أعمالها الكاملة عن داري «المدى» و «المتوسط»

خليل صويلح

«أفكّر في الأمر، وفي الوقت نفسه، أعلم‏ أنني لن أستطيع أن أغادر هذا القفص،‏ حتى لو سمح لي الحارس بالذهاب،‏ فقد فقدت القدرة على الطيران بعيداً». بمثل هذه الضربة المباغتة، تختزل فروغ فرخزاد (1934- 1966) سيرتها في العصيان والتمرّد والسخط. وليمة شعرية دسمة تضعنا في مهب أحاسيس مضطربة لفرط جسارتها في اقتحام حقول الألغام، غير عابئة بفضيلة الحشمة الكاذبة.

هذه شاعرة استثنائية لطالما عملت على «ترويض الحواس» وتصعيد أحوال الشهوة إلى طاقتها القصوى، من دون مراوغة. كأننا على موعد بين حقبةٍ وأخرى ببزوغ نيزك شعري ملتهب، سينطفئ باكراً بسبب الإسراف في الوجع والألم والوحدة. نيزك على هيئة جملة اعتراضية تخلخل المعجم الشعري، وتنسف أسوار الأوزان والقوافي، نحو بريّة مكشوفة لا تحجبها ستائر البلاغة.
هذه سيلفيا بلاث أخرى، «انتحرت» بحادثة سير في طهران. على الأرجح بسبب شرودها خلال قيادتها السيارة نحو مجرّة أخرى أقل عذاباً، لتصطدم بجدار حقيقي هذه المرّة. بموت مبكّر من هذا الطراز، لن نستغرب الحمّى الشعرية التي عاشتها ببسالة بوصفها سيرة موازية لحياتها الملتهبة إلى آخر حدود الامتصاص، وإذا بها تترك ندبة ضخمة في تاريخ الشعر الفارسي بما يعادل ميراث حافظ الشيرازي أو عمر الخيّام، ولكن من ضفة أخرى مضادة، متلمسة مفردات حسيّة فجّة وشهوانية في وصف أحوالها ومكابداتها وأشواقها «في الظل لا تنمو الشجيرة أبداً» تقول. زيجة فاشلة، وطلاق، أديا إلى طردها من منزل ذويها، إذ اعتبر والدها الكولونيل أن طلاقها يقع في باب العار. لكن ماذا تفعل شاعرة حسّاسة مثلها حين تجد نفسها محاصرة تحت ضغط الأعراف الصارمة؟ ببساطة انتهت إلى مصحّ عقلي. جنون؟ ليكن، فالشعر في نهاية المطاف هو نوع من الجنون واللاعقلانية. هكذا وجدت حلّاً ملائماً في مقاومة هذا الحصار الخانق، بالسفر إلى روما، ثم إلى ميونخ في رحلة طويلة. وإذا بشعرها يذهب إلى بوصلة أخرى، باتكائها على ثيمات جديدة تتمحور حول العزلة في المقام الأول، العزلة التي تتناسل بطبقات من الحزن والوحدة والجدران العالية بمرايا متشظية تنطوي على اضطرابات روحية. تصف تلك الفترة بما تسميه «التخبط السريع اليائس للذراعين والقدمين، وشهقات النفس الأخيرة قبل الانعتاق». الانعتاق هنا يتمثّل بتعرّفها على الكاتب والسينمائي إبراهيم كلستان، ثم عشقها له، وإذا بهذه العلاقة العاصفة تتخذ هيئة الملاذ الحميم بعد انكساراتها الحياتية المتلاحقة. ها هي نافذة في الجدار تنفتح على بهجة مباغتة لم تعشها قبلاً (أفرج إبراهيم كلستان عن رسائلهما المتبادلة أخيراً). بتدبير من هذه العلاقة، اتجهت الشاعرة المحبطة إلى السينما مخرجة وممثلة، وكان فيلم «المنزل أسود» الذي رصدت فيه أحوال مستعمرة للجذام في تبريز، خطوة لافتة في السينما التسجيلية. تعلّقها بهذا السينمائي ثم فراقهما، ترك ندوباً عميقة في حياتها وشعرها «لم تهبني قلبك، عندما كنتُ كالنار/ أحترقُ عطشاً إلى جسدك. كنتُ في مدرسة أحلام كوكب الزهرة، قد تعلّمتُ فنون الجاذبية والفتنة» تقول. رغم ذلك لم تنكسر، فقد واجهت الصعاب والإشاعات بجسارة وأسى «الطريق بلغ نهايته، وقد وصلت من الدرب مشعّثةً مغبرّة/ عطشى والدرب لم يوصلني إلى النبع. واأسفاه كانت مدينتي قبراً لآمالي». كأنها هي الأخرى مصابة بجذام محيطها المغلق، فعالجته بالكتابة، عتبة وراء أخرى راكمت معجماً للأشواق بمذاقٍ وحشي برنين لغوي متوتّر، مفترقة عن مجايليها بقوة النبرة واستنفار الحواس، والنظرة المغايرة. تكمن أهمية شعر فروغ فرخزاد إذاً، باتكائها على الخبرة الشخصية، أو ما يسميه أرشيبالد مكليش «شعر التجربة»، ذلك الذي تنشئه الحواس والانفعالات الداخلية والرغبة بالطيران خارج قفص الأعراف «قلبي يشتاق إليك في غرفتي ويحتاجك عند ساعات العصر المثقلة بالحرّ والخَدر، عند تلك الغفوات الصيفية... أحقاً سأراك ثانية وسأقبّلك؟». هذا المقطع من إحدى رسائلها إلى إبراهيم كلستان، نموذج على ذلك التماهي بين اضطرابات العيش وتحريرها في الكتابة، فهي تردم المسافة تماماً ما بين صبواتها الشخصية وشعرها، أو تناوب الغريزة ووعي الذات كما في كتابها الأخير «لنؤمن ببداية فصل البرد» (1967). قصائد نافرة جُمعت بعد رحيلها المفجع، أقرب ما تكون إلى خفقة طائر بجناحٍ مكسور: «الريح تعصف في الشارع، منذرة ببدء الخراب. أشعر بالبرد، ويبدو أنني لن أعرف الدفء مجدداً. أشعر بالبرد وأعرف أن ما من شيء سيبقى سوى بضع نقاط من الدم». هذا الوضوح في مواجهة مصيرها وضع نصوصها في شباك اليأس والفقدان. صدور أعمالها الكاملة بلغة الضاد بترجمتين («دار المدى»، ترجمة مريم العطّار ـ و«دار المتوسط»، ترجمة محمد أمين الكرخي)، فرصة ثمينة لتلمّس تلك النتوءات النافرة في شعرها وسيرتها وتمرّدها، وإلى تلك التقاطعات الصريحة مع نصوصها لدى سلالة من الشاعرات العربيات في ما يخص قصيدة الجسد، أو كتابة العصيان، وكأنها لم تغب يوماً.

