اسكندر حبش
(لبنان)

سليمان العيسىيغيب الشاعر السوري سليمان العيسى في وقت تعرف فيه سوريا الحديثة أكبر أزماتها، وهو الذي لم يتوقف يوما لا عن غنائها ولا عن إنشاد ذلك الحلم القومي الذي لفّ الملايين من أبناء جيله كما أبناء الأجيال اللاحقة، الذين وجدوا في الوحدة العربية أكثر من مجرد مشروع، بل طريق حياة من الواجب تحقيقه.
صحيح أن المشروع فشل برمته، لكن الخطأ لم يكن بالتأكيد في الحلم، بل في مجموعة أنظمة لم تفعل سوى وأد هذه النار التي كانت تتأجج، قبل أن تعود النيران عينها لتشتعل وتلتهم العديد من هذه البلاد التي طرحت مشروع الوحدة، عبر سياسات قاتلة بحاجة كثيرا إلى إعادة التفكير بها وبما أنجبته.
ربما كان من الخطأ أن نقرأ سليمان العيسى على أنه فقط شاعر حزب البعث الأول (وهو أحد مؤسسيه) وفتاه الأغر. صحيح أن قسما كبيرا من شعره، وقف عند هذا الحيّز من الكلام الذي أتاح له أن يتربع على مشهد شعري متنوع، ليخفي (إذ جاز القول) ما عداه من تجارب، لكن أيضا علينا أن نعترف بأنه لو لم يكن يملك هذه الموهبة الشعرية وهذه السليقة الكبيرة، لما استطاع أن يبقى اسمه مطروقا وبقوة، إلى أيامنا هذه.

ربما أزمة العيسى الحقيقية، بمفهومنا "الشعري الحديث"، أنه خصّ شعره بموضوع رئيسي، محدد، سياسي، طغى على كلّ الموضوعات الأخرى. لكنه أيضا، كتب في هذه "الموضوعات الأخرى" وكتب شعرا حقيقيا، لم يتخلّ فيه عن "الكلاسيك". من هنا علينا أن ننظر إلى تجربته من داخل هذه التجربة الكلاسيكية في الكتابة، أي من حيث العمود الشعري والوزن والقافية. بكلام آخر، أن نلغيه كليّا بسبب موقفه السياسي، ففي ذلك تجنٍّ كبير لا على تجربته بل على الشعر بأسره.
ثمة الكثير من القصائد التي ردّدها الملايين في زمنه كما في أزمنة لاحقة ولا تزال تعيش حتى اليوم. وإن دلّ ذلك على شيء، لا على أن قرارا حزبيا فقط كان يأمر بأن تعيش القصيدة وتُستعاد وتُغنى، بل وببساطة، ثمة كلمات فيها تحاكي عاطفة ووجدانا وإحساسا وأشياء لا تزال حاضرة بقوة ولا نزال نحلم بها لغاية هذه اللحظة.

ناهيك عن أن أجيالا كاملة من الأطفال تربت على القصائد التي كان يكتبها لها. من الصعب أن تجد طفلا في المدارس السورية (وبعض المدارس الأخرى في بعض البلدان العربية) لم يحفظ له قصيدة، أو أغنية. أعرف أنه يمكن القول إن وزارة التربية هناك كانت تقف وراء ذلك، أي تضع قصائده في كتب مناهجها الدراسية، لكن ثمة أيضا الكثير من هذه القصائد والأغاني التي تخرج عن مفهوم "التنشئة" الحزبية الصرفة لتحاكي الطفل في جميع مراحل حياته، وقد أبدع فعلا في هذه الكتابة، شئنا أم أبينا.
يرحل سليمان العيسى عن 92 عاما، ومعه لا يرحل تاريخ فقط، بل ربما تواريخ، إذ ننتظر نهاية هذه العواصف التي قد تلغي كل شيء.

