يوسف سعيدصبري يوسف: توفي الأب الشاعر د. يوسف سعيد أحد كبار شعراء الحداثة في إحدى مشافي ستوكهولم صبيحة هذا اليوم الثلاثاء 7. 2 . 2012 ، بعد أن ترك خلفه إرثاً شعرياً وأدبيَّاً هامّاً.
الأب الشاعر د. يوسف سعيد مواليد الموصل ـ العراق 1932
أتمَّ دراسته الأولى والتحق بالكلية اللاهوتية وعين رئيساً روحياً لطائفة السريان في كركوك، حيث التقى هناك جماعة شعراء كركوك، الذين تركوا تأثيرات مهمة على شعره ، كما ترك هو الآخر تأثيره على أصدقاء الشعر، وقد كان لجماعة شعراء كركوك تأثيراً كبيراً على الشّعر العراقي والعربي.
نشرت أشعاره وكتاباته ابتداءاً من عام 1953 في الصحف والمجلات العراقية والعربية وكان لها صدى طيب على الساحة الأدبية والثقافية.
غادر العراق عام 1964، متوجِّهاً إلى بيروت وهناك التقى مع أبرز الشعراء والكتاب وعاش في بيروت حتى عام 1970. نشر في مجلة شعر قصائد بعنوان: "بهيموث والبحر" وقد أثنى عليها الكاتب المعروف جبرا ابراهيم جبرا، ونشر في ذلك الوقت قصائد بهنوان: "أضواء آتية من أسواق القمر" في المجلة التي كان يرأسها آنذاك أدونيس، وقصائد عديدة أخرى. كما ترجم أكثر من خمسين قصيدة لمار أفرام السرياني، نشرتها مجلة شعر.
وجّه أنظاره إلى السويد عام 1970، متّخذاً من إحدى ضواحي ستوكهولم، سودرتالية مقراً هادئاً للعيش والكتابة، حيث وجد في صمت السويد وجمال ثلوجه وغاباته ما يحرضه على الكتابة المتدفقة كالينبوع.
قال عنه الشاعر ميخائيل نعيمة" انني لم أجد في حياتي كاهنا بهذه الروعة الشعرية العميقة في الحياة.
بعد سنوات طويلة من العمل في سلك الكهنوت تفرغ كليا للكتابة، يكتب عن تجربته الحياتية وعن رؤاه الغزيرة في الحياة.
تميَّز بخياله الجامح، يأخذ القارئ إلى فضاءات فسيحة وخلاقة، يخطُّ جملته الشعرية وكأنّه يلتقطها من خاصرة السماء الصافية، ومن أهداب النجوم، ليقدم للقارئ خطاً شعرياً متفرّداً ومتدفقاً بالإبداع.

أصدر المجوعات الشعرية التالية:

  • المجزرة الأولى مسرحية كركوك 58
  • الموت واللغة قصائد ـ بيروت 68
  • ويأتي صاحب الزمان ـ السويد 86
  • طبعة ثانية للتاريخ ـ قصائد 87
  • مملكة القصيدة، دراسة شعرية ـ بغداد 88
  • الشموع ذات الاشتعال المتأخر، قصائد ـ بيروت 88
  • السفر داخل المنافي البعيدة، قصائد ـ دار الجمل، كولونيا ـ ألمانيا 93
  • سفر الرؤيا، قصائد ـ لبنان 94
  • فضاءات الأب يوسف سعيد، الأرض، التراب، السماء، الماء ـ دار نشر صبري يوسف ستوكهولم 99
  • وغيرها من الدواوين والقصائد ، كما كتب الكثير من القصائد باللغة السريانية .
  • نال جائزة آرام وجوائز أخرى في مجال الشعر والإبداع.
  • توفي في ستودرتالية، إحدى ضواحي ستوكهولم صبيحة هذا اليوم الثلاثاء7. 2 . 2012 عن عمر يناهز الثمانين من العمر، قضاه بأعمال البرّ والتقوى والإبداع الخلاق.
  • إلى جنان الخلد أيُّها الشَّاعر والأب الرُّوحي المبدع، ستبقى أنتَ وشعركَ حيّاً وخالداً في قلوبنا إلى الأبد.

***************

فضاءات الأب يوسف سعيد،
(الأرض، التراب، السَّماء، الماء)

يوسف سعيد

أربع قصائد للأب الشاعر يوسف سعيد مع تقديم الشَّاعر صبري يوسف لهذه الفضاءات الرحبة

فضاءات الأب يوسف سعيد، فضاءات مفتوحة على أبجديات الكون، لغة من لون الشفق الصباحيّ، من لون العسل البرّي، من لون الماء الزلال! .. من لون أرض خصبة، خصوبة الحياة، من لون تربة "بازبداي"، يحمل بين ثناياه بذور المحبّة، لينثر ذراته على وجه الدنيا لعلَّ هذه الذرات تعطي خيراً وفيراً للبشر، كل البشر!

الأب يوسف سعيد حالة شعرية متفرّدة للغاية، هو نزيف شعري متدفق في كل حين! .. لا أظن أنه ينتمي إلى (جيلٍ ما)، انه جيل .. يتناسب أن نقول عنه (من كلِّ الأجيال!) ..
صنّفه بعض النقاد من جيل الستينيات، لكن هل توقّف الشاعر عند جيل الستينيات أم تغلغل إلى كل الأجيال التي جاءت بعده؟! .. وهل هذا التغلغل تطاول على أجيال غيره أم انه انصهار تامّ في ديمومة تجديد الشعر عبر كافة منعطفات الأجيال المرافقة لمحطّات عمره؟! ..

كيف يكتب الأب يوسف سعيد القصيدة؟ ..
الحياة عنده كتابة، والكتابة هي حياة متجدِّدة عبر غليان شعري .. ومن خلال تراكم هذه الغليانات، توصّل الشاعر إلى حالة ولا كل الحالات، انها نزيف شعري دائم .. يتدفّق شعراً كنزيف!

الزمان والمكان عنده ليسا مهمين، يكتب في أي زمان وأي مكان! وعندما يكتب قصيدة ما، لا تنتهي عنده، تبقى القصيدة مفتوحة، لأن النزيف الشعري عنده مفتوح على فضاء الكون! .. ولا يشعر بالموجودات التي حوله أثناء الكتابة، يتقمّصه الشعر فيكتب ويكتب ولا يتعب من الكتابة، كأنه في ريعان شبابه! .. وعندما يقرأ لكَ نصّاً ما كتبه، تجده يضيف جملاً شعرية عديدة غير مكتوبة، فتسأله: ( ...)، يضحك ويقول، هذه الإضافات لم أتمكَّن الامساك بها أثناء ولادة القصيدة، لأنها كانت تتزاحم على مخيَّلتي بشكل هائج، فتنحّت (هذه الإضافات) مختبئةً ثنايا الذاكرة الشعرية النازفة .. الآن جاء دورها لأقطفها وأضعها في سياقها المناسب.

ولكن هل تستطيع الإمساك بما يفلت منك من الجمل الشعرية المتدفّقة؟
لا، لا أستطيع أن أمسك بكل ما يفلت منّي، آخذ نصيبي وأترك الآخر يداعب ثنايا المخيلة، إلى أن تحينَ فرص أخرى.

عندما يزورك الأب يوسف سعيد، ضع في الحسبان، أن يتوفَّر في أركان منزلكَ أوراقاً وكتباً وأقلاماً! .. انه جاهز في كل لحظة للكتابة، وإليك يا أيها القارئ العزيز مثالاً عن كيفية إقتناصه الوقت من خاصرة الزمن.
فيما كنتُ أعدُّ فنجانين من القهوة، لا أخفي عليكم، تأخرت دقائق معدودة.
القهوة جاهزة (أبونا!)..
ضحك ضحكته المعهودة الرائعة، ثم قال، تعال وأسمع كي يبقى للقهوة مذاقٌ آخر! .. ثم تلا علي قصيدة .. ابتسم وبدعابة قال، أما كنتَ تستطيع أن تتاخَّر دقيقتين أخريين في إعداد القهوة؟ ..
فقلت لماذا؟ ..
أجابني، كنتُ سأكمل القصيدة!
يكتب عن أي موضوع،، وما يكتبه، يكتبه بعمق .. الحياة عنده برمتها مواضيع لكتابة الشعر، إنه يكتب (القصة، المسرح، والدراسات التحليلية) .. لكنّه نادراً ما ينتهي من كتابة القصّة أو المسرحية التي يكتبها! .. لأنه سرعان ما يعود ليغوص في عالم الشعر الممتدّ على مساحات روحه، فيترك هذه المتفرقات (قصة، مسرح، دراسات)، يتركها جانباً ويسبح في بحار الشعر، يروي غليله، لعلّه يعود لاحقاً إلى القصة أو الدراسة التي بدأ بكتابتها.