 

 

***

بيان لإعادة ترتيب الحياة

n09111701.jpg

مريم العطار

لقاءٌ مُرٌّ

في النهايةِ.. ستضربُ بلّورَ الأملِ
على الأرضِ وينكسرُ
مغرورٌ.. تشعلُ في القلبِ ناراً أبديّةً
ألقيتُكَ.. يا للويلِ.. أيُّ لقاءٍ موحشٍ!
إنَّك تنسى ذلكَ الوعدَ الذي جمعَنا
رأيتُكَ.. يا للويلِ.. أيّةُ رؤيةٍ!

لا نظرةَ
لا شفاهَ
لا شررَ أنفاسٍ
لا رغبةَ.. ولا عناقَ
أيُّ حبٍّ هذا الذي في قلبِكَ!
وما جنيتُ منْهُ؟
تهربُ منّي وفي البحثِ عنْكَ
أسعى دونَ جدوى
مرّةً أخرى.. شفتايَ الملتهبتانِ
تبحثُ عنْ شفتيْكَ
قلبي ينبضُ وبدقّاتِهِ يروي حديثَ الحبِّ
القدرُ لوْ فرّقَني منْكَ
سأفكُّ العقدةَ مِنَ القدرِ.. لا بأسَ
أخشى مِنْ هذا الحبِّ في النهايةِ
يجرُّني إلى الترابِ
صمتي مليءٌ بركودِ الذكرياتِ
شِعري هوَ شعلةُ مشاعري
أنتَ خلقتَ منّي شاعرةً أيُّها الرجلُ
الحبُّ أمامَكَ تجلّى كالشرابِ
ثمَّ اختفى
حينَ أدركَ وقوعي في الحبِّ
صارَ كالنقشِ على الماءِ
وماتَتْ في القلبِ الأماني
تقبيلُ شفتيْكَ يدبُّ في الروحِ
رأيتُكَ ويا لتلكَ الرؤيةِ
ما كانَ هناكَ صدرٌ لأغفو عليهِ
ولا حضنَ لأبكيَ فيهِ
ألعنُكَ وألعنُ هذا الحبَّ وأغبطُكَ
في النهايةِ ستضربُ بلّورَ الأملِ
على الأرضِ وسينكسرُ
مغرورٌ.. تشعلُ في القلبِ ناراً أبديّةً
من المجموعة الشعريّة الأولى (الأسيرة ـــ 1953)

الإجابةُ

n09111702.jpg

يضحكُ الربُّ على وجهِ القمرِ
رغمَ أنَّنا لمْ نلتفتْ إلى ضفافِ رحمتِهِ
لكنَّنا كالزاهدينَ المذنبينَ الذين يرتدونُ الخِرَقَ
لمْ نحتسِ النبيذَ بعيداً عنْ عيونِ اللهِ
ولمْ نكوِ جبينَنا - فرطَ الذنوبِ - بالسوادِ
أفضلُ مِنَ السجودِ في صلاةِ الرياءِ
لمْ نذكرِ اسمَ اللهِ بينَ شفتيْنا
ونخدعِ العالمَ بذكرِ اسمهِ
لمْ نعدْ نحزنُ لوْ شيخٌ بينَ الجموعِ
أغلقَ في وجوهِنا - وهوَ مسرورُ - أبوابَ الجنّةِ
هوَ سيفتحُ.. هوَ.. ذلكَ الذي يلطفُ بنا مِنْ صفائِهِ
كأنَّهُ خلقَ طينةَ وجودِنا مِنَ الحزنِ
العاصفةُ لمْ تأخذْ مِنْ شفتيْنا الابتسامةَ
كأنَّنا جبالٌ نجلسُ وسطَ البحارِ
ولأنَّ الصدرَ مكانُ جوهرِ الحقيقةِ..
جلسْنا أمامَ أمواجِ الأحداثِ وحدَنا
نحنُ.. نحنُ الذينَ سمعْنا طعناتِ الزاهدينَ
نحنُ..نحنُ الذين شققْنا ثيابَ التقوى
لأنَّ تحتَ هذهِ الثيابِ - غيرَ الغشِّ والكذبِ
لمْ نرَ مِنْ هؤلاء العابرينَ شيئاً
هذه النيرانُ التي تشتعلُ في قلوبِنا
لوْ كانتْ بقلبِ هذا الشيخِ
لما قالَ لنا نحنُ الذينَ نحترقُ فرطَ شرر ِالحبِّ
إنَّنا مذنبونَ..
دعْهُمْ يطعنونَ ويهمسونَ في آذانِ بعضِهِمْ حكايةَ حبِّنا
لمْ يمتْ أبداً ذلكَ الذي اشتعلَ قلبُهُ مِنَ الحبِّ
في صحيفةِ العالمِ مخلّدٌ عنوانُنا.
من المجموعة الشعريّة الثانية (الجدار – 1957)

تمرّدُ الربِّ

لوْ كنتُ إلهاً لناديتُ الملائكةَ ليلاً
لتخلّصَ فلسَ الشمسِ مِنْ فرنِ الظلامِ
كنتُ أقولُ لحرّاسِ البساتينِ بغضبٍ
ليقطعوا ورقةَ القمرِ الأصفرِ مِنَ الغصنِ
في منتصفِ الليلِ وراءَ ستائرِ الغرورِ
قبضةُ غضبي ستحرّكُ العالمَ
ويدي المتعبةُ بعدَ ألفِ عامٍ مِنَ الصمتِ
ستدفعُ الجبالَ في أفواهِ البحارِ المفتوحةِ
وأفكُّ القيودَ عنْ أقدامِ آلافٍ مِنَ الفتياتِ المحموماتِ
أمزّقُ ستائرَ الدخانِ لتزأرَ الريحُ
وترقصُ فتاةُ النارِ ثملةً في أحضانِ الغاباتِ
واأخرجُ مِنْ نايِ سحري في الليلِ
حتّى يستيقظَ كثعبانٍ ظمآنَ مِنْ نومِهِ
متعبةٌ مِنَ العمرِ هامدةٌ فوقَ صدرٍ رطبٍ
في قلبِ مستنقعِ الليلِ يسقطُ
وأقولُ للرياحِ بهدوءٍ فوقَ النهرِ الملتهبِ:
هناكَ قاربٌ بعطرِ الزهورِ سيسيرُ في المياهِ
وأفتحُ القبورَ كيْ تدخلَ آلافُ الأرواحِ الحائرةِ
في الأجسادِ مرّةً أخرى
لوْ كنتُ إلهاً لناديتُ الملائكةَ ليلاً
ليغلوا ماءَ الكوثرِ في دلوِ البرزخِ
وليخرجوا مِنْ عشبِ الجنانِ أكثرَ اخضراراً
متعبةٌ مِنْ زهدِ الربِّ في منتصفِ الليلِ في سريرِ إبليسَ
ورغمَ الخطأِ لبحثتُ عنْ أمانٍ جديدٍ
ولاخترتُ مِنْ بهاءِ تاجِ ذهبيٍّ ربّاً جديداً
بلذّةٍ مظلمةٍ وموجعةٍ في أحضانِ ذنبٍ آخرَ.
من المجموعة الشعريّة الثالثة (العصيانُ - 1959)

في غروبٍ أبديٍّ

ليلٌ أمْ نهارٌ؟
لا يا صديقي.. إنَّهُ غروبٌ أبديٌّ
معَ عبورِ حمامٍ في الرياحِ
كأنَّها توابيتُ بيضاءَ
وأصواتٌ مِنْ بعيدٍ مِنْ ذلكَ الحقلِ الغريبِ
الهائجِ التائهِ كالرياحِ
- يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
- يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
قلبي يريدُ أنْ يعانقَ الظلمةَ
- يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
كمْ ثقيلٍ هذا النسيانُ!
تفاحةٌ تقعُ مِنْ غصنِ
حبّاتِ الكتّانِ الصفراءِ
تتكسّرُ تحتَ منقارِ الكناري العاشقةِ
زهرةُ الباقلّاءِ تمنحُ أعصابَها الزرقاءَ
إلى سكرِ النسيمِ
كيْ تتخلّصَ مِنْ قلقِ التغييرِ المبهمِ
وهنا بداخلي.. في رأسي؟
آهٍ..
في رأسي لا يوجدُ شيءٌ غيرُ دورانِ ذرّاتٍ حمراءَ
ونظرتي كحديثٍ كذوبٍ
خجلةً ومطأطئةً
-أفكّرُ بالقمرِ
- أفكّرُ بالحرفِ في الشعرِ
- أفكّرُ بنبعٍ
- أفكّرُ بالوهمِ في الترابِ
- أفكّرُ برائحةِ حقولِ القمحِ الغنيّةِ
- أفكّرُ بأسطورةِ الخبزِ
- أفكّرُ ببراءةٍ في اللعبِ
وبذلكَ الزقاقِ الضيّقِ الطويلِ الذي كانَ مليئاً بعطرِ أشجارِ الأكاسيا
وأفكّرُ بيقظةٍ مُرّةٍ مِنَ النومِ بعدَ اللعبِ
والذهولِ بعدَ العبورِ مِنَ الزقاقِ
ومِنَ الفراغِ الطويلِ بعدَ عطرِ الأكاسيا
-البطولاتُ؟
- آهٍ
الأحصنةُ كهِلَةٌ
- الحبُّ؟
- إنَّهُ وحيدٌ ومِنْ نافذةٍ صغيرةٍ
ينظرُ إلى صحارٍ دونَ مجنونٍ
وبمعبرِ الذكرياتِ الزائفةِ
وساقٍ نحيفةٍ تتباهى في الخلخالِ
- الأمنياتُ؟
- تخسرُ ذواتَها
أمامَ ألوفِ الأبوابِ المغلقةِ دونَ رحمةٍ
- مغلقةٌ؟
- أجلْ.. دائماً مغلقةٌ.. مغلقةٌ أفكّرُ ببيتٍ
بأنفاسِ لبلابٍ تجلبُ الاسترخاءَ
وأضواءٍ كوميضِ العيونِ
بلياليهِ المتفكّرةِ الكسولةِ الهادئةِ
وبطفلٍ بابتسامةٍ غيرِ محدودةٍ
كحلقةٍ متواصلةٍ تتّسعُ في المياهِ
وجسدٍ مملوءٍ بالدمِ كعنقودِ عنبٍ
- أفكّرُ بالحطامِ
واستيلاءِ الريحِ السوداءِ
وبضوءٍ مريبٍ
يزحفُ في الليلِ على النافذةِ
وأفكّرُ بقبرٍ صغيرٍ صغيرٍ كجسدِ طفلٍ
- العملُ.. العملُ؟
- أجلْ.. لكنْ في تلكَ الطاولةِ الكبيرةِ
يسكنُ عدوٌّ مختبئٌ
يجرُّكَ ببطءٍ ببطءٍ
كما الخشبة والدفتر
وألف شيء تافه آخر
لكنْ في النهايةِ ستغرقُ في فنجانِ شايٍ
كزورقٍ في الإعصارِ
وفي أعماقِ الأفقِ لمْ ترَ شيئاً سوى دخانِ سجائرَ وخطوطٍ غيرِ مفهومةٍ
- نجمةٌ واحدةٌ؟
- أجلْ.. مئاتٌ مِنَ النجومِ.. لكنْ..
جميعُها في الليالي محبوسةٌ
- طيرٌ واحدٌ؟
- أجلْ.. مئاتٌ.. مئاتٌ.. لكنْ..
جميعُها في ذكرياتٍ بعيدةٍ
بغرورٍ عبثيٍّ برفرفةِ جناحيْها
-أفكّرُ بصرخةٍ في الشارعِ
- أفكّرُ بفأرٍ في الجدارِ
أحياناً يعبرُ
- يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
في الفجرِ في اللحظاتِ المرتجفةِ
الفضاءُ مملوءٌ بشعورِ البلوغِ
فجأةً.. يمتزجُ بشيءٍ مبهمٍ
قلبي يريدُ
أنْ يستسلمَ للطغيانِ
قلبي يريدُ أنْ يمطرَ مِنْ غيمةٍ كبيرةٍ
وأقولُ.. لا لا لا
- دعْنا نذهبُ
- يجبُ أنْ نقولَ شيئاً
- الكأسُ أمِ السريرُ؟ الوحدةُ أمِ النومُ؟
دعْنا نذهبُ.
من المجموعة الشعريّة الرابعة (ولادة أخرى – 1964)

