علي‮ ‬الشرقاوي

علي‮ ‬الشرقاوي أنا من مواليد عام النكبة،‮ ‬نكبة فلسطين،‮ ‬في‮ ‬السابعة من عمري،‮ ‬عشت تجربة الحركة الشعبية في‮ ‬البحرين والتي‮ ‬كانت تحت قيادة هيئة الاتحاد الوطني‮ ‬أو ما‮ ‬يسمى بالهيئة،‮ ‬وقفت مع الانتفاضة الشعبية في‮ ‬مارس‮ ‬‭,‬1965‮ ‬وشاهدت سقوط الحلم العربي‮ ‬في‮ ‬نكسة حزيران عام‮ ‬‭,‬1967‮ ‬كل هذه القضايا سكنتني‮ ‬عندما بدأت مشوار كتابة الشعر‮.‬
من الممكن القول إن تجربتي‮ ‬الشعرية مرت بمرحلة جنينية وثلاث محطات أساسية وتجربة رابعة مازلت أعيش فيها‮.‬

؟‮ ‬؟‮ ‬المرحلة الجنينية

منطلقاً‮ ‬من البعد الوطني،‮ ‬الأيدلوجي‮ ‬اليساري‮ ‬بالذات،‮ ‬بدأت نشر تجاربي‮ ‬الشعرية الأولى،‮ ‬لذلك كانت قصائدي‮ ‬تعبر عن موقف سياسي‮ ‬حاد وتحمل الكثير من نقد للنظام السياسي‮ ‬وإدارة الاستخبارات والصراع الطبقي‮ ‬والوقوف في‮ ‬صف الطبقة العاملة ومشاركة اليسار العالمي‮ ‬بالحلم بالمجتمع الاشتراكي،‮ ‬ثم الشيوعي‮ ‬بعد ذلك‮.‬
بين عام‮ ‬1968‮ ‬وعام‮ ‬1975‮ ‬نشرت عشرات القصائد ذات المضامين السياسية‮ ‬
والوطنية الصارخة والمطالبة بالحرية التامة وحياة أفضل للإنسان البحريني‮ ‬والإنسان في‮ ‬العالم‮.‬

؟‮ ‬؟ المحطة الأولى

عندما نشرت مجموعتي‮ ‬الشعرية الأولى‮ ( ‬الرعد في‮ ‬مواسم القحط‮ ) ‬عام‮ ‬1975‮ ‬والتي‮ ‬كانت اغلبها مكتوبة بشكل متكرر لزيارتي‮ ‬للسجن بين عام‮ ‬1971‮ ‬إلى عام‮ ‬‭.‬1974‮ ‬قمت بإبعاد أغلب القصائد المنشورة في‮ ‬تلك الفترة،‮ ‬لأخفف من حدة الروح التقريرية التي‮ ‬تتخلل معظمها،‮ ‬حيث روح التحريض والتعبئة السياسية تسود معظمها نتيجة لكوني‮ ‬ملاحقاً‮ ‬من الاستخبارات في‮ ‬البحرين،‮ ‬أو معتقلاً‮ ‬أو مهيئاً‮ ‬للاعتقال،‮ ‬فقد كنت أحد العناصر النشطة في‮ ‬المجال الطلابي‮ ‬في‮ ‬بغداد بين عام‮ ‬1968‮-‬1971‮ ‬و بعدها في‮ ‬المجال العمالي‮ ‬في‮ ‬إضرابات‮ ‬‭.‬1972
بعد صدور قانون أمن الدولة عام‮ ‬1975‮ ‬واعتقال العديد من كوادر الحركة الوطنية في‮ ‬البحرين،‮ ‬والذي‮ ‬كان نصيبي‮ ‬منها مدة أربع سنوات متواصلة،‮ ‬جلست طويلاً‮ ‬في‮ ‬السجن مع تجربتي‮ ‬الشعرية،‮ ‬ورأيت أن ما أكتبه ليس‮ ‬غير شعارات وطنية في‮ ‬قالب منظوم،‮ ‬يسمى قصيدة التفعيلة‮.‬
من هنا انفتحت أكثر على التيارات الشعرية المغايرة للمألوف والعادي‮ ‬والمكرر في‮ ‬العالم،‮ ‬تعايشت مع تجربة لوركا وزاملت رامبو وشربت الجعة مع بودلير،‮ ‬ودخلت تثوير الجملة الشعرية عند أدونيس،‮ ‬ولعبت مع حيوانات سليم بركات وبالطبع تنادمت مع قاسم حداد الذي‮ ‬كان معي‮ ‬في‮ ‬السجن،‮ ‬ويشرب معي‮ ‬قطيرات الحلم بالحرية التي‮ ‬خلقنا لها أجنحة كانت تطير بنا إلى أبعد كوخ في‮ ‬أقاصي‮ ‬العالم،‮ ‬وتجعل مناخ السجن أكثر حرارة ودفئاً‮ ‬وحيوية وحرية من الخارج المصادرة فيه قيمة الإنسان وكرامته وأحلامه‮.‬

؟‮ ‬؟ المحطة الثانية

في‮ ‬السجن خرجت من إطار قصيدة الموضوع،‮ ‬إلى قصيدة الرؤيا فكانت تجربة‮ (‬رؤيا الفتوح‮) ‬بداية لهذه المحطة وهي‮ ‬قصيدة طويلة تعبر بصورة مغايرة عما كنت أطرحه في‮ ‬التجارب السابقة مثل مجموعة‮ (‬هي‮ ‬الهجس والاحتمال‮) ‬ومجموعة‮ (‬المزمور‮ ‬23‮ ‬لرحيق المغنين شين‮) ‬
كانت‮ (‬رؤيا الفتوح‮) ‬و(نخلة القلب‮) ‬في‮ ‬تصوري،‮ ‬تجربتان مغايرتان لقصيدة الموضوع ثم جاءت بعدهما تجربة‮ (‬تقاسيم ضاحي‮ ‬بن وليد الجديدة‮) ‬والتي‮ ‬اندمجت فيها تجربتي‮ ‬الحياتية بتجربة الفنان الشعبي‮ ‬المعروف ضاحي‮ ‬بن وليد‮. ‬
وهي‮ ‬كما سماها الناقد الدكتور علوي‮ ‬الهاشمي‮ ‬في‮ ‬كتاب كامل‮ ‬يتكلم عن التجربة،‮ (‬قصيدة حياة‮)‬
كانت تلك التجربة،‮ ‬في‮ ‬تصوري،‮ ‬من التجارب الصعبة على القارئ البحريني‮ ‬فما بالك بالقارئ العربي،‮ ‬فقد حملت العديد من الرموز الخاصة والمبتكرة والشديدة الخصوصية،‮ ‬التي‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يتعرف عليها إلا من عايشها‮. ‬تبعتها تجربة‮ ( ‬ذاكرة المواقد‮) ‬والتي‮ ‬في‮ ‬واقعها‮ ‬بمثابة ذاكرة للحركة الوطنية في‮ ‬البحرين،‮ ‬
من خلال بعض الأسماء المرموزة،‮ ‬برؤية مختلفة عما‮ ‬يطرح في‮ ‬الأدبيات السياسية،‮ ‬والتي‮ ‬لم تقرأ حتى من السياسيين الذين لا‮ ‬يعرفون التماهي‮ ‬واللغة الشفافة‮. ‬والتي‮ ‬تحاول أن تقول في‮ ‬ما بعد النص أكثر مما قاله النص‮.‬
بعد هذه التجارب رجعت إلى كتابة قصيدة المضمون في‮ ‬عدة مجموعات شعرية منها‮ (‬مائدة القرمز‮) ‬وللعناصر شهادتها أيضاً‮ ‬أو المذبحة ثم في‮ ‬مجموعة‮ (‬وآعرباه‮) ‬والتي‮ ‬كانت عبارة عن موقف ضد‮ ‬غزو النظام العراقي‮ ‬لدولة الكويت‮.‬

؟‮ ‬؟ المحطة الثالثة‮ ‬

بعد فترة قررت الانتقال إلى أقاليم شعرية‮ ‬غير مطروقة وخلق عالمي‮ ‬الخاص المغاير لما هو مطروح في‮ ‬الساحة المحلية والعربية والعالمية فقمت بابتكار شخصية متخيلة فكانت تجربة‮ (‬مخطوطات‮ ‬غيث بن اليراعة‮) ‬وبعدها تجربة‮ (‬كتاب الشين‮) ‬والتي‮ ‬حاولت الابتعاد عن كتابة‮ (‬شعر‮) ‬ووضعت كلمة حققه علي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬ثم بعد ذك كتاب‮ (‬من أوراق ابن الحوبة‮) ‬التي‮(‬جمعها ووبوبها علي‮ ‬الشرقاوي‮)‬
القارئ العادي‮ ‬وحتى بعض النقاد لم‮ ‬يستوعبوا لعبة الشاعر فاعتبر‮ (‬كتاب الشين)هو كتاب محقق وليس شعر وأيضاً‮(‬من أوراق ابن الحوبة‮) ‬مر بنفس التصور من القراء الذين لا‮ ‬يستطيعون التفريق بين الرواية والشعر إلا من خلال التعريف بكلمة شعر أو رواية تحت عنوان الكتاب‮. ‬

؟‮ ‬؟ المحطة الرابعة

وهي‮ ‬التي‮ ‬أعمل عليها الآن منطلقاً‮ ‬من رؤى،‮ ‬بعضها كانت متوفرة في‮ ‬بعض التجارب القديمة ولكنها الآن،‮ ‬كما أرى،‮ ‬اتخذت مساحات أكبر وهي‮ ‬الغوص في‮ ‬أقاليم ومحيطات التجربة الروحية على المستوى الإنساني،‮ ‬والدخول بصورة أعمق إلى العوالم الصوفية التي‮ ‬كنت أتعامل معها من الخارج منذ تجاربي‮ ‬الأولى‮. ‬في‮ ‬التجارب الجديدة أحاول التواصل مع المطلق واعتبار الإنسان قطرة نور في‮ ‬محيط الأنوار الكونية والرغبة الكلية للانسجام والتكامل مع كل ما هو موجود في‮ ‬الكون‮.‬