السفير- 12-8-2013

**************************

سليمان العيسى... وريث النكبات وشاعرها

خليل صويلح
(سوريا)

سليمان العيسىأحد روّاد الشعر العربي مضى قبل أيّام تاركاً أجيالاً سورية متعاقبة تربّت على أناشيده. عبرت تجربته أكثر من برزخٍ، لكنها لم تغادر الهتاف القومي المحمول على أحداث كبرى، مثل تأميم السويس، والوحدة السورية المصرية. نبرة قصائده الحماسية خفتت بعد الستينيات، وخسائره الفادحة جعلته معلّقاً في أرجوحة الأمل واليأس

أمس، ووري سليمان العيسى (1921ــ 2013) في ثرى مقبرة الشيخ رسلان في دمشق بعدما رحل في التاسع من آب (أغسطس) بصمت. سكة القطار المعطّلة في خرائط العالم العربي وتضاريسه الممزّقة، ونكباته المتتالية، لم تمنع الشاعر الراحل من أن يخترع قطار الوحدة العربية، أقله على الورق. طوال نحو 70 عاماً، لم يفقد الأمل في تحقيق هذا الحلم حتى في أكثر الأزمنة حلكة. الشاعر الذي غادر لواء اسكندرون مرغماً في صباه، حمل أرضه الأولى مثل وشم في الجلد، واكتشف فجر «البعث» بصحبة مؤسسه الأول زكي الأرسوزي، ذلك الحلم القومي الذي لم يخبُ يوماً في حياته وأشعاره، حتى بعدما ابتعدت البوصلة عن جهة الأمل. كان «شاعر البعث» يزداد يقيناً (شعرياً) بانجاز هذا الحلم العصي، نكبةً وراء أخرى، من نكبة سلخ لواء اسكندرون عن وطنه الأم، مروراً بنكبة فلسطين، وصولاً إلى نكبة حزيران 67.
عند هذا الحد، صمت الشاعر الذي كان يهتفُ «أمةُ الفتح لن تموت/ وإني أتحداكَ دونها يا فناء» جراء هول الفجيعة، واحتضار الأمل، إلى أن وجد عزاءه أخيراً في الكتابة للأطفال، إثر خيبته الكبرى مما أصاب الأمة من انكسارات وهزائم. هكذا تفتّحت أجيال سورية متعاقبة على أناشيده في كتب المنهاج المدرسي، وحفظوها غيباً، وإن لم يدركوا معانيها بدقة. كما كان على هذه الأجيال أن تردّد نشيد طلائع «البعث» كل صباح مع تحية العلم مثل تعويذة، والأمر نفسه بخصوص «نشيد البعث» بموسيقى الياس الرحباني. لكن شاعرنا، لم يغرق في مباهج الرفاق، فقد نأى بنفسه باكراً، حالما خطف العسكر الراية، وظل مخلصاً لمبادئه الأولى ــ بعيداً من التصفيق ــ لنزاهة شخصية نشأ على قيمها أولاً، وميل إلى العزلة، وزهد صوفي بالمكاسب التي كانت متاحة لآخرين أقلّ منه موهبة وإخلاصاً للفكرة. حتى أنّ وزارة التربية لم تعوّضه ليرة واحدة عن حقوقه في تأليف عشرات القصائد والأناشيد التي أُدرجت في كتب القراءة، وفقاً لاعترافه، في حوار تلفزيوني معه.

