والاس ستيفنز
Wallace Stevens
(1879-1955)

ترجمة: أمال نوّار

والاس ستيفنزوالاس ستيفنز أحد كبار رموز الحداثة الشعرية في أميركا. شاعر إشكالي بامتياز، إن على مستوى حياته الشخصية أو تجربته الشعرية وأفكاره، أو موقف النقد منه. أهميته تكمن أولاً، في أنه حمّل الشعر أكثر ما يُمكن تحميله من المعاني، جاعلاً منه: بديلاً لموت الخالق، وسيلة لفهم الوجود وما وراءه، مختبرَ تجارب يتم فيها دمج الخيال بالواقع، والفن بالحياة، نبعاً وجدانياً جمالياً يغذي سعي الإنسان إلى تحقيق اكتفائه الذاتي، وغيرها من المعاني التي استفزت بتطرفها حفيظة النقاد آنذاك، لتجعل من الشعر الساحة الأكثر غلياناً واضطراباً بتأويلاته المتناقضة. وتكمن أهميته ثانياً، في أنه كان غزير الإنتاج في سن متقدمة من حياته، إذ صدرت مجموعته الأولى وهو في الرابعة والأربعين من العمر، ومجموعته الأخيرة وهو في الخامسة والسبعين، مما يدل على أن تجربته الشعرية تعمقت وتطورت في عمر يكون معظم الشعراء قد أنجزوا خلاله أهم أعمالهم واختمرت تجاربهم، ولم يبق لهم سوى العيش على أمجادها.
في ذكرى مرور خمسين عاماً على وفاة ستينفز، عام 1955، نعيد اليوم قراءته ناظرين في أشعاره وأفكاره، راصدين بعض المعالم المُفارقة التي وسمت شخصيته وتجربته ونظريته الشعرية.
المحافظ الراديكالي
كان والاس ستيفنز رجلاً غنياً بورجوازياً ينتمي سياسياً إلى الحزب الجمهوري، لكنه لم يركن إلى التاريخ وموروثاته الفكرية، ولا إلى الدين في صوغ معتقداته. استمدّ من الواقع والحاضر والطبيعة والأشياء العادية، مواده الأولية ليستخلص نظريته عن الوجود، ويستلهم موضوعه الشعري الرئيسي، رفض أن يخلط واقع حياته الشخصي بذاك الفني، ليظلّ محافظاً في الحياة، راديكالياً في الأدب.
لم يكن والاس ستيفنز الوحيد بين أدباء أميركا والعالم الذين مارسوا في حياتهم مهناً تنأى في طبيعتها عن عالم الفن والخلق. في النظر إلى معاصريه من الشعراء، نجد مثلاً أن ت. س. إليوت كان مصرفياً، ووليام كارلوس وليامز طبيباً، أما هو فكان محامياً يعمل لحساب شركة تأمين كبرى. استطاع ستيفنز توظيف خبراته في المجالين المهني والفني لخلق علاقة جدلية بين الحياة والفن انعكست على إنتاجه الشعري لتضحي موضوعاً رئيسياً تتمحور حوله تجربته الشعرية ونظريته الفنية وأفكاره وكتاباته النثرية كلها. كان لدى ستيفنز مؤهلات خارقة خولته الإستفادة من جهل أفراد محيطه المهني والاجتماعي بالجانب الفني من شخصيته، للإنفراد عنهم في برجه العاجي وعالم خياله، بعيداً عن ضوضاء الشهرة والنجومية. لم يكن في حاجة إلى النزوح إلى شواطئ معزولة، أو اللجوء إلى أوروبا مثلاً على غرار إليوت أو هنري جايمس أو باوند، لإقامة منفاه الطوعي. خياله الخلاق كان كفيلا منحه الشعور بأنه هو نفسه العالم حيث يمشي ويقيم.