****

يعبر عن الشعر بأنه ضد دائم

أحمد المناعي

علي‮ ‬الشرقاوي فيما‮ ‬يأتي‮ ‬نص حوار مع المبدع علي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬لكن من دون الأسئلة التي‮ ‬لم تكن مرفقة معه،‮ ‬وقد خص به المبدع أحمد المناعي‮ ‬ملحق الكنش مساهمة في‮ ‬الاحتفاء بالشاعر،‮ ‬وكان هذا الحوار هو الأول الذي‮ ‬مع الشاعر في‮ ‬العام‮ ‬‭,‬1979‮ ‬بعد خروجه من المعتقل وقضائه أربعة أعوام فيه منذ‮ ‬23‮ ‬أغسطس‮ (‬آب‮) ‬1975‮ ‬إلى‮ ‬23‮ ‬أغسطس‮ ‬1979م،‮ ‬علماً‮ ‬بأن هذا الحوار لم‮ ‬ينشر من قبل‮.‬
؟ كنت قارئا لكل ما أجده أمامي‮ ‬وتكونت لغتي‮ ‬من قراءاتي
آه‮ ‬يا صديقي‮! ‬من الصعوبة أن نحدد بداية تكون الماء،‮ ‬هكذا أرى صعوبة تحديد بداية علاقتي‮ ‬بالشعر،‮ ‬أخشى أن أتهم بالمغالاة حين أقول أنها تكونت‮ -‬فيما أذكر‮- ‬بين الثامنة والتاسعة،‮ ‬قد‮ ‬يكون قبل ذلك الوقت لا أذكر بالضبط إلا أنها كانت في‮ ‬هذه الفترة‮. ‬
كانت الكلمة أو بالأحرى الكلمة المسجوعة لها إيقاع خاص في‮ ‬نفسي،‮ ‬كنت أعيش الشعر في‮ ‬الغناء،‮ ‬الأعراس و(المراداة‮) ‬هذا الرقص النسائي‮ ‬الجماعي‮ ‬وهن‮ ‬ينتظرن عودة الرجال من رحلة الغوص،‮ ‬كنت مشدوداً‮ ‬للغناء،‮ ‬للكلمات للأنغام‮. ‬أعيش الشعر من خلال القصص التي‮ ‬تحكيها والدتي‮ ‬وجارتنا والتي‮ ‬تتخللها المقاطع الشعرية باللهجة العامية،‮ ‬وأصغي‮ ‬لصوت والدي‮ ‬وهو‮ ‬يردد أغاني‮ ‬البحر على إيقاع المجداف وهو‮ ‬يضرب سطح الماء،‮ ‬كانت الكلمة في‮ ‬أناشيد المدرسة،‮ ‬هذه الأناشيد ذات الحس الوطني‮ ‬القومي‮ ‬التي‮ ‬مازلت أذكر بعضها‮.‬
كنت أحب القراءة وأنا في‮ ‬الصف الثاني‮ ‬الابتدائي،‮ ‬أقرأ كل ما‮ ‬يصادفني‮: ‬أوراق الصحف المهملة،‮ ‬بقايا كتب،‮ ‬رسائل ممزقة وأشياء مكتوبة لا أذكرها‮.‬
لم أكن قادراً‮ ‬على شراء مجلات الأطفال كسندباد وسمير،‮ ‬وهذا ما جعلني‮ ‬أسرقها،‮ ‬إذ كنت لصاً‮ ‬شريفاً‮ ‬أقفز إلى بيت الجيران وأدخل حجرة ابنهم‮ -‬الذي‮ ‬كان في‮ ‬مثل سني‮ ‬حيث كان‮ ‬يقوم بشراء هذه المجلات أسبوعياً‮- ‬وأسرق مجموعة من المجلات وأقرأها فوق السطح ثم أعيدها لأسرق‮ ‬غيرها‮! ‬وهكذا أقوم بقراءة مستمرة لمجلاتي‮ ‬المفضلة‮.‬
في‮ ‬ليالي‮ ‬رمضان كنا نجتمع نحن الأطفال تحت أحد عواميد الكهرباء،‮ ‬وكل فرد منا‮ ‬يحكي‮ ‬قصة من القصص التي‮ ‬يعرفها،‮ ‬ونتبارى في‮ ‬مقدرة أي‮ ‬واحد منا على أن‮ ‬يواصل جملة مسجوعة بحرف الألف والنون في‮ ‬قصص‮ (‬كان‮ ‬يا مكان في‮ ‬قديم الزمان،‮ ‬ملك من ملوك الجان،‮ ‬أسمه زعفران،‮ ‬وله بنتان‮... ‬الخ‮) ‬إضافة لقيادتي‮ ‬مجموعة من الصبيان للغناء والرقص في‮ ‬منتصف رمضان من أجل الحصول على حلوى أو نقود،‮ ‬إذ كنت أغيّر في‮ ‬الأغاني‮ ‬المألوفة وأضع بدلها كلمات خاصة بي‮.‬
في‮ ‬الصف الخامس ابتدائي‮ ‬عرفت الشعر بنظرة أكثر تطوراً‮ ‬من السابق،‮ ‬فبينما كنا نلعب في‮ ‬الحي‮ ‬كرة القدم دخلت الكرة إلى أحد البيوت المهجورة والتي‮ ‬تخص عائلة الشاعر‮ (‬ناصر بو حميد‮) ‬قفزت على سور البيت ودخلت،‮ ‬رأيت كثيراً‮ ‬من المجلات والصحف المهملة وبعض الكتب المتناثرة،‮ ‬تصفحتها ولم‮ ‬يعجبني‮ ‬منها سوى ديوان‮ (‬عمر بن أبي‮ ‬ربيعة المخزومي‮) ‬أخذته معي،‮ ‬أو بالأحرى سرقته،‮ ‬رجعت إلى الأصحاب أعطيتهم الكرة وذهبت لأقرأ الديوان‮. ‬طبعاً‮ ‬ليست قصيدة بالمعنى الحقيقي،‮ ‬ما هي‮ ‬إلا صور وعجز وقافية‮.‬
في‮ ‬هذه الفترة كنت قارئاً‮ ‬لكل ما أجده أمامي،‮ ‬تاريخ،‮ ‬أدب،‮ ‬شعر،‮ ‬دين،‮ ‬فتعرفت على حافظ وشوقي‮ ‬والمنفلوطي‮ ‬وشعراء آخرين كتبت بعد ذلك قصائدي‮ ‬في‮ ‬مدح النبي‮ ‬وعلي‮ ‬بن أبي‮ ‬طالب والعقاد وأناشيد الكشافة التي‮ ‬كانت أمنية لم تتحقق،‮ ‬إضافة لقيامي‮ ‬مع بقية الأطفال في‮ ‬ارتجال تمثيليات حياتية فوق سطح بيت جارنا‮.‬

؟ بدايات تعلم الوزن والقافية وتعملق الأسئلة

صادقت إيليا أبو ماضي‮ ‬في‮ (‬الطلاسم‮) ‬وعرفت الأسئلة بصورة أكثر حدة رغم أنني‮ ‬لم أكف عن السؤال،‮ ‬منذ الطفولة في‮ ‬الصف السادس عرفت نزار‮ (‬خبز وحشيش وقمر‮).‬
أول مرة قرأت قصائدي‮ ‬أمام مجموعة من الطلبة وذلك حينما أخبر أحد أصدقائي‮ ‬أستاذنا الشاعر‮ (‬خالد المحادين‮) ‬والذي‮ ‬كان مدرساً‮ ‬للغة العربية فقرأت بعض القصائد،‮ ‬وأخبرني‮ ‬بضرورة تعلم الوزن وقطع لي‮ ‬بيتاً‮ ‬لا زلت أذكره‮.‬
عجبٌ‮ ‬عجبٌ‮ ‬عجبٌ‮ ‬عجبٌ‮ ‬ قططٌ‮ ‬سودٌ‮ ‬ولها ذنبٌ
لكني‮ ‬لم أفقه الوزن،‮ ‬وتقريباً‮ ‬في‮ ‬نفس المرحلة التقيت بالشاعر عبدالحميد القائد والذي‮ ‬كان‮ ‬يسبقني‮ ‬بسنة دراسية وله محاولات في‮ ‬الكتابة فكنا نقرأ لبعضنا‮.‬
في‮ ‬68‮ ‬تعرفنا أنا وعبدالحميد القائد على الشاعر‮ ‬يعقوب المحرقي‮ ‬وكانت تلك الفترة خصبة من حيث الاطلاع والنقاش والكتابة‮.‬
وبعدها تعرفنا نحن الثلاثة على الشاعر قاسم حداد وعلى عبدالله خليفة وبقية الزملاء‮.‬
كانت قراءاتنا هي‮ ‬البحث عن الجديد في‮ ‬الفكر وفي‮ ‬الأدب وفي‮ ‬الفلسفة،‮ ‬وبدأت تنضج آمالنا وطموحاتنا وحينها عرفنا الفكر التقدمي‮.‬
ظهور الأسماء الجديدة في‮ ‬الشعر والقصة بعد الأضواء
طبعاً‮ ‬ظهور الصحافة في‮ ‬البحرين وجريدة‮ (‬الأضواء‮) ‬تحديداً‮ ‬كانت أحد العوامل الهامة التي‮ ‬أدت إلى بروز شعراء وكتاب قصة،‮ ‬برز علي‮ ‬عبد الله خليفة وقاسم حداد وعلوي‮ ‬الهاشمي‮ ‬وحمدة خميس كشعراء،‮ ‬وبرز خلف أحمد خلف ومحمد الماجد ومحمد عبدالملك ككتاب قصة قصيرة وبعدها ظهر أمين صالح بوجه جديد للقصة القصيرة في‮ ‬البحرين‮.‬
نشر عبدالحميد القائد بعض قصائده إضافة إلى قصة قصيرة بين عامي‮ ‬67‮-‬68‮ ‬في‮ ‬الأضواء،‮ ‬حاولت أن أنشر قصة قصيرة ورفضت،‮ ‬كنت أقرأ كثيراً‮ ‬وأكتب بصورة مستمرة،‮ ‬قصصاً‮ ‬قصيرة،‮ ‬روايات ومسرحيات،‮ ‬مقالات في‮ ‬الفلسفة والاجتماع والسياسة،‮ ‬كنت أكاد أن ألتهم كل شيء وأكتب كل شيء‮.‬

؟ القصيدة الموزونة الأولى‮ ‬

في‮ ‬العام‮ ‬1967‮ ‬اشتركت في‮ ‬أسرة فناني‮ ‬البحرين‮ -‬وهي‮ ‬تجمع مسرحي‮- ‬كممثل وكتبت مسرحية ورُفضت أيضا،‮ ‬شاركت في‮ ‬تمثيل أحد الاسكتشات،‮ ‬في‮ ‬العام‮ ‬68‮ ‬ذهبت في‮ ‬بعثة دراسية إلى بغداد،‮ ‬تعرفت على أحمد الشملان وله محاولات شعرية،‮ ‬وراشد النجم وهو‮ ‬يكتب قصصاً‮ ‬قصيرة ونقداً‮ ‬وشعراً،‮ ‬ومعهما تعلمت بدايات الوزن والعروض،‮ ‬وكتبت أول قصيدة موزونة،‮ ‬وأرسلتها إلى‮ (‬الأضواء‮) ‬ونشرت في‮ ‬باب‮ (‬القراء‮)‬،‮ ‬وأخرى إلى‮ (‬هنا البحرين‮) ‬أيضاً‮ ‬ونشرت في‮ ‬باب القراء،‮ ‬أعتبر أول قصيدة نشرت لي‮ ‬هي‮ (‬عاشق الفجر‮) ‬في‮ (‬هنا البحرين‮) ‬التي‮ ‬تعد القصيدة الثالثة بعد تمكني‮ ‬من العروض،‮ ‬وبعد ذلك نشرت في‮ ‬عدة مجلات‮: ‬مجلة‮ (‬الاتحاد الوطني‮) ‬لطلبة الكويت،‮ (‬صوت الطلبة‮) (‬البحرين‮)‬،‮ (‬المسيرة‮) ‬لطلبة البحرين،‮ (‬الطليعة‮) ‬الكويتية،‮ ‬بالإضافة إلى الجرائد المحلية‮ (‬الأضواء‮) ‬و(صدى الأسبوع‮) ‬و(البحرين اليوم‮).‬

؟ الأسئلة هي‮ ‬التي‮ ‬خلقت التجديد لدي

أسئلة كثيرة كانت تنتابني،‮ ‬ماذا أكتب؟ كيف أعبر عن مشاعري‮ ‬وأفكاري‮ ‬وأحاسيسي؟ ما هو الشكل الذي‮ ‬من خلاله أصب معاناتي؟ وهل ما أكتبه جدير بالقراءة من قبل الناس؟ أليس من الضروري‮ ‬أن‮ ‬يأتي‮ ‬الشاعر بالجديد من حيث الشكل والمضمون؟ ما هي‮ ‬اللغة التي‮ ‬تستعملها؟ كل هذه الأسئلة جعلتني‮ ‬أقف كثيراً‮ ‬وأنا أكتب،‮ ‬أحاول أن أبتدع الصور والرموز والمواقف،‮ ‬أحاول أن أبتكر لغة خاصة بي،‮ ‬بحيث أن القارئ‮ ‬يفهم أنها قصيدتي‮ ‬دون وجود أي‮ ‬اسم‮. ‬
هذا التوق الدائم للجديد،‮ ‬جعل بعض الأصدقاء من الطلبة في‮ ‬بغداد‮ ‬يقفون ضد كتابتي،‮ ‬ويصفونها بالغموض والتجديد من أجل التجديد‮! ‬لم أهتم؛ فمتى اهتم الشاعر بآراء النقاد حتى‮ ‬يهتم بآراء من لا‮ ‬يقرؤون من القصيدة إلا مضمونها‮.‬
في‮ ‬نفس الوقت كان هناك آخرون‮ ‬يحملون نفس الهاجس ونفس الهم،‮ ‬الشاعر قاسم حداد والشاعر‮ ‬يعقوب المحرقي‮ ‬والشاعر عبدالحميد والقاص أمين صالح كانت علاقتنا قوية،‮ ‬حيث تجمعنا المعاناة نفسها والطموح نفسه‮.‬
من هنا أصبح الشعر ليس التعبير فقط،‮ ‬إنما كيفية هذا التعبير وما هو الجديد في‮ ‬القصيدة المكتوبة،‮ ‬وما هو الموقف المختلف عن تجاربي‮ ‬السابقة وتجارب الآخرين‮.‬
أنا لا أخشى على نفسي‮ ‬من الانزلاق،‮ ‬فالشاعر الذي‮ ‬يمتلك رؤيا متقدمة للكون والمجتمع،‮ ‬والإنسان‮ ‬يظل واقفاً‮ ‬كالألف الممدودة منتصباً‮ ‬دائماً‮ ‬وفي‮ ‬شموخ لأنه لا‮ ‬يكتب المواضيع،‮ ‬إنما‮ ‬يكتب الحياة،‮ ‬هل تخشى على شاعر‮ ‬يكتب الحياة؟ الشعر هو الحياة،‮ ‬هو الماء والهواء،‮ ‬لا أتصور أن هناك مجتمعاً‮ ‬يعيش بدون الشعر،‮ ‬وحين‮ ‬يكون موجوداً‮ ‬فليس هذا مجتمعاً،‮ ‬إنما ركام من اللامعنى،‮ ‬حين تقول ما دور الشعر كأنك تسألني‮ ‬ما دور السؤال في‮ ‬ذهن الطفل؟‮! ‬الشعر هو الطفل والسؤال هو البحث،‮ ‬الشعر هو خض الآخر وهدم قيمة القديمة التي‮ ‬لا تتماشى مع التاريخ،‮ ‬الشعر هو خلخلة جادة لكل شيء،‮ ‬الشعر هو ضد دائم،‮ ‬ضد الطبيعة والمجتمع والإنسان،‮ ‬ضد كل شيء من أجل بناء كل شيء،‮ ‬لا‮ ‬يكتب الإنجازات إنما‮ ‬يبتكر ويبتدع الطموحات الإنسانية الكبرى هل تفهمني؟