عبرت تجربة صاحب «أعاصير في السلاسل» (1953) أكثر من برزخٍ شعري، لكنها لم تغادر الهتاف القومي العالي المحمول على أحداث كبرى، مثل تأميم قناة السويس، والوحدة السورية المصرية، وحركة الكفاح المسلح في فلسطين، والهتاف الذي تلقّفه جيل عربي نهضوي بوصفه بياناً ثورياً، يبشّر بغدٍ جديد، وشمسٍ لا تحجبها الغيوم الطارئة. إلا أن نبرة قصائده الحماسية، خفتت تدريجاً، في ما بعد الستينيات الغاضبة، وظلّ معلّقاً في أرجوحة الأمل واليأس، نظراً لفداحة خسائره «من الماء إلى الماء»، إذ لم يعد لائقاً أن يهتف «ما كنتُ إلا صيحةً/ للثأر تشتعلُ اشتعالاً».
منحة دراسية إلى العراق قادته إلى «دار المعلمين» في بغداد. هناك تعرّف إلى زميله في الدراسة بدر شاكر السياب، ثم عبد الوهاب البياتي، ولميعة عباس عمارة، ليعود بعدها إلى حلب، ويعمل في سلك التعليم، ثم إلى دمشق بصحبة رفيق طفولته في لواء اسكندرون، صدقي إسماعيل، ليسهم معه في تحرير جريدة ساخرة، اسمها «الكلب» كان صدقي يحرّرها بخط يده. وقد جمع العيسى قصائده المنشورة في هذه الصحيفة لاحقاً في كتاب «الديوان الضاحك» (1989)، وانكبّ فترة من حياته على تعريب أعمال كتّاب جزائريين يكتبون بالفرنسية أمثال مالك حدّاد، وكاتب ياسين، ومحمد ديب، بمشاركة رفيقة دربه ملكة أبيض. في التسعينيات، أحسَّ صاحب «الثمالات» (1997) بأن هواء دمشق يضيق به، فرحل إلى اليمن بهدوء، واستقر فيها 15 عاماً، أنجز خلالها سبعة دواوين، وكرّمته صنعاء بما يليق بشاعر عروبي مثله، أهدى معظم البلاد العربية دواوين بأسمائها من اليمن إلى الجزائر بوصفها أمةً واحدة. لكن هل كتب سليمان العيسى قصيدته المشتهاة؟ أجاب مرةً: «القصيدة التي أريد أن أقولها، ما زلت أبحث عنها بعد 60 عاماً من كتابة الشعر، وكل ما قلته هو موّال في رأسي أردت أن أغنّيه». الكلاسيكية المنفتحة على الحداثة، وضعت قصيدته، في مقامٍ خاص، وإن تفوّق المعنى على الصورة الشعرية في بعض نصوصه، لكنه لم يستثمر قافيته يوماً، في مديح ما لا يرتضيه، جرياً على ما فعله بعض مجايليه من الشعراء الكلاسيكيين. لقد كان همّه الأساسي، الحشود وليس الحكّام، الأيقونة وليس الشعار، هكذا ذهب إلى محاورة امرئ القيس، وبابلو نيرودا، ولوركا، والمعرّي، ورامبو، حالماً بشموسٍ مختلفة.
بعد عودته من مغتربه اليمني إلى دمشق، لزم بيته في حي مشروع دمّر، بعيداً من الأضواء. وكان على الشاعر التسعيني، لرهافته وشفافية روحه وحيائه الشخصي، أن يحتمل مزايدات من أراد أن يصنع منه مانشيتاً صحافياً، مع صورة مشتركة تحت بند «تكريم المبدعين» واستثمار اسمه لمقاصد أخرى، في الوقت الضائع، إلى أن اشتد عليه المرض، وذهب في غيبوبة استمرت أشهراً في أحد المستشفيات الحكومية، في صراع طويل مع المرض والذكريات والأحلام المعلّقة بين خرائط بلاد بعيدة، وبلادٍ في أتون النار.

رمال عطشى

ولد سليمان العيسى في قرية النعيرية (غرب أنطاكية) لأب يدير كتّاباً في بيته. في العاشرة، بدأ كتابة الشعر، ليستيقظ على فجيعة سلخ اللواء عن وطنه سوريا. شارك في التظاهرات المندّدة بالاستعمار الفرنسي، وسُجن مراراً وذاق مرارة التشرّد. أصدر ديوانه الأول «مع الفجر» (1952)، لكنّ «رمال عطشى» (1960) سيكون منعطفاً في تجربته القومية لجهة النبرة الثورية الغاضبة. أنجز نحو 50 كتاباً منها «ثائر من غفار»، «صلاة لأرض الثورة» وأشعاراً ومسرحيات للأطفال.