الأرض، قصيدة من قصائد الأب يوسف سعيد، تعبِّر عن الحالة الحميمية بينه وبين الأرض .. يتواصل مع الأرض تواصلاً عميقا، فينبش بقلمه بطون الأرض مغترفاً الخيرات المكتنزة في أحضانها، ليقدِّمها للإنسان عبر الكلمة.
التراب، قصيدة مفتوحة على فضاء الرُّوح! .. الجملة الشعرية عند الأب يوسف سعيد، لا يمكن الإمساك بها، إنها جمل متشرشرة من أفواه النُّجوم ومنبعثة من ضياء الوجود وحفيف الأشجار! ..
عندما تناقشه في خيط القصيدة وما شابه ذلك، يجيبكَ .. أية خيوط تتكلَّم عنها؟! .. فتسأله، طيب، على أي أساس كنتَ تكتب القصيدة؟
يجيبكَ ببساطة، لا يوجد عندي أي أساس وأية خيوط، القضية أعمق مما تظن، لأن الشعر عندي هو أشبه ما يكون بنزيف متدفِّق! .. أكتبه بعيداً عن الخيوط والأساليب التقليدية لكتابة الشعر، أكتبه كما أحسّ، عفواً! .. (لا أحسُّ) أثناء الحالة الإبداعية، أشعر وكأني (مختَطَف) نحو الأعالي، نحو فضاء فسيح، أكتب وكأنّي غائب عن الوعي أو في قمَّة وعيي! .. وأحياناً عندما أكتب نصَاً شعرياً، أجدني أتغلغل في نصٍّ آخر غير الّذي كنتُ (أنوي) كتابته .. وكم من المرّات، أكتب قصائد غير التي كنتُ أنوي كتابتها لحظة الكتابة، فالحالة الغليانية هي التي تحسم الومضات الإبداعية المتدفّقة.
السماء، قصيدة تحمل روح السموّ والارتقاء، يتوغَّل الشاعر في فضاءات الكون، راغباً أن يرتشفَ رحيق الوجود، ليقدّمه على طبق من ذهب للقارئ العزيز، ثم يفاجئكَ بقصيدة الماء! .. وأي ماء هذا الّذي يكتب عنه؟ إنه ماءٌ زلال! .. يغوص الشاعر في أعماق البحار، غير آبه بخطورة الغوص، كل ذلك من أجل أن يقدِّمَ لكَ درراً لا تعثر عليها في قاع المحيطات، أنها درر من نوع خاص، إنّها درر الشاعر الشفاف الأب يوسف سعيد! ..

صبري يوسف ـ ستوكهولم

أتركُ بين أيديكم درر الشاعر الراحل الأب د. يوسف سعيد

الأرض

الأرض، تحمل بين طيّاتها السفليّة رعشة أبديّة
زمهريرها يمتصّ من أحشائها النموّ
تفتح أبواب مصاريع الأبديّة
تعبر مواكبها نحو ذخائر الظلمة
آخر ملحقات شرائح الحديد
وتراب الفضّة والقصدير..

الأرض، تزيّن صدرها بأثداء ملوّنة من هضاب
تتفلّى جدائلها برائحة شمس شرقيّة
ناطقة بلغات مسيرات الغيوم
والسحب الصيفيّة
أسابيعها بيضاء من نصاعة شمس
تداعب أجفان يشوع بن نون

الأرض، تحتضن في أحشائها مهجة النور
تتلقَّى قطرات الندى والغيوث من صدر الجَلَد
أيّتها الأرض،
وجهك قطعة من شرائح مطر البركات
بذارك من مطر برارة النُّجوم البعيدة
الأرض تخبّئ في أوداجها منازل الظلمة
تجس أصابعها بدغدغات رفرفات فوق المياه ..
قواعدها أبديّة
ركائزها من أنفاس النور.

الأرض تتحمّل انفطار الجَلَد فوق مياه الأمطار
تحتفظ بواطنها محيطات خفيّة..
رفرفات طائر العنقاء في سموات
ذات تجاعيد ملوّنة بدم الذهب
زحافات تحتضن الأبدية..
مقاطعات مدوّرة معبّأة
بأنفاس قمح الحقول..

الأرض، وحدها تعرف تفاعل المياه
وانحداراتها عبر شلالات
تصب في جزر سعيدة..
تحوّل خشب الجفر إلى مائدة
قرب مساكن البحار..
لاصطياد دلافينها
تحمل ماء السنين إلى فجوات
متغلغلة بين ضلوع صدر أخنوخ..

الأرض في انتظار عودة متوشالح
لارتداء قميص مقتطع من ستائرها
المعلّقة فوق مذابحها القديمة

الأرض، تصنع أسلحتها
من صوّانات واسطوانات تعانق تربة
تكوّن خاصرة لتربة البحر
تعانق غيوماً تتسلّى بجدائله
يسقط قناعها على حافّات
تربة المراعي السعيدة..

الأرض خميرة من سلوى الصحارى
عجينها من ذهب الإبريز
تحمل أجنحة الكاروبيم ورفرفاتها
في فراغات عودة الآلهة
إلى مساكنها الفضيّة
تطبع على خدودها
خلاصةُ دمٍ من وردة نيسان

الأرض، حوافيها منارات قبالة عرش الملوك
عبارة عن كنوز سرّية
أنفاسها تشرق بخوراً
من عطور رداء الكهنة
الأرض تحمل فوق فوهات أسرارها
عصوَين من خشب السرو..
الأرض، عبارة عن خمسة كؤوس لوزيّة
بعُجْرها وأزهارها
تحمل على راحتيها
سبعة من سُرُجٍ منيرة
بدم الأزهار الربيعيّة

الأرض، معاصرها تحتوي على خلاصات
من حبّات زيتون مرضوض
تغذّي منائر هياكلها القديمة
زيتها يفتح أشرعة خياليّة
فوق بساط العبادة
مَن يدخل لمحاكمة أبناء الأرض؟
من يحمل توبيخها لإثارة العواصف؟
لابتلاع شهقة اللحظة
من أهداب يونس

أيّتها الأرض،
مَن يعلّق على منكبيك ثياب العزاء؟
مّن يحمل عطش الأبناء إلى آبار الحنان
ومنطلقات رعشة الأبوّة؟

الأرض في الصباح تزحف أقاليمها
نحو ضباب الأبديّة
تتغرغر في الغَسَق
بماء عصارات ندى الصحراء
فسائلها من أكتاف أزهار الجنّة

أيّتها الأرض،
مَن يحمل عطش أبناءك إلى آبار الحنان؟
مَن يحتسي رعشة من دفقات عروق الأبوّة؟
الأرض في الصباح يزحف ضبابها
إلى وهادٍ رغيدة
تطوي بين ترابها الخالد
تبر الذهب المصفّى

الأرض يوميّاً ترقرق دموعها بحصى الأودية
تغدق على أفواه الجياع من دسمها
ذراعها يغرف مراراً
من خبز التقدمات
آخر رعشة
في جسد حسّها الكهربائيّ

الأرض تحمل شبق لذائذها
إلى رؤوس الكواكب
تستوعب آخر تنهّدات صقيع
يفهرس كيانات المحيط البعيد
أسرجة تتدفّق منها نهارات
من ضوء الأفلاك

