التي زرعت الرجاء في تربة القلب

أندريه شديدليس من بديهيات المجاملات اللفظية بين رفاق المهنة الواحدة، على ما يخيّل إلينا، ان تستعير الكاتبة الفرنسية من أصل لبناني أندريه شديد عبارة الشاعر رينه شار "تكفيني المغادرة"، مستهَلاَ لموقعها الالكتروني الرسمي. والحال انها لم ترتو بهذا القدر وانما اقترفت أكثر، إذ رفّعت القول الذي استدعته من احدى قصائد الصوت الفرنسي الحاضر أبدا، لتجعله أعزّ مسلّمة تهدهد نفسها المتقلقلة في عمق الأعماق، خلال تسعة عقود ونيف من العيش في جوار الكتابة.

والحال ان الذهاب النهائي كما القطيعة الأكيدة في أحد الأيام مع الرابط الزمني، تبدّيا مسألتين خلاصيتين في عرف أندريه شديد التي رحلت مساء الأحد في باريس. هذا في حين قاربت الإستبسال للتشبث بالمكان والزمان كما المشي فوقهما بارتياب الى حين يدقّ ناقوس الحسم، مجرد هباء في هباء.

الى الأمس القريب، الى حين حلّت الكلمة الأخيرة في ملكوت الكلمات الغزيرة والمؤلفات المتناسلة، كانت الدرب مرئية في منطق اندريه شديد، بل جليّة تماما. قبل شهور عدة اصدرت رواية "ميتات جان دو ديو الأربع" (فلاماريون) التي جاءت بقصة حنونة ومصممة تعانق مناخ القرن العشرين. حامت في هذه الرواية، كما في سابقاتها، الارادة عينها في قول التمزق والعنف والحرب، في حين آثرت النأي عن الاستعراضي. في "ميتات جان دو ديو الأربع" تظهير للنقاوة والبساطة في نصّ يظل يرنّ بعد مغادرته حتى.

الحاجة الى الحياة في اعقاب صناعتها، لعنوانٌ ملائم لسيرة اندريه شديد. سكنت الكاتبة منزلا بجذور متشعبة، هام بين القريب والأبعد، ذلك ان الولادة المصرية في القاهرة تحديدا، لأسرة من أصول سورية لجهة الأم ولبنانية لجهة الأب، سطّرت أمامها منذ اليفاع خريطة مسار لا يتمهل عند محطة. أما التحصيل العلمي في مدرسة داخلية لدى راهبات القلب الأقدس في العاشرة حيث تعلمت الانكليزية والفرنسية، فأعادها يا للمفارقة الى دفء القاموس العربي. قبل ان يحين في الرابعة عشرة موعد الانتقال الى القارة القديمة ثم الرجوع الى القاهرة للالتحاق بالجامعة الاميركية حيث نالت اجازة في الصحافة.

في مطلع الاربعينات من القرن المنصرم، قصدت شديد لبنان حيث اقامت وزوجها ثلاثة أعوام ونشرت باكورتها الشعرية بالانكليزية، اما في منتصف الأربعينات فحملها التشتت اللبناني الأزلي الى الاستقرار في باريس. والحال ان الجينيالوجيا الشرق اوسطية والانتماء المتأخر الى فرنسا والغرب في الاجمال، جعلا رصيدها الكتابي مسكونا بتعدد الثقافة. كانت أشخاصا في شخص، لأنها قالت الشيء الكامن في شرنقة الأشياء وفي تكدس المقاربات. كان فنها على ما صنّفته، تعبيرا عن الحياة الباطنية والعلاقة مع العالم في آن واحد. بيد ان لبنان ظلّ حبل السرة الخفي، وظلّ التشبث بأرض الاسلاف ذريعة ملائمة لبحث لا يتعب عن انسانية حيوية واستفهام متّقد يرصد اوضاع المرء، تنظر اليها الكاتبة من فوهة الصدامات التي تسطو على حوض البحر الابيض المتوسط.

على هذا المنوال تبرز روايتها "الرسالة"، حكاية لا تكتفي بوشوشات الحب. تتأتئ الحوادث فيما تسقط القنابل ويتركز على السطوح قتلة معزولون ومتفاخرون، ذلك ان "حصول المرء على عدو يجعله أكثر أهمية". في ذاك المسار المخيف، يطحن اشخاص واماكن برمشة عين. اما جغرافيا الرواية فبيروت او ربما ساراييفو، وهي في كل حال ركن منزوع الاحشاء ومنتهك، حيث تخترق الرصاصات الفضاء، وتسود عمليات السلب في شوارع مأخوذة الى الصمت وأحياء مقفرة حيث المستشفيات باتت ركاما.

لم ينل قنوط الغرب من ايمان اندريه شديد العميق بالإنسان. بقي طازجا وواعيا، تستفيض في الحديث عنه في مجموعة "انفجار المستقبل- الأمل" (غاليمار، 2004) وتكتب: "زرعتُ الرجاء/ في تربة القلب/ اتبنّى مجمل الرجاء/ بفكره الهازئ". انه مرمى تتوق اليه اندريه شديد التي نالت "غونكور القصة القصيرة" وجائزة "لويز لابي"، وهو يلفّ قصصها القصيرة، على نسق "الجسد والزمن" (1979) وما يزيد على عشرين نافذة روائية. انه مرمى "اليوم السادس" ايضا، تلك الرواية- الموعد مع استحقاق الرحيل، في حين تحلّ الكوليرا، العدو المتربص. في اليوم السادس يخيّم البعث او الموت وليس من خيار ثالث متاح، فيما يسع الانتظار الفتاك، أن يأتي على المرء من شدة التحرق الى تجاوزه. اندريه شديد ها هنا، صاحبة نصّ فج في واقعيته، اختار منه المخرج المصري يوسف شاهين مطيّة لفيلم يلتصق بلحم المواطن المصري في "زمن الكوليرا". يترقّب طفل طافق بالحياة قبل حين بإسم حسن، ان يفهم على وجه التحديد، مساحة اجتياح الكوليرا لجسده الهزيل. في حين تسهر جدته الى جانبه (جسّدت داليدا دورها سينمائيا) في نباهة لا تضاهى، سورا يريد ان يبعد الموت الطارئ.

آمنت اندريه شديد أن الشعر لا يعني التخلي، وانما النظر عبر خروم الظاهري والواقعي، موقنة بأن التوافق بين الاثنين من اصناف المحال. يختزل مجلدان تجربتها الشعرية، احدهما "نصوص لقصيدة" (1949-1970) والآخر "قصائد لنص" (1970-1991).ليركن اليها "النسر الذهبي" في الشعر في 2003.

بحثت اندريه شديد بدءا من الطلق الروائي الاول "النوم المُنقَذ" ثم مع "المدينة الخصبة" (1972) و"درجات الرمل" (1981) وسواها، عن الجمال والحب في عالم صار يستجديهما. توفّر نصوصها غبطة ثنائية، ذلك انها تدين الى حسّ معاصر كما تأتي بأسلوب ألق حيث تخبو في الخلفية ذكريات باعثة للغنائية. تالياً، ليس من المباغت ان تكون كتبت للأطفال ايضا، في حين لم تتوان عن انجاز بعض النصوص يغنّيها ابنها لوي وحفيدها ماتيو، وهما من الهويات الفنية المعروفة فرنسيّا، فضلا عن ثلة من الأعمال مسرحية.