وداعاً أيها الطاعن في الأمل

إبراهيم الجرادي

محبوكٌ بلينٍ، منضبط دون صرامة. عاقل وعرفاني، معاد للزينة الفائضة وعزوف عن مظاهرها، وشعره، عموماً مجنّد (رابح) في معارك الخسران. تلك المعارك التي لم يعرف توقيتها، ولم تسعفه نهاياتها السريعة في تسمية «رجالاتها» الذين يلهثون، يلهثون فقط بمعارك النصر المؤجل، وقد أعيتهم المكائد، وقد أشرفت على حدود الاتهام الذي لا يدق أجراساً، ولا يستوقف شعراً. سليمان العيسى من موقعٍ آخر، وريث النكبات وشاعرها.
هو من كان يستنهض القيم المتوارثة التي سقطت سهواً بالاكتساب ومُرغت عمداً بوحل المذلة. طاعن في الأمل، يغلق باب التأويل على تفسير واحد يفضي، كما يريد له، إلى بصيص ضوء رخوٍ يتدلى من سقف ظلمته كالمشنوق. إنّه شاعر يغوي الأمل، ويستدرجه ليكون مصيراً، ومن ذعرٍ يحتمي بنوافذه المحطّمة، المشرعة لرياح الغريب التي لا يريد لها أن تقتلعه من جذوره الضاربة في عمق الأرض والتاريخ. سليمان العيسى، ليس حامل رسالة فحسب، بل لديه رغبةٌ دائمة للتأثير في الناس، ولهذا يميل شعره دائماً، إلى معاناة، لأن المعاناة توسع مجاري التعبير. وهاتان الصفتان تصبحان في أحيانٍ كثيرة، معياراً لسلوكه الشعري، فهو يترك في الكثير من شعره، للسجية أمر ترتيب أمورها الشعرية التي تمتلك حيويتها، عندما يكون المناخ العام مواتياً، ليقطف ثمار أصالته ويصبح شعره شعاراً، وتتبدى الصعوبة، عندما لا يتيح الإدراك المباشر للظواهر إمكانية النهوض بالشعار إلى سوية الحالة العامة. وإذ يوازن سليمان العيسى بين المخيّلة والوجدان، ينحاز للثانية ليجعل القضايا شريكاً في قصائده، حتى تستطيع بلوغ وظيفتها التي يحدّد دائماً، بأنها وسيلة لهدفٍ أهم، وهو بذلك يدفع قضية الشعر إلى صفتها القومية، محاولاً على الدوام، إثبات أولوية التعبير، من خلال محموله لا حامله. ولهذا لا يسوّغ المجازفات التي تعوّم المضامين، وهو وإن كان منفتحاً تماماً على الحداثة، يدين الشعر المصاب بمرض الفوضى الذي ينشأ عن إدراك خاطئ لدور الشعر في أمة محتلةٍ ومنكوبة وموزّعة. سليمان العيسى يكتب ليرتاح يقينه، وهو يقين ثابت، لا تردد فيه ولا ترددات، بأن هذه الأمة ستحقق شروط وجودها الإنساني ولهذا يكثر في شعره من اللوازم الوسيطة التي تقرب الهدف، وتسعى إلى المعاني التي تحث في هذا الاتجاه الذي يقوم لديه، على مواصفات في مقدمها الوضوح والعفوية، والقراءة التي تنصف شعره. ليست قراءة في التكنيك الشعري كونه دراسة في الوسائل، وإنما في الغايات. هو يرى الشعر أداةً جمالية لهدفٍ أعظم، أي أن أهمية الشعر ليست في طريقة قوله، وإنما في ما يقول. في سنواته اللاحقة، تخفّف من بعثيته، إذ لم يسعَ إلى أي منصب، وتحوّل من شاعر فصيل إلى شاعر جماعة بشرية، وكان حلمه، أو رغبته بالأحرى، ألا يُحسب على منطقة ضيّقة في الفكر والسياسة. أراد أن يكون شاعر أمة، وقد خذلته بكل إمكاناتها خذلاناً لا مثيل له.

يا زمان الوصل في اليمن السعيد

سليمان العيسى

15 عاماً أمضاها في صنعاء مع رفيقة دربه ملكة أبيض التي أكّدت منذ يومين أنّه لم يفقد وعيه ولو أنّه عانى صعوبات في النطق. حصيلة هذه الإقامة كانت «ديوان اليمن»، ومجموعة أعمال صدرت في مجلّدات تحت عنوان «ثمالات» وكتاب «أوراق من حياتي» الذي يروي شيئاً من سيرته
جمال جبران

صنعاء | في تلك السنوات البيضاء التي قضاها سليمان العيسى بيننا في اليمن، كان يبدو أنه قد قرّر التوقف عن المضي قدماً في العمر. بقي طوال تلك السنوات بالهيئة ذاتها التي رأيناه فيها للمرة الأولى حتى عودته إلى بلده الأول، سوريا. نحو 15 سنة قضاها في «اليمن السعيد». وكان سعيداً بها مع رفيقة دربه ملكة أبيض، أستاذة الأدب الفرنسي في «جامعة صنعاء» وكنّا سعداء بهما. في تصريح لوكالة «سانا»، أعربت ملكة أبيض عن بالغ حزنها بفقدان زوجها، مؤكدة أنّه «لم يفقد وعيه خلال الفترة الأخيرة رغم أنه لم يستطع النطق بشكل جيد». وقالت «بقي يشعر بكل ما حوله حتى آخر لحظات حياته، إذ كنا نتحدث عن عيد الفطر السعيد وكيف سنقضيه». خلال سنوات إقامته في اليمن، كان صاحب «ديوان اليمن» لا يفعل شيئاً كي يثبت أنّه صار يمنياً ولا يحتاج إلى وثيقة كي تؤكد ذلك. يخرج معنا وزوجته في رحلاتنا الجامعية المختلطة أيام كانت «جامعة صنعاء» ما زالت جامعة محترمة، يقرأ لنا من «ديوان الأطفال» ويقول: «ماما ماما يا أنغاماً تملأ قلبي بندى الحبِ، أنتِ نشيدي عيدكِ عيدي، بسمة أمي سر وجودي».

