ت. س. إليوت (1888 - 1965)

ترجمة وتقديم
شريف بقنه الشهراني

 ت. س. إليوت ولد توماس ستيرنز إليوت في سانت لويس بميزوري العام 1888، من عائلة سكنت منطقة نيوانغلاند منذ القدم. درس في جامعة هارفارد وتخرّج منها بإجازة في الفلسفة، ثم تابع دراسته في السوربون، وهارفارد، وكلِّيتَي ميرتو وأكسفورد. استقرّ في إنكلترا، حيث كان لفترة من الوقت يعمل كمدرّس وموظّفاً في البنك، بعد ذلك عمل محرّراً أدبياً في دار نشر «فابر آند فابر»، وأصبح مديراً لها في وقت لاحق. أسَّس وحرّر مجلة «كريتيريون» الأدبية لفترة سبعة عشر عاماً (1922 - 1939). وفي العام 1927 نال الجنسية البريطانية، بينما حصل في العام 1948 على «جائزة نوبل».
كان إليوت واحداً من أكثر الشعراء جرأة وإبداعاً في القرن العشرين. سار وفق منهج شعري رصين يتمثّل في رؤيته إلى أن الشعر ينبغي أن يستهدف تمثيلاً حقيقياً لتعقيدات الحضارة الحديثة في اللغة، وهذا التمثيل بالضرورة يؤدي إلى صعوبة الشعر. وبالرغم من صعوبة رؤيته إلا أن تأثيرها على الحركة الشعرية اكتسح جميع التوقّعات وقتها وحتى اليوم. شعره بدءاً من «بروفروك» وصولاً إلى «أربع رباعيات» يعكس نضجاً متسارعاً لشاعر شاب: أعماله المبكرة، وخصوصاً «الأرض اليباب» (1922) التي تصوّر عالماً تشاؤمياً وتنقل تعبيراً عن رعب مذهل يصاحب البحث عن عوالم أخرى بعيدة. في «أربعاء الرماد» و«الرباعيات» يصبح هذا العالم أكثر وضوحاً، ونرى إليوت بنكهة مسيحية في بعض أعماله مثل «إعادة شمل العائلة» رغم أنه غالباً ما نأى بنفسه عن أن يكون شاعراً دينياً. في مقالاته، لا سيما المتأخّرة منها يدعو كثيراً إلى الحفاظ على التقليد في المجتمع وكذلك في الأدب؛ الأمر الذي يتناقض مع كتابته الأدبية الجريئة الرائدة في الخلق والتجديد. أما في «ملاحظات حول تعريف الثقافة» فنرى رجلاً أكبر من الشاب شاعر «الأرض اليباب»، غير أننا لا يجب أن ننسى أن تقليدية إليوت هي كائن حيّ يضمّ في داخله الماضي والحاضر في تفاعل مستمرّ ومتبادل.

الرجال الجوف

الرجال الجوف (1925) إحدى أهم قصائد إليوت، موضوعها كما الكثير من قصائده متداخل ومتفرِّع، لكن من المتفق عليه أنها تتحدّث عن حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى في أوروبا و«معاهدة فرساي» (التي يحتقرها إليوت)، كما تتحدّث عن صعوبة الحفاظ على الأمل، ناقلةً أجواء من تحوّلات دينية وفلسفية ونفسيّة عميقة، وبحسب بعض النقّاد هي تنقل كذلك طقوساً من زواجه الفاشل.

ميستاه كورتز - بين الموتى(*)
I

نحن الرجال الجوف
نحن الرجال المحشورون
نترنّح سويّة
مثل رؤوس من القشّ.
واحسرتاه
عندما نهسهس لبعضنا
بأصوات قاحلة
نبدو بلا جدوى مدجّجين بالصمت
كريح تهبّ على عشب يابس
أو كأرجل فئران تسير على زجاج مكسور...
في قبونا اليابس.

أشكالٌ بلا هيئة، وظلالٌ بلا لون
قوى مشلولة تومئ بلا أدنى حركة.

أولئك الذين عبروا
صوب مملكة الموت بجسارة
والأعين لا تنام،
يتذكّروننا بعد ذلك
لكنهم لا يتذكّروننا كأرواح متوهّجة
ضلّت عن الطريق
وإنّما كرجال جوف
كرجال محشورين.

II
العيون التي لا أجرؤ على التحديق فيها في الأحلام...
في مملكة أحلام الموت
هي ذاتها التي تغيب:
هناك، العيون
ضوء شمس ينسكبُ على عمود مكسور
هناك، الأشجار تتراقص
وثمة أصوات في الريح تغنّي...
أصوات أكثر بُعداً وأكثر وقاراً
من نجم يغيب

لا تدعني أقترب أكثر،
في مملكة حلم الموت
دعني أرتدي أيضاً
تلك الأقنعة التكهّنية
من جلود الفئران وريش البوم وفزّاعات الحقول
دعني أحاكي الريح في حركتها
ولا أقترب أكثر...

وذلك ليس آخر اللقاءات
في مملكة الشفق الأحمر.