النافذةُ

نافذةٌ واحدةٌ
نافذةٌ واحدةٌ للرؤيا
نافذةٌ واحدةٌ للاستماعِ
نافذةٌ واحدةٌ أشبهُ بفوّهةِ بئرٍ
في نهايتِها تصلُ إلى قلبِ الأرضِ
وتفتحُ أمامَ زرقةٍ واسعةٍ ومكرّرةٍ بلونٍ أزرقَ
نافذةٌ واحدةٌ تملأُ تلكَ اليديْنِ الصغيرتيْنِ الوحيدتيْنِ..
مِنْ عطرِ النجومِ الكريمةِ
ونستطيعُ مِنْ هناكَ أنْ ندعوَ الشمسَ
إلى غربةِ هذِهِ الورودِ الصناعيّةِ
نافذةٌ واحدةٌ تكفيني
أنا آتيةٌ مِنْ مدينةِ الدمى
مِنْ تحتِ ظلالِ الأشجارِ الورقيّةِ
مِنْ بستانٍ في كتابٍ مصوّرٍ
مِنْ مواسمِ التجاربِ الجافّةِ
والعقيمةِ مِنَ الصداقةِ والحبِّ
في أزقّةِ البراءةِ المتربةِ مِنْ نموِّ سنواتِ الحروفِ الأبجديّةِ المصفرّةِ
مِنْ وراءِ طاولاتِ تلكَ المدرسةِ المسلولةِ
مِنْ تلكَ اللحظةِ التي استطاعَ بها الأطفالُ..
أنْ يكتبوا على اللوحِ مفردةَ.. (الصخرةُ)
والزرازيرُ – بعجلٍ - طارتْ مِنَ الشجرةِ الكهلةِ
أنا آتيةٌ مِنْ بينِ جذورِ النباتاتِ الآكلةِ اللحومَ
عقلي لا يزالُ ممتلئاً بصوتِ وحشةٍ
تلكَ الفراشةُ التي صُلبتْ بدبّوسٍ في الدفاترِ
عندما كانتْ ثقتي مصلوبةً بخيطِ العدلِ الرفيعِ
وفي المدينةِ كانوا يمزّقونَ أضواءَ قلبي قطعةً قطعةً
ويغلقونَ عيونَ طفولةِ العشقِ..
بمنديلِ القانونِ الأسودِ
ومِنْ أعلى جبينِ أمنيتي كانَ يفورُ الدمُ
حينَ كانتْ حياتي.. لا شيءَ سوى دقّاتِ ساعةٍ جداريّةٍ
فهمتُ..
يجبُ
يجبُ
يجبُ
أنْ أعشقَ بجنونٍ
نافذةٌ واحدةٌ تكفيني
نافذةٌ واحدةٌ للحظةِ اليقظةِ والنظرةِ والصمتِ
الآنَ.. نبتةُ الجوزِ كبرتْ
للحدِّ الذي تستطيعُ أنْ تفسّرَ للجدارِ..
طراوةَ أوراقِها اليانعةِ
اسألِ المرآةَ عنِ اسمِ منقذِكَ
هلِ الأرضُ التي ترتجفُ تحتَ قدميْكَ..
أكثرُ وحدةً منْكَ؟
الأنبياءُ جاؤوا بنبوءةِ الدمارِ إلى قرنِنا
هذِهِ الانفجاراتُ المستمرّةُ..
هذِهِ السحبُ المسمومةُ..
هلْ هيَ صدى هذِهِ الآياتِ المقدّسةِ؟؟
أيُّها الصديقُ..
أيُّها الأخُ الذي دمي ودمُكَ واحدٌ..
عندَ وصولِكَ إلى القمرِ..
اكتبْ هناكَ قتلَ العامِ للورودِ
- دائماً - الأحلامُ تنتحرُ وتموتُ مِنِ ارتفاعِ السذاجةِ
أشمُّ البرسيمَ الذي ينمو على قبرِ المفاهيمِ القديمةِ
المرأةُ التي دُفنتْ بكفنِ الانتظارِ والعصمةِ
كانتْ زهرةَ شبابي
هلْ سأتسلّقُ مرّةً أخرى سلالمَ الاستطلاعِ..
حتّى ألقي التحيّةَ على الربِّ الحنونِ الذي يتمشّى فوقَ سطحِ البيتِ؟
أشعرُ أنَّ الوقتَ قدْ مضى
أشعرُ أنَّ (اللحظةَ) نصيبي مِنْ أوراقِ التاريخِ
أشعرُ أنَّ الطاولةَ مسافةٌ كاذبةٌ بينَ جديلتي ويدَيْ هذا الغريبِ الحزينِ
قلْ لي شيئاً..
الذي يمنحُكَ حنانَ جسدِهِ..
ماذا يريدُ منْكَ سوى الشعورِ بالحياةِ لمرّةٍ واحدةٍ؟
قلْ لي شيئاً..
أنا في مأمنِ النافذةِ..
لي ارتباطٌ معَ الشمسِ
من المجموعة الشعريّة الخامسة (فلنؤمنْ بطليعةِ الموسمِ الباردِ - 1974)
* شاعرة ومترجمة ـــــ من كتاب «الأعمال الشعرية الكاملة/ فروغ فرخزاد» - دار المدى ــــ 2017