وهذا من النوع الشعري المخصص للأطفال الذي أعلن تفرغه له بعد النكسة أو خلال مشاركاته معنا في تلك الصباحيات الشعرية التي كنّا نقيمها له في كلية الآداب بعدما صرنا مساعدين أكاديميين فيها ونعمل مع رفيقته الدكتورة ملكة أبيض، وصولاً إلى تركنا الجامعة واشتغالنا في جرائد تحوي أقساماً تعنى بالأدب وشؤونه. وكان أن فُتحت صفحاتها لنشر جديده الشعري وإصداراته التي صارت تخرج إلى المكتبات بشكل منتظم، وأغلبها حول اليمن مكاناً وإنساناً.
يقول خالد الرويشان، وهو وزير ثقافة سابق، إنّهم أصدروا وأعادوا إصدار الكثير من منجزات سليمان العيسى: ديوان ضخم سماه «ديوان اليمن»، وجملة أعمال متتالية صدرت في مجلّدات بأجزاء عنونها بـ«ثمالات»، إضافة إلى كتاب «أوراق من حياتي» يروي فيه شيئاً من حياته إلى جوار ترجمة للكتاب إلى الفرنسية أنجزتها رفيقته ملكة أبيض. في هذا العمل، حكى عن ولادته في قرية النعيرية، وعلاقته بالحرف الذي تعلّمه على يد أبيه المعلم في كُتّاب القرية وأخذه إلى قواعد النحو والصرف والرياضيات. وعندما انتقل من القرية إلى مدرسة ابتدائية في أنطاكية، ساعدته هذه العلوم على دخول المرحلة الرابعة مباشرة. كانت فترة قصيرة قبل أن يصعد إلى منصة القول الشعري وهو في الصف الدراسي الخامس بقصائد تمّس العصب الوطني لدى الجماهير المتأهبة لمجابهة الاستعمار الفرنسي. انتقال جديد سيفعله شاعر «إني أواصل الأرق» عندما نُزع لواء الاسكندرون ليرحل في بقاع شتى من حماة، فاللاذقية إلى دمشق. سوف يسجن كثيراً بعد ذلك ويزداد تعلقه بالقصيدة وبالوطن وبالعمل السياسي عبر مشاركته في تأسيس «حزب البعث» وهو طالب في المرحلة الثانوية.
بعد ذلك، انطلق في الشعر واللغة وبما يحيط بهما من فضاء ليشارك في تأسيس «اتحاد الكتاب العرب» في دمشق ليُنتخب بعدها بسنوات ويدخل في قائمة أعضاء «مجمع اللغة العربية» في دمشق (1990). وبين هذا وذاك، تنقل بين دول عربية عدة ليستقر في اليمن قبل أن يعود نهائياً إلى دمشق حيث صمت ولم يعد قادراً على الكلام.

في العامين الأخيرين وخلال الاتصالات الهاتفية التي كان أصدقاؤه الكبار في صنعاء يجرونها معه، كان يمتنع عن الحديث وتتكفل رفيقته ملكة أبيض بذلك ناقلة أخبار «الشاعر اليمني الذي صار مقيماً في دمشق».
كأنه سأم الكلام عن مشاهد الخراب التي صار يراها كل يوم على الشاشة ولم يكن يتوقع أن يراها، رغم أنّه كتب يوماً في أوراقه «أعتزُ بشيء واحد، هو أحلامي التي كانت وراء كل كلمة قلتها في حياتي، ولا أرى لحياتي معنى من دون حلم، وهو من يحرّكنا، ويحمل العزاء إلينا، في أمرّ الهزائم، وأقسى الانكسارات». كما قال «لن أعلن وفاتي. إن جذوري تزال في أعماق أعماق هذه الأرض، ونحن لسنا نهاية الدنيا».

الاخبار- الاثنين ١٢ اب ٢٠١٣