III
هذه هي الأرض الميّتة
هذه أرض الصبّار
هنا صُوَر الحجر
تضرُّع كفَّي رجل ميّت
تحت بريق نجمٍ آفل...

هل هي كذلك...
في مملكة الموت الأخرى
نسير فرادى
في تلك الساعة
وعندما نرتعش من الوجع الرقراق
الشفاه التي تُقبِّل
تجعلُ من المصلّين حجراً مهشّماً.

IV
العيون ليست هنا...
لا توجد عيون هنا
في وادي النجوم الهالكة
في هذا الوادي الأجوف
هذا الفكّ المهشّم لممالكنا الضائعة.

في آخر ﺃماكن اللقاء
نجتمع سوية
نتجنّب الحديث
نجتمع على شاطئ النهر المتورّم.

العمى...
إلا ﺃن تعود العيون إلى الظهور
كنجم سرمدي
كزهرة أورقت
في مملكة شفق الموت
لمجرّد ﺃمل
لرجال فارغين.

V
ها نحن نحوم حول التين الشوكيّ
تين شوكيّ... أيها التين
ها نحن نحوم حول التين الشوكيّ
منذ الخامسة فجراً

ما بين الفكرة والحقيقة
ما بين الحركة والفعل
يسقط الظلّ...
ملكوتك مملكتك.

ما بين التصوّر والخلق
ما بين الشعور وما بعد الشعور
يسقط الظلّ...
حياةٌ ذات ﺃمد طويل...

ما بين الرغبة والتشنُّج
ما بين القدرة والوجود...
ما بين الجوهر والانحدار
يسقط الظلّ
لملكوتك مملكتك.

لملكوتك
حياة ناجزة
ولملكوتك...

على هذه الطريقة ينتهي العالم
على هذه الطريقة ينتهي العالم
على هذه الطريقة ينتهي العالم
ليس بصيحة مدوّية
وإنما بالأنين.

(*) اقتباس من رواية «قلب الظلام» للبولندي البريطاني جوزيف كونراد.

استهلالات

I
المساءُ الشتائيّ يسترخي
برائحةِ شرائح اللحم في الممرَّاتِ.
الساعة السادسة.
أعقاب مُحترقة من أيام مُدخّنة
والآن ينهمر دُشٌّ عاصف
النفاياتُ الوسخة
للأوراق الذاوية حول قدمَيكَ
وصُحُف عن أقدار خاوية؛
زخّات العاصفة تُرذرِذُ
الستائرَ المهترئة وقدورَ المدخنةِ،
وفي زاويةِ الشارعِ
حصان أجرة وحيد يتململ وينفثُ البخار.
بعد ذلك تضيءُ المصابيحِ.

II
الصباحُ يستعيد وعيه
روائح البيرة تفوحُ شاحبة موهنة
من شارع مغطّى بنشارة الخشب
وبتلك القدم الموحلة التي تطأُ
حتّى طاولات القهوة في الصباح الباكر
وبالتنكّر للآخر
ذاك الذي يستهلّه الوقت،
أحدُنا يتأمّل كلّ تلك الكفوف
التي ترفع ظلالاً قذرة
في ألف غُرفة مُؤثَّثة.

III
رَميتِ بطّانيةً من السرير،
واتكأتِ على خاصرتك،
وانتظرت؛
نعستِ، وشاهدتِ الليلَ يُفشي
ألفَ صورة قذرة
لما تقمَّصته روحك سَلَفاً؛
خفقتِ باتجاه السقف.
وعندما عاد العالمُ أجمع
وانسلَّ الضوءُ من بين الدرفات
وسمعتِ الزقزقات في البالوعات،
بات لديك الآن تلك الرؤية عن الشارع
بينما الشارع بالكاد يستوعب؛
جلوسكِ على حافّةِ السرير،
لتضفري الأوراق من شَعرك،
أو تتحسّسي قَدَمك الحافية الصفراء
بيدَيكِ الملطَّختَين.

IV
تعلّقت روحه بشدّة عبر السماءِ
تلك التي تَخفُت خلف كتلةِ مدينة،
أو لعلّها سُحِقَت بأقدامِ فظَّة
عند الرابعة والخامسة أو الساعة السادسة؛
وأصابع قصيرة تحشو الأنابيب،
وصُحُف مسائية، وعيون
متيقِّنة من افتراضات محدَّدة،
الضمير لشارع ينفُدُ من القنوط
لن يتريّث ويتوقّع العالم.

إنني أحومُ بالصخب الذي ينفتل
حول هذه الصورِ، ويتدلَّى:
النزوةُ لسرمديّة رقيقة
سرمديّة عناء لن يفنى.

غطِّ فمك براحةِ يدَيك، واضحك؛
تدورُ العوالمُ مثل امرأة أزليّة
تكوّم الوقود في القدور الخاوية.

المراجع: مختارات من الشعر الأمريكي، اختارها وترجمها: شريف بقنه الشهراني - دار الغاوون (بيروت) 2011

من كتاب مختارات من الشعر الأمريكي - دار الغاوون (بيروت) 2011