 

***

قصيدتها الأخيرة دونتها في ثنايا الأيام



جمال حيدر

لنبدأ من النهاية. نهار الاثنين 14 شباط (فبراير) رحلت فروغ فرخزاد إثر حادث سير خلال قيادة سيارتها على تقاطع طرق في مرودشت شمالي طهران. انحرفت السيارة واصطدمت بجدار، وتوفيت على الفور متأثرة بجروح في رأسها قبل وصولها إلى المستشفى. وفي اليوم التالي، نشرت عائلتها نعياً مقتضباً في صحف طهران.

وفي اليوم الذي تلاه، غطت الصحافة الإيرانية بنحو لافت مراسم تشييعها ودفنها في مقبرة «ظهير الدولة» بمشاركة شعبية متميزة.
استهلت فروغ فرخزاد (‪1967 - 1935) فصلاً مغايراً في مسار الشعر الفارسي المعاصر. يمكن اعتبارها الشاعرة الأولى التي أفصحت عن مشاعرها الأنثوية بصراحة موشاة بألم ودهشة. استطاعت في مسار حياة قصيرة أن تعلن احتجاجها ضد كل ما يسيء إلى الإنسان في فترة زمنية امتدت ما بعد مصدق وما قبل الثورة. هذه المشاركة ستقتصر على تجاربها السينمائية والمسرحية كمنتجة ومخرجة وممثلة.
قبل اللقاء مع إبراهيم كلستان، المخرج والأديب والسياسي اليساري، كانت فروغ في بحث دؤوب عن فرصة عمل. ومع تواصل اللقاءات، منحها كلستان فرصة عمل كمساعدة له في الاستوديو الذي يمتلكه. ترسخت علاقتهما ليتحولا تالياً إلى عاشقين، مستلهمة الدعم والخبرة من كلستان المتزوج أصلاً بقريبته. لذا رافقت تلك العلاقة سلسلة من الإحباطات في مجتمع شرقي تحده الكثير من القيم والتقاليد المتوارثة.
يقرر كلستان عام 1959 إرسال فروغ إلى بريطانيا بغرض دراسة إنتاج الأفلام، إلى جانب تعلم اللغة الإنكليزية. مع عودتها، تقرر إنتاج فيلمها الأول «حريق» الذي يعرض حكاية الحريق الذي اندلع قبل عام في بئر نفط قرب الأحواز. ويبرز الفيلم الصراع المحتدم بين الإنسان والسنة اللهب. صور الفيلم شقيق كلستان. شهور قليلة تمضي لتنتج فروغ فيلمين وثائقيين: الأول عن ظاهرة الغزل الإيراني، والآخر بعنوان «مياه وحر» الذي يصور بيئة عبادان الجنوبية.
في صيف عام 1961، أسهمت فروغ في إنتاج فيلم «البحر» حيث لعبت دوراً ثانوياً ضمن أحداثه. لكن الفيلم واجه صعوبات جمّة عرقلت إنجازه. وفي خريف العام التالي، تسافر إلى تبريز برفقة مجموعة تقنيين من استوديو كلستان. وخلال الأيام الـ 12، أنجزوا الفيلم الوثائقي «المنزل أسود» عن مستعمرة جذام قصية ومنبوذة. شكلت تلك التجربة منعطفاً متميزاً استمر طويلاً في حياة الشاعرة. إذ تبنت صبياً من والديه المصابين والموجودين في المستعمرة. انتقل معها الصبي إلى طهران وعاش معها لغاية رحيلها لتتكفل والدتها برعايته. مثّلت تجربة التبني بالنسبة إليها معادلاً موضوعياً لأمومة ضائعة إثر افتقاد طفلها الذي تكفلت بتربيته عائلة طليقها.
أشرف كلستان على توليف الفيلم وتحديد شكله الأخير، مشدداً في حوارات صحفية على أن فروغ استطاعت أن تجد نهجها الخاص في السينما: فكراً ورؤية مثلما فعلت مع الشعر منذ سنوات عدة. أطلقت فروغ في الفيلم صرخة واضحة المعالم ضد المجتمع الإيراني الذي تحاول الحداثة المصطنعة تجويف جوهره. استقبلت الأوساط الثقافية الإيرانية الفيلم باهتمام لافت، واحتفت كلية الطب في جامعة طهران بعرضه الأول. حضر العرض كل من كلستان وزوجته وفروغ. ومع نهاية العرض، طلب منهم التوجه نحو المقاعد الخاصة بكبار الضيوف، حيث كانت الشقيقة التوأم للشاه أشرف بهلوي وزوجته فرح ديب، تجلسان. لكنهم أصروا على عدم الذهاب. وفي نهاية المطاف، رضخوا للأمر. ألقوا التحية وعادوا مسرعين، إذ كانت كل من الضيفتين غارقتين بالدموع.
في العام الذي يليه، أنتجت فرخزاد فيلماً وثائقياً لصحيفة «كيهان» تناول طباعة الصحف وتوزيعها في ظلال أعوام فاصلة شهد فيها المجتمع الإيراني انقسامات حادة حول دور الدين في الحياة العامة.
في عامها الأخير، تميزت فرخزاد بنشاط مكثف. كأنها على علم بمنيتها المقبلة على عجل. في الربع الأول من عام 1966، سافرت مجدداً إلى بريطانيا لدراسة الإخراج بتمويل من استوديو كلستان. وانتقلت بعدها إلى إيطاليا للمشاركة في ورشة عالمية لكتابة السيناريو. ومن هناك كتبت إلى كلستان رسالة تترجم فيها مشاعر الوحدة التي تعتريها. رغم كل البشر الذين يحيطون بها «أشعر بالوحدة إلى الدرجة التي يتهيأ لي أن حلقي سينفجر من الأسى».
ولعل ترجمة وإعداد مسرحية «القديسة جاندارك» لجورج برنارد شو٬ والتحضير لتجسيد دور البطولة فيها، كان من أهم مشاريع الشاعرة مطلع عام 1967. ويبدو أن المشروع بنسخته الفارسية٬ كان يمثل مجابهة ساخنة مع نظام الشاه ونقداً لاذعاً للمؤسسة الدينية. غير أنها رحلت قبل تحقيق تلك الأمنية.
قبيل وفاتها بأسابيع، كتبت في إحدى رسائلها: «كم أنا فرحة بعدما أصبح شعري أبيض ٬وعلى جبهتي ظهرت تجعيدتان كبيرتان. لم أعد حالمة. قاربت الثانية والثلاثين من العمر. رميت كل هذه الأعوام ورائي بالمقابل ووجدت ذاتي».
خلال نهارها الأخير، زارت فرخزاد والدتها ودار حديث بينهما وصفته الشاعرة في رسالة لها بأنه الحديث الأجمل بين ابنة ووالدتها. ثم توجهت إلى الاستوديو، وطلب منها كلستان إحضار شريط سينمائي من موقع تصوير قريب. وفي طريق العودة، وقع الحادث المأساوي الذي شابه الكثير من الملابسات. إذ حذفت الكثير من التفاصيل في تقرير الحادث وسبب الوفاة والمسؤولية القانونية، وتقرير الطبيب الشرعي وإهمال إفادة الشهود.
وثمة أخبار تسربت بعد رحيلها مفادها أنها خرجت من الاستوديو في حالة غضب إثر حوار حاد مع كلستان بعدما أخبرته أنها وجدت في الفن رفيقاً لحياتها.
دفنت فروغ في مقبرة «ظهير الدولة» بإشراف كلستان بالقرب من قبر والدته، وجهز له ولزوجته قبراً إلى جانبها، واستقبل المعزين في منزله في محاولة لتعويض خسارتها وفاجعة رحيلها.
غادرت فروغ فرخزاد الحياة لتترك لنا كل هذا الإرث المتخم بالريادة والإلهام والنزعة الإنسانية بعدما دوّنت حياتها مثلما تدوّن قصيدة وأودعتها في ثنايا الأيام التي ستأتي.

---------------------------

الاخبار- كلمات العدد ٣٢٦٩ الجمعة ٨ أيلول ٢٠١٧

 

  •  
  •  
  •