الأرض تحمل سفن صمتها
إلى الممرات البعيدة
تحمل ترسانة الإيمان
وسادة محبوكة من بخور الشفق الوليد
تحمل غفوتها إلى قارات
لتسمّد طاقاتها العذراء
الأرض، جواهر من كلمة خالقة
تحبك أوردة لقلب السماء

الأرض، تستقبل في الصباح
حفيفاً من أجنحة نحلة ..
وعندما يأتي المساء
تأخذ رغيفها المستقطر من أحشائها
وترحل

الأرض رغبة أصيلة يتفصّد صمغها
تأخذ اضمامة من سنابلها الخضراء
تحفّ بها وجه أديم البحار
مراراً تصنع قوالب جملها وعباراتها
من زبد بحر لازوردي
الأرض كصفاء الضوء في بؤبؤ عيون الجواميس
حيث رونق النور

الأرض عبارة عن طاقات عذراء
تحمل رعشة من سحر السموات
الأرض شرائعها على موائد مذابحها
كفريضة موقّرة ومبجّلة
تردّد ملء حنجرتها هلليلويا
الأرض سبّحته من فرط كثرة عظمته
سبّحته بصوت الصور
سبّحته برباب وعود
سبّحته بدفوف ورقص
سبّحته بأوتار ومزمار
سبّحته بصنوج التصويت
بصنوج الهتاف
لك أيّتها القصائد أردّد
هلليلويا هلليلويا هلليلويا
الأرض تحمل بين أصابعها فرح الدفوف
ونغمات ساحرة من ذبذبات العود
ينبجس سحرها ينابيع خمرة معتّقة
دنانها معبّأة من طلّ السماء


الأرض تحوّل مرارة السكر إلى ينابيع فاغية
تصنع سحر هوائها
من سواقي العسل
ترمّم شواطئها
وتفتح أزقّة في ضباب السماء
الأرض كنفاضة زيتونة دهريّة
تودّع صراخ الجبال
في وقفتها وشموخها
تعبّئ سرورها وفرحها
في وهادٍ بعيدة
نقشتها بإبرة السماء..

الأرض تردم ذاتها بعواطف طارئة
حاملة لغة المحيطات
تغدق طاقاتها على خصلات ما تبقى
من دوالي الكروم
تقيس بأشبارها أعناق البحار
تترك نقش أصابعها على جزر ضيّقة
على موائد الشمس
ترانيم لنار ساقطة من كنف السماء
تترك رعباً وهلعاً في حُفُر الجمر
ناقوس يلتقط نغماته من ميازيب عليا

الأرض في صباحات الغيوم
تترنّح بخمرة السكارى
من يدلدل عرزال الأرض فوق جبال شرقيّة
تحتضن قلب الشمس؟
مَنْ يوحّد ملوك الأرض
ويجسّد نبرات النغمات
على حافات تيجانهم؟
مَنْ؟
من يفهرس عاصفة الجنوب؟
من يقتحم كبرياء الأرض
في ساعات سخطها؟
من يحصد من مزارع الأرض
عناقيد حبّها الأكبر؟

الأرض ظهيرة مشحونة برغبة نجوم عليا
تصغي لنداء السماء
تتلقّى ضربات طريّة
من بروق معبّأة برحيق الحياة
ترشف من شفاه أنصاب رؤوس الشهور
زخّة مباركة من تهاليل القمر

الأرض تفغر أفواهها لاستقبال خيرات
مسيّجة بخيوط الندى
تفرز زغلها
وتحرق زيوانها بنار زرقاء
لذلك المسربل بالأسرار
والمتّكئ بدلال على جناح الهيكل
صارخاً ملء حنجرته
" قدّوس، قدّوس، قدّوس
ربّ الجنود
ومجده كل ملء الأرض " ..

للأرض شفاه تسبيح في صباحاتها الباكرة
تغرّد للبحر
وفي المساءات تزغرد للصباح
في براري الروح
تنشد لحبيبها نشيد محبٍّ لكرمه

الأرض إشارات لامعة بنقاط مدبّبة
بسلالات النور
تجللها سحابة لها رونق زرقة السماء
نقاط مستكرشة بالضوء
ترسم طيّاتها على أفلاك السماء
انحناءات أقواس السحب
فوق خاصرة السماء

الأرض تطبع على فخذ رجالها
تاريخ رحلة السفن
إلى وهاد السحب البيضاء
لها رداء اسمانجونيّ الّلون
يستر عورتها
تملك بذار السحر
تفقّس أجنة الخمرة
في خابية نوح

الأرض، تصنع لوحتها الكبرى
من غمام شجيرات البحر
تصنع لوحتها الكبرى
من رحيق غمام البحر
وتنقش صورتها على جبين إنسان الغد
تترك بصمات نفحاتها الرقيقة
على وجنات صحوة النبوءة
في بابل وأروك وشنعار ويثرب
حيث بقايا كنائس العذراء
تصنع أصنام آشورياتها
من طينة رحبوت وكالح ورسن
الأرض لها تعويذاتها الخاصّة
أثناء رحلتها الكبرى نحو سهول شنعار
ولقائهم بأبناء يقطان
تستقطر بكاءها مدراراً من جفونها
في وداع هياكل الذكريات
وبات عشب الروح كنساء غريبة في قرية
قبالة سرير الشمس

الأرض انبساط ملاحف الشريعة وبنود إزارها
فوق هامات الرجال
الحاملين على مناكبهم وصايا العقل
تصاهر ليلاً تثاؤب القمر
فوق وهاد المحبة

الأرض تستقبل حفيفاً من أجنحة النحل
الصاعد أسراباً غفيرة نحو جبال الربّ
تخبّئ أجنحة بذارها
في تراب أبدي العطاءات
وتطير كفراشات ملوّنة من زهرة لدالية
تحرّرت من غربتها الكبرى
لها أنين الثكالى في تأخير
مواكب سحب المطر

الأرض ترضع بنيها بحليب مستقطر
من أثداء أمّهات المحبة
تعطي بكر قوّتها لماء فائر
يتدفّق طاقةً وعزيمةً
من شقوق الأرض وبواطنها
تحمل غضب البحر
ومع أنين أمواجه يتسلّق فوق متونها

الأرض، تربي أجراؤها
في معاقل العسل الوردي
تغسل بالخمرة أجفانها
وتراقب مطلع الشمس
فوق دساكر الفلاحين
الأرض تفوح مزارعها على السهوب
رائحة خمور معتّقة
روائح انتعاشة لأرغفة
تتنفّس الفريك والسويق
بواكيرها تتضوّع رائحة فرح وسرور
فوق مذابح العجول
الأرض، من ترابها يولد الحجر
حبر المعرفة
للأرض كتابة خاصّة
الأرض في عوص احتضنت رجل الله أيّوب
دسّ أصابعه وانطلقت حكاياته في كلّ الأرض
سُيّجت بأسوارها العالية
بيوت شعراء الربّ
تروي مواشي الرعاة بمياه فاغية
تتدفّق عبر وهادها مياهاً ثرّة
تسوّر خواصرها
بزنّار أفقها الجميل
تحوّل كآبتها
وتصهرها عبر مجرى الريح
إلى سواقي قلب الانسان

أَليست الأرض بدايات خفقة طين
لصنع الانسان الكامل¬؟!
الأرض آخر تقليعات بدايات النور وانفصاله
من عالم الظلمة
على مسرح الأرض الرحيب تمّ فصل الدكنة
من حبال خيوط الضوء
تحمل حلم ليل الخليقة البكر

الأرض، آخر مواكب مسيرات معبّأة بنور الكواكب
لها قياسات لعمق الأسافل وقياسات
لطول جبالها
لها وشم يحمل أقراطها الثمينة
وترحل نحو شلالات من ميازيب الأبدية
حيث أناشيدها
رنّة متأتية من خرير ماء
يصفّق لجداول الروح!

للأرض وشمٌ يحمل أقراطها
ويرحل صوب ميازيب الأبديّة
حيث أناشيدها رنّة متأتية من خرير ماء
يحتفل بميلاد جداول الروح
الأرض إنحناءات الضوء
فوق سعفات المرئيّات الملتوية
على خاصرة روحي
لها استرخاء كحلم الجسد
المتربّع فوق مساطب ذاكرة روحي
فوق ذاكرة فحولة هائجة بدخان شهوة المساءات
تترك مستنقعاتها الرطبة
وترحل بعيداً عن صيحات الرياح
بعيداً عن نقاهة من مزن غيوم السماء
بعيداً عن بحيرات ملتقى أسراب البجع
أليسَت الأرض تبارك في الصباح خطواتنا؟
وفي المساء تطبع على عظامنا كتابة فسفوريّة
تنمُّ عن قهقهات هتافاتنا

الأرض، جدران أسمنتيّة لصدّ رياح البحر
تتّسع أحداق عيونها للاحتفاظ
بنبرات نوتات موسيقى دموعنا
هناك في الهواء اللامرئي طاقات
تمسح وجه الأرض بخميرة الأشواق
شيء ما عالق بأهداب عيوننا
يراقب محطّات حياتنا
الساقطة على الأرض من كواكب بعيدة
لهذه الوعول قرون صلبة.
هل انتُشِلت وجُبِلت من تراب هذه الحقول؟
حيث دقائق الساعات الرمليّة
ترسم خطوطاً بدم كهرباء المساء
عن مريخ آخر
تنسجُ من الهواء الشفيف مناديل
لوجه الأرض الممسوح ببصمات ملوكها

هل لنا أن نناجي ونناغي صخور البارحة
ونفتح فيها خطوطاً؟
هذه آخر تقليعات النهار حيث بهجة النوم
وبكلّ ما يملكه من طاقة
هل النوم يبعدنا عن سرير زمهرير الموت؟
إنّي سرّياً أتفحّص مستنقعات الجسد
جسدي المتحوّل إلى وهادٍ
لملاقات عصافير الجنّة!

أشهق رائحة من غيومٍ طارئة
تداعب أجفان أمّي
لنا أحياناً في سقسقة خرير المياه
موسوعة لجداول مؤقّتة
تجتاح خيامنا البيضاء
وتناجي المساء بذبذبات مزاميرها
الأرض سفوح ملء البصر
متأقلمة بحروف من حجر
منتشلة من بحيرات الكلس
لحظة من أهداب الأرض
وتولد عوسجة الصحراء
لاستقبال كلمات ممحّصة بنار النبوءة
كُحل خاص يتناثر بتؤدة من شفاه السماء
يكحّل أهداب الأرض

الأرض تزيّن فوديها بعطور من هياكل العبادة
قارورة غالية الثمن
تغدق بهجتها على العالم
وتزيد من رونق جماله
ونضارته
الأرض آخر أسرارها معلّقة
على شجرة من نور
تلك القرى المسحورة بطلاسم الخفايا
تعرف جيّداً كيف تحبك جدائل السنين
وتربطها بقرون شمس الأرض

الأرض، تبتلع دماء الفتن والمشاغبات الكبرى
صهاريج ذات أقواس معقوفة
عيونها ترصد رياحاً جنوبيّة
الأرض خشونة عظمى
تموت تحت طيّات أجنحتها ضحكة الأحلام
الأرض أمارات ذات سقوف مترنّحة
تحت وابل من برد اللحظة
الأرض في بابل
ذات
أقواس
قزحيّة
مدارجها شفق ملوّن
الأرض،
متيّمة أوداجها بلهيب المحبّة

الأرض أسافلها معبّأة بخردقات مطلسمة
السفرجل يستقطر من رائحة أعصاب وردة
وقفّازات خاصّة بأنامل الأرض
أيّتها الأرض المحدودبة كثمرة حبلى
نبعٌ لا يغيض

الأرض، بدايات لسلم من حجارة الآباد والآزال
صرخة على أنبياء الحوار الشيّق
ياسمينة الريحان
الأرض، الوقت اللامتناهي
تأخذ عمقها من سحاب سرمدي
ملتقى بجعات الروح
روح فوق ممالك العقل
الأرض، هي أنا
هي أنتم
هي نحن
ترى من يغوص في ازرقاق محبّة الأرض؟
الأرض بدايات البدء..

مَنْ يأخذ من الأرض أنابيب دقيقة
لصنع أجنحة لزهرة اللوتس؟
مَنْ يأخذ من طيور الأرض حرارة لأعصاب يديه
لحمل أسلحة لصيد طيور الماء؟
مَنْ يحمل من الأرض دفء الضفادع الخضراء
إلى ضفاف البحيرات السعيدة
حيث الحقول تأخذ أهازيج سعادتها
في ابتلاع حضن الأرض؟

جبابرة الأرض يحرّرون أنفسهم
من أجران خمرة معتّقة،
ويتقاسمون خبز التقدمات
ويحملون على أكتافهم أسلحة العزّ
لولاك أيّتها الأرض لانقرض طائر البَلَشون،
وتولول عليه جزر الحَسَاسين

الأرض تسأل حيتانها الكهربائيّ
قائلة،
من علّق في أعناق الدلافين ساعات
عقاربها متلألئة من ندى ملح البحار؟
رعاة هذه السهول يرصفون أخاديدها
بذبائح تعبّد بدمائها طرقاً وشوارع
حتى سواحل البحر

الأرض تمرح أطفالها بحفيف سنابل الحرّية
قهقهاتها تداعب لصوصها،
وتخمّر في دنان صخورها
جفنات من خمور المجد
معاصرها تعصر خلاصات عناقيدها
لصنع خمرة موسيقى عذارى الجنوب
أحفادها الأباطرة رحلت قوافلهم
صوب سطوح الشمس
تصنع لهباً ممزوجاً برحيق عناقيدٍ
تنير ليلة جمعة حزينة

أيّتها الأرض،
هل مواكب قوافلك ستلتقي
مع ثعابين البارحة؟
متى نصادق الأفاعي الطالعة من ثقوبك الترابيّة؟
الأرض تجدّد شبابها بأكسير المراعي الخضراء
يكفّن سرابها الأبيض أجنة تمساح نبوءة
ساقطة من أحضان القمر

أيّتها الأرض .. متى صارت فضّتك زغلاً
وخمرك مغشوشة بماءٍ آسن من آجام مطر بائت؟
متى تتحوّل سيوفك البتّارة مناجلاً..
ورماحك سككاً..
وبواخرك العملاقة ملاذاً لنوارس البحر؟
متى يغمر زلزالك أنصاباً من تماثيل الفضّة
من ربوعك
وأوثانك الذهبيّة تتحوّل إلى رماد أسود؟

يا صحوناً قادمة من منازل النجوم ومسارح كواكبها!
أوقفوا رعبكم لأطفال الأرض الجميلة
الأرض تخشخش خلاخلها وعصائبها من ذوبان كتلة
مغضّنة من ذهب الإبريز
للأرض سلاسل ومناطق مسوّرة بآيات سماويّة
خواتمها وخزائم انفها
من شلالات فضّة ممحّصة
الأرض أردية مصنوعة من ملاحف الشمس
ترصّع ديباجها
بخلاصات خمر مجفّف

الأرض زنّارها من سلالات نجوم المجرّة
محافلها تسربلها سحابة بيضاء
تضيف على ضوئها نوراً مضاعفاً
له روعة الشعاع والمجد المؤثل
أنهارها وجداولها من سيول ماء العطور

منعطفات جبالها
ملتقى مواكب أسراب النسور
وطيور العقاب والحدأة والبواشق
تلويحات يد تلوّح للراقصين على متن السحب
مركبات مصنوعة من ضباب مجفّف
في مراعيها، وسهولها ملتقى طيور الكركي
والبجع الأنيس،
القوق المهاجر
الرخم واللقالق
العائدة إلى سطوحنا
لبناء أعشاشها الخشنة!

السويد ـ سودرتالية 1999

التُّراب

أخذ حفنة من تراب الأرض،
واستنشق رائحة زهرة الاقحوان
تحسّس بأصابعه السحريّة عقارب ساعة ميلاده
وجسّ أوان موته،
وبسط يده اليمنى على أمّه التراب
وأباه التراب
تحسّس جسده التراب ..
وسادته من تراب
لحافه يدثّره التراب
عظامه من تراب
أرض تداعبها الشمس ..