رغم انتماء ستيفنز إلى التقاليد الرومانسية المتحدرة من إرث وردث ورز وكولردج وكيتس وشيلي وإمرسون وويتمان ووليام جايمس وجورج سانتايانا وغيرهم، لا ينسحب إنتاجه الشعري برمته على الشعر الرومنسي، وخصوصاً أنه أنزل تقاليده من السماء إلى الأرض، ومنحها طبيعة فورية طارئة في تعاملها مع الواقع. شعره ركز على الذات لكنه لم يكن ذاتياً، وجاء غنائياً، إلا أنه نادراً ما اتخذ الحب موضوعاً له. ظلّ ستيفنز في مبادئه الفردانية سيد نفسه، ومبتدع أسلوبه. غرقه في التجريد جعله على تماس مع الأشياء بقدر ما جعله بعيداً عن الواقع، مواطناً في العالم بقدر انصرافه عن الناس، ولأن شعره فريد، فذّ، لا يُضاهى وصعب التقليد، فإن تأثيره في كتابات الشعراء اللاحقين لم يكن في حجم صيته البارز، إذ انحسر في نتاج شعراء أميركيين قلة أمثال: جون أشبري ودونالد جاستس.
انشغال أشعاره بالعقل، في علاقته بالطبيعة والمخيلة، منحها مقومات حضورها المتألق عبر الزمن، والذي لا يبطل بالتقادم. انتبه ستيفنز إلى فرادة الإحساس الناجم عن التفاعل التلقائي مع الأشياء في لحظة ما، منوهاً بالمتعة غير المتكررة التي تبثها فينا رؤيتنا المباشرة الطازجة إلى ما حولنا، ومحاولاً اقتناصها وتجسيدها في لغة شعرية تحفظها من التلاشي إلى الأبد. كل لحظة لها إشراقاتها حتى ولو بقيت رهينة العتمة.
الغفل الرائي
بين الفن والحياة، بين المعرفة الموروثة والمعرفة بالإختبار، بين الطبيعة الظاهرة والمعجزة الباطنة، ثمة ما ألهم ستيفنز نظريته القائمة على دمج الخيال بالواقع المادي، والعمل على الرؤية إلى ما تحت قشرة الأشياء كيما يتبدى جوهرها الخفي. يعد ستيفنز إلى جانب ماريان موور ووليام كارلوس وليامز، من كبار منظرّي الحركة التصويرية أو التخيلية التي نشأت فلسفتها على السعي إلى اكتشاف الجمالية الفائقة والحكمة الخارقة من خلال الرؤية إلى الأشياء بتجرد، ودمج الخيال بالواقع الخارجي، ليحظى بما سمّاه "الفيكشِن الأسمى" أي الشعر. ورغم تشابه نظريته هذه بنظرية ويتمان القائمة أيضاً على تجاوز الواقع المادي وتخصيب عمل المخيلة، بغية امتلاك معان متجددة للأشياء، غير أن ستيفنز تجاوز في تقنياته اللغوية والفنية فطرية ويتمان، وبدل الغوص في موضوعات إجتماعية عامة، اختار فضاء تجريدياً لموضوعاته الجمالية الذاتية الصرفة. والواقع أن هذه النظرية تطورت على يد ستيفنز بعدما كان عزرا باوند أطلق مبادئها الثلاثة الرئيسية عام 1913 والتي تتلخص في: أولاً، التعاطي المباشر مع الأشياء، ذاتية أكانت أم عامة. ثانياً، الإبتعاد كلياً عن استخدام مفردات لا تساهم تحديداً في معالجة الشيء موضوع الإهتمام. ثالثاُ، في ما يتعلق بالإيقاع، العمل على التأليف وفق سياق يتعقب الموسيقى في العبارة الشعرية نفسها لا وفق بندول إيقاعي عام. لم يحتج ستيفنز وقتاً طويلاً ليكتشف مدى محدودية الرؤية إلى الأشياء بعينها. فدأب على تطوير هذه النظرية محاولاً النفاذ إلى باطن الأشياء واستقرائها والرؤية إلى احتمالاتها وتأويلاتها في وصفها رموزاً لأشياء كونية أكبر.