؟ شروط القصيدة الجيدة؟ سؤال قاس

لماذا تضعني‮ ‬في‮ ‬هذا الموقف؟ شروط القصيدة الجيدة‮! ‬إنك قاس‮ ‬يا صديقي‮ ‬حينما تريدني‮ ‬أن أضع شروطاً‮ ‬للقصيدة الجيدة،‮ ‬لست مبالياً‮ ‬ولا أريد أن أكون،‮ ‬إنما أكتب القصيدة ولا أدري‮ ‬هل تكون جيدة أم لا،‮ ‬أحاول أن تكون جيدة في‮ ‬الطرح في‮ ‬الموقف،‮ ‬في‮ ‬الرمز في‮ ‬الدراما،‮ ‬أستفيد من ذاكرة خصبة وخيال لا‮ ‬يحد من أجل كتابة قصيدة صغيرة لها روح الإبداع،‮ ‬ليس كل ما‮ ‬يكتبه الشاعر جيداً،‮ ‬حياة الشاعر في‮ ‬تصوري‮ ‬ليست أكثر من بضعة قصائد تستطيع الخلق،‮ ‬ويكفيني‮ ‬قصيدة قوية تستطيع البقاء والصمود في‮ ‬وجه التاريخ‮.‬
اهتم المتلقي‮ ‬بالمضمون ونسي‮ ‬الإبداع
لماذا‮ ‬ينظر القارئ جانباً‮ ‬واحداً‮ ‬من قصائدنا هو جانب المضمون‮:‬
ليس ما نكتبه سياسة إنما نكتب معاناتنا‮/ ‬حينما أكتب عن الفقر فأنا أعيشه حتى نخاع العظم‮/ ‬حينما أكتب عن المصادرة فأنا أحياها في‮ ‬البيت والشارع والسوق‮/ ‬حينما أكتب عن الزنازن فأحلى قصائدي‮ ‬قلتها في‮ ‬ظلمتها‮/ ‬حينما أكتب عن الكلمة فأنا أراها مخنوقة لا تستطيع التعبير‮/ ‬حينما أكتب عن النخلة فأنا أراها مقتلعة وتبنى مكانها عمارات‮/ ‬حينما أكتب عن البحر فأنا أراه مسجوناً‮ ‬يبحث عن كوة ضوء‮/ ‬حينما أكتب عن حبيبتي‮ ‬فكل لقاء معها وداع آخر‮.‬
من هنا‮ ‬يرى الآخرون جانباً‮ ‬واحداً‮ ‬من القصيدة،‮ ‬في‮ ‬الوقت الذي‮ ‬تكون فيه كتابتنا ممتدة في‮ ‬كل شيء في‮ ‬التاريخ،‮ ‬في‮ ‬الفلسفة،‮ ‬في‮ ‬المجتمع،‮ ‬في‮ ‬الطبيعة التي‮ ‬أصبحت جزءاً‮ ‬منها،‮ ‬في‮ ‬الكلمة القوية الطرية كالطفل بعد الولادة‮.‬
البعض‮ ‬يقول إن شعرنا سياسي‮! ‬الشعر أحد المواضيع التي‮ ‬تدخل ربما نتيجة الظروف الموضوعية في‮ ‬كتابتنا،‮ ‬الشعر أكبر من السياسة لأن السياسة جزء من عالمنا والشعر هو الكل،‮ ‬فكيف ندفع شعر شاعر بالسياسة وننسى الإبداع‮! ‬الفن كما تعرف‮ ‬يا صديقي‮ ‬هو مجموعة الصور الرائعة المبتكرة المستمدة من هذا الواقع‮. ‬أنا أمتلك رؤياً‮ ‬متقدمة للمجتمع الإنساني،‮ ‬لذلك أكتب حياتي،‮ ‬في‮ ‬السجن،‮ ‬في‮ ‬المقهى،‮ ‬في‮ ‬الشارع،‮ ‬وأنا أتلق الكلمة أقول‮ ‬يكفي‮ ‬تقييم الشاعر من منطلق سياسي‮ ‬فحسب‮.‬

؟ علاقتي‮ ‬بالطبيعة قوية

علاقتي‮ ‬بالطبيعة قوية،‮ ‬فأنا والبحر صديقان منذ الطفولة،‮ ‬أبي‮ ‬صياد سمك،‮ ‬منذ الرابعة وأنا أدخل البحر مع أبي،‮ ‬من هنا توطدت علاقتي‮ ‬بالبحر والسماء،‮ ‬والنخلة الواقفة كالرمح على جسد الملح،‮ ‬وبالتراب الذي‮ ‬توسخ حالياً‮ ‬بفعل قذارة النفط وتلوثه بأوساخ البواخر التي‮ ‬تسحب دم الإنسان‮.‬
لذلك ترى اندماجي‮ ‬بالطبيعة حاداً‮ ‬بشكل قوي،‮ ‬وإن تعمق أكثر بالقراءة،‮ ‬خصوصاً‮ ‬قراءة شعر الحلاج وابن عربي،‮ ‬رابعة العدوية،‮ ‬وجلال الدين الرومي،‮ ‬وحياة السهروردي،‮ ‬خصوصاً‮ ‬إذا عرفنا المأساة التي‮ ‬عاشها بعض دعاة الصوفية،‮ ‬الحلاج،‮ ‬والسهروردي‮ ‬مثلاً،‮ ‬فأنا صليت ركعتين مع الحلاج وهو‮ ‬يصلب على دجلة،‮ ‬وقفت مع السهروردي‮ ‬وهو‮ ‬ينتظر الخيار في‮ ‬كيفية موته،‮ ‬شربت من فيض ابن عربي‮ ‬ونظرته لتوحد الأديان،‮ ‬رقصت مع رابعة وهي‮ ‬تبدأ العشق الإلهي‮ ‬الأول،‮ ‬ودخلت وتفتت على القصيدة التي‮ ‬حلم بها الشريف الرضى وكتبها في‮ ‬لحظة‮ ‬غيبوبة‮.‬
من هنا ترى‮ -‬إن كنت تبحث عن الروح‮- ‬الصوفية في‮ ‬قصائدي،‮ ‬فإن لم‮ ‬يكن بعضها واضحاً‮ ‬فالبعض الآخر كامن في‮ ‬الصور والمواقف والأحلام‮.‬
أتفق مع الصوفيين في‮ ‬وحدة الوجود،‮ ‬لكني‮ ‬أختلف في‮ ‬المذهب،‮ ‬أختلف في‮ ‬المنهج،‮ ‬هم عشقوا السماء وأنا عشقت الأرض،‮ ‬هم عشقوا المطلق وأنا عشقت المشخص العياني‮ ‬في‮ ‬الإنسان‮.. ‬توق الصوفي‮ ‬للحلول في‮ ‬واجب الوجود،‮ ‬وأنا توقي‮ ‬للحلول في‮ ‬الطبيعة والإنسان،‮ ‬أعلى درجات الصوفية الغناء وأعلى درجاتي‮ ‬في‮ ‬نزعتي‮ ‬الصوفية هي‮ ‬الولادة،‮ ‬هم‮ ‬يؤمنون بالانتهاء وأنا أؤمن بالابتداء‮.‬
لذلك أنا والصوفيون نستخدم كثيراً‮ ‬من المصطلحات المتشابهة لكننا نختلف في‮ ‬الاتجاه،‮ ‬نختلف في‮ ‬الموقف،‮ ‬هم مثاليون حتى العظم وأنا مادي‮ ‬حتى العظم،‮ ‬لذلك فصوفيتي‮ ‬جديدة مختلفة ومعايرة لما هو مألوف من مفاهيم صوفية قديمة‮.‬
لكن الرائع في‮ ‬الصوفية هو الدخول الكشف،‮ ‬أي‮ ‬تعميق للذات؛ فالرحيل الدائم للكشف عن مكونات النفس والغوص والإبحار الجوائي‮ ‬يقود الشاعر للالتقاء مع الصوفيين في‮ ‬التجربة الشعرية،‮ ‬لذلك فكل قصيدة تحاول الغوص في‮ ‬الذات بها شيء من الصوفية‮.‬

؟ القصيدة الطويلة حلمي‮ ‬الذي‮ ‬كنت أرى

القصيدة الطويلة حلم،‮ ‬في‮ ‬البداية كان هناك هاجس لكتابة الرواية الشعرية،‮ ‬فكتبت في‮ ‬العام‮ ‬1968‮ ‬قصيدة طويلة هي‮ (‬مذكرات معتقل في‮ ‬سجن جدا‮)‬،‮ ‬في‮ ‬العام‮ ‬1970‮ ‬كتبت قصيدة طويلة حوالي‮ ‬150‮ ‬صفحة من الحجم المتوسط هي‮ (‬رسالة من كادح‮)‬،‮ ‬في‮ ‬العام‮ ‬1974‮ ‬كتبت قصيدة طويلة حوالي‮ ‬160‮ ‬صفحة من الحجم المتوسط هي‮ (‬مسعود‮ ‬يكشف البحر‮) ‬حالت الظروف دون النشر،‮ ‬فبقيت في‮ ‬الأدراج كتجارب شعرية،‮ ‬إذاً‮ ‬كتابة القصيدة الطويلة ليست مسألة جديدة بالنسبة لتجاربي،‮ ‬لأنني‮ ‬كنت أسعى لكتابة قصيدة حياة بها الشخصيات حية متحركة فاعلة وحالمة بالتغيير‮.‬
لكن أعتبر‮ (‬رؤيا الفتوح‮) ‬هي‮ ‬أنضج قصيدة طويلة فنياً‮ ‬حققت بعض الطموح الذي‮ ‬أحمله في‮ ‬كتابة قصيدة حياة إذ تمتد التجربة من‮ ‬1919‮ ‬إلى‮ ‬1972‮ ‬في‮ ‬شخصيات أسطورية ودافعية تتحاور وتتداخل بروح دراسية،‮ ‬بعدها جاءت قصيدة طويلة أخرى هي‮ (‬تقاسيم ضاحي‮ ‬بن وليد الجديدة‮) ‬حاولت أن تكون العلاقة بين ضاحي‮ ‬هذا الفنان البحريني‮ ‬الذي‮ ‬جدد في‮ ‬الأغنية،‮ ‬والعود العربي‮ ‬بالريشة والنوتة الموسيقية والأوتار علاقة حوار درامي‮ ‬حار حتى الفجيعة،‮ ‬وحروف النوتة رموز جديدة لم تستخدم‮ -‬حسب معرفتي‮- ‬من قبل أي‮ ‬شاعر آخر‮.‬

؟ أبحث عن المتلقي‮ ‬الذي‮ ‬يعيش تجربتي

تسألني‮ ‬عن المتلقي؟ شخصياً‮ ‬لا أفكر في‮ ‬المتلقي‮ ‬أبداً‮ ‬حين الكتابة،‮ ‬المهم أن أعبر عما أعيشه وأعانيه،‮ ‬ولأني‮ ‬صادق في‮ ‬معاناتي‮ ‬وطموحاتي‮ ‬الفنية فإنه لابد أن تنتقل حرارة التجربة إلى الآخر،‮ ‬أن أنقل جزءاً‮ ‬من حالتي‮ ‬الشعورية إلى المتلقي،‮ ‬هذا هو كل ما أطلبه،‮ ‬لا أبحث عمن‮ ‬يفهم قصائدي‮ ‬إنما عمن‮ ‬يعيشها بتجاوب مع الصور والرموز والرؤى،‮ ‬يعيش من عذابي‮ ‬وأنا أكتب القصيدة‮.‬