تراب في بيت العبيد
تراب أنجب أباه ونظّم تاريخ عشائره
تراب في قصور الملوك يستريح منجل الحصاد
على تراب القمح
تراب لصنع أجنحة الجراد
والقَمْص ..
في الصباحات يزحف الزحّاف
نحو بيادر التراب
وفضلة الغوغاء أكلها جرادٌ طيار ...
تراب مطبوخ بسلاهب
من نار الأتون البابلي
تراب مشوي لبناء قرية شماليّة
تخصّ أباطرة الأرض وملوكها
تراب مطبوخ لبناء برجٍ
في طبقاته تكمن أسرار التراب

اختار المهاجرون تراباً من بقعة أرض شنعار
صنعوا لهم آلهة من تراب الحسان
من بنيك وبناتك ..
ومن شروش ترابٍ يعصب بأسراره خيوط الصباح..
فوق جبهة وشاح الروح
تراب أصنامه المجنّحة قبالة جبهة الشمس
تحفّ أردانه لاستقبال قمر بابليّ
لاستنساخ بذرة ملوّنة
لصنع أجنحة لجرادٍ مهاجر

سماء أردانها ملوّنة في ظهيرة عواصف رمال البحر
تولد فجأةً بيضة الفصح المسيحيّ
تراب من جدائل رمال الصحراء
عبارة عن معزوفات لهلاهل وهديل حمامة صاعدة
من كوى سفن بحر لازوردي
يحتضن بحنان عجلات مركبات
خيول المليك المنتصر

تراب من أودية حمراء..
تراب تقام عليه هياكل العبادة
على أشكال 7×7= 7+7 مضافة إليها
دفقات من ضوء الكواكب إلى 7 أيام
تراب يصدّ الرياح الهوجاء
من مخارم صخورٍ جبليّة..

تعالي يا آلهة التراب
وضمّدي جراح المصلوب
في جلجثة قبالة مدينة أورشليم
تعالي حاملة نير شبق الخطايا
مراراً تمدُّ موادها من شبق الخطايا
تفهرس ضلوع خطاياي
وتترك نقاط دمها في مخاخ بيت القصيدة
تراب يسفّ دفقات من دم الخطايا
على زند المجدليّة..
تراب سهامه تخترق حدود مكامن النفس البشريّة
وعلالي الروح في سماء سابعة
يحتضن بالدفء مفاصل الجسد..
من تراب المخاخ المميّزة
حيكت فساتين القصيدة
وشرائعها العذبة

تراب لأسوار قصور الملوك
لاحتواء موسوعات القلب ونواياه
تتحرّك دواليبه بدفء الشمس وحرارتها
لصنع معموديات القمر..
تراب عبارة عن سقوف لقوافل المشتركين
بتجارة ذهب الإبريز
تحمله قوافل نجد لبلقيس
ملكة سبأ
تراب تمشّطه أصابع النسائم الرقيقة
لمداعبة حملان وديعة
تراب من دم داخل
جسد الحملان الوديعة
تراب من تمدّد ظهيرة الظلّ
مضروبة بسياط شمس تمّوز
حيث تجمّعات
لأسراب قبّرات ترابيّة اللون..

تراب يعانق البحر
ويلوّح لبيارق قوافل سفنه وبواخره
يحرّر أعصابنا من شوكة الجسد
ويحرّر أرواحنا من كآبتها..
تراب تداعبه ريح شرقيّة
في أودية حمراء

تراب تنام فيه خيول ملوك العبادة
تراب مخروطي الشكل
على شكل 7+7= لا للشاعريّة المحدودة،
حيث نقاط قانية من دم التمرّد..
7×7= نعم لشاعرٍ لا يهذي بتصوّفات منتكسة،
ولم يدخل في صفوف قبائل الشعراء..
تراب متحجّر يصدّ الرياح
عن مخارم مرتفعات "سيامندو"
حيث ابتهالات العشق..
تراب من عظام جسدٍ
اخترمته المنيّة
فماتت كواكب عشرة
يصدّ رياح عاتية
عن مخارم صخور جبليّة

تعالي يا آلهة التراب لأنّ داجون
يداعب ألوان قوس قزح
فوق شعفات جباله
تراب الأودية بالروح
يضاجع آلهة الرماد!

تراب من حجارة ملساء
تتسكّع عليه أزمنة الخوالي
بيوت من لبن لصنع حجارة مشويّة
بأتون نار الآلهة
في سهول شنعار..
من تراب حُفَر الآباد
شُيّدت أسوار بابل
لنحر تيوس النذور
أمام أقدام أصنامها الجديدة..

تراب لاختفاء مخادع اللصوص..
تراب عبارة عن قامات صغيرة
لصدّ العواصف
عن إبادة قبّرات الحقول
تراب مخثّر بماء مطرٍ كسول
يحتضن جدران من حجارة يابسة
شوتْها الآلهة بنارها الأزليّة..

تراب تلقى عليه مسوح رهبان العبادة
يقيمون أسواراً من تراب
حول مدينتك الحاملة للصباح
هوادج المحبة..
تراب ترويه أمطار من ندى
لاستقبال
حفيف أجنحة السماء ..
تراب أسلحته صنعت لحماية
قهرمانات قصور منيفة
متصخّرة فجواته المدوّرة
لمتّكآت طيور جوارح الجبال..
ووحوش البرّية ووعولها
عاشقة شهوة الصمت

تراب يتدفّق دفئاً يضوّع برخاء ودلال
رائحة أوراق الكافور
تراب لخربشات حمام الزاجل العائد توّاً
من ينابيع رقرقات ماء الفرح
لزقِّ فراخه الأنيسة..
تراب لسهول خاصّة لمهرة العرب
تسابق الريح وتردّد
" أعزّ مكان سرج سابح "

تراب حافّاته المنطوية لصنع كمّامات
يصدّ عاصفة البراري
عن زهرة البنفسج
وخطميّة الوديان..
غمامةٌ
تسقي برحيق الندى زهرة الكمون
وتضوّع تراب وادي الرافدين
تفتح في الشفق الوليد أحاسيس نغماتها
على عزف قيثارة الروح
تتمطّى وتتثاءب بأعصاب حسّها الشفيف
آه، تراب .. ترتوي عواطفه الخفيّة
قرب يقطينة المدن البعيدة

تراب يرتوي من رذاذ الندى..
تراب تهدر قربه أصوات مياه كثيرة
تراب كدواء لكآبة
يهدر بصخبٍ فوق خلجان بعيدة..

تراب،
بذوره مرشوشة على وجه المياه!..
شخاشير طيور الشراقراق
في صفناته العميقة،
احذر أن تداعب البحر
في شختورة صغيرة..
مَنْ يجلب بمعيّة كروان السحر
كعكة سمراء
من تراب الحُوَيْلة
لإطعام أفاعٍ مهاجرة
نحو ينابيعٍ سحريّة ..
تسوّرها خنادق سمراء اللون..

تراب للولادة
حيث يتعالى زعيق أطفال الغد
تسير أنهار وترتفع فوقها
ظلّ سنديانة برّية..
الآن فوق تراب المحبّة
أحسُّ باقتراب الكلمة..

وحده التراب يصدُّ تمرّدنا
ويدفعنا نحو ثقوب
منخله الكبير! ..

تراب الأقاصي يحرّك عاطفة المياه
لتولد جداول
تسقي زهرة العمر ..
تراب يصنع جسوره من طين
تراب يصدُّ عاصفة البحر
تراب يتحوّل من قارة لأخرى
بينما رجال الحيّ يذرون بمذراتهم رماداً
من مدفأة هياكلهم ..

كلّ الوصايا
رقّمت ونُقشت
على ألواح من تراب..
وجداول تسير
تروي قطعان الريم والوعول..

تراب على طبلة مثقوبة
بمسمارٍ خاص
أُعدّ لفتحات العزف
على قصبة صفراء

تراب يحرّك شطرنج الكلمة
يحمل أشلاء رطوبته
إلى أحضان المياه
تراب يتسلّق سلالم أزمنة
مصنوعة من دموع مطرٍ مجفّف!

السويد ـ سودرتالية 1999

السَّماء

سماء بقربها تنحني عروش أزمنة متلألئة بشموع
من مجرّات أفلاك عوالم أخرى..
سماء جواهرٌ لأزمنة برّاقة في بطون الأرض..
سماء دهور متلاحقة مخثّرة بغمر من رواشح روحي الكلّية..
سماء ذات رموش فضّية ..
على مناكبها تستريح أجنحة مخثّرة ..
نسجتها آلهة العناصر بمغازل صمتها ..
وحدها آلهة الشعر ذات تقليعات خاصّة ،
تحرّك مادّة الشعر في بواطننا ..

سماء متلألئة من حفيف أجنحة النجوم
سماء لمسيرات أسراب حمام برّي
يرشف من بؤبؤيه تنهّدات من لون الغمام ..
سماء تعطي من رحيق أجفانها دمعة للسُذَّاب العطشان،
ولفسائل النعناع في حديقة أديرة الرهبان ..

سماء تجدل على زنديها ألماسها الغالي الثمن.
تصنع من دبق أقراطها أنصاباً في درب التبّانة.
وفجوات لأزمنة طارئة في كواكب أخرى..
قبل الخليقة سماء من ماء وغمر من ضباب الوهاد الغائرة..
سماء من خلاصات كثافة ديجور الكواكب ..
فيافيها مسيّجة بأسرجة تحملها عذارى
قادمات من جبال الطيوب ..
من دهشة متراكمة على حبال فزعي
تلوح بمناديل ناصعة، يجتزن فيافي الدموع ..

سماء حوافيها لمتّكَآت رجال قبيلة يحملون خبز البركة.
وأقراص من سلوى تحرسها نجوم السماء
سماء لاحتواء خيوط قرمزيّة من نسمات دهشة القدير..
تفتح من طباشير الضباب دروباً لمسيرة السوافي.
سماء كرقعة من سبات تكحّل أجفان آدم وتخرق أحزان الملائكة.
سماء في انحناءآتها على دوالي من عناقيد قناديل المجرّة.
أبوابها تأخذك إلى أغصان تصنع من ألف بائها جسورها ومعابرها،
حفرها الدهريّة من غيوم حبكتها أنفاس الضباب.

سماء تكشف لنا أسراراً في نعاسها المخثّر.
في جيوبها أنهار من دم الورد
مرقّعة بخيوط أنفاس غمر الجبال.
محرّرة كلّياً من براثن هواء شيخوخة الموت.
عناقيد كرومها من أهوال عاصفة معلّقة بأذيالها لغات الأرض.

سماء امتداد لسنين في عضلات نسور جبال السَمَنْدَل.
سقف حنكها يتمضمض بحبّات من رحيق مهجة الطوبى.
تمرّ أجنحتها مرفرفة فوق جداول الزيت لتروي قناديل الصباح ..
أوكارها ومكامنها معبّأة بطيور الحكمة
أقاصيها اللامتناهية عبارة عن مواكب لريح عابرة
تحت مكعّبات جسر المعرفة.
تمطر فوق أجفان معادنها مطر الفضّة البيضاء
ثلوجها مغموسة برقائق ذهب الإبريز.
حاملة أقواساً من تراب الحديد..
راحلة عبر حجارة هيكل سليمان.
شفتيها تستقطران ندى ونفحة تسُفُّها على أديم الماء

سماء لحراسة نواطير كروم الجبال.
سماء تعلو فوق بروج الفجر حيث الامتداد القرمزي
لمسيرة ينابيع جداول الدموع.
تعلو فوق مناجمها مسارح لكواكب تبان كيراعات ذهبيّة..
نيازك نبالها مصنوعة من أقواس فولاذيّة.
أتراسها معقوفة بسهام برّاقة من ندى لمعان الغمر .
حناء كهوفها الدهريّة من غبار الأزمنة.
سماء نغمات مسرجة بفتحات ماندولينية لشعراء الرقص.
سماء نقاط من ماء مطر لترطيب أصابع النغمات.
هوادجها سابحة فوق سجادة طائرة وأسفارها
يدغدغها هواء الصباح.
تتدلدل خيوط أهدابها النقيّة فوق مناهل أحواض لصفاء مياه البحر..
كبهو البهاء لمنطلقات سيلان مرور ماء الجداول ورقرقاتها.

سماء ركائزها ودعائمها من صنع نسمة القدير.
تحمل إشراقات خاطفة لاذعة وتتحدّث بلغات الشمس.
تتوارى خلف جدران الليل العجائبي.
تصنع أصواتها من حفيف جزر النسور ..
تصنع من أوتار أحلامها المحلى بشفق منير.

سماء أقاصيها الناصعة من زبد الأفق اللامتناهي.
لا حدود لمؤخرة شمسها.
قادمة قطاراتها السديميّة على أنفاس أشواقها اللاهبة.
يزغرد قلبها جذلاً للمدينة المختارة.

سماء مناظر ملكوتها أحلى وأثمن من ذهب الإبريز.
حافّاتها تستقطر العسل وقطر الشهادة
غمارها تصنع ميازيب لنشيد من مزن المطر
نازلاً هاطلاً بتكاسل فوق تيارات لجج بحريّة
تغرس في الصباح جفنات كرومها
وفي المساء الحالم تنسج قميصاً مزركشاً
يسدل على جسد الطهر الأناقة.
سماء تمسح العطش من قلب الملوك.
من دموعها تصنع أرغفة لخبز مقدّس.
تتدرّج بتؤدّة
تترنّم بمعزوفات خاصّة بتنهّدات الملائكة ..
سماء من وجهها يتدفّق نور البركة .
تقتحم بصولجان خلخالها
أزمنة مخمّرة بدم القصائد.
أبرع جمالاً من غابات قصب الكتابة ..
براعة نبالها مسنونة بدم زنابق حديقة الملوك.

سماء خيوط أوتار أعواد مغنّيها قادمون
من مدينة الفرح الأكبر..
حافّاتها مطرّزة بخيوط من تبر ذهبٍ مصفّى.

سماء واقفة فوق قبّة الأرض لا تتزحزح.
بينما تجيش بمياهها الثرّة في أرض الحويلة..
تدور التواءآت سواقيها بدقّة بين جنان تحيط بمساكن العلا.
أصواتها كقهرمانات خليقة الحسن والجمال.
تصنع شمسها من سحبها رماحاً لمداعبة نسيم الصباح.

سماء صاعدة بأجنحة هتاف النغمات عازفة ألحاناً من شبابة الروح.
يهزهز كتّاناً ناصعاً نصاعة أنامل من عذارى مصر.
موشّاة بديباج يسربل أسرة فرعون.

سماء منذ بدايات جيل اللفظة الأولى ولد غمر الأبديّة
تحطّمَت متاريس زمن على حافّات سيول الأعوام ..
آهٍ روحي مولعة بتقاطر الأعوام فوق ناعورة العدم ..
سماء مولعة بمداعبة رياح عليا ومناغات قمرٍ أبيض ..
تمطر في الصباح لبانها كورق الرياض وقصب الذريرة

سماء في الطرف الشمالي من خليجها
يتمرّغ الراكب على صهوات الرياح ..
بروج من غيوم تسوِّرها بنحاس أزمنة قديمة.
تقذف من شفرتيها رصاصاً لصائغ الأسرار.
سماء من عظام سديم مجفّف وسقوط دمنة
فوق كتابة من بقايا طلاسم آلهة آشور ..
تروي بخلاصات أهدابها جفنة من كروم الشارون.
تسمعنا في الفجر حمحمة خيولها الزرقاء ..
تلبّي استغاثة الأيام وبنات الجبال
يبحثن عن السرّ الكامن
في تعرّجات تماثيل لآلهة غريبة ..
سماء تحمل أحزان مدينة مكّة ..
مرصّعة بطوبيات الخطبة على الجبل ..
تتراصف نجومها تحت قباب الفرح الأكبر
يستقطر ينابيع الزيت في أورشليم..
تروي من مآذنها السحريّة مجرى مياه حقول البرّية..
تراقب مياه المنافي قادمة من سبي بحر الزوابع ..
مصحوبة ببريق تكتب الفباؤه على منعطفات نجوم عليا ..

سماء تراقب من حصون متاريسها زحف نمور المساء ..
محفوفة بربَاب نغمات أوتارها
تسيل نحو حافّات شواطئ بعيدة ..
أحواضها مملوءة لبناً
يتدفّق من سواقيها الفاغية مرح حليب الطفولة ..

سماء تحت جسورها تعبر قوافل القوّة ..
وينحني بتؤدّة تامّة قوس قزح ..
عواصفها جفقة اهتزازيّة من ماء وهواء وتراب
لصنع بذار يزرع في جبال وحقول آراراط ..

سماء ترمم رؤوس كواكبها بأرقام ضوئيّة لا تحصى ..
تروي طبقاتها الضوئيّة وتنصبّ سقوف سطوحها بسلاهب النور ..
تحرس مواكب الغيوم من تحتها والريح من زجر العواصف ..

سماء كفضّة مغسولة مصفاة في بوتقة تتنفّس غمر الأرض ..
تشمِّر من سهولها العليا حبال غيومها لغزو أعشاش العصافير..
سماء عارية غيومها الملوّنة بدم البحر.
ترتفع وتتعالى وتصنع قباباً خضراء
في مهجة حوافيها لتلاوة ترانيم دهريّة ..
تنضح دموعها العطريّة على صورة مركبة
تحت ظل دهشة الروح ..

سماء لحزن رصانة القلب حيث حفلات للكلمة الفاعلة
أرض المرايا تتحدّث عن طفولة الطفل الوحيد..
هناك في المنحنى مجترحات تحت سنديانة الصمت
سماء سكرى برحيق عنب النبوّة
تترنّح يوميّاً وترعى رياحاً
تداعب جدائل ميسون العربيّة
ملاكها ينحر بجعة الأعوام ويستلقي على سرير الدوالي
ثمّ يكتب بغتةً قصيدة قصيرة ..

سماء تحمل أغصاناً من حديقة رصانتي
تتحدّاني بعنف كسل البارحة تتابع تيّارات مللي ..
معبّأة ببروق اللحظة تلاحق حيوانات سعيدة
مسوّرة أعناقها بألوان من قوس قزح
تتوارى حيواناتها الأليفة أحياناً من ذعرها الأسود
وترحل متوارية خلف غيمة دكناء إلى موائد روحيّة
أعدّها في مواسم ميلاد هجين الغربة لكابي سارة
سماء حملانها الوديعة مختومة بأرقامٍ سحريّة
على خاصرة أفراس بيضاء ..
سماء تصنع من خيوط رعودها أقواساً
للجالس على عرش غيمة الصباح
تجتاز مواكب كبكبات سحبها تطهم خيولها الملوّنة
لحمل أقواسها عبر دروب الأبديّة ..

سماء مرساتها السوداء تداعب جدائل نساء الهاوية ..
متّكآتها من حجر صقيع أزرق حيث الختم
ومجترحات من فعل الكلمة فوق صوّانات هياكل قديمة ..
خواتيمها الذهبيّة مطبوعة على ثياب بيضاء
لامتصاص النور من أكاليل مرفوعة قبالة كواكب الصباح ..
سماء ذات مجرّات برّاقة
تحتسي من كؤوس الفداء خمرة .. كؤوسها من حصباء بيضاء..
في أطراف حدائقها الأزليّة سبع منائر من ذهب الإبريز ..
سماء الألف والياء بدايات لأبجديّة الروح الناطقة
بلغات جديدة تحت شرفات سقوف للروح الكلّية ..
تجترح في لقاءات الكلمة أعاجيبها في أفسس المبجّلة ..
منائرها مكتوبة بالأسماء سميرنا. حاملة أوسمة الثقة ..
برغامس .. لقاءات حكمة الروح تحت شرفات العقل
ثياتيرا .. فوق أجنحتها خطوط بيضاء لملاقاة عصافير الصباح ..
ساردس .. بأشعة قمر يرافق في دورانه أهليليجيات أقمار أخرى ..
فلادلفيا .. مسوّرة بحقول العطاء والخيرات ..
لاودكية .. حاملة ذخائر من بركات الكلمة الحيّة ..
سماء زنّار خواصرها ممنطقة بحزام من صوف أبيض
أكثر بياضاً من زنبقة الربيع ..
سوافيها كلهيب نار ووجناتها من سلاهب زرقاء ..
فوق جداول أصواتها أصوات من رقرقات مياه
وصوت خريرها كأصوات الأبديّة ..

سماء الألف والياء الأوّل والآخر..الشروق والغروب..البحر واليابسة ..
سماء من زمهرير داخل عظام مجفّفة قنواتها تروي بدم الحياة ..
من دهاليز صمت عميق عمق الآباد الآزال.
رتاجاتها خلف دوران كوكب فوق مصاريع العدم ..
نبالها مصنوعة من نيازكها ووجهها لا يحمل لون طحالب البرّية ..
حوافر خيلها بلون دراري المجرّة
تصنع مربّعاتها من روح الغمر ..

سماء تستقطر من أجفانها نقاطاً مدبّبة من ماء السماء
لإرواء أسراب السنونوات الأنيسة.
متّكآت فراديسها من حجر صقيع أزرق ..
سماء محروقة بدم البترول يغزو عفاف الهواء ..
محدودبة الظهر تئنُّ من أوجاع المدينة .
ثكناتها ملتقى لربوات من ملائكة الرحمن ..

سماء حجر لألفباء كتابة المراثي قبالة شمس حزيران ..
أجنحة طيورها ترفرف فوق مستشفى العزّل
حيث بعبع السلّ يزحف إلى بطانيات المرضى.
سماء من كلس ممزوجة ببودرة صباح الكآبة.
وورق أشجارها حاكته إبرة الصواعق ..

سماء ترفرف بأهدابها فوق أعشاش بلابل الجبال..
سماء أهيم بحبّها فأرى في مدارجها حقول وردة الشمس ..
سافرت نحو ساق الألف
في أعماقي تمور وتستيقظ غابات الألف
حيث مظلات روحي تتأقّلم داخل تجاويف الدمّ ..
في أرض غاباتها بلون البحر أسير حاملاً على منكبيّ كآبة الحزانى ..
أحياناً تتكوَّر في رئتيّ شهقة حمراء لانتزاع كلمات من لغة أحبّها ..
تمتدُّ عبر موانئ عقلي ..
جدرانها كغمام مخثّر يقتطع بفأس الريح ..
للسماء أثداءٌ وحليب الطهر والنقاء ..
في سماء ثالثة تجمُّعات هادئة لملايين الألف..
زرقاء اللون لكنّها غامضة ولولا غموضها لما اكتشفنا مجاهلها ..
تصنع عسلاً مدبّباً تنقله الريح وتزرعه مع خطميّة في وادي الاسرار..

الألف طوابقها لها أعماق ولها علوّ وبهجة حيّة صامتة ناطقة ..
ومن نور الألف تنصبُّ فوق جسورها سرادق لراحة روحها. .
لها أفق مصنوع من ترسانة رملها الذهبيّ ..
تنـزف في الصباح بقايا قشعريرتها
على جدران وأسوار مبنيّة من ملح البحر ..
تملّح غضاريف وانعكافات من عظام دلافين المحيط والأوقيانوس ..
تبيت في بيوت مسحور بموجات ماء مقدّس ..
بعيدة عن لهب الاحتراق!

السويد ـ سودرتالية 1999

الماء

هل تندحر الظلمة صوب الغمر
لتكتسح أعماق خليقة الماء؟
الماء لغة السماء،
طلٌّ عالقة مواكب سحبه بندى
يحتلب من أثداء الظلمة
رذاذ ماء الربيع
يرافق إشراقات لا مرئيّة عبر سنوات الضوء
يفتح الماء رحيقه ليغسل أردان الصباح

ماء كمعزوفات قيثارة تكسر بنوطاتها السرّية
على صخرة نغم الآباد
ماء من تفاعل سقسقات روح الآباد
خلاصة نقطة تتخثّر فيها أردان البدء ..
يتمطّى ..
يتثاءب فوق أعصاب متن الأزل وجَلَده

ماء يطوّق حافّات وحواشي أردان البحيرات
بظلاله الحانية فوق نافورات زبدٍ ناصع..
بداية امتداد لجذور الخليقة..
ماء من تراب، وتراب من ماء ..
التراب جذره الأصيل من الماء
يأخذها جفاف البرايا إلى خاصّته
ويحوّلها حفنة من تراب
يصنع منها ربى لليابسة..

ماء لصناعة جسر يقتطع بحر سُوف
يستنهض أمواجه العاتية ليقف ندّاً لعبور القوافل
يصغي إلى تهديدات ريح عالقة
بجدائل الغيوم!

الماء وجه لكواكب يسوّرها قمر المحبّة
يقتطع مسافات ضوئيّة بين الأفلاك
لملاحقة السوافي البعيدة
يناغي مجرّات تقع شرقي السماء..
وجهٌ منمّق
يسبح عبر سرمديات اللغة الّلامدركة
يستقصي الرطوبة في طبقات السماء

ماء مكرراً
ولعاب الغيوم يسيل بين أجنحة السماء وطبقاته.
ماء من انحدارات غيوم مهاجرة نحو العدم
يغسل وجهاً من ينابيع سرمديات التفاعل الأبدي،
والمخاض المنطلق من خفقات هديره المرعب
يحرّك عناصر الأشياء المتصارعة.
تحبل به بواطن الأرض ..

ماء في زحفه نحو الأشياء اللامرئية
ماء من بذرة محمولة على أجنحة رياح
قادمة من آفاق بعيدة
يزيح عن البحر ريحاً شرقيّة
يغرف من اليابسة هدير أمواجه
يحرّك ريحاً شرقيّة
يصنع عاصفة
تشق البحر إلى نصفين!

كم أنت في روعة جلالك مهيب
يا صانع ماء البحر وخالق تياراته
وأمواجه ولججه

الماء بغتة يتحوّل إلى أسوار تعانق مواكب الغيوم
والسحب المزيّنة عنان السماء
مدّ يمينك الحاملة عصا الربوبية فوق مجاهل البحر
وشقّه إلى نصفين
الماء في رضوخه التام، في رصانته الكاملة
يشلح قمصانه المبقّعة
بعصير ملح صحراء التيه
الماء في عنفه يلوي قامة فرعون
ويخضد سيفه
يهلك جحافل فرعون
ويغرق مركباته وجحافله وفرسانه..

الماء يناجي عساكر الله،
يتبخّر كعمود،
صانعاً قي فضاءآته سحباً ورديّة..
مَنْ يفصل الليل عن النور؟
مّنْ يغرس في ثنايا موجة الليل بذرة الصباح؟
مَنْ يفصل الماء عن البحر
واليابسة عن المحيط؟
مَنْ يعطي لليابسة سمكاً مجفّفاً،
وحيتاناً تغزو الماء في انشطاراته؟

جاء الهزيع الأخير من الصباح
والربّ يمدّ بطاقاته التي لا تقهر
يقف عامود من سحاب،
تغزوه إلى النصف كتلة من دكنة الليل
ونصف من وجنة الشمس
حيث النور يخترق سجف الماء
ظلام يرسم لوحاته على بقعة ضوء
ملوّحاً ومسافراً صوب الهزيع الأخير
الآن مُدّ طاقات العصا المذهلة في يديك

ولترجع قامات الماء الباسقة
وعلى مركباتهم وفرسانهم،
كريح عاصفة ترفس ماء البحر
عاد الماء وغطّى مركبات، وفرسان جميع جيش فرعون
عابراً وملاحقاً إيّاهم في وسط البحر

أغرقهم البحر بشباك صولجانه
تلك القوافل مشت وسط البحر
والماء حافّاته تصنع أسواراً من جاذبيات المدّ والجذر
ماء طاقة فاعلة منبجسة من أحشاء غمام
تمرّ مواكبه فوق وهادنا
من يطرح الفرس وراكبه؟
الماء قوّة..
أَليس هو الّذي بدّد آلات الحرب؟
الماء ركب أقفال ترانيمه وهتف للنصر..
لرقرقة السواقي المنحدرة نحو وهاد الطيب

ماء نغماته مضاعفة عبر تياراته المكسّرة
كبلّور حجر الإضاءة يغزو دروب النمل
ينبثق من وهادٍ معبّأة بعظام طيور البراري
تلاحقه وعول تربض قرب صخرة الصوّان
مَنْ يشتري وحي الصمت من هناك؟ مَنْ؟

الأرض أسافلها ماء صخورها مجوّفة بآلة الماء
الماء يغسل رخامه بعطور ماء الوعول
يطارد سلاحف ذاهبة مع تيارات نهر الأردن
ماء من بحر حافّاته مكسّرة
يتجمّد تحت ضلع صخرة دهريّة
يغسل حجارة مقدّسة لصنع ذبيحة للإله المخلّص..
ينابيع ثرّة تغسل قرميدة دهريّة ملوّنة بدم الشمس
مياه تعكس قامة ظلّها على رقرقات ماء
ينفجر من أعماق الأرض
الأرض أسافلها ماء
صخورها مقعّرة بالماء
رخامها الناصع تغسله بعطور عالقة
على جسد الوعول

أمواج مخطّطة بلون غزلان البراري
تلاحق بعيونها تيّارات من مياه ذاهبة إلى نهر الأردن
تهرع إلى حافّات بحر
رضاب زبد أمواجه المعتصر
من تفاعله يتكسّر كفضة بيضاء
على سواحله العارية..

ينبثق الماء من ضلع صخرة دهريّة
ماء، تتنفّسه، يلتهم غمره ورحيقه قارات لا مرئيّة
يغسل حجارة مقدّسة تُرفع فوقها ذبيحة الرضا
عطر لسماء تستقبل مواكب هابيل
يصنعون ذبيحة لإله مقدّس
الماء تناجيه أبدية الخضرة المُمْرَعة
يحرّك أحشاء مطلسمة تحلّق مع أشعة الروح
فوق عوالم خطوطها من عاصفة المطر
الماء صباحات جمال اللوز في حدائق أسوار نينوى
بخار أنفاسه بلون بلّورة متقنة
في تراكيب بياضها..

الماء أمير الغيوم..
يطبع على أجنحته ألواناً
من خطوط رحيق بنفسجة برّيّة
رائحتة تفوح شذا فوق جداول الينابيع
كهرولة الألوان على أجنحة خنافس
في ديارات قديمة..

أوقيانوس الذات لغة تنبثق من موجات لججه
نغماته مضاعفة عبر تيّاراته المتكسّرة
على بلّور حجر مضيء
ماء يغزو دروب النمل
ينفجر منبثقاً من وهادٍ معبّأة بعظام طيور البراري..
ماء داخل قنينة أصوات ضائعة
ماء مثل كهربائيات من عقيق أخضر
منحنيات البازلت تشعُّ نوراً مطعّماً برائحة
تربة وهاد البرّية
يسقي مزارع لسنابل تجاور إسفلتاً
يمتصُّ أشعة السواد الصافي
من رفرفات أجنحة الليل..

الماء آخر حركات غيوم
داخل شباك الشتاء
يصنع رياحاً عنيفة

الماء نار وعاصفة..
عروق من دخان
يسربل بلهيبه الأزرق
مؤخرة قوافل السحب..

ماء يتغلغل كإشراقات تفاعل الكواكب
واحتكاكها
كأنّ مأوى الماء في هضاب سماويّة
مياه في تساقطها الاستمراري
تتآكل تدريجيّاً
رائحة الماء تنبت
فروعاً في شجرة برّية؟
ومَنْ ينقل ديمومة الخضرة
إلى هذه الصحارى
سوى هذه الدفقات السحريّة
من ماء الينابيع؟
أليس من رائحة الماء تنمو خراعيبها؟

وأمّا أنت يا أيّها المتوسّد جزع شجرة قديمة
انظر!
أسرابٌ من عصافير الأرض
ترحل يوميّاً
نحو
ينابيع
أنهارٍ
مقدّسة!..

الأب الشَّاعر د. يوسف سعيد
السويد ـ سودرتالية 1999