تتطلع اندريه شديد الى نصوصها من مسافة، لكأنها من طريق ذلك تنفصل عنها علّها تشعر بأنها لا تعنيها في المحصلة. والحال انها تجد في كلمة "المنجز" الأدبي، المستخدم لوصف ما اصدرته، مبالغة وافراطاً. اذا خُيِّرت ان تبقي بعض ما نشرته، لاحتفظت بالشعر وفق ما تقول، لأنه الأساسي ويمثل المنظور الحقيقي لما ذهبت اليه تدوينا. اما في الرواية فتصرّ على "الآخر" لقدرتها على التحوّل في الطريق الى الاكتمال، عبر اشكال تعبيرية عدة تأخذ من المسرح والسيناريو والقصيدة، فيما الحبكة بسيطة ودرامية ومستقيمة.

في مقابلة أجرتها اندريه شديد قبل أكثر من عشر سنين، مع مجلة "تيليراما"، افصحت انها سعيدة جدا لانتمائها الى الشرق الاوسط. قالت انها تشعر به ينبض في داخلها، لذلك دأبت تسعى الى إحيائه في الكتابة. قالت ان مصر المولد صارت عندما غادرتها تقيم فيها. اما اليوم (الأمس) فترغب عندما تصل اليها في ان تقلّد حركة البابوات، وان تجثو لتقبل ترابها. تستدعي اندريه شديد الشرق وتقترض منه بطيب خاطر، لكنها تردف "لكني لا أسمح له بأن يخنقني". تتحدث بلسان فردي، عمّا يمكن أن يصح أمثولة حياة للمواطنين في هذا القسط من العالم. انه كلام بمغزى راهن أكثر من أي زمن مصري سابق، نكاد نعقّب.

رلى راشد



شاعرة قبل كل شيء

كانت اندريه شاعرة قبل كل شيء. امرأة ذات أناقة فكرية وأخلاقية وجسدية نادرة. لطالما احببت ذكاءها، وسخاءها، وطريقتها الخاصة في التعامل مع اللغة الفرنسية. كانت انسانوية، تهتم بشؤون الانسان وشجونه، الي أي مكان وهوية انتمى. كنا نتلاقى بين حين وحين في مكتبها الباريسي، في شارع السين، نشرب الشاي ونتكلم في الأدب. وكم كانت تحب الشعراء، وتحتضن في شكل خاص اولئك الذين يحاولون خوض مجال الكتابة الشعرية.

تعرفت إلى اندريه عام 1974، وكان بيار ايمانويل هو الذي قدّمني اليها، خلال ندوة شهيرة حول الكتّاب العرب الذين يكتبون باللغة الفرنسية. مذاك عرفتها مثقفة شرقية منسحبة، أي بلا بهورات وتطرفات ومبالغات، وبلا ضجيج فارغ. قصيدتها تشبهها تماماً، وتحمل مثلها وزر الانسان، وزر الضعيف، وزر البريء المحاصر من الجهات كلها. تلك كانت تيماتها، وتلك كانت همومها.

الطاهر بن جلون

عائلتها هاجرت من لبنان الى مصر عام ١٨٦٠ ثم الى باريس عام ١٩٤٦
رحيل الروائية والشاعرة أندريه شديد في باريس عن ٩٠ عاما

رحلت الروائية والشاعرة الفرنسية من اصل لبناني اندريه شديد في باريس عن ٩٠ عاما.
ولدت اندريه شديد صاحبة كتب مثل اليوم السادس والآخر اللذين حولا الى فيلمين، في ٢٠ آذار ١٩٢٠ في القاهرة. وقد وضعت خلال مسيرة ادبية استمرت خمسين عاما مجموعة ادبية غنية ومتنوعة فيها نفحة انسانية كبيرة ومستوحاة في جزء كبير منها من انتمائها الشرقي والفرنسي المزدوج.
ولدت شديد في عائلة لبنانية هاجرت الى مصر في العام ١٨٦٠ وانتقلت للعيش في باريس العام ١٩٤٦. وقد اصدرت حوالى ٢٠ راوية وقصة فيما ضمت نتاجها الشعري في ديوانين هما نصوص من اجل قصيدة ١٩٤٩-١٩٧٠ وقصائد من اجل نص ١٩٧٠-١٩٩١.
ووضعت اندريه شديد كذلك الكثير من كتب الاطفال والمسرحيات فضلا عن اغان لابنها المغني لوي شديد وحفيدها المغني ماتيو شديد المعروف باسم ام.

وتحمل شديد اجازة في الادب من الجامعة الاميركية في القاهرة وكانت تتقن العربية والانكليزية والفرنسية. وبدأت تكتب الشعر في سن مبكرة ونشرت اولى نصوصها بالانكليزية قبل ان تختار الكتابة باللغة الفرنسية. وكانت تنظر الى فنها على انه تعبير عن حياة داخلية وعلاقة مع العالم في آن.
واختارت اعتبارا من العام ١٩٥٢ ان تكتب الرواية ايضا. وقد استوحت من الشرق الذي ولدت فيه لتروي في اعمالها الروائية في اسلوب انيق وشاعري مآسي فردية وجماعية لتعبر عن ايمانها بالانسان ومنها المدينة الخصبة ١٩٧٢ المنزل من دون جذور ١٩٨٥ والرسالة ٢٠٠٠.
وحازت اندريه شديد الكثير من الجوائز الادبية ولا سيما النسر الذهبي للشعر ١٩٧٢ وجائزة غونكور للرواية العام ١٩٧٩ عن كتابها الجسد والزمن.

مفهوم اللغة والتعبير

وقد كان لشديد مفهوم خاص للغة وأشكال التعبير والشعر عبّرت عنه في حديث لها عام ٢٠٠٠ دار فيه الحوار التالي:

لا بد بدءا من سؤال بديهي. اندريه شديد المستقرة في باريس منذ أمد بعيد، كيف تقوّم التأثيرات الاجتماعية والثقافية لبلدها الأم على أعمالها؟
يمكن اعتبار مصر بلدي الأم. أنا من عائلة لبنانية لكنها عاشت في مصر منذ ١٨٦٠. اذن، ثمة ثلاثة أجيال ولدت في مصر. أعتقد ان لذلك تأثيرا كبيرا، وهو أمر ملموس في قصصي ورواياتي خاصة، ومعظمها مستوحى من الشرق، ولا استثناءات إلاّ نادرا جدا. ثمة الجانب التاريخي المصري وأشياء تتعلق بلبنان كما في الولد المتعدد مثلا. لكن، ثمة تأثر خاص بمصر لكوني أمضيت طفولتي فيها. حتما، المكان الذي نمضي فيه طفولتنا أساسي، ويبقى محفورا في الذات ولا يغادرها البتة. ثمة شعور بالشرق يلازمني. أعي دوما انني من هناك. لكن، في النهاية، لست مستاءة من اقامتي هنا، ربما لأن باريس مدينة كوسموبوليتية ولا يشعر المرء فيها بأنه غريب. بيد اني أعرف انني أحمل شيئا من الشرق في داخلي، رغم عدم اتقاني اللغة العربية، ويزعجني فعلاً ألا أعرف لغتي الأصلية. انما أخال انني أفلحت، عبر كتبي، في ان أشهد، في شكل ما، على شرق معيّن بهذه الطريقة أتعزى.

هل تزورين مصر في انتظام وماذا تعني لك زيارتها اليوم؟
ليس في صورة منتظمة جدا، بل كل أربعة أو خمسة أعوام. كنت هناك قبل نحو عامين. أشعر بتأثر كبير حين أعود الى مصر. يكون احساسي ماديا تقريبا. انه الاحساس بملامسة أرضي.