؟ الشخصيات والرموز المستخدمة في‮ ‬النصوص

هناك بعض الشخصيات الإنسانية التي‮ ‬بموافقتها الفكرية تعدت خارطة الزمان والمكان،‮ ‬لذلك بقيت هذه الشخصيات أو تحولت إلى رموز بدون قيود،‮ ‬بعض الأحيان تقترب معاناتي‮ ‬لحد التزاوج بهموم هذه الشخصيات ذات المواقف الفكرية والاجتماعية فمن الصعاليك إلى الخوارج إلى الزنج والقرامطة إلى الصوفيين إلى رمز شعبي‮ ‬بحريني‮ (‬موزة‮) ‬و(ضاحي‮ ‬بن وليد‮) ‬ورموز خاصة‮ (‬الأشهل-فتوح-سلطان‮) ‬ورموز ثانوية كثيرة تتمدد في‮ ‬القصائد‮.‬
بعض الشخصيات أصبحت رموزاً‮ ‬جاهزة بفعل استخدامها من قبل كثير من الشعراء،‮ ‬لكنها تبقى شخصيات مفتوحة للاستخدام من قبل شعراء آخرين‮ ‬يتناولونها من زوايا وجوانب مختلفة،‮ ‬خذ مثلاً‮ ‬شخصية الحلاج،‮ ‬في‮ ‬تصوري‮ -‬فمهما استخدم شعراً‮ ‬ونحتاً‮ ‬ورسماً‮- ‬يظل رمزاً‮ ‬مفتوحاً‮ ‬به إمكانات جديدة للاستخدام‮.‬
ثمة شخصيات أخرى هي‮ ‬التي‮ ‬تفجر التجربة الشعورية لما تمتلك من خصوصية وشحنات شعورية متميزة عالية من حيث التوتر والصبغة الدرامية مثل شخصية‮ (‬موزة‮) ‬البحرينية التي‮ ‬كلمت البحر وهي‮ ‬في‮ ‬حالة الغرق،‮ ‬بعض الشخصيات تتفجر في‮ ‬القصيدة دون أن‮ ‬يكون هناك وعي‮ ‬مسبق بها مثل شخصية‮ ''‬الطفلة‮'' ‬التي‮ ‬تتمدد في‮ ‬كثير من قصائدي‮.‬

؟ في‮ ‬السجن لا تمتلك إلا ذاكرة مفتوحة للسماء

السجن‮! ‬إنه قاسٍ‮ ‬يا صديقي،‮ ‬ويتكرر كثيراً‮ ‬ويستمر طويلاً،‮ ‬حتى إنك بعد الخروج منه تظل تلاحقك ظلمته ووجباته وعذاباته،‮ ‬لم‮ ‬يتخل السجن عني،‮ ‬لذلك فأنا أعيش فيه،‮ ‬رغم وجودي‮ ‬خارجه شكلاً‮..‬
في‮ ‬السجن ليس لك إلا ذاكرة مفتوحة كالسماء على الماضي‮ ‬وخيال طري‮ ‬كالماء مفتوح على المستقبل،‮ ‬الخبر البسيط هناك‮ ‬يأخذ أياماً‮ ‬من التحليل،‮ ‬أشهراً،‮ ‬وبعد ذلك‮ ‬يتضح لك كذب هذا الخبر،‮ ‬من هنا‮ ‬يكون تعاملك مع الشخصيات الإنسانية وحوارك معها أكثر حميمية والتصاقاً،‮ ‬تعيش عذابات‮ ‬يوسف الصديق في‮ ‬الجب،‮ ‬وفي‮ ‬الزنزانة تعرف آلام طرفة بن العبد،‮ ‬وتسافر في‮ ‬أحلام أحمد بن ماجد،‮ ‬وتكتشف هموم الخليل بن أحمد الفراهيدي‮ ‬وهو‮ ‬يبحث عن قانون وجيل مغاير لما هو كائن‮.‬
في‮ ‬السجن لا تقرأ سوى ذاكرتك وذاكرة رفاقك‮. ‬في‮ ‬السجن لا تحصل على قلم الكتابة سوى حلمك الممتد إلى ما لا نهاية‮.. ‬في‮ ‬السجن ليست هناك أوراق إلا الرفاق المفتوح لحفظ ما تردده من قصائد وأحلام وطموحات‮.. ‬في‮ ‬السجن لا تعرف شيئاً‮ ‬عن الخارج لا تقرأ إلا الظلمة والنور الموجود في‮ ‬داخلك كإنسان‮ ‬يعيش قمة العذاب،‮ ‬من هنا كان همي‮ ‬وأنا في‮ ‬السجن أن تكون قصائدي‮ ‬جديدة،‮ ‬لا أعرف ما هي‮ ‬تطورات القصيدة الجديدة في‮ ‬الخارج،‮ ‬لذلك أبتكر جديدي‮ ‬الخاص بي‮ ‬كنت لا أريد أن أخرج من السجن وأنا أكرر ما قلته سابقاً،‮ ‬إنما أضيف جديداً‮ ‬لتجاربي‮ ‬الشعرية وللتجربة الشعرية البحرينية ككل،‮ ‬من حيث التناول والرموز والصورة والرؤيا‮.‬
إذاً‮ ‬الهم الذي‮ ‬كنت أعانيه في‮ ‬السجن هم الكتابة الجديدة في‮ ‬المألوفة،‮ ‬معتمداً‮ ‬على ذاكرة لا تنضب وخيال حادٍ‮ ‬يدخل في‮ ‬الجماد ولا أملك إلا الأسئلة،‮ ‬من هنا كان السؤال قوياً‮ ‬وحاداً‮ ‬أكثر من التجارب السابقة،‮ ‬كان السؤال طريقي‮ ‬للبحث والاكتشاف‮.‬

‮ ‬؟ سيفاجؤ العالم من الحركة الأدبية في‮ ‬البحرين

الحركة الأدبية الجديدة في‮ ‬البحرين لم تكتشف من قبل القارئ العربي،‮ ‬وأتصور أن الكثيرين سيفاجؤون بما لدينا من محاولات وتجارب قوية تتساوى مع ما‮ ‬يطرح على الساحة العربية من شعر وقصة قصيرة ورواية‮.‬
لذلك أنا أرى أن في‮ ‬الثمانيات سيكون للحركة الأدبية في‮ ‬البحرين دور بارز في‮ ‬دعم الحركة الشعرية العربية،‮ ‬وستأخذ هذه الحركة مكانها الحقيقي‮ ‬كرافد هام من روافد الأدب العربي‮ ‬الجديد‮.‬

؟ أنصاف الشعراء هم الذين‮ ‬يمرغون رؤوسهم في‮ ‬الأوضاع المهيمنة

الشاعر في‮ ‬الوطن العربي‮ ‬مازال مطارداً‮ ‬ليس في‮ ‬كتابته إنما في‮ ‬رزقه وفي‮ ‬قوت عياله،‮ ‬بالإضافة إلى التعتيم على الأصوات الجديدة الشابة والتي‮ ‬تحاول بناء قيم مغايرة لما هو سائد،‮ ‬الشاعر الضد من الطبيعي‮ ‬أن تقف في‮ ‬وجهه الأوضاع القائمة وتحاول أن تحتويه أو تنهيه،‮ ‬لكني‮ ‬أسأل منذ متى أعطت الأوضاع القائمة الحرية للشاعر في‮ ‬أن‮ ‬يعبر عن طموحاته وطموحات الإنسان‮.‬
قد‮ ‬يؤثر هذا الموقف على بعض الشعراء ولكن في‮ ‬تصوري‮ ‬أن الشاعر الحقيقي‮ ‬سيبدع ويظل‮ ‬يبدع في‮ ‬كل الحالات،‮ ‬أنصاف الشعراء هم الذين‮ ‬يمرغون رؤوسهم في‮ ‬الأوضاع المهيمنة أما الشاعر الحقيقي‮ ‬فإنه صوت قوي‮ ‬وحاد ومؤمن بالجديد إيمانه بالماء الذي‮ ‬يشربه،‮ ‬لذلك كلما ازدادت ضراوة الحياة في‮ ‬وجهه ازدادت قوة تعبيره وتحديه،‮ ‬وانصقال موهبته‮.‬

؟ مجموعة شعرية واحدة مطبوعة والبقية تنتظر

طبعت مجموعة شعرية بعنوان‮ (‬الرعد في‮ ‬مواسم القحط‮) ‬عام‮ ‬1975‮ ‬ولدي‮ ‬تحت الطبع‮:‬

  1. ‬هي‮ ‬الهجس والاحتمال‮ (‬مجموعة قصائد‮)‬
  2. ‬رؤيا الفتوح‮ (‬قصيدة طويلة‮)‬
    ومخطوط منها‮:‬
    1 - ‬تقاسيم ضاحي‮ ‬بن وليد الجديدة‮ (‬قصيدة طويلة‮)‬
    2 - ‬مفتاح الخير‮ (‬مسرحية شعرية من ثلاثة فصول للفتيان‮)‬
    3 - -‬النزيف‮ (‬مسرحية من فصل

****

علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬على طبيعته

نده فاروق

علي‮ ‬الشرقاوي في‮ ‬حياة علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬تحولات كثيرة تعاقبت على فكره ورؤيته تجاه عدد من النظريات والرؤى الفلسفية أو التنظيرية في‮ ‬الحياة والمجتمعات‮.. ‬هو لا‮ ‬يعتبرها تحولات بقدر ما هي‮ ‬نضوج فكري،‮ ‬يعتز بها ويفتخر،‮ ‬لا‮ ‬ينزعج عند تذكيره بها،‮ ‬بل‮ ‬يعتبرها لبنة من لبنات بنائه الفكري‮ ‬وتطور مفاهيمه ونظرته للحياة‮.. ‬فمع كل فكر أو توجه كان‮ ‬يتبناه كان هدفه الأول والأخير البحث عن المجتمع المثالي‮ ‬والمدينة الفاضلة‮.. ‬حاورته حول بعض المحطات في‮ ‬حياته فخرجت بمفاجآت عدة وحكم حياتية لابد لمن‮ ‬يطلع عليها أن‮ ‬يجني‮ ‬فائدة ما‮..‬

؟ قصتي‮ ‬القصيرة مع جماعة التبليغ

؟‮ ‬مررتَ‮ -‬حسب علمي‮- ‬بتجربة فريدة في‮ ‬مرحلة من مراحل حياتك مع جماعة التبليغ،‮ ‬فماذا تقول عنها وقد كنت تنام في‮ ‬المساجد وتمر على البيوت تطرق أبوابها لدعوة أهلها للصلاة في‮ ‬وقتها،‮ ‬ولم تكن تأكل أكثر من‮ ''‬القيمة‮''‬؟

‮- ‬كان ذلك في‮ ‬بداية الستينات تقريباً،‮ ‬حين كنت في‮ ‬الصف الأول الإعدادي،‮ ‬وكما تعرفين،‮ ‬يسيطر على الإنسان في‮ ‬بداية البلوغ‮ ‬نزعة تدينية،‮ ‬قد تصل به إلى حد الوسواس،‮ ‬لذلك لم تكن تفوتني‮ ‬أي‮ ‬صلاة في‮ ‬المسجد،‮ ‬وبالذات صلاة الصبح‮.. ‬في‮ ‬هذه الفترة كنت مع صديقي‮ ‬إبراهيم الحسيني‮ ‬ندخل أي‮ ‬مسجد في‮ ‬طريقنا لأداء الصلاة،‮ ‬وصادف في‮ ‬أحد الأيام أن كنا في‮ ‬مسجد العوضية‮ (‬الفاروق حالياً‮)‬،‮ ‬وبعد الصلاة قام أحد المغاربة بإلقاء محاضرة علينا حول ضرورة الدعوة للإسلام ولو لفترة زمنية من عمر الإنسان،‮ ‬وحددها،‮ ‬على ما أذكر،‮ ‬بأربعة شهور،‮ ‬أو‮ ‬40‮ ‬يوماً‮ ‬أو ثلاثة أيام في‮ ‬الشهر‮.. ‬واقترح علينا فكرة أن نقوم بدعوة الناس للصلاة في‮ ‬منطقة الرفاع،‮ ‬على أن‮ ‬يحضر كل واحد منا نصف دينار للوجبات التي‮ ‬ستكون مشتركة،‮ ‬في‮ ‬الوقت نفسه كان معنا أبناء بهزاد،‮ ‬وهم كما عرفت بعد ذلك أنهم من جماعة الدعوة والتبليغ‮. ‬
اتفقت مع الصديق إبراهيم أن نشارك في‮ ‬هذه الدعوة وهذه الرحلة،‮ ‬وبالفعل انطلقنا من مسجد العوضية إلى مسجد‮ (‬الرفاع كمب‮) ‬وجلسنا هناك مدة‮ ‬يومين وكنا بعد الصلاة نستمع إلى شرح الأحاديث الدينية وكان معنا مجموعة من الشباب والرجال من مناطق عدة من البحرين،‮ ‬وكان أهم عنصرين قياديين من المغرب وباكستان‮.‬
؟ المغاربة والباكستانيون في‮ ‬البحرين للدعوة‮.. ‬كيف؟ ما سبب وجود هؤلاء في‮ ‬البحرين آنذاك؟
‮- ‬هؤلاء‮ ‬يسكنون المساجد،‮ ‬يعيشون حياة بسيطة مقتنعين برسالة التبليغ‮ ‬ليوصلوها إلى كل دول العالم،‮ ‬ربما كانوا موجودين بدون فيزا،‮ ‬إذ كان‮ ‬يحضر هؤلاء أيام الحج،‮ ‬ففي‮ ‬مدرسة علي‮ ‬بن أبي‮ ‬طالب الموجودة في‮ ‬المنامة بقرب متجر‮ ''‬آخر فرصة‮'' ‬كان هذا المبنى بيت اللقطاء‮ (‬النغول‮)‬،‮ ‬يجتمع فيه الناس من كل أقطار العالم ليذهبوا للحج،‮ ‬وهذا احتمال من احتمالات وجودهم بالبحرين‮.‬

ويواصل عائداً‮ ‬إلى القصة الأساسية‮:‬

في‮ ‬اليوم التالي‮ ‬صرنا نخرج في‮ ‬جماعة لنحرض جميع من نلقاهم على الصلاة،‮ ‬خصوصاً‮ ‬في‮ ‬يوم الجمعة،‮ ‬وأذكر أننا كنا صغاراً‮ ‬ندعو الأكبر سناً‮ ‬منا والكهول لترك ما بأيديهم والذهاب إلى المسجد‮. ‬

؟ وكيف كانت ردود الفعل تجاهكم؟

‮- ‬كان البعض‮ ‬يسخر من هؤلاء الأطفال الذين جاؤوا ليعلموهم الصلاة،‮ ‬والبعض الآخر كان‮ ‬يقول كلاماً‮ ‬عاماً‮ ''‬يعطيكم العافية‮'' ‬مثلاً‮.‬
يعود للمواصلة بعدما قاطعته لثاني‮ ‬مرة‮:‬
في‮ ‬الصباح الباكر بعد أن ننتهي‮ ‬من صلاة الصبح والاستماع إلى الأحاديث‮ ‬ينام الكبار فيما نخرج نحن الصغار للسباحة في‮ ‬البركة التي‮ ‬كانت قريبة من المسجد‮ (‬مسجد رفاع كمب‮)‬،‮ ‬وكان هذا المسجد تابعاً‮ ‬لشركة بابكو،‮ ‬وسمي‮ ‬بهذا الاسم لتواجده في‮ ‬منطقة معسكر الرفاع وذلك قبل أن تستقل البحرين‮.‬

؟‮ ‬وماذا عن المدرسة؟ هل انقطعت عنها؟

‮- ‬بالطبع لا،‮ ‬كان ذلك وقت الإجازة الصيفية،‮ ‬ولفترة لم تطل كثيراً‮.‬

؟ ليست هي‮ ‬محور التطور في‮ ‬العالم

؟ لو انتقلنا إلى تجربة أخرى في‮ ‬حياتك،‮ ‬وهي‮ ‬تجربة اعتناق الفكر الماركسي،‮ ‬وتجربة السجن في‮ ‬جزيرة‮ ''‬جِده‮''‬،‮ ‬وعلاقتك بالمساجين هناك،‮ ‬ومدى تغير الأفكار،‮ ‬وعلاقة السجان بالمسجون‮.. ‬كيف تسرد لنا عن هذه المرحلة من خلال النقاط السابقة؟

‮- ‬انقطعت علاقاتي‮ ‬الحزبية بعد اعتقالي‮ ‬منذ أبريل‮ (‬نيسان‮) ‬1973‮ ‬حتى‮ ‬يناير‮ (‬كانون الثاني‮) ‬‭,‬1974‮ ‬هذا الاعتقال الذي‮ ‬ضربت فيه الجبهة الشعبية،‮ ‬وحين اعتقلت في‮ ‬أغسطس‮ (‬آب‮) ‬1975‮ ‬وحتى أغسطس‮ ‬1979‮ ‬لم أكن منتمياً‮ ‬إلى أي‮ ‬تيار سياسي،‮ ‬فالتغيرات أو التطورات في‮ ‬التجربة كانت نتيجة البحث في‮ ‬كثير من القضايا،‮ ‬منها على سبيل المثال،‮ ‬أنني‮ ‬كنت أعتقد بأن لكل إنسان موهبة قد‮ ‬يكتشفها وقد لا‮ ‬يكتشفها،‮ ‬وبعد أكثر من‮ ‬20‮ ‬سنة عرفت أن هناك ما‮ ‬يعرف بـ‮ ''‬الذكاء المتعدد‮''‬،‮ ‬بمعنى أن كل إنسان‮ ‬يمتلك موهبة،‮ ‬فلا‮ ‬يوجد شخص أفضل من آخر،‮ ‬ولا دين أفضل،‮ ‬أو لغة أفضل من أخرى‮.. ‬من هذه الرؤية،‮ ‬بالإضافة إلى علاقتي‮ ‬الأدبية بالشعر الصوفي‮ ‬وجدت أن الصراعات الطبقية ليست هي‮ ‬محور التطور في‮ ‬العالم،‮ ‬إنما بحث الإنسان عن معنى وجوده والرسالة السامية التي‮ ‬يحملها،‮ ‬أي‮ ‬رسالة الأخوة الإنسانية هي‮ ‬التي‮ ‬تسهم في‮ ‬تطور العالم والمجتمع والإنسان‮.‬

؟ هل تعني‮ ‬أن هذا الفكر هو ما جعلك تحيد عن الفكر الماركسي؟

‮- ‬الفكر الماركسي‮ ‬كان نوعاً‮ ‬من أنواع الفكر الذي‮ ‬ساهم في‮ ‬تحليل كثير من القضايا الاجتماعية والاقتصادية،‮ ‬خصوصاً‮ ‬بعد المرحلة القومية التي‮ ‬لا تملك منهجاً‮ ‬بقدر ما تملك مذهباً‮ ‬ينحصر في‮ ‬ثلاثة قضايا‮: ‬اللغة المشتركة،‮ ‬التاريخ المشترك،‮ ‬المصير الواحد‮.. ‬
أذكر أنني‮ ‬في‮ ‬العام‮ ‬1968‮ ‬عندما بدأت قراءة المنهج الماركسي‮ ‬كنت أسهر حتى الصباح أقرأ في‮ ‬الكتاب ثم أذهب إلى العمل وكلي‮ ‬حيوية ونشاط لأنني‮ ‬اكتشفت قضايا جديدة بالنسبة لي،‮ ‬وما كنت أقف عنده من مصطلحات كنت أسأل الأكبر مني‮ ‬خبرة مثل كلمات‮ ''‬البرجوازية‮''‬،‮ ''‬البروليتاريا‮''‬،‮ ''‬البرجوازية الصغيرة‮''‬،‮ ''‬الكمبرادور‮- ‬البرجوازية العقارية‮''‬،‮ ''‬الرأسمالية‮''‬،‮ ‬وغيرها‮.‬

‮ ‬عقب نكسة‮ ‬يونيو(حزيران‮) ‬كانت حركة القوميين العرب بقيادة جورج حبش،‮ ‬وبعد انفصالها عن الناصرية،‮ ‬بدأت تبحث عن منهج ما،‮ ‬وكان أكبر المناهج لها‮ ''‬الماركسية اللينينية‮'' ‬التي‮ ‬كانت آنذاك نوعاً‮ ‬من الحكر عند الأحزاب الشيوعية العربية،‮ ‬لذلك أطلقوا عليها برجوازية الصغار،‮ ‬أو‮ ‬يسار حركة القوميين العرب،‮ ‬فيما اعتبر هؤلاء‮ (‬يسار حركة القوميين العرب‮) ‬الأحزاب الشيوعية أحزاباً‮ ‬تحريضية،‮ ‬بمعنى أنها ابتعدت عن الخط الماركسي‮ ‬اللينيني‮ ‬كما طرحه لينين‮.‬
ونحن كشباب آنذاك،‮ ‬كنا نقرأ ونطلع على كل التيارات السياسية من قومية وبعثية وشيوعية وغيرها‮.‬

؟ أنا وقاسم

؟ أعود لمرحلة السجن،‮ ‬فأسألك عن علاقتك بقاسم حداد،‮ ‬وهل كانت هناك خلافات بينكما وبين باقي‮ ‬المعتقلين بعد تغير توجهاتكما،‮ ‬وأسألك أيضاً‮ ‬عن النظرة تجاهكما بعد أن خرجتما من السجن،‮ ‬إذ اعتقد البعض بأنكما وشيتما بزملائكما،‮ ‬فما حقيقة الأمر؟

‮- ‬قاسم حداد كان معي‮ ‬في‮ ‬السجن في‮ ‬الوقت نفسه تقريباً‮ ‬لأننا كنا نمثل تياراً‮ ‬واحداً،‮ ‬ولم تكن هناك أية خلافات في‮ ‬السجن لأنه بعد العام‮ ‬1973‮ ‬انقطعت العلاقات الحزبية ولم‮ ‬يبق سوى علاقات الصداقة،‮ ‬وكانت الحركة الأدبية في‮ ‬السجن أقوى منها في‮ ‬الخارج،‮ ‬فقد كنت أنا وقاسم وعبدالله خليفة وإبراهيم بشمي،‮ ‬إضافة إلى أحمد الذوادي‮ ‬المهتم بالشعر ومحمد السيد وسلمان كمال الدين نتشارك في‮ ‬نقاشات ليلية حول كثير من القضايا الأدبية والشعرية،‮ ‬وأذكر أننا في‮ ‬كل ليلة،‮ ‬كان واحد منا‮ ‬يتحدث عن تجربة أدبية ما،‮ ‬ويدور النقاش بيننا حول هذه التجربة‮.‬
أذكر في‮ ‬سجن‮ ''‬جِده‮'' ‬أن الضابط سميث عرف أن قاسم حداد شاعر فأعطاه كتاباً‮ ‬باللغة الإنجليزية اسمه‮ ''‬كانتونات مالاوية‮'' ‬ولأن قاسم لا‮ ‬يعرف اللغة الإنجليزية أخذته منه وبدأت ترجمته إلى العربية بمساعدة أحد السياسيين وهو‮ ‬يوسف العجاجي،‮ ‬وانتهيت من الترجمة لكن لم أستطع أن آخذه معي‮ ‬إلى الخارج،‮ ‬وما بقي‮ ‬منه سوى‮ ‬20‮ ‬أو‮ ‬30‮ ‬رباعية وصلت عن طريق رسائل المعتقلين إلى الخارج‮.‬
كان سجن‮ ''‬جِده‮'' ‬مدرسة خاصة،‮ ‬بعد أن زاد عدد المساجين السياسيين الذين سيطروا على جميع المناطق،‮ ‬من المطبخ إلى المكتبة،‮ ‬إلى العمل في‮ ‬تنظيف سكن الشرطة،‮ ‬فقد التقى في‮ ''‬جِده‮'' ‬مجموعة من عناصر جبهة تحرير شرق الجزيرة‮ (‬يسار البعث‮) ‬منهم عوض اليماني‮ ‬وأحمد قاسم عبدالرسول ومجموعة من الجبهة الشعبية أمثال إبراهيم سند ومحمد بخيت وحسن بديوي،‮ ‬إضافة إلى عناصر من جبهة التحرير أذكر منهم حسن مليباري‮.. ‬كثير من هؤلاء تخرجوا من التوجيهية كحسن بديوي‮ (‬محام الآن‮)‬،‮ ‬وأحمد الحجري‮ ‬ومجموعة أخرى،‮ ‬كما أن البعض تعلم الكتابة والقراءة‮. ‬كما تعلمنا شيئاً‮ ‬من لغات عدة مثل الروسية والألمانية والفارسية،‮ ‬وأيضاً‮ ‬البلوشية‮.. ‬وقمت بترجمة مجموعة من الأغاني‮ ‬الفارسية إلى العربية وترجمة مجموعة من القصائد من الإنجليزية إلى العربية‮.‬

؟‮ »‬السجن أثوابنا الداخلية سوف نبدلها‮«‬
؟‮ ‬كيف تصف علاقة السجان بالسجين؟

‮- ‬كان سميث‮ ‬يمثل القائد أو صاحب جزيرة‮ ''‬جِده‮''‬،‮ ‬أي‮ ''‬الكل في‮ ‬الكل‮''‬،‮ ‬وينفذ أوامر المخابرات من حيث توزيع المعتقلين السياسيين على الزنزانات،‮ ‬وعدم خلطهم بالمساجين،‮ ‬لذلك كانت هناك بعض الإضرابات عن الطعام ومحاورات ولقاءات من أجل الحصول على مكتسبات منها المشي‮ ‬في‮ ‬الساحة‮ (‬لأنه كان ممنوعاً‮)‬،‮ ‬وبعد شهور من الصراعات وافقوا على المشي‮ ‬في‮ ‬الجزيرة،‮ ‬واستطعنا أن نكون في‮ ‬منطقة مسيجة‮ ‬يفصلها سور عن باقي‮ ‬المساجين،‮ ‬كما استطعنا الحصول على كرة للعب‮.. ‬وبالتالي‮ ‬علاقتنا بسميث كانت علاقة شد وجذب،‮ ‬لكن لم نكرهه لأنه كان‮ ‬يقوم بتنفيذ عمله وكذلك لم نكره أفراد الشرطة للأسباب نفسها‮. ‬
هناك نقطة مهمة‮ ‬يجب أن نضعها في‮ ‬الحسبان،‮ ‬وهي‮ ‬أننا لم ندخل السجن مظلومين،‮ ‬بل كنا أصحاب موقف من النظام الموجود الذي‮ ‬كنا نحلم أن‮ ‬يكون ديمقراطياً‮ ‬حقيقياً‮ ‬من حيث وجود العناصر التي‮ ‬تمثل الشعب،‮ ‬وأحزاب واتحادات عمالية وطلابية ونسائية،‮ ‬لذلك لم نتأفف لكوننا مظلومين،‮ ‬بل كانت تجربتنا قوية وكنا نمتلك الحلم،‮ ‬وكتبت هذا في‮ ‬أكثر من قصيدة،‮ ‬بأن السجن أثوابنا الداخلية سوف نبدلها،‮ ‬وهذا ما حدث بالفعل بعد سنوات،‮ ‬وبعد أن تحولت جزيرة‮ ''‬جِده‮'' ‬إلى جزيرة رائعة‮.‬

؟ أعود وأسألك عن مسألة الوشاية واتهام البعض لك ولقاسم حداد بأنكما أبلغتما عن رفاقكما؟

‮- ‬نحن كشعراء لا‮ ‬يمكن لأحد أن‮ ‬يسيطر علينا،‮ ‬بحكم تركيبتنا وتجربتنا الداخلية الثرية،‮ ‬إضافة إلى قراءاتنا واطلاعنا الواسع وروحنا وانفتاحنا على العالم،‮ ‬لذلك حين صارت الضربة اعتقد البعض بأننا وشينا بهم،‮ ‬لكن لو قرأنا التاريخ،‮ ‬فهناك كثير من الأمور لم تنكشف للمخابرات حتى الآن،‮ ‬وبالتالي‮ ‬من‮ ‬يعتقد أننا وشينا فهذه مشكلته،‮ ‬بدليل أننا ما زلنا نعيش ونطرح وجهات نظرنا بصورة أقوى،‮ ‬لم نتخل عن قناعاتنا ومواقفنا،‮ ‬ونملك مساحة من الحب تطغى على مشاعر الكراهية،‮ ‬والأروع أننا التقينا بأناس من أصحاب التجارب التي‮ ‬تفوقنا أمثال محمد جابر الصباح،‮ ‬محمد السيد،‮ ‬محسن مرهون‮.‬

؟ اقتربت من الصوفية بنظرة ماركسية‮!‬

؟ حسب ما ذكرت فإنك في‮ ‬فترة من الفترات انجذبت نحو التصوف والشعر الصوفي،‮ ‬فما مدى تأثيره كأبي‮ ‬ذر‮ ‬يعبد المستطيلات أو مقولة النفري‮ ''‬إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة‮''‬،‮ ‬فإلى أي‮ ‬مدى‮ ‬يكون للعملية الشعرية دورها في‮ ‬شخص مؤدلج،‮ ‬وكيف‮ ‬يمكن استبطان الحالة ومعايشتها كقيم إنسانية عامة؟

‮- ‬الصوفية،‮ ‬كما قرأت وعرفت لها علاقة بالحب الخالص لله،‮ ‬والعشق الإلهي،‮ ‬وفي‮ ‬فترة من الفترات حاولت أن أقترب نحو هذا الجانب،‮ ‬لكن من نظرة ماركسية،‮ ‬على أساس أن العشق ليس بين الإنسان والإله،‮ ‬بقدر ما هو العشق بين الإنسان والثورة،‮ ‬لذلك كنت أرى الثورة البديل للمعشوق،‮ ‬ومن هذه الزاوية كانت أغلب تجارب تلك الفترة مرتبطة ارتباطاً‮ ‬صوفياً،‮ ‬وبحثت في‮ ‬تجارب الحلاج والسهروردي‮ ‬وجلال الدين الرومي،‮ ‬ووجدت أن النثر الصوفي‮ ‬العربي‮ ‬أكثر أهمية من الشعر الصوفي،‮ ‬وعرفت أن الإنسان إذا وصل إلى قمة العشق من الممكن أن‮ ‬يشطح‮.. ‬
بعد هذه الفترة‮ (‬فترة السجن‮) ‬تكونت علاقتي‮ ‬مع الجانب الروحي‮ ‬في‮ ‬الصوفية،‮ ‬مع النور الكوني‮ ‬والحب المطلق،‮ ‬لذلك فأنا مازلت أعيش تجربة العشق الصوفي‮ ‬لكن من الناحية النورانية‮.‬
في‮ ‬السجن لا‮ ‬يوجد‮ ‬غير الماضي‮ ‬والمستقبل،‮ ‬لأن الحياة اليومية الروتينية التي‮ ‬نعيشها أكثر من عادية،‮ ‬ولكننا على رغم ذلك كنا مشغولين جداً‮ ‬بكثير من المشاريع التي‮ ‬نحلم بها،‮ ‬وكانت رؤيتنا‮ ‬غير محدودة،‮ ‬ومن هنا جاءت مجموعة من التجارب التي‮ ‬أعتبرها من التجارب الشعرية المهمة،‮ ‬منها تجربة‮ ''‬رؤيا الفتوح‮'' ‬و‮''‬الهجس الاحتمال‮'' ‬و‮''‬أفا‮ ‬يا فلان‮'' ‬و‮''‬نخلة القلب‮''‬،‮ ‬هذه التجارب لم‮ ‬يستطع السجن والمراقبة داخله أن توقفها عن التدفق،‮ ‬وكانت هناك مجموعة من تجارب قاسم حداد،‮ ‬وخصوصاً‮ ‬في‮ ‬قصيدة النثر مثل‮ ''‬قلب الحب‮'' ‬و‮''‬انتماءات‮'' ‬ومجموعة من التجارب النثرية التي‮ ‬أسماها فيما بعد‮ ''‬وقت للكتابة‮''‬،‮ ‬وأيضاً‮ ‬علي‮ ‬عبدالله خليفة كتب مجموعة من الروايات،‮ ‬وإبراهيم بشمي‮ ‬بدأ تجربة القصة الطفلية،‮ ‬وآخرون كتبوا قصصاً‮ ‬منهم سلمان كمال الدين وإبراهيم سند وإسماعيل العلوي،‮ ‬ومنهم من كتب نقداً‮ ‬مثل المحامي‮ ‬محمد السيد،‮ ‬لذلك قلت‮: ‬إن الحركة الأدبية في‮ ‬السجن كانت قوية جداً‮ ‬مقارنة بالخفوت الذي‮ ‬عاشته أسرة الأدباء والكتاب بعد اعتقالنا في‮ ‬1975‮ ‬وقيام الحكومة بتدابير أمن الدولة التي‮ ‬وقفنا ضدها،‮ ‬واعتقلنا بسببها،‮ ‬وتمارس ضدنا كل الظلم،‮ ‬فبعد كل ستة شهور نؤخذ إلى المحكمة لنطرح رفضنا الكامل لهذا القانون ومن أتى به‮.‬

؟ البحث عن الروح والمطلق

؟ الآن وأنت تعيش حالة التحول في‮ ‬اتجاه علم‮ ''‬الريكي‮'' ‬والتنفس والبرمجة العصبية والطاقة،‮ ‬هي‮ ‬تحولات طالت عدداً‮ ‬من الكتاب أمثال وليد الرجيب في‮ ‬الكويت،‮ ‬ومنيرة الفاضل وفوزية السندي،‮ ‬كيف تقيم هذه الظاهرة؟

‮- ‬أعتبر ذلك نمواً‮ ‬في‮ ‬التجربة وليس تحولاً،‮ ‬فعلى المستوى العادي‮ ‬تجدين الإنسان بعد سن الأربعين‮ ‬يبدأ حماسه للأشياء اليومية أو المتغيرة‮ ‬يقل،‮ ‬ويزداد بحثه عن الشيء الذي‮ ‬لا‮ ‬ينتهي،‮ ‬عن المطلق،‮ ‬عن الروح،‮ ‬لذلك عملية البحث‮ ''‬الريكي‮'' ‬جزء بسيط من التصور الكلي‮ ‬للكون،‮ ‬لأنه نمط من الأنماط الروحية،‮ ‬هناك أنماط كثيرة،‮ ‬ومن خلال التجربة‮ ‬يصل الإنسان إلى العلاقة بروح الإنسان والعلاقة بالروح الكونية والعلاقة بكل ما هو جميل ورائع في‮ ‬هذا العالم،‮ ‬أي‮ ‬أن هناك التأمل وهناك الصوفية،‮ ‬وهناك القراءات في‮ ‬الهندوسية والطاوية والمناوية والزرادشتية،‮ ‬إضافة إلى القراءة في‮ ‬المذاهب الإسلامية بصورة عامة‮.‬
أنظر دائماً‮ ‬إلى أن كل إنسان فيه شيء من روح الله،‮ ‬خصوصاً‮ ‬إذا اقتربنا من فهم الآية‮ ''‬ونفخنا فيه من روحنا‮''‬،‮ ‬وبما أن آدم فيه من روح الله،‮ ‬إذن جميع بني‮ ‬آدم‮ ‬يحملون هذه الروح،‮ ‬ولأن‮ ''‬الله محبة‮'' ‬إذن تكون النقطة الأساسية عند الإنسان هي‮ ‬الحب،‮ ‬أما الكراهية فهي‮ ‬نوع من المرض الذي‮ ‬يصيب الإنسان‮.‬
‮ ‬إذا أدرك الإنسان أنه حب خالص وجزء من روح الله فلماذا‮ ‬يكره،‮ ‬وهذا ما قلته في‮ ‬أكثر من مكان،‮ ‬أنا لا أكره أحداً،‮ ‬حتى من آذوني،‮ ‬ربما أكره السلوك،‮ ‬لذلك ومن هذه الزاوية أحاول أن أنشر المحبة في‮ ‬كل مكان،‮ ‬لم أخترع المحبة،‮ ‬لكن قد أستفيد من كل الأديان لنشر هذه المحبة ولتحل محل الكراهية بين الإنسان وأخيه‮.‬
؟ كلمة أخيرة
هذا هو الشرقاوي‮.. ‬هذا هو‮ ''‬أبوفيّ‮'' ‬كما عرفناه‮.. ‬نشعر أننا محظوظين بمعرفته،‮ ‬ويخسر كثيراً‮ ‬من لم‮ ‬يحالفه الحظ‮ ‬ليتقاطع مع هذا الرجل الرائع في‮ ‬أي‮ ‬مناسبة أو موقف مشترك

*****

علي‮ ‬الشرقاوي‮.. ‬حبٌ‮ ‬على شكل قصيدة

محمد حداد

عرفته وأنا أتهجى معرفتي‮ ‬بأبي‮! ‬كان‮ ‬يمثل لي‮ ‬الثقة والأمل،‮ ‬يشعل القناديل لي‮ ‬ويصرخ فيّ‮: ''‬لا تتردد‮.. ‬فغداً‮ ‬سيكون الوقت متأخراً‮''‬،‮ ‬كان‮ ‬يشرح لي‮ (‬وأنا مسحور بالموسيقى‮) ‬كيف أعزف على العود ولا أعزف عنه،‮ ‬وكنت أفهم عليه لأن درسه لي‮ ‬لم‮ ‬يكن موسيقياً،‮ ‬بل إنسانياً‮.. ‬عينه على تجاربي‮ ‬الصغيرة ويده على قلبه الكبير،‮ ‬يحمل همّ‮ ‬كل من‮ ‬يراه ومن‮ ‬يسمع عنه،‮ ‬لا‮ ‬يرتاح إلا إذا نام حيث‮ ‬يبدأ قلقنا‮.‬
شخص‮ ‬يعرف لغة الأطفال ويفهم آلام الشيوخ،‮ ‬يسرد أحلام الصبايا،‮ ‬يكتب شعراً‮ ‬فنغنيه‮.. ‬يكتب ألماً‮ ‬فنغنيه،‮ ‬فشعره حاضر في‮ ‬كلامه حتى وهو‮ ‬يسألك‮: ‬أصب لك شاي؟ هذا السؤال الذي‮ ‬لازمه حتى كدنا نغنيه كي‮ ‬يكتب‮ ‬غيره‮! ‬ذهب بحماسة الشباب الى أقصاها،‮ ‬أشعل جمرتهم الباردة واستفز بقايا أحلامهم البائتة كي‮ ‬ينهروا مخيلاتهم ويشحذوا الوقت بالعمل،‮ ‬حيث أقنع نصف الشباب بأنهم مغنون،‮ ‬وجعل النصف الآخر‮ ‬يكتشف موهبته في‮ ‬التلحين،‮ ‬نثر قصائده بينهم ووزنها،‮ ‬كي‮ ‬يختاروا منها ما‮ ‬يشاؤون،‮ ‬كاد أن‮ ‬يلحّن معهم الأغنيات إلا أنه لم‮ ‬يدوزن عوده و‮''‬أوتاره‮'' ‬أبداً‮. ‬يمنح الأمل لمن‮ ‬يطرق بابه،‮ ‬مخفور بامبراطورية الفاء،‮ ‬لكنه‮ ‬يجد في‮ ‬النون عرشاً‮ ‬يليق بعزلته،‮ ‬فهو بين الفاء والنون‮ ‬يجد الفن كلّه‮. ‬ملَك الحرف من حرفية،‮ ‬ذهب إلى البحر حتى تنفست رئتيه،‮ ‬لم تثنه مواسم القحط عن سماع الرعد،‮ ‬رافق ضاحي‮ ‬بن وليد في‮ ‬تقاسيمه،‮ ‬وكتب مزاميره الثلاثة والعشرين كي‮ ‬يصغي‮ ‬للمغنّين،‮ ‬خط مخطوطات بن اليراعة على مائدة القرمز،‮ ‬حيث تناثرت أوراق ابن الحوبة من كتاب الشين‮. ‬لم تأخذه الفصاحة عن دارج اللغة،‮ ‬فلم تسعفه سواحل صيف في‮ ‬حواره مع شمس الروح،‮ ‬فخط مواويلاً‮ ‬تَسَعُ‮ ‬بر وبحر اللغة،‮ ‬ليقتني‮ ‬أصدافاً‮ ‬ولولو ومحار‮.‬

؟ وهو‮ ‬يدخل في‮ ‬اللحن

أغوته الأغنية فذهب بها الى المسرح والتلفزيون،‮ ‬كتب التاريخ أغنية،‮ ‬والألم أغنية،‮ ‬قال عن جزيرتنا‮ ''‬يا ويلها ديرة‮''‬،‮ ‬وقال للصديق‮ ''‬إنت قلبي‮ ‬وآنه قلبك‮''‬،‮ ‬ورفع رأسه‮ ''‬بالبيرق المرتفع‮''‬،‮ ‬وسألنا السؤال الكوني‮ ''‬شنهو الوطن؟ مو صخرة سوده أو تراب؟ شنهو الوطن؟ مو نخله خضره أو كتاب؟‮''‬،‮ ‬صاغ‮ ‬لعذاري‮ ‬وللخور أعمالاً‮ ‬تليق،‮ ‬وأغنيات تنهض بالتراث‮.‬
أما عن مشواره مع الأغنية الحرة التي‮ ‬أتقن صياغتها كما‮ ‬يُرسم الوشم في‮ ‬كتف التجربة،‮ ‬فشخص مثله‮ ‬يملك قاموساً‮ ‬من الكلمات التي‮ ‬تحمل رائحة البحر وطعم الفقر،‮ ‬فيتفنن في‮ ‬صب صليل الوحدة التي‮ ‬جعلته‮ ‬يكتب‮ ''‬يمكن‮ ‬يكون لونك حزن‮.. ‬يمكن‮ ‬يكون صمتك كلام‮'' ‬وهو‮ ‬يهدهد المحمدي‮ ‬في‮ ‬صورته النضالية بين ظلال الحديقة وظلام الزنزانة،‮ ‬وما جعل هذه الكلمات تبلغ‮ ‬أقصى نبيذها،‮ ‬لحنٌ‮ ‬اقترحه خالد الشيخ كي‮ ‬يسهم في‮ ‬ضياعنا بين التآويل،‮ ‬فقد تنبأ الشرقاوي‮ ‬مبكراً‮ ‬أن الشيخ سيكون نديماً‮ ‬طويل السكرة بما له من ألحان فيها لون‮ ‬يشبه نبيذ كلماته،‮ ‬فتولدت بينهما تجارب منذ‮ ''‬بيني‮ ‬وبينه بحر والسفر اشطوله‮.. ‬ياطيور ضحك الفجر في‮ ‬الظلمه روحوله‮.. ‬مسحوا عذاب جسده وعن حالي‮ ‬احجوا له‮'' ‬مروراً‮ ‬بـ‮''‬إضحك‮ ‬يا صدر فوق البحر عالي‮ .. ‬وشقق بالفرح إللي‮ ‬جرح حالي‮''‬،‮ ‬وأقف عند أغنية‮ ''‬سافر‮'' ‬التي‮ ‬تمثل بالنسبة لي‮ ‬وقفة مميزة في‮ ‬التقاء الأفكار بين الشيخ والشرقاوي،‮ ‬فكلمات هذه الأغنية كتبت بعد ولادة اللحن الذي‮ ‬صاغه خالد وهو مسافر في‮ ‬إحدى رحلاته،‮ ‬فعندما عاد أسمعه للشرقاوي‮ ‬الذي‮ ‬صاغ‮ ‬له كلمات تليق بلحن جريء ويحوي‮ ‬نقلات‮ ‬غير مألوفة بالنسبة للفترة التي‮ ‬اشتغل عليه الشيخ فيها وهي‮ ‬بين‮ ‬1985‮ ‬و‭,‬1986‮ ‬وتعامل خالد مع هذه الكلمات بذكاء حيث استفاد من التفعيلة الموسيقية التي‮ ‬مكنته على تحريك الأبيات كما‮ ‬يشاء،‮ ‬وخطورة تجربة مثل هذه عادة‮ ‬يخفق فيها الشاعر أكثر من الملحّن،‮ ‬حيث‮ ‬يتخلى الشاعر عن كثير من الحرية النصية كي‮ ‬يلتزم بتفعيلة اللّحن،‮ ‬لكن النص الشعري‮ ‬في‮ ‬هذه الأغنية كان مؤثراً‮ ‬بدرجة كبيرة تدل على شفافية الشاعر‮ (‬وأنا هنا لا أتكلم عن رأيي‮ ‬في‮ ‬القصيدة أدبياً‮ ‬حيث لا أجرؤ‮)‬،‮ ‬وتتواصل التجارب بين الثنائي‮ (‬الشرقاوي‮ ‬والشيخ‮) ‬لدرجة أنه في‮ ‬بعض الأغنيات‮ ‬يسهم الشيخ في‮ ‬كتابة القصيدة مع الشرقاوي‮ ‬مقترحاً‮ ‬أبياتاً‮ ‬تتجاوز بكثير ما‮ ‬يسمى تصرّف الملحّن وقت التلحين،‮ ‬وهذا‮ ‬يعطي‮ ‬صورة واضحة عن مدى فهم الشيخ للتراكيب الشعرية التي‮ ‬ينتهجها الشرقاوي‮.‬
رسم الشرقاوي‮ ‬والشيخ معاً‮ ‬شخصيتنا البحرينية بين ثنايا أغنياتهما،‮ ‬إذ ركبنا معهما‮ ''‬شراع الهوى‮'' ‬بكلمات تصف العشق المتمرد ولكن بخجل حيث‮ ''‬لا بندر‮ ‬يوقفنا ولا مينا‮... ‬مثل طيرين نتريق‮ ‬غناوينا‮.. ‬واحنا ثنين ثالثنا الهوى فينا‮'' ‬ولا وجود للشيطان في‮ ‬حضرة اثنين أصابهما العشق إلى هذا الحد‮. ‬يعرف الشيخ كيف‮ ‬يُلبس كلمات الشرقاوي‮ ‬ألحانه وكأنما لديه أدراجاً‮ ‬خاصة من الألحان متأهبة لقاموس الشرقاوي،‮ ‬فطعم اللحن الذي‮ ‬ينسجه الشيخ مع كلمات الشرقاوي‮ ‬يختلف عن كل الألحان التي‮ ‬يكتبها بكلمات شعراء آخرين‮. ‬اجتاحنا علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬من كل صوب حيث نثر كلماته في‮ ‬زوايا حياتنا،‮ ‬حتى وصل إلى منتهانا‮. ‬عند حضور شخص مثل علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬نبدأ السرد ولا نكفّ‮.‬

***

تشرب شاي؟

عبداللطيف النّصار

قصير القامة،‮ ‬واسع الصدر،‮ ‬كبير القلب،‮ ‬يتحرك كالنحلة،‮ ‬ويسكن كالفراشة،‮ ‬عندما شاهدته أول مرة شعرت أنني‮ ‬أرى أبي‮ ‬الذي‮ ‬فارقني‮ ‬منذ‮ ‬29‮ ‬عاماً‮.. ‬نظرت إليه في‮ ‬مقهى الشراع وكنت بصحبة البنكي‮ ‬وفريد رمضان وسوسن دهنيم،‮ ‬كانوا‮ ‬يحدثونني‮ ‬عن البحرين،‮ ‬وكنت أحدث نفسي‮ ‬برؤية أبي‮ ‬بالرغم من فارق السن القليل بيني‮ ‬وبين الشرقاوي،‮ ‬لم أكن أدرك وقتها أن علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬سيكون مهدئ آلامي‮ ‬وأنا بعيد عن أهلي‮..‬
‮''‬تشرب شاي‮'' ‬هي‮ ‬جملته المعهودة عندما‮ ‬يراك ساكناً،‮ ‬فيقابلك بابتسامة واسعة ويفاجئك‮: ‬تجي‮ ‬نشرب شاي؟ ونشرب شاياً‮ ‬بسر الشرقاوي،‮ ‬وتشعر بعدها أن الدنيا أصغر من دمعة طفل وحزن ثكلى،‮ ‬ودقيقة في‮ ‬سجن تذوق الشرقاوي‮ ‬مرارته‮.. ‬وكلما مرت الأيام تكتشف شيئاً‮ ‬جميلاً‮ ‬في‮ ‬الشرقاوي‮ ‬الذي‮ ‬اشتق اسمه من الشرق،‮ ‬وهل الشرق إلا الحكايات الجميلة والرائعة،‮ ‬ومهد الحضارات وشروق الشمس،‮ ‬والشعر الجميل،‮ ‬والسحر الآسر،‮ ‬أما‮ ''‬تشرب شاي‮''... ‬فهي‮ ‬خصلة جميلة من الشرقاوي‮ ‬تعني‮ ‬الكرم والعطاء،‮ ‬دائماً‮ ‬ما‮ ‬يعطي‮ ‬ولن تجده مرة‮ ‬يقول هات‮.. ‬دائماً‮ ‬يقول خذ،‮ ‬اضحك،‮ ‬ابتسم،‮ ‬الحياة حلوة،‮ ‬لا تنظر إلى نصف الكوب الفارغ،‮ ‬فالنصف الآخر فيه خير‮. ‬
علي‮ ‬الشرقاوي‮.. ‬الأب حين تفتقد أباك،‮ ‬الأخ حين تغيب الأخوة،‮ ‬الصديق حين تعز الصداقة،‮ ‬الشاعر حين تتصحر الأيام،‮ ‬الباسم حين تعبس الدنيا،‮ ‬الحاضر حين‮ ‬يغيب الآخرون،‮ ‬السائل عنك حين‮ ‬يتجاهلك الأقربون،‮ ‬التاريخ حين تجهل البحرين،‮ ‬الطائر حين‮ ‬يقع السائرون‮.. ‬الملبي‮ ‬للنداء حين‮ ‬يتلاشى الساهرون‮.. ‬إنه علو‮ ''‬علي‮'' ‬وإشراق‮ ''‬الشرقاوي‮''.‬
هل‮ ‬يمكن أن أجد أحداً‮ ‬يختلف على روعة الشرقاوي‮ ‬وحضوره ودماثته وموسوعيته ورقته بالرغم من حياته المليئة بالأشواك التي‮ ‬استطاع أن‮ ‬يصنع منها شبكة ليصطاد بها الأمل ثم‮ ‬يوزعه على المحتاج والمكتفى‮..‬؟‮!‬
إن الشرقاوي‮ ‬لا‮ ‬يهمه عيوب الآخرين ولذلك نحن لا نرى فيه إلا المحاسن‮.. ‬ويكفينا فخراً‮ ‬أنه بينا‮.. ‬ويكفينا حباً‮ ‬ما نشربه من أنهاره،‮ ‬وسأقول له كما قالت أم كلثوم‮:‬

عودت عيني‮ ‬على رؤياك      وقلبي‮ ‬سلم لك أمري
وإن مر‮ ‬يوم من‮ ‬غير رؤياك‮       ‬ما‮ ‬يتحسبش من عمري
شكراً‮ ‬لك‮ ‬يا عم علي‮        ‬وياريت تجي‮ ‬نشرب شاي‮.‬

****

شيخ الطريق علي‮ ‬الشرقاوي

فريد رمضان

1

اثنان شكلا أساس علاقتي‮ ‬الأولى بالكتابة والإبداع،‮ ‬الأول ابن خالتي‮ ‬حسن عون الذي‮ ‬كان‮ ‬يدرس النقد المسرحي‮ ‬في‮ ‬الكويت،‮ ‬الذي‮ ‬شكلت زيارته الصيفية إلى البحرين قارب نجاة لشاب في‮ ‬المرحلة الثانوية‮ ‬‭-‬‮ ‬ربما كاد أن‮ ‬يضيع لولاه،‮ ‬فكان‮ ‬يأسرني‮ ‬وهو‮ ‬يتقدم إلينا متأبطاً‮ ‬كتباً‮ ‬مسرحية وفكرية‮ ‬يجيد تغليفها،‮ ‬وبوصمها بختم‮ ''‬مكتبة حسن عون‮''‬،‮ ‬كان‮ ‬يضع الكتاب أمامي‮ ‬فيما هو‮ ‬يدون أحلام العائلة،‮ ‬ويراقبني‮ ‬وأنا أتعلم منه قراءة الأدب الحديث،‮ ‬وأفهم معنى أن تكون لنا مكتبتنا الخاصة‮. ‬عندها توقفت أنا وصديق طفولتي‮ ''‬عصام الجودر‮'' ‬عن إعادة بيع الكتب التي‮ ‬كنا نشتريها ثم نعيد بيعها لنشترى كتباً‮ ‬أخرى‮. ‬
والثاني‮ ‬هو الشاعر علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬الذي‮ ‬تعرفت عليه من خلال زوجته الشاعرة فتحية عجلان،‮ ‬ابنة حارتنا‮ ''‬حارة البوخميس‮''‬،‮ ‬حين أخذت كتاباتي‮ ‬إليه وهو في‮ ‬سجن جزيرة‮ ''‬جده‮'' ‬لاستلم منه أول درس لمفهوم الاشتغال الإبداعي،‮ ‬وهو‮ ''‬القراءة،‮ ‬ثم القراءة،‮ ‬ثم القراءة‮''. ‬وحين خرج من سجنه مطلع الثمانينات،‮ ‬بدأ في‮ ‬تشكيل وعيي‮ ‬الأدبي‮ ‬والسياسي‮ ‬والاجتماعي،‮ ‬وله الفضل في‮ ‬توجيه كتاباتي‮ ‬في‮ ‬مجال القصة القصيرة،‮ ‬وترك الشعر بعد أن علمني‮ ‬بحوره وأوزانه،‮ ‬حيث وجد في‮ ‬كتاباتي‮ ‬السردية فضاءً‮ ‬يستحق الاهتمام‮. ‬وكنت أرى فيه نموذجاً‮ ‬للكاتب الثوري،‮ ‬حين كانت الأيديولوجية جزءاً‮ ‬من مصير الكاتب في‮ ‬معترك الحياة والإبداع‮. ‬علمني‮ ‬صنعة الكتابة،‮ ‬علمني‮ ‬هدم الكتابة،‮ ‬وعلمني‮ ''‬كسر‮'' ‬الأشياء والذهاب إلى المختلف،‮ ‬والصعب،‮ ‬والخطر‮. ‬علمني‮ ‬الذهاب إلى الكتابة محفوراً‮ ‬بكل الوسائل والأدوات،‮ ‬واستثمار طاقة الحياة وما تعطينا من ألم وفرح وحزن‮. ‬قال لي‮ ‬لا تبحث عن الفكرة،‮ ‬إنها حولك،‮ ‬في‮ ‬جسدك وألمك،‮ ‬وعلمني‮ ‬التعاطي‮ ‬مع مرضي‮ ''‬تكسر كريات الدم المنجلي‮'' ‬كصديق‮ ‬يزورني‮ ‬بين وقت وآخر ليعلمني‮ ‬درس الحياة‮. ‬وهكذا خلق ألفة بيني‮ ‬وبين هذا المرض‮. ‬بيني‮ ‬وبين الكتابة‮.‬

‬2

يشكل الشاعر البحريني‮ ‬علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬بتجربته الشعرية والمسرحية والكتابة الدرامية اسماً‮ ‬هاماً‮ ‬في‮ ‬المشهد الثقافي‮ ‬البحريني،‮ ‬بل إنه‮ ‬يعد من أهم الأسماء الإبداعية التي‮ ‬ساهمت في‮ ‬بروز الكثير من المبدعين والفنانين في‮ ‬الكثير من المجالات الإبداعية،‮ ‬مشجع من الطراز الأول،‮ ‬اهتم بالكثير من المواهب التي‮ ‬وجدت في‮ ‬روحه طاقة هائلة لاحتضان المبدعين الشباب‮. ‬روح محملة بطهارة راهب‮ ‬يفني‮ ‬جسده ووقته للآخرين،‮ ‬حتى خلق مريدين لا‮ ‬ينقطعون عن مجالسته لما فيها من إثمار وتفجير لطاقاتهم الإبداعية،‮ ‬فبرز من خلاله الكثير من كبار الفنانين من أمثال الفنان خالد الشيخ والفنان مبارك نجم والفنان‮ ‬يعقوب‮ ‬يوسف الذين وجدوا في‮ ‬قصائد شاعرنا العامية مساحة لتفجير طاقتهم اللحنية التي‮ ‬قدمت أجمل الألحان والأغاني،‮ ‬وكذلك وجد الفنان الشاب جمال السيب وغيره من الملحنين الشباب طريقهم للفن الغنائي‮ ‬عبر جدول الشعر السخي،‮ ‬الذي‮ ‬لم‮ ‬يبخل به هذا الشاعر على المواهب الشابة التي‮ ‬تلجأ إليه،‮ ‬وتجد من خلال كلماته طريق النجاح‮.‬
ومن الغناء إلى الأدب والموسيقى والمسرح،‮ ‬حيث‮ ‬يشكل احتضانه للمواهب الشابة بوابة سخية تقود صاحبها الذي‮ ‬يجيد الإنصات لنصائح وأفكار هذا الشاعر الراهب،‮ ‬طريقها إلى أرض الإبداع والتجلي،‮ ‬فخرج من مجلسه كتاب ونقاد وممثلون ومخرجون‮ ‬يعملون في‮ ‬المسرح والتلفزيون‮. ‬كما ولدت في‮ ‬مجلسه الكثير من الأعمال الدرامية الناجحة التي‮ ‬أصبحت تشكل علامة فارقة في‮ ‬الدراما التلفزيونية البحرينية‮.‬

‬3‭ ‬

كتب الشاعر علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬في‮ ‬جميع مجالات الإبداع الأدبي‮ ‬والفني،‮ ‬وشكل لوحده مكتبة إبداعية تضاهي‮ ‬مكتتبة‮ ''‬نون‮'' ‬التي‮ ‬تحولت إلى معبد للتنسك في‮ ‬مجالات الإبداع والفنون‮. ‬إبداعاته الغزيرة كانت ضرورية لسد النقص في‮ ‬حقول الإبداع المتنوعة،‮ ‬فأثرى المكتبة البحرينية بمؤلفات عديدة في‮ ‬مجالات المسرح،‮ ‬ومسرح الطفل،‮ ‬وأغاني‮ ‬الأطفال،‮ ‬ومسرح الأطفال،‮ ‬والمسرح الشعري،‮ ‬وكتابة الأغنية العامية وتفجير المواويل الرائعة،‮ ‬كتب للدراما التلفزيونية والإذاعية،‮ ‬وشارك في‮ ‬كتابة حوار أول فيلم بحريني،‮ ‬وهو فيلم‮ ''‬الحاجز‮'' ‬مع المبدع الرائع أمين صالح‮.‬

‬4‭ ‬‮ ‬

إليه،‮ ‬وإلى وقته الكثير الذي‮ ‬ضيعه معنا،‮ ‬لنتعلم الكتابة،‮ ‬كل التحية والاحترام والتقدير‮.‬

***

مدرسة داخل صحيفة

لولوة الرميثي

هدوء وسكينة،‮ ‬وبالداخل شعلة من الغضب،‮ ‬من الممكن أن تمتد للخارج وتحرق أي‮ ‬شيء ممكن أن‮ ‬يحترق بقربها‮!! ‬تليها لحظات من تحية صباحية جميلة‮ ''‬صباح الورد‮ ‬يا ورد‮''‬،‮ ‬وسؤال عن الحال والأحوال،‮ ‬ثم سؤال خاص‮ ''‬عسى ما شر عطونا ويه عاد‮''‬؟ عندها ترتسم الابتسامة،‮ ‬ويمحى ذلك الغضب‮.‬
نعم هو‮ ''‬بوفي‮'' ‬بحبه للجميع،‮ ‬فلا داعي‮ ‬للسؤال فقط نظرة واحدة منه لوجه ابنتيه‮ ''‬الجديدتان‮'' ‬يستطيع معرفة الحالة المزاجية التي‮ ‬هما عليها،‮ ‬والأجمل من ذلك مقدار الكلمات والعبارات التي‮ ‬تنهمر عليهن لإصلاح ذلك المزاج‮.‬
‮''‬بوفي‮'' ‬والد الجميع،‮ ‬الموسوعة التي‮ ‬تشتمل على كل المفردات،‮ ‬مفردات الإنسانية مفردات الأبوة مفردات الحب،‮ ‬مفردات لكل مفرد،‮ ‬فهو الأب الروحي‮ ''‬للوطن‮'' ‬كما‮ ‬يلقبه الكثيرون‮.‬
لكنه بالنسبة لي‮ ‬مدرسة في‮ ‬رفع المعنويات وشحذ الهمم،‮ ‬فلا ترد في‮ ‬قاموسه الخاص كلمة‮ ''‬لا‮'' ‬أو رفيقتها‮ ''‬مستحيل‮''‬،‮ ‬فهو لا‮ ‬يحب سماعهما بتاتاً،‮ ‬وكثيراً‮ ‬ما‮ ‬يقول لا‮ ‬يوجد شيء اسمه مستحيل،‮ ‬فأنتم الشباب وتستطيعون فعل كل شيء،‮ ‬لا تتركون اليأس‮ ‬يعرف طريقه إلى نفوسكم،‮ ''‬ما في‮ ‬شيء مستحيل‮''‬،‮ ‬وله من المواقف الكثير فهو الوحيد الذي‮ ‬يرفع معنوياتنا ويدفعنا إلى الاستمرارية،‮ ‬وليست الاستمرارية بحد ذاتها إنما بحب وبإخلاص وتفانٍ،‮ ‬وكما‮ ‬يقول دائماً‮ ''‬ما دام تشوفينه صح فهو صح‮''‬،‮ ‬ولسنا نحن فقط من‮ ‬يسمع كلمات الإطراء والتقدير،‮ ‬بل حتى مراسلي‮ ‬الصحيفة‮.‬
دروس كثر تلقيتها في‮ ‬مدرسة الأستاذ القدير علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬أو كما أحب أن أناديه‮ ''‬بوفي‮'' ‬وفي‮ ‬أحيان متفرقة وفي‮ ‬زلات اللسان أناديه‮ ''‬يبه‮''‬،‮ ‬من بينها وأهمها الطموح لدى الإنسان وهي‮ ‬خير مثال على الطموح،‮ ‬فلازال ورغم العمر‮ ‬يطمح للأفضل،‮ ‬وعمل على نقل هذا المبدأ في‮ ‬نفوسنا،‮ ‬وهو دائماً‮ ‬يسأني‮ ''‬ها لولوة ما قلتيلي‮ ‬متى الماجستير أحين؟‮''.‬
نفتقده إذا‮ ‬غاب لكنه‮ ‬يبقى القريب،‮ ‬فكل نجاح نحققه أو‮ ‬يحققه هو نشعر بأننا جميعاً‮ ‬نشترك في‮ ‬هذا النجاح،‮ ‬له في‮ ‬قلبي‮ ‬وقلوب الجميع معزة خاصة،‮ ‬لا تسعها السطور ويبقى في‮ ‬العقل والقلب شيء جميل‮ ‬يذكر هذا الإنسان الأكثر من رائع،‮ ‬في‮ ‬أكثر من موقف وفي‮ ‬أكثر من مكان،‮ ‬أتذكره كلما أحقق شيئاً‮ ‬جديداً‮ ‬وأضيف إلى رصيدي‮ ‬إنجازاً‮ ‬جديداً،‮ ‬يريدني‮ ‬كما‮ ‬يريد الكثيرين ممن‮ ‬يعرفه أن نسير في‮ ‬طريق النجاح،‮ ‬ويرفع فينا المعنويات كلما هبطت درجة على مقياس الطموح‮. ‬
فكلمات الشكر والتقدير والاحترام والحب لا تكفي‮ ‬حق والد الجميع الأستاذ علي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬المدرسة الحقيقة في‮ ‬الإنسانية والحب وطيب القلب‮.‬

؟ همسه

إن أكثر ما افتقده هذه الأيام كوب من القهوة،‮ ‬ممزوج بجرعات من الهمة والعزيمة والصبر،‮ ‬يقدمه لي‮ ‬أستاذي‮ ‬العزيز علي‮ ‬أحمد الشرقاوي

****

البