج وقدم الكثير عن الفن والأدب في سورية ولبنان.
وفيما يتعلق بأعماله الفنية أوضح الناقد معلا أنها حملت سمة النضج ولاسيما أن صاحبها تشخيصي ذو إمكانية تعبيرية عالية ويمتاز بمقدرة لونية وإنشائية في اللوحة لكنه آثر أن تكون الكلمة صلة الوصل بينه وبين المجتمع فاتجه للكتابة النقدية ومن ثم الأدبية من خلال أعماله الشعرية.
أقام الراحل غانم عدة معارض فنية تشابه في مجملها إلى حد بعيد سواء في أفكارها وموضوعاتها قصائده التي اتكأت على العديد من المرجعيات الفلسفية والفكرية لتدلل على الكثير من مواجعه الداخلية حيث أقام العديد من المعارض الفردية والجماعية في سورية وبيروت ومدن أخرى.
ويشير الناقد سعد القاسم إلى أن الشاعر زهير غانم كان صديق الفن التشكيلي وواكب على مدى فترة طويلة من الزمن تجارب فنانين تشكيليين سوريين ولبنانيين حيث كتب عنها بلغة أدبية أنيقة تمزج إحساسه كشاعر بمقدرته الكبيرة على تذوق العمل الجمالي.
وقال القاسم إن الراحل غانم قدم في كتاباته نصاً إبداعياً أدبياً يحرص أن يكون موازياً للعمل التشكيلي الذي يكتب عنه.
آمن الراحل غانم بجدوى الشعر وحالته الإبداعية وتماهي صاحبه مع هموم الناس والقضايا الوطنية والقومية ولاسيما معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي فكان يؤكد على التزام الشاعر بالقضايا العربية العادلة وتحفيزه الهمم للنهوض والتضامن متفائلاً بالحالة التي يؤءديها الشعر عندما يعكس الشاعر في نصه الإبداعي هذه القضايا.
ولطالما أكد الراحل غانم على مقدرة الشعر في تشكيل جبهة مواجهة للاحتلالات من خلال استصراخه الضمائر وطرحه مفهوم الالتزام الإنساني وتشريح الظلم والعدوان تساعده في ذلك لغة الشعر وتعبيراته ومشهدياته الخاصة.
والشعر برأي الراحل غانم فعل مجترح من عميم كيان الشاعر وصميم قلبه وهو يتطارح موضوعاته الأثيرة لديه عفو الخاطر فلا يتصنعها ولا يفتعلها ولا يتقصدها بل هي في سيرورة وعيه ولا وعيه وكثيراً ما كان يردد أن الحب في أصل الإنسان فطرة وكذلك الانتماء إلى الوطن.
عاش زهير غانم حياة غنية صاخبة لكنه كان دائماً ميالاً للمنجز الإبداعي الجدي ذي المستوى العالي وعاشقاً للاطلاع والإحساس الفطري بالحقيقة وهذا ما يظهر في ما نشره نقداً وشعراً ونصوصاً ومقالات حيث كان ملماً بكل فروع الآداب والفنون شعراً ورواية ومسرحاً وفنوناً تشكيلية.