ألم يدفعك هذا الشعور القومي - اذا جاز التعبير - الى محاولة الكتابة بالعربية بدلا من الفرنسية. وبالتالي، أليست ثمة جاذبية حتمية بين اللغة والهوية؟
في معنى ما، الفرنسية لغتي، لأنني نشأت في مدارس فرنسية. كنت أعرف قليلا الانكليزية ايضا. ووضعت مجموعتي الشعرية الأولى بالانكليزية، لأنني كنت شغوفة بالشعر الانكليزي. إذن، لم أشعر بأنني دخلت، مع الفرنسية، عالم لغة جديدا. منذ البدء، شعرت بأنها لغتي تقريبا. أنا ابنة هذه اللغة ولم تعترضني مشكلات في التأقلم معها. هكذا، مكثت دوما ابنة الشرق، وفي الوقت عينه ابنة اللغة الفرنسية. وفي موضوع الهوية، ثمة ما هو أعمق. هويتي مزيج ثالوثي. أنا تقريبا من بلدان ثلاثة، والأمر يفرحني. يفرحني انتمائي الى ثلاثة بلدان. وأعتقد اننا كلما انفتحنا على الخارج ازددنا ثراء. ان هوية مغلقة جدا في المكان الذي ولدنا فيه ليست مسألة ايجابية جدا. في رأيي. ينبغي القيام بحركة والتطلع الى الخارج والانفتاح على العالم، ولا سيما في هذه المرحلة التي تشهد انفتاحا تاما على كل المستويات.

ألا تراودك قط فكرة الكتابة بالعربية؟
بدأت باكرا جدا الكتابة بالفرنسية. لا أخفي انني كنت أقلق لعدم اتقاني العربية بغية التعبير بها. لكن، في أي حال، اعتبر الكتابة في الأصل مشكلة. ومن الصعب لي الكتابة بلغات عدة. اخترت الفرنسية منذ بداياتي لأنني كنت في قلبها.

كتابات للسينما

اقتبست حديثا بعض أعمالك للمسرح، وقدمت في مهرجان افينيون. هل ترين ان النص الممسرح يخسر من وهجه أم ان أبعادا جديدة تلتصق بالنص الأصلي؟
روايات وقصص كثيرة لي لعبت سينمائيا ومسرحيا. كما انني كتبت خصيصا للمسرح. مبدئيا، لا أرفض اقتباس أعمالي. وحين يطلب الي شباب صاعدون تقديم أعمال لي، أكون سعيدة جدا. اذن، لا أرفض البتة هذا الأمر.
مع ذلك، ثمة مجازفة أحيانا في حرف النص عن خطه الجوهري.
كلا. لا أخشى ذلك. حين يتناولون عملي اعتبر انه بات ملكا لهم. حين يصدر الكتاب يصير من حق كل شخص ان يراه على طريقته. لا يسعني مراقبة نظرة كل قارىء الى العمل. أدع له الحرية. المسرح يضفي، بالطبع البعد الانساني على النص. يتحوّل النص الى لحم ودم، الى حقيقة، في طريقة ما، المسرح يقدم اضافة الى النص الأصلي.

تنتمين الى فئة الكتّاب الذين يعالجون مناخات قصوى في المعاناة الانسانية، اي ان معظم شخصياتك شخصيات معذبة ومقهورة. لم هذا الخيار؟
أولا، لأنني في طبيعتي متفائلة، أعشق الحياة. لكن، أعتقد ان تفاؤلي هذا لا يعني بالضرورة ان أعصب عيني كي لا أرى ما يجري في الحياة. هنا أعود الى ما قلته لي قبيل الشروع في حوارنا، أن لا اكتمال للحرية طالما ان هناك من يعاني. شعوري مماثل تقريبا لشعورك هذا.
وذاك يعني فعلا، انه ينبغي التصدّي في قوة لكل اشكال العذاب والحرب والعنف والكوارث. لكن الحياة، رغم كل ما ذكرت، ثمينة جداً، وينبغي ان نحبها، ان نحترمها. هذا رأيي، اعشق الحياة. اراها هدية خارقة.

هل ثمة من هو وراء تلك الهدية؟
لا أدري شيئاً. انه السر، قبل وبعد، اجهل تماماً. لكنني ارى ان ثمة عظمة تتجاوزنا حتى انني اعجز عن تحديدها، ثمة اوقات تبقى فيها امور معينة داخل السر، في اللغز، هذا لا يزعجني. كل شاعر يتأمل السر. وقد يكون هذا السر ملكوت الله، او شيئاً آخر، لا ادري على الإطلاق، لكنني ارتضيه واحترمه. أجل السر الذي يتجاوزنا، ثمة شيء فينا يتجاوزنا. هذا أكيد والا لما كان الشعر والموسيقى، ولما كان الإنسان يقوم بما هو محاولة للخروج من ذاته، من جلده. السر حقيقي. لكن ماذا يعني تحديداً ثمة عظمة وسمو في مكان ما، لكنني لا أحسن تسميتها.

اذن، الفن عامة والشعر في شكل خاص مرصودان على السر. لكن كيف تأخذ القصيدة لديك طريقها اليه؟ اي مسار لتكوّنها؟
القصيدة هي حقاً، ارتقاء المرء، بالنسبة إليّ، اكتب اولاً بلا اي ترتيب، كيفما اتفق. ولاحقاً، اعيد العمل على الشكل كثيراً، لانني اعتبر ان الشعر هو المضمون، وهو الشكل كذلك. كان فيكتور هوغو يردد قولاً احبه كثيراً الشكل هو العمق الذي يطفو على الوجه. الكل يشعر، لكن التعبير عن المشاعر يستلزم قالباً متماسكا ومضبوطاً، من هنا، اشتغالي الكثير على القصيدة. أصقلها كثيراً، أنظفها ابحث عن التعبير والكلمة الأصح والأدق.
اما الحال الأولية للقصيدة فشبيهة باليرقانة، بالأرض التي تغلي.

بين الصفاء والقلق، لأي منهما الدور الأكبر في تحريض اندريه شديد الشاعرة والروائية؟
استبدل عبارة الصفاء ب الأمل او حب الحياة. هذا يفوق الصفاء. أرى حال الصفاء مماثلة للبحيرة في سكونها. اعيش اوقاتاً من القلق، من الكآبة والحزن... لكن، ثمة عرفان للحياة يتجاوز الشاعر، اذن، القلق موجود استمراراً. ثمة ألف سبب للقلق: تاريخ الكون، كل ما يدور من حولنا. اصدقاء يمرضون. ثمة الموت. انما لدي في المقابل، شهية كبرى للعيش، ودهشة ازاء الحياة، وذاك ما يسعفني ويحملني. إذن، القلق أمر جيد في صورة ما. ثمة جرعة من الحزن ضرورية للكتابة. حين نكون في الهدوء والطمأنينة الكاملين، ويكون العالم خالياً من اي مشكلة، اي في جنّة أرضية، عندئذ، ربما نروح نموج، وتنعدم لدينا كل رغبة، اي رغبة. من هنا، ليس سيئاً بعض الوخز من القلق والألم، ثم اننا لا نستطيع الإفلات من هذا الوخز.

مسارك مع الكتابة طويل وبات لك انتاج رحب ومتنوّع، واسع الإنتشار. إلام تتطلعين اليوم؟
اولاً، لديّ مشروع، الكتابة، مشروعنا. في الحياة يحملنا، يساعدنا لنحيا. انا دوماً في خضم مشروعي، واتمنى ألا ارضى يوماً عنه تماماً، لأتمكن دوماً من الاستمرار في ال ماتش حتى النهاية. هل من تطلعات اخرى؟ تعرفين، الزمن يمر، وينبغي ان نسعى الى الاحتفاظ بالشفافية، والى التمتّع بالقدرة على الاستمرار.

هل ساورك لوقت شعور بالعجز عن المتابعة؟
حتى الآن، انا قادرة على المتابعة. لا اعرف هل سيدوم ذلك طويلاً. الآن، بلى أشعر بالمتعة في المتابعة.

لا بد احياناً من انحياز الكاتب الى جانب إبداعي لديه على حساب جانب آخر. هل توافقين؟
شخصياً، الشعر لي جوهري. لكنني كتبت الرواية أيضاً لأنني أحب الجانب الانساني للأمور، ثم انني مسكونة بالوجوه الانسانية وأحبها. الشعر أعمق. إنه السؤال حول معنى الحياة نفسها. إنه ال لماذا. نحن هنا، كيف؟ ما هو ذاك الزمن الذي يعبر؟ الرواية أكثر انطواء على ما هو متجسد. ثمة ناس، وحكايات، ووجوه. أحب التنقل بين الشعر والرواية. لكن الجوهري لديّ، قلب الأشياء، نخاعها الشوكي، عمودها الفقري، وهو الشعر. إنه التساؤل المستمر حول المعنى.

وهل قدر الشاعر ان يكابد دوماً مرارة السؤال؟
أنا لا أبغي حلولاً تضحك ممازحة. عنونت أحد كتبي نصوص من اجل قصيدة، ثم كتاباً آخر قصائد من اجل نص. ذلك يعني الشيء نفسه. نكتب نصوصاً ونصوصاً في محاولة للوصول الى القصيدة الأخيرة، متمنين ألا نصل أبداً الى تلك القصيدة.

معاناة الكتابة

لكن الكاتب يدرك ثقل معاناة الكتابة وقد يشعر احياناً بحاجة الى نوع من المهادنة مع الكتابة.
ضاحكة: أتعب حين لا أكتب. لكن، أتمتع بنسبة جيدة من الكسل. يمكننا الا اقوم بأي عمل في وقت معين، وحين يكون ثمة ما يزعجني ويضايقني. لكن هذا جيد، وأعرف كيف أريح نفسي. في النهاية، أنا شرقية.

كيف تتفاعل اندريه شديد مع المشهد الأدبي الراهن؟
يهمني كثيراً. أحاول ان اقرأ قدر المستطاع، خاصة شعر الشباب والاعمال الروائية الجديدة. لكن، ثمة اصدارات غزيرة يصعب معها تكوين فكرة دقيقة. ثم انني ارى ان من الصعب الحكم حين ننتمي الى العصر نفسه. اعتقدا ن اعمالا ستبقى وأخرى لا. اطالع يمنة ويسرة، لكنني لا استطيع الحكم في وضوح. اجد ان جميع النزعات الكتابية ممكنة اليوم. اعتقد ان ثمة طرائق تعبير مختلفة، وان ليس ثمة مدارس، كما في الماضي، السوريالية والرواية الجديدة مثلاً. يبدو لي ان الكتابة تشظت كثيراً وان ثمة اشكالاً وفيرة مختلفة لها.

هل هذا شيء صحي، في رأيك؟
طالما ثمة انتاج فهو أمر مرض. طالما ان البشر يرغبون في الخلق، في الرسم، في الغناء... لمَ لا؟ الاحكام تأتي لاحقاً، والفرز يحصل فيما بعد.

هل تملكين حنيناً ما الى مدارس أدبية قديمة معينة؟
شخصياً، لا أحبذ المدارس. انا مستقلة جداً بطبيعتي. اهتممت بتلك المدارس التي ذكرت لكنني لما أنتمِ الى أي تجمع أو مدرسة على الاطلاق.

رددت كثيراً خلال الحوار أنك شغوفة بالحياة، لكن ثمة استحقاقاً علينا جميعاً مواجهته هو الشيخوخة. كيف تواجهينها؟
أنا في الشيخوخة اليوم. لا يسعني أن أخشاها، والا بات الأمر محزناً جداً. ليس الأمر مريحاً. لكن ثمة أجيالا أتت وستأتي، وبالتالي لا يمكننا أن نعمّر طويلاً جداً، والا صار الامر خطيراً. يأتي وقت تهجرنا الأشياء. قوانا تهجرنا. أما الشيخوخة فأمر نقبله.

عدا الكتابة، ما هي انشغالاتك اليومية؟
أقوم بأمور كثيرة. أولاً، أحب المدينة كثيراً. أعشق التجول والتنزه في أرجائها. أحب ارتياد المقاهي الصغيرة حيث يمكنني مشاهدة الناس يعبرون. أعشق ذلك.

هل لأن تلك المشاهد موحية للكتابة؟
قد يترك آثاراً بسيطة. الى ذلك، لدي اصدقاء كثر، لدي أولاد وأحفاد.

ما دمت ذكرت الأولاد والأحفاد، كيف تحددين علاقتك بأسرتك؟
في قلبي حنان وحب كبيران لعائلتي، وأعتقد أن هذه العاطفة جزء من كياني. وعائلتي تبادلني جيداً تلك العاطفة. الا انني مستقلة جداً وجميع القريبين مني مستقلون ايضا. وأجد هذا الوضع جيداً جداً، اذ أرى أنه ينبغي الا ننزع الى تملك الآخر.



غياب اندريه شديد الشرقية الهوى الغربية الانتماء

شديد بين ابنها المطرب لوي (الى اليمين) وحفيدها المطرب ماتيوباريس - أ ف ب - توفيت الروائية والشاعرة الفرنسية من اصل مصري لبناني اندريه شديد في باريس عن 90 سنة. وشديد هي صاحبة رواية «اليوم السادس» التي حولت فيلماً سينمائياً بتوقيع يوسف شاهين وتمثيل داليدا. ولدت في 20 آذار (مارس) 1920 في القاهرة، ووضعت خلال مسيرة أدبية استمرت خمسين سنة مجموعة كتب غنية ومتنوعة فيها نفحة إنسانية كبيرة ومستوحاة في جزء كبير منها من انتمائها الشرقي والفرنسي المزدوج.

ولـــدت شديد لعائلة مسيحية لبنانية هاجــرت إلى مصر في العام 1946 وانتقلت إلى العيش في باريس العام 1960. أصدرت حوالى 20 رواية وقصة فيما ضمت نتاجها الشعري في ديوانين هما «نصوص من اجل قصيدة» (1949-1970) و «قصائد من أجل نص» (1970-1991).
ووضعت شديد كذلك العديد من كتب الأطفال والمسرحيات فضلاً عن أغان لابنها المغني لوي شديد وحفيدها ماتيو شديد المعروف باسم «ام».
وتحمل شديد إجازة في الأدب من الجامعة الأميركية في القاهرة وكانت تتقن العربية والإنكليزية والفرنسية. وبدأت تكتب الشعر في سن مبكرة ونشرت اول نصوصها بالإنكليزية قبل أن تختار الكتابة بالفرنسية.

وكانت شديد تنظر إلى فنها على انه تعبير عن حياة داخلية وعلاقة مع العالم في آن. واختارت اعتباراً من العام 1952 أن تكتب الرواية أيضاً، فاستوحت من الشرق الذي ولدت فيه لتروي في أعمالها الروائية في أسلوب أنيق وشاعري مآسي فردية وجماعية لتعبر عن إيمانها بالإنسان ومنها «المدينة الخصبة» (1972) «المنزل من دون جذور» (1985) و«الرسالة» (2000).
وحازت شديد الكثير من الجوائز الأدبية لا سيما النسر الذهبي للشعر (1972) وجائزة غونكور للرواية العام 1979 عن كتابها «الجسد والزمن»، ومنحت وسام الشرف الفرنسي وهي متزوجة من البروفسور لوي انطوان شديد.

الثلاثاء, 08 فبراير 2011



وفاة الشاعرة الفرنسية من اصل لبناني اندريه شديد

اندريه شديد أندريه شديد (20 مارس 1920 - 6 فبراير 2011)، شاعرة وروائية وكاتبة فرنسية. ولدت في القاهرة لأسرة مسيحية من أصل لبناني.
عندما كانت في العاشرة من عمرها تم إرسالها إلى مدرسة داخلية حيث تعلمت الأنجليزية والفرنسية ، وفى الرابعة عشر من عمرها سافرت إلى أوروبا ولكنها عادت ثانية إلى القاهرة لتدرس بالجامعة الأمريكية ، ولا تعرف أندريه شديد الحدود بين البلدان حيث تقول في أحد مصنفاتها الشعرية (إننى أنتمى إلى بلد بلا علم وبلا حبال تربطك).
أقامت أندريه شديد في باريس منذ عام 1946 حين كانت في السادسة والعشرين من عمرها ـ وتزوجت من عالم أحياء وأنجبت ميشيل ولويس شديد وهو مغنى فرنسى مشهور، ولها حفيد هو مطرب الروك الفرنسي لوى شديد.

بدأت أندريه شديد مشوارها الأدبى عام 1943 بمجموعة من الأشعار المكتوبة باللغة الأنجليزية ولكنها سرعان ما تبنت اللغة الفرنسية ، ويسود الشرق ومصر القديمة وريف مصر الحديث أعمالها القصصية التي منها :

  • الرماد المعتق 1952
  • جوناثان 1955
  • الحاسة السادسة 1960
  • نوم الخلاص

ومن أعمالها الشعرية :

  • نصوص لوجه 1949
  • نصوص للقصيدة 1950
  • نصوص للحى 1952
  • نصوص للأرض الحبيبة 1955
  • أرض وشعر 1960
  • أخوة الكلام 1976

وقد حازت على العديد من الجوائز منها :

  • جائزة لويز لابيه عام 1966
  • جائزة النسر الذهبى للشعر 1972
  • الجائزة الكبرى للأدب الفرنسى من الأكاديمية الملكية ببلجيكا عام 1975
  • جائزة أفريقيا المتوسطة عام 1975

توفيت الروائية والشاعرة الفرنسية من اصل لبناني اندريه شديد مساء الاحد في باريس عن 90 عاما على ما ذكرت الاثنين دار فلاماريون للنشر. ا ف ب - باريس (ا ف ب) - توفيت الروائية والشاعرة الفرنسية من اصل لبناني اندريه شديد مساء الاحد في باريس عن 90 عاما على ما ذكرت الاثنين دار فلاماريون للنشر.
ولدت اندريه شديد صاحبة كتب مثل "اليوم السادس" و"الاخر" اللذين حولا الى فيلمين، في 20 اذار/مارس 1920 في القاهرة. وقد وضعت خلال مسيرة ادبية استمرت خمسين عاما مجموعة ادبية غنية ومتنوعة فيها نفحة انسانية كبيرة ومستوحاة في جزء كبير منها من انتمائها الشرقي والفرنسي المزدوج. ولدت شديد في عائلة مسيحية لبنانية هاجرت الى مصر في العام 1860 وانتقلت للعيش في باريس العام 1946.

وقد اصدرت حوالى 20 راوية وقصة فيما ضمت نتاجها الشعري في ديوانين هما "نصوص من اجل قصيدة" (1949-1970) و "قصائد من اجل نص" (1970-1991) ووضعت اندريه شديد كذلك الكثير من كتب الاطفال والمسرحيات فضلا عن اغاني لابنها المغني لوي شديد وحفيدها ماتيو شديد المعروف باسم "ام". وتحمل شديد اجازة في الادب من الجامعة الاميركية في القاهرة وكانت تتقن العربية والانكليزية والفرنسية. وبدأت تكتب الشعر في سن مبكرة ونشرت اولى نصوصها بالانكليزية قبل ان تختار الكتابة باللغة الفرنسية. وكانت اندريه شديد تنظر الى فنها على انه تعبير عن حياة داخلية وعلاقة مع العالم في آن.

واختارت اعتبارا من العام 1952 ان تكتب الرواية ايضا. وقد استوحت من الشرق الذي ولدت فيه لتروي في اعمالها الروائية في اسلوب انيق وشاعري مآسي فردية وجماعية لتعبر عن ايمانها بالانسان ومنها "المدينة الخصبة" (1972) "المنزل من دون جذور" (1985) و"الرسالة" (2000). وحازت اندريه شديد الكثير من الجوائز الادبية ولا سيما النسر الذهبي للشعر (1972) وجائزة غونكور للرواية العام 1979 عن كتابها "الجسد والزمن". وقد منحت وسام الشرف الفرنسي وهي متزوجة من البروفسور لوي انطوان شديد.

GMT 18:22:00 2011 الإثنين 7 فبراير



رحيل الشاعرة أندريه شديد: يغيب الوجه ويبقى جماله

عيسى مخلوف

أندريه شديد ودّعتنا الشاعرة والروائية أندرية شديد، هي التي ولدت عام 1920 في مصر من أبويين لبنانيين، كانت تنتمي إلى تلك البُقعة من الشرق وإلى العالم أجمع في الوقت نفسه، لأنّها كانت تؤمن بأنّ هويّة الكاتب أبعد من الحدود الضيّقة لهذا البلد أو ذاك التي تحميها الجيوش والسياسات والمصالح.
ولا نفاجأ بأن يكون نتاجها الأدبي، شعراً ونثراً، يشبهها، هذا النتاج الوفير والمتنوّع مسكون بنزعة إنسانية خالصة ميّزت هذه المرأة طوال أكثر من نصف قرن، وجعلت اسمها في كلّ مكان مرادفاً للتسامح والحبّ والجمال، وهذا ما يطالعنا بشكل واضح في دواوينها ورواياتها، من "الرماد المعتَّق" إلى "نصوص للأرض الحبيبة".
صحيح أنها جاءت إلى باريس وهي في السادسة والعشرين من العمر، لكنها ظلّت تحلم بالأمكنة التي تشرق منها الشمس، وكانت تلك الأمكنة حاضرة في شعرها وقصصها القصيرة ورواياتها ونصوصها المسرحية، خصوصاً في كتابيها "اليوم السادس"، و"الآخر"، اللذين تحوّلا إلى فيلمين سينمائيين.

التقيتها للمرة الأولى في "معهد العالم العربي"، فحدثتني عن لبنان وأطلعتني على ما كتبته حول الحرب الأهلية (أفردت لها كتاباً بعنوان "البيت الذي بلا جذور") وكانت جمرتها لا تزال مشتعلة، حدثتني عن أخطار النظام الطائفي وضرورة تغييره. وأشارت إلى مسؤولية اللبنانيين أولاً والعالم أجمع، في حماية هذا البلد المتعدّد كمختبر للثقافة وكنموذج حيّ لقدرة البشر على التعايش.
توالت لقاءاتنا في مكان يدعى "ليزيتان دوكورو"، الواقع في قلب الطبيعة بين مدينة فرساي وباريس، حيث كنا نتأمل في جمال الأشياء بعيداً عن الرعب الذي يحدّق بالبشر وأحوالهم.
مرّات قليلة التقيتُ أندريه شديد، لكنني دائماً ما كنتُ أقرأها، وفي كلّ مرّة كنتُ أشعر بندرة شخصيتها وثراء حضورها هي التي كرّست حياتها للإبداع وراهنت عليه بصفته جسراً يجمع بين البشر مهما اختلفت جنسياتهم ودياناتهم وثقافاتهم. كأنّ الإبداع، بالنسبة إليها، هو الهوية الحقيقية والعميقة للإنسان، وهو الردّ الأمثل على الحروب والعنف المتأتيان من الظلم واللاعدالة والاستبداد.
تمضي أندريه شديد وتبقى ألحانها في قلوبنا، ووهجها لا يبارح مكانه، وهو متواصل في تلك الكنوز من الكتب التي تركتها كوديعة بين أيدينا.

جريدة الرياض



أندريه شديد... القلب المعلّق

أبقت عينيها مفتوحتين على شراسة العالم

في أحد مدافن «مونبارناس» الباريسيّة، ترقد الآن الكاتبة الفرنسيّة، اللبنانية الجذور المصريّة الهوى، التي غادرتنا الأحد الماضي. صاحبة «اليوم السادس» اتخذت من الأدب ملاذاً للذين أساءت الحياة معاملتهم .

سناء الخوري

أندريه شديد في الأيام الأولى لـ«ثورة الغضب»، فكرة تردَّدت بإلحاح: يوم قَتَلت سامية زوجها بطرس في إحدى القرى المصرية، كانت قد فقدت القدرة على تحمّل المزيد. فناء ذلك الرجل، كان المتنفّس الحتمي لاحتقان ربّته لسنوات بطلة أندريه شديد في «النوم الخاطف» (1952؛ عرّبه صادق سليمان عن «دار الهلال»/ 1991).
الفعل العنيف المباغت كان سبيلها للتطهّر. لم يتوقّع سيّد المنزل الرجعي، ورب العمل الظالم، والذكر المقيت، أن تقتله زوجته المشلولة الخرساء... لكنّ الأخيرة اختارت وسيلتها الفضلى للانعتاق من زيجة مدبّرة، في مجتمع منغلق. حين كتبت أندريه شديد (1920 - 2011) تلك الرواية، كانت الشاعرة المصرية - اللبنانية - الفرنسية تحكي عن جيل كامل من معاصراتها يرزح تحت نير التقاليد الذكورية. اليوم يبدو فعل سامية استعارة ممكنة لانتفاضة الشعب المصري. لكنّ أندريه شديد لم تمتهن النبوءات يوماً... كلّ ما فعلته الأديبة التي انطفأت في باريس الأحد الماضي، أنّها تركت إرثاًً مهماً، نتنبّه الآن ونحن نودّعها، إلى أنّه غنيّ بالومضات الوجوديّة المشابهة.
صاحبة «اليوم السادس»، واجهت مبكراً سؤال تحرُّر المرأة. كانت طفلة حين اختارت والدتها الطلاق، مسدّدة بذلك صفعةً جريئة لعائلتها المسيحية المحافظة. على ضفاف النيل، ولدت أندريه صعب في مطلع «العشرينيات المجنونة» لأبوين لبنانيين، هاجرت عائلتاهما إلى مصر عام 1860. في «أمّ الدنيا»، تعلّمت في «مدرسة راهبات القلب الأقدس» حيث كانت تقرأ التراجيديا الإغرقيّة بالخفاء، وتحلم بأن تصير شاعرة. درست لاحقاً الأدب في «الجامعة الأميركية في القاهرة» وكتبت نصوصها الأولى بالإنكليزية، قبل أن تتبنى الفرنسية لغةً للعيش والتفكير والشعر (نالت جائزة «غونكور الشعر» عام 2002).

توزّعت حياة أندريه بين ضفاف النيل أولاً، وضفاف السين التي انتقَتها «موطناً اختيارياً» مع زوجها الطبيب لوي أنطوان شديد مطلع الأربعينيات، مروراً ببيروت على مشارف عصرها الذهبي. في باريس، أنجبت ولديها المغني لوي، والتشكيلية ميشال. وهناك أيضاً حثّها الشاعر الفرنسي رينيه شار، على نشر قصائدها الأولى. نشرت باكورتها الشعريّة عام 1948 بعنوان «نصوص من أجل صورة»، تلاها «نصوص من أجل قصيدة» (1950)، وعشرات الدواوين وصولاً إلى «بطانة الكون» العام الماضي.
اهتدت لاحقاً إلى الرواية والمسرح، لكنّ الشعر بقي لذتها الحميمة، فمارسته لـ«كتابة الأشياء الخفية التي تغلي في عمق كلٍّ منا»، كانت تقول. لغة القصيدة امتدّت إلى كتابتها السرديّة، وحتى إلى نصوص أغنيات شعبيّة ألفتها لحفيدها المغني الفرنسي ماتيو شديد المعروف بـM.
لم تُقِم أندريه شديد في لبنان إلا سنوات قليلة، لكن الحرب الأهليّة أوحت إليها بعض أجمل أعمالها. كما تضعها التصنيفات الأكاديمية في مقدمة الكتّاب «اللبنانيين الفرنكوفونيين» جنباً إلى جنب مع صلاح ستيتية وأمين معلوف.

لا يمكن وصف مؤلفات صاحبة «الآخر» (1969) بالسياسية أو النسويّة. يمكن القول إنّها امتهنت نوعاً من الأدب الإنسانوي الذي يجده كثيرون وصفةً متكاملة للمقررات المدرسيّة والأكاديمية. بقيت تيمتها الأثيرة ذلك البحث الأبدي عن الإنسانية بمختلف تجلياتها. بحث يبلغ في لغتها حدّ الشغف، كما في مجموعة قصصية بعنوان «القلب المعلّق» (1981). في كتاباتها هوس ما بالكائنات المكسورة. «أريد أن أبقي عينيّ مفتوحتين على آلام الناس، على شراسة العالم» كتبت. روايتها غالباً مسكونة «بكل من أساءت الحياة أو التاريخ معاملتهم»، كتب الطاهر بن جلون مرة. ملأت نصوصها بروائح السقوط (زلزال، وباء، حرب...)، وبالجروح غير المندملة. في «اليوم السادس» (1960) التي تدور أحداثها في مصر في زمن الكوليرا، يبدو ارتباطها جليّاً بالشرق وذاكرته. في «الطفل المتعدد» (1989) كتبت عن «عمر ــــ جو» الطفل الذي أدّى انفجار في الحرب الأهلية اللبنانيّة إلى قتل والديه وبتر أطرافه.
وفي «الرسالة» (2000) تتبعت رحلة ماري المصابة بطلق ناري، لملاقاة ستيف، لتخبره أنّها ما زالت تحبّه... في روايتها الصادرة أخيراً «الميتات الأربع لجان دو ديو» (فلاماريون ـــ 2010) تستعيد تيمات مثل الحياة نفسها، والدين، والآخر، من خلال سيرة تمتدّ بين الحرب الأهلية الإسبانية، وسقوط جدار برلين، مستوحاة من ترحال «جان دو ديو».
لم تتوقف صاحبة «الآخر» عن الكتابة، رغم إصابتها بالإلزهايمر. وثّقت تجربة مرضها هذه في سلسلة قصائد بعنوان «موت»، منها «ضقت ذرعاً بأن أفنى/ يوماً تلو الآخر/ وبأن أفقد في النسيان/ كل غد لي/ عصارة الذكريات/ لم تعد تسكنني/ الصمت يستقرّ». كلمات أشبه بغناء البجعة أو رقصتها الأخيرة، تؤديها تلك الأديبة الأنيقة.