أيّد ستيفنز وليامز في قوله: "ما من أفكار إلاّ في الأشياء"، لكنه اشترط عدم تدخل العقل في معرفتها، حاضاً على الرؤية إليها بتجرد تام والرغبة فيها من دون امتلاكها، إذ أن الرغبة في الشيء هي نفسها ما ينبغي أن يُبقي الإنسان بعيداً عنه كيما يبقى ملك خياله.
اعتبر ستيفنز أن علاقة الفن بالحياة تتسم بأهمية قصوى في زمن النزوع إلى الشك وغياب الإيمان بالخالق أو بأي نظام كوني محاط بالعناية الإلهية، إذ ليس للعقل حينذاك إلا اللجوء إلى قدراته الخاصة وتفعيلها والإسترشاد بها لإثبات حقائق الوجود أو نفيها، ليحظى بمساندتها وحمايتها في غياب الإيمان بالحماية العليا. ظلت البنية الظاهرة للأشياء والمسلمات والمقدسات ومظاهر الخلق كلها، تستفز هواجس ستيفنز وشكوكه طوال حياته، فابتعد عن الدين ليتبع مساراً نيهيلياً في بحثه عن الحقيقة. نبذه للدين وإرث الماضي جعل أشعاره لا ترزح تحت أثقال التاريخ والأيديولوجيات وخصوصاً الثيولوجية منها على غرار أشعار إليوت مثلاً. في المقابل، لم يشأ العيش في العراء، لذا تبنى عقيدة بديلة من المسيحية تقوم على تنشيط طاقات المخيلة في تعاطيها مع الواقع المادي. ومما يقوله في هذا الصدد:"عليك أن تتمتع بطاقات غير عادية كيما تتمكن من رؤية العادي".
بقدر ما كان ستيفنز غفلاً عن الظاهر، كان رائياً إلى الباطن، وبقدر ما كان غفلاً عن الماضي، كان رائياً إلى المستقبل، وذلك من خلال انتمائه إلى الحاضر بصفته أرضاً لما هو فوق أرضي وتحت أرضي، ومفتاحاً لمعان مغلقة تتجاوز الواقع المرئي للأشياء، وتتضمن نظاماً باطنياً لفوضاه الظاهرة. السيادة له تتمثل في تفريغ الذهن من مسميات الأشياء وتعريفاتها، فهو القائل:"العري أيضاً لباس". التعاطي المباشر الطازج مع العالم هو ما يُسعف المخيلة في المعرفة الحرة، ويمنح الذات القدرة على اختبار طاقاتها، وإيجاد معنى لوجودها يتجدد بتجدد اللحظة الراهنة. يقول في إحدى قصائده:"الصخرة لا يمكن أن تتحطم، إنها الحقيقة/ ترتفع فوق البر والبحر وتغطي عليهما". الصخرة له رمز الإدراك الحسي لأنها تتكون بالفطرة نتيجة عوامل طبيعية، وليست من صنع أيدي البشر. وهي في حضورها الفج الراهن موضع تقدير واهتمام ستيفنز، لا الفكرة عنها، أي لا حضورها المتجسد مثلاً في تمثال أو نصب تذكاري. التماثيل في أشعار ستيفنز ترمز إلى خيال تحجّر في معرفة راسخة، في حين أن المعرفة فعل متحرك، متحول، وليس ثابتاً، وهي أكثر ما تتجلى في فعل التخلّي عنها لمعرفة أخرى.
مفاهيم عدة عبّر عنها ستيفنز شعراً ونثراً، تمثل الخطوط العريضة لنظريته الشعرية والفلسفية، منها: الجمال هو الآن/هنا وليس في عالم الغيب. الخلود هو في ما نحياه راهناً. الجنة هي الأرض نفسها في كونها مصدر النعم كلها، وفي تحولها وتجددها الدائم عبر الفصول. الإيمان النهائي أن تؤمن بوهم مدركاً أنه كذلك ليس أكثر. الموت ليس نهاية بل أصل الجمال.
أبرز الأطروحات الفلسفية التي قامت عليها نظرية ستيفنز التخيلية، إلى جانب مسألة دمج الخيال بالواقع، موضوع علاقة الموت بالحياة. لعل عمله المسرحي "سائحون ثلاثة يراقبون بزوغ الشمس"، المرآة الأصفى التي تعكس تصوره للموت. تدور أحداث هذه المسرحية حول ثلاثة أشخاص صينيين يخرجون باكراً لمراقبة بزوغ الشمس، وأثناء تجوالهم يصادفون جثة شاب قتله والد عشيقته. ورغم تعاطفهم مع حزن العشيقة المأساوي، مرأى الجثة لا يبدو لهم شاذاً عن طبيعة الأشياء حولهم. إنها جزء من المشهد العام، ومن نظام كوني أكبر. ومما يقولون:"الشمس ستشرق على هذه الجثة كما على أي شيء جديد". هي لن تشرق على الموت لا مبالية به، إنما ستشرق بحميمية عليه ودفء، تماماً كما على الحياة.
ليس في الموت في ذاته ما يُخيف ستيفنز أو يستفز فضوله. أهميته تكمن فقط في علاقته الجدلية بالحياة، حيث أن وجوده وتهديده يمنحان الحياة قوتها وجماليتها. لا حياة بعد الموت في نظر ستيفنز، الحياة هي بالموت في اعتباره نهاية ضرورية لولادة كل جديد. لا وجود لأحياء وأموات في نظره، هناك أحياء وغير أحياء ليس إلا، يساهمون جميعاً، بصمتهم و ضجيجهم، في تكوين هذا الوجود. وعليه، المسيح في رأيه مات، وليس من أجل خلاص أحد، فما من قيامة. هذا لا ينتقص من عظمة موت المسيح ولا مما منحه موته للحياة. الحياة تعتمد على الموت في سبيل تجددها الدائم، متماهيةً في ذلك مع الطبيعة في دورة فصولها. الله في نظره لم يخلق الطبيعة والبشر إلاّ ليتجسد فيهما، ليكونا بديلاً منه. لكأن الخالق في رأي ستيفنز ينفي وجوده بوجود العالم، لكأنه يموت ليولد مجدداً في أشكال أخرى، كأن يكونْ مثلاً شعراً سامياً في أحد تجلياته.
البرج والرصيف
لم يكن ستيفنز مأسوياً في نظرته إلى الحياة. كانت تقلقه الرؤية الفجائعية التي تصور الإنسان كائناً خائباً ينهار أمام قوى إلهية وطبيعية خارقة. كان يخشى أن تؤدي رؤية كارثية كهذه إلى تغذية الحس الإنهزامي لدى الإنسان، فتدفعه إلى الخضوع والإمتثال في مواجهة النكبات الحقيقية. حساسية ستيفنز تجاه الحياة تنطوي على شيء من التعالي والحس الفكاهي بعيداً عن تراجيدية إليوت وييتس، مما قد يعطي انطباعاً بانسحابه أو انفصاله عن الواقع المأساوي لزمنه، لا سيما وأنه عايش حربين عالمتين، إضافة إلى فظائع الأزمة الإقتصادية في بلاده. دفاعاً عن رؤيته، كان ستيفنز يؤكد على ضرورة اللجوء إلى المخيلة، والتحدث عن العالم بأسلوب مجازي لا واقعي، فالعالم ليس كارثياً إلا بقدر ما نراه كذلك، ومسؤولية الشاعر في رأيه ، الرؤية إلى ماوراء الواقع بغية التمسك بالمعرفة الألطف للأشياء التي لا تتجلى إلا في الإستعارات. ونتساءل: إلى أي مدى يستطيع الإنسان التحكم بطبيعة رؤياه ما إذا كان متحرراً من إرث الماضي (بحسب نصيحة ستيفنز)، ومتعاطياً مع الحاضر بصفته المرجعية الوحيدة الطازجة للمعرفة والخيال؟ وهل في الحاضر ما يغذي الحس الكوميدي لدى الإنسان، ويسعف مخيلته في إيجاد استعارات أكثر لطفاً للتعبير عن الأمل المفقود؟ أوَ ليس الخيال القادر على رؤية حقيقة ما هي عليه الأشياء واحتمالاتها، بقادر أيضاً على رؤية حقيقة واحتمالات ما هي ليست عليه؟