يوسف شاهين وجيرودو

أندريه شديد ألهمت نصوص أندريه شديد فيلمين سينمائيين، أنجز أوّلهما الراحل يوسف شاهين (1926 - 2008). حوّل صاحب «المصير» رواية «اليوم السادس» (1960) إلى شريط سينمائي عام 1986، يعبق بالقلق والفقد. صحيح أنّ الفيلم ليس أفضل ما أنجزه «العمّ جو» في مسيرته الطويلة، إلا أنّ صورة داليدا الملتحفة بثوب غسالة صعيدية، تبقى بصمةً لا تمحى في ذاكرة السينما العربيّة. تؤدي النجمة هنا دور صادقة التي هجّرتها الكوليرا مع حفيدها حسن من قريتها إلى القاهرة. إصابة حسن بالوباء تجعلها تخفيه في مكان آمن، ريثما يمرّ اليوم السادس.
السينمائي الفرنسي الراحل بيرنار جيرودو (1947 - 2010)، اقتبس عام 1991 شريطه «الآخر» عن قصة لشديد صدرت عام 1969، وكانت تعدّها أقرب أعمالها إلى قلبها. إنها قصّة سيم، العجوز المجنون الذي يحاول إنقاذ شاب من تحت أنقاض زلزال.

أندريه شديد الروائية المفتونة بجذورها المصرية

محمود قاسم

الخميس, 10 فبراير 2011

أندريه شديد أجرت مجلة «مدام لوفيغارو» في عدد 7 تموز (يوليو) 1988 تحقيقاً مصوراً تحت عنوان I love Paris وكان عنوانه مفتاحاً لفهمه، فهو عن مدينة باريس في منظور ثمانية من الأدباء الأجانب الذين يعيشون فيها. ومن بين هؤلاء الكتاب بيتر تاونسند والكاتبة آن هيبير، وأندريه شديد، التي غيبها الموت أخيراً عن عمر ناهز التسعين سنةً، مع العلم أنها كانت تقيم في فرنسا منذ عام 1946، أي أن أكثر من أربعين سنةً لم تشفع لها أن تصبح كاتبة فرنسية. فما زال المجتمع الفرنسي ينظر إليها على أنها كاتبة أجنبية. ولعل هذا يدلّ على حال الازدواجية التي كانت تعانيها. فكما هو معروف فأندريه شديد خصصت صفحات طويلة من أدبها الذي أبدعته وهي في باريس للكتابة عن مناطق جذورها وبلادها التي جاءت منها، سواء مصر أو لبنان.

وإذا كان ألبير قصيري هو أبرز الأدباء العرب الذين كتبوا الرواية باللغة الفرنسية، فإن أندريه شديد تُذكر دائماً كأنها على مساواة مع قصيري، وهي كاتبة متنوعة الإنتاج والإبداع، فهي شاعرة نشرت ثلاثة عشر ديواناً، وروائية لها سبع روايات، فضلاً عن أنها نشرت مجموعتين قصصيتين وثلاث مسرحيات، وبحثين عن لبنان، وثلاثة سيناريوات للأطفال، وحصلت عن هذا الإبداع الغزير على خمس جوائز أدبية، منها جائزة غونكور في القصة القصيرة لعام 1979. هذه الكاتبة تنتمي بجذورها ونشأتها إلى بلدين عربيين: لبنان بحكم أصل الأسرة (صعب)، ومصر بحكم المولد والنشأة والثقافة.

ولدت أندريه صعب في القاهرة عام 1920، ودرست في المدارس الفرنسية في المدينة قبل أن تسافر إلى لبنان وتعود إليها مرة ثانية، لتستكمل دراستها في الجامعة الأميركية، ثم ما لبثت أن تزوجت بالعالم لويس شديد الذي كان عليه أن يرحل إلى باريس عام 1946 فسافرت معه واختارت أن تبقى هناك.

تقول أندريه شديد: «في عام 1942 كنت شابة صغيرة تركض وراء فراشات القاهرة. في هذه الفترة لم تكن تراودني فكرة الكتابة، غير أنني أردت أن أصنع شيئاً ما في حياتي، التي كانت مكونة من المسرح والرقص والتمثيل. بالصدفة وحدها، بدأت برسم - ولا أقول كتابة - بعض أبيات الشعر بالعربية والإنكليزية، عبرت عن العنف والموت وهدف الحياة. اتخذتُ اسماً مستعاراً هو أندريه لايك منعاً للشبهة. بقيتُ على هذه الحال حتى عام 1946. ذات يوم مشمس من أيام باريس، دخلتُ إلى مكتبة تبيع مطبوعات شرقية، نقلتُ أسماء المجلات كي أقيم معها الاتصال، رحب بي ناشر، كان هو أيضاً الناشر الأول لجورج شحادة. عام 1948 انعطفتُ نحو القصص. نشرتُ حكايات عن مصر في مجلات مختلفة، ثم ظهرت روايتي الأولى «نوم الخلاص» وهي تدور حول مصير المرأة الشرقية ومصاعب حياتها في شبكة العلاقات السائدة».

أندريه شديدبطلة هذه الرواية تدعى «سامية»، وهي مسحوقة الشخصية، تفرض عليها عائلتها زوجاً قاسياً يمنعها من التعبير عن آرائها. وبعد سلسلة من المشكلات الحادة تموت ابنتها، وفي ذروة اليأس تقتل زوجها. نُشرت هذه الرواية في سلسلة «روايات الهلال» القاهرية تحت عنوان «النوم الخاطف» وأفضل ترجمة لهذا العنوان le sommeil delivre هو «نوم الخلاص»، و «سامية» في هذه الرواية عبارة عن سلعة يتم التقايض عليها من أجل زواجها، فهي تتزوج برجل على قدر من يسر الحال بعد أن أصاب العوز أباها الذي كان ميسوراً يوماً ما. وبينما هي في المدرسة، تفاجأ بأخيها يأتي إليها ويأخذها كي تتم الصفقة باسمها. فهي نفسها الصفقة، وتترك مدينة أسيوط في صعيد مصر كي تعيش في قرية صغيرة، في منزل يتحكم فيه زوجها الذي يكبرها بسنوات، ثم أخته العانس التي تتحكم في كل شيء. وتكتمل سعادة «سامية» عندما ترزق بطفلة تحولها من شيء في البيت إلى كيان، إلى أم تنبض بالأمومة المتدفقة في عروقها. لكن الصغيرة، بعد أن كبرت قليلاً، تصاب بنوبة من البرد، ونتيجة لإهمال الأب وسلبيته ولقلة خبرة «سامية» بالحياة، تموت. ولا تجد الأم سوى أن تقتل زوجها أمام عيني أخته المستبدة. وفي وصف الجو والعالم تحس أن أندريه شديد عاشت ردحاً من الزمن في صعيد مصر، فهي تعرف عاداته، وسلوك أبنائه، فـ «سامية» نموذج للمرأة المصرية التي يعاملها الرجل غالباً على أنها شيء مكمل في البيت.

وعبّرت شديد عن هذا العالم في بقية رواياتها بمنظور آخر مكمل، وبخاصة في روايتها «اليوم السادس» le sixeme jour المنشورة عام 1960، ونحن هنا في هذه الرواية أمام امرأة أخرى، أنضج خبرة، وأكبر سناً وتعيش بين المدينة والريف. المدينة هي القاهرة، والزمن في الرواية عام 1947، حين انتشر مرض الكوليرا، والمرأة اسمها «صديقة»، إنها جدة لطفل صغير تركته لها ابنتها وماتت. و «صديقة» تذهب في أول الرواية إلى قرية «بروات» للعزاء في وفاة أحد أقاربها حيث جالت الكوليرا هناك وصالت وحصدت الكثير من البشر. كان على «صديقة» أن تترك حفيدها حسن ليوم واحد كي تلتقي أهلها الذين لم ترهم منذ سبع سنوات. وفي القرية يردد «صالح» - أحد الأقارب - قائلاً لها: «بوسعك أن تعودي من حيث أتيت. لقد جئت بعد فوات الأوان. لم يعد هنا سوى الأموات لاستقبالك، فالكوليرا تحوط العجوز في كل مكان». تلك المرأة التي لم تعرف في حياتها سوى الأحزان. فقد ماتت ابنتها الوحيدة قبل فترة قصيرة وتركت «حسن» لتربيه. وتجيء أهمية هذه المرحلة من خلال ما جاء على لسان «صالح» أيضاً في الصفحات الأولى من الرواية: «إن الكوليرا لا تهم أهل المدن في شيء، إنها تهمنا نحن فقط».

وتكاد تكون «نوم الخلاص» و«اليوم السادس» الوحيدتين اللتين تدور أحداثهما في مصر الحديثة، من بين أعمال أندريه شديد. أما بقية أعمالها عن مصر فهي تدور في التاريخ الفرعوني، والتاريخ القبطي، مثل روايتها «إخناتون وحلم فرعون» (1964) وهي أيضاً مترجمة إلى العربية، وموضوعها الأساس هو الدفاع عن قدسية الحياة الزوجية، وعن الأمل في وجه قسوة التاريخ. فبطلة الرواية تموت في النهاية بعد قصة حب كبيرة. وقبل غيابها تؤكد في لحظة أمل أن الموت ليس نهاية الحياة، إنه فقط مجرد نهاية للمصير الأرضي.

أما الرواية الثانية التي تدور في مصر من خلال التاريخ فمنشورة عام 1982 تحت عنوان «دروب المزمن» Les marches du safle ونحن هنا أمام ثلاث من النساء في القرن السادس الميلادي: «سير»، و«ماري»، و«اتاناسيا»، هن في أعمار مختلفة، جئن إلى الصحراء القاسية من عوالم متباينة، ولأسباب أيضاً تختلف، يلتقين ويقررن أن يذهبن إلى الصحراء من أجل أن يعشن معاً في مصير واحد. وجاءت هؤلاء النسوة من مدينة الإسكندرية ومن بعض القرى المصرية القريبة منها.

وعن تاريخ مصر القديمة قدمت أندريه شديد مسرحيات عدة مثل «برنيس مصرية» Berenice d’egypte التي تعد أفضل ما كتبت في مجال المسرح، وتدور الأحداث في مدينة الإسكندرية، بين عامي 58 و55 قبل الميلاد.

كتبت أندريه شديد روايتين تدور أحداثهما في لبنان الأولى عام 1985 تحت عنوان «منزل بلا جذور» La maison sans racines والثانية عام 1980 تحت عنوان «الطفل المتعدد» L’enfant multiple. وتدور أحداث الروايتين في زمن الحرب الأهلية. أما عن الروايات القليلة التي كتبتها أندريه شديد ولم تذكر فيها شيئاً عن الشرق، فهناك رواية بعنوان «الآخر» توحي أحداثها بأنها تدور في لبنان حول صداقة تنمو بين شاب ورجل عجوز رأى منزلاً ينهار عليه. نشرت شديد مجموعة من الدواوين، ويتسم شعرها بأنه بالغ الخصوبة، مجرد غالباً من الأزمنة والأماكن، على عكس رواياتها، وهي أشعار يصعب ترجمتها إلى أية لغة. فهي تعزف على معاني الكلمات من خلال مقاطعها وكلماتها القصيرة، وتؤمن أن «صمام الشعر» أو مفتاحه هو الغموض، ويجب على الشاعر أن يغوص داخل دهاليز مليئة بالأسرار والألغاز والطلاسم: «أحاول قدر الإمكان أن أبين الأشياء واضحة. ولكن هناك أشياء مختلفة في الشعر، ويجب أن تكون لنا فيه مسالك جديدة». وعن الشعر أيضاً تقول أندريه شديد: «إن العالم الهائج الغامض السري الذي نحمله في داخلنا يفتش عن نوافذ يطل منها نحو الخارج. الشعر هو إحدى هذه النوافذ، إنه خارج الأعمار والأجناس والألوان والجغرافيا، إنه مرادف للحرية أو بديل لها، ولا تحده حدود القسوة أو الدم. إنه قصائد أحياناً، تسقط منها نقاط الدم، دم أسئلة عن الموت والحياة والحب والمرأة، وظمأ إلى سعادة لا تكتمل أبداً».

في عام 1988 نشرت أندريه شديد مجموعة قصصية تحمل عنوان «عوالم مرايا ساحرة» وقالت في مقابلة مع مجلة arabies «إن العوالم هنا هي التجارب الإنسانية التي عشتها، أما المرايا فهي التي تنعكس عليها ذكرياتي الحقيقية، وأحياناً الملابس التي أرتديها والتحولات التي أمر بها».

وأضافت: «أنا سعيدة لأنني أعيش في أماكن متعددة، أنا أعيش كالتراب في حرية ولكن ليست لدي النية في أن أقتلع جذوري في شكل مأسوي. أحس أنني أنتمي إلى الشرق والغرب، وقد كتبت كثيراً عن مصر ولبنان، ومصر هي وطني الحقيقي». وفي مقابلة مع مجلة «المصور» القاهرية نشرت في 14 حزيران (يونيو) 1988 قالت: «لا أعاني من تمزق في المنفى أو من صعوبات التكيف، أشعر أنني أعثر على نفسي وذاتي في التعددية الثقافية. إن مناخي المفضل هو التناغم بين الشرق والغرب، هنا أميز بين نقاط التكامل والاختلاف. إن علاقات شرقية تسيطر على كتاباتي، من النادر العثور على علاقات غربية، جذوري في مصر ولبنان، شعوري شرقي، نبضي هو نبض المرأة الشرقية، الإحساس أقوى بكثير من الأساس الجغرافي».

لم تتوقف أندريه شديد عن الإبداع على رغم تقدمها في السن، ففي 1992 نشرت مجموعة قصصية بعنوان «في الموت والحياة»، ومسرحية «كش ملكة»، ونشرت في 1995 ديوانين هما «وراء الكلمات»، و «أراضي النفس». أما أحدث رواياتها فهي «فصول الممر» عام 1996، و «لوسي المرأة الأفقية» عام 2000. وقد حصلت أندريه شديد على مجموعة كبيرة من الجوائز الأدبية نذكر منها: جائزة لوي لابيه عام 1966، وجائزة النثر الذهبي للشعر عام 1972، والجائزة الكبرى للأدب الفرنسي التي تمنحها الأكاديمية الملكية في بلجيكا عام 1975، ثم جائزة أفريقيا البحر المتوسط عام 1975، وجائزة غونكور في القصة القصيرة عام 1979، ثم جائزة في الترجمة الأدبية عام 1992.

الحياة- الخميس