في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، كان للنقاد التقليدين من مناوئي مبدأ الفن للفن موقف متشدد من ستيفنز لأنه في رأيهم كتب شعراً خالصاً خالياً من كل رسالة أخلاقية أو إجتماعية، وغارقاً في اهتمامات جمالية وتجريدية بحتة.اعتبروا أشعاره أقل دنيوية من أشعار وليامز وفروست، ولا تتمتع بالثقل المعرفي والحضاري الذي لأشعار إليوت وباوند. وثمة من اعتبر أشعاره ضالة، زائغة، توحي أن صاحبها إنما يقيم في برجٍ عاجي ولا ينزل للتفاعل مع الواقع الأرضي إلا اضطراراً. غير أن شعراء جيله، كان لهم موقفاً مغايراً من أشعاره، وباستثناء باوند الذي اعتبره كطالبة مدرسة تجتهد معيرة اهتمامها لتفاصيل زائدة وثانوية كي تفرض تميزها، معظمهم وجد متعة في سخرية أشعاره وغموضها، ووجد فيها صدى لإهتماماتهم إن لجهة إيجاد نظام لفوضى الوجود، او لجهة إيجاد تعريفات طموحة للشعر.
في الستينات والسبعينات، تعامل النقد الحديث مع أشعاره بأسلوب أكثر علمية وأكاديمية وموضوعية، إذ أُعيدت قراءة أعماله وتحليلها ورصد موضوعاتها ومسار تطورها في سياق يوازي سيرته الذاتية، ومن دون أي إسقاطات أخلاقية أو دينية. في الثمانيات، عمد نقاد ما بعد الحداثة إلى التساؤل حول طبيعة اللغة ودوها في أشعاره، لكونها تبدو وسيطاً غير فاعل للتواصل. لم يكن صعباً على النقد رصد شكوك ستيفنز في إمكانات اللغة. ذهابه إلى التجريد دليل عدم وثوقه بها وبطبيعتها الراكدة في تجسيد حقيقة متحركة ودائمة التقلب. في الثمانيات أيضاً، عاد بعض النقاد الذين كانوا هاجموه سابقاً لينصفوه، معتبيرينه الوارث الوحيد لإمرسون وويتمان. نقاد اليوم، وخصوصاً المتأثرين بنظرية جاك دريدا، يرون في أشعار ستيفنز نموذجاً صارخاً لمبدأ التفكيك وإعادة البناء. أيضاً ثمة دراسات ظهرت حديثاً ومقاربات فلسفية عمدت إلى رصد تأثيرات نيتشه في أشعاره.
الشكّ، التحول، الخيال، التجريد، الحاضر، الأشياء ...كلها مفاتيح استخدمها ستيفنز في شعره لفتح الأبواب المغلقة لمعاني الوجود. هل كان ملحداً، أم مؤمناً بما وراء الإيمان؟ هل كان أعمى، أم أنه أغمض عينيه ليرى أنّ:"حياة القصيدة في الذهن لم تبدأ بعد. أنتَ لم تكن موجوداً بعد حينما كانت الأشجار كريستالاً، حتى ولا الآن في هذه اليقظة داخل النوم". هل كان عارياً، أم أن كساءه غضبُ الشجر المبارك من أجل خلق الخضرة الأبهى؟
حين استغلق الوجود على ستيفنز، لجأ أولاً إلى الشكّ مفتاحاً. وهل لنا غيره حين يستغلق هو علينا؟

كرونولوجيا

1879: يولد والاس ستيفنز في رييدنغ في ولاية بنسلفانيا وسط عائلة ميسورة تنعم بالرفاه المعيشي.
1897: يلتحق بجامعة هارفرد منكباً على دراسة الأدب واللغات، ويبدأ بكتابة قصائده الأولى.
1900: ينتقل إلى نيويورك لينخرط في العمل الصحافي لدى صحيفة "نيويورك تريبيون"، ويستمتع بكل ما تثيره هذه المدينة من مغريات ثقافية وغيرها.
1901: يشرع في دراسة الحقوق عملاً بنصيحة والده، وينقطع عن الكتابة الشعرية لمدة عقد من الزمن.
1909: يتزوج من معلمة مدرسة. عام 1911 يتوفى والده، ووالدته في العام التالي.
1903-1915: يعمل محامياً لدى شركات عدة للتأمين في نيويورك. يتزامن وجوده في هذه المدينة مع بروز موجات الحداثة في أميركا، فيتعرف إلى وليام كارلوس وليامز وماريان موور، ويشارك في بعض نشاطاتهما الثقافية.
1916-1917: يستقر حتى مماته في شركة تأمين كبرى في مدينة هارتفورد في ولاية كونكتيكت، حيث يتولى فيها لاحقاً منصب نائب الرئيس. يكتب ثلاثة أعمال مسرحية، تعرض جميعها في نيويورك من دون أن تلقى نجاحاً يُذكر، ما يُفقده الحماسة للكتابة المسرحية مجدداً.
1923: تصدر مجموعته الشعرية الأولى:"القدميّة"(ضرب من الأرغن) من دون أن تلقى اهتماماً لافتاً من النقاد.
1924: تولد ابنته الوحيدة، وينغمس في عمله، فيخرج عن روتين الكتابة الشعرية مجدداً لينقطع عنها أيضاً مدة لا تقل عن عشر سنين.
1935:
تصدر مجموعته الثانية:"أفكار عن النظام"، شبيهة بقصائد الهايكو؛ قصيرة، مكثفة، وغارقة في التجريد.
1937: تصدر له مجموعة ثالثة عنوانها" الرجل صاحب الغيتار الأزرق وقصائد أخرى".
1942: تصدر مجموعته "أجزاء من العالم" إضافة إلى قصيدة طويلة في كتيب عنوانها:" هوامش من أجل خيال أسمى". بعدهما بخمس سنوات أي عام 1947 تصدر مجموعة "الإنتقال إلى الصيف".
1950: تصدر مجموعته السابعة "فجر أيام الخريف"، لغته فيها اتسمت بالبساطة والشفافية، وبدا أنه يبحث فيها عن احتمالات الألق في أكثر الأشياء عادية.
1951: يصدر كتابه النثري:" الملاك الضروري" الذي يعتبر إلى كتاب نثري آخر يصدر عام 1957، أي بعد وفاته، من أهم كتاباته النثرية التي عالجت نظريته الشعرية وتأملاته في مسألة علاقة الشعر بالفنون الأخرى.
1954: لمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين، يوافق على طباعة مجلد أعماله الشعرية الكاملة، بعد ضم خمس وعشرين قصيدة جديدة إلى القسم الأخير منه عنوانها "الصخرة".
1955: ينال جائزة بوليتزر عن مجموعة أعماله الكاملة، وذلك بعد نيله كل جائزة أميركية يُمكن منحها لشاعر أميركي، ومن ضمنها الجائزة الوطنية للكتاب. يرفض دعوة جامعة هارفرد له ليشغل فيها منصباً مرموقاً ، مخافة خسارة وظيفته في شركة التأمين.
آب 1955: بعد ألم دام أشهراً عدة، يتوفى ستيفنز نتيجة إصابته بسرطان خبيث، ويُدفن في هارتفورد.
بعد مماته، يتزايد تقدير القراء لشعره على جانبيْ المحيط الأطلسي.

بطاقة بريدية من بركان

الأولاد الذين يلتقطون عظامنا
لن يعرفوا أبداً أنّ هذه كانت يوماً
تجري بسرعة ثعالب على التلّ،
وأنها في الخريف عندما عنب الدوالي
يصيّر الهواء القارس أكثر لسعاً بأريجه،
كان لها كياناً يتنفّس الصقيع.
آخر ما سيراودهم، أننا وعظامنا
خلّفنا ما هو أكثر،
خلّفنا ما حفظته هيئة الأشياء،
خلّفنا ما أحسسناه تجاه ما رأيناه.
الغيوم الربيعية فوق البيت المغلق النوافذ،
في ما وراء بوابتنا والسماء العاصفة،
تصدح بيأسٍ صارخ.
لزمنٍ طويل ألفنا مرأى البيت،
وما انتابنا تجاهه بات جزءاً منه...
الأولاد الذين لا يزالون يحيكون هالات ببراعم،
سيتحدثون بحديثنا وأبداً لن يعرفوا،
سيعتبرون أنّ البيت الذي يبدو كأنّ مَنْ سكنه
خلّف وراءه روحاً هادرة بين جدرانه الفارغة،
هو بيتٌ بائس في عالم يائس،
سَمِلٌ من ظلال، شاحبٌ بألوانه البُور،
ملطخٌ بالذهب من شمسٍ ثرور.

***

في خصوص بيان الرومنسية
الليل لا يفقه شيئاً عن أناشيد الليل.
هو ما هو مثلما أنا ما أنا،
وفي إدراكي لهذايُستحسن أن أعي نفسي
وأعيكِ.
فقط نحن الإثنين يمكننا تبادل
ما سيمنحه واحدنا للآخر.
فقط نحن الإثنين واحد،
لا أنتِ والليل، ولا الليل وأنا،
إنما أنتِ وأنا، وحيدين،
غايةً في التوحّد، في غور نفسيْنا،
نائييْن إلى ما وراء العزلات المعهودة،
إلى درجة أن الليل هو الخلفية لذاتيْنا وحسب،
في منتهى الصدق كلٌ منا مع ذاته المنفصلة،
في الضوء الشاحب الذي يُلقيه واحدنا على الآخر.

***

شاي في الساحة العامة لِ "هوون"
ليس لأقلّ من أني بلباسٍ أرجواني
هبطتُ النهار غرب البلاد
عبر ما تسميه أنت، الهواء الأكثر وحشة،
ليس لأقل منه سبباً، كنتُ أنا نفسي.
ما كان البلسم الذي تمشحتْ به لحيتي؟
ما كانت الترانيم التي عبرت أذنيّ؟
ما كان البحر الذي اكتسحني مدّه هناك؟
من ذهني تقطّر البلسم الذهبي،
ومن ترديد أذنيّ، الترانيم الصادحة التي تناهت إليهما.
أنا نفسي كنت بوصلة ذاك البحر.
كنتُ العالم حيثما مشيت،
وما رأيته وسمعته وأحسسته،
لم ينبثق إلاّ من ذاتي،
وهناك ألفيتني أكثر أصالة وغرابة.

***

الشعور السطحي بالأشياء
بعدما تساقطت الأوراق،
عاودنا شعورٌ سطحي بالأشياء،
كأننا وصلنا بالخيال إلى منتهاه
متحجرين في سلوكٍ بليد.
إنه لصعب حتى اختيار الصفة لهذا البرود التام،
لهذا الحزن البلا سبب.
المبنى العظيم أضحى مسكناً وضيعاً.
ما من عمامة تذرع دُوْره الأقل شأناً.
بيت النباتات الزجاجي
لم يكن قط بهذه الحاجة الماسّة إلى الطلاء.
المدخنة عمرها خمسون عاماً ومائلة.
جهدٌ جبّار أخفق، تكرارٌ هو
يصبّ في طبيعة تكرار مملّة للبشر والذباب.
مع ذلك، غياب الخيال كان ينبغي هو نفسه تخيلّه.
البركة الكبيرة، الشعور السطحي بها، البلا انعكاسات،
الأوراق، الوحل، الماء الشبيه بزجاج وسخ يعكسُ
سكوناً نوعياً؛ سكون جرذ يخرج مستطلعاً،
البركة الكبيرة وأكوامها من النيلوفور... هذا كله
كان ينبغي تخيلّه كمعرفة لا بدّ منها،
مطلوبة، كما تتطلب الضرورة.

***

موت جندي
الحياة تنقبض والموت مُترقب
كما في فصل خريف.
الجندي يسقط.
هو لا يضحي شخصية بارزة لثلاثة أيام،
فارضاً انفصاله،
منادياً بموكبٍ عظيم.
الموت مطلق وبلا ذكرى
كما في فصل خريف،
عندما الريح تخمد
عندما الريح تهمد، وعلى أديم السماوات
الغيوم تسبح رغم ذلك في اتجاهها.

عن سطح الأشياء

(1)

في غرفتي العالم عصيّ على إدراكي،
لكن حينما أمشي
أرى أنه يتكون من ثلاث أو أربع تلال
وغيمة.

(2)

من شرفتي أعاين الهواء الأصفر،
قارئاً حيثما كنتُ خطّيتُ:
"الربيع هو مثل حسناء تتعرّى".

(3)

الشجرة الذهبية زرقاء.
المغني كان رفع قناعه عن رأسه.
القمر في طيّات القناع.

anawar63@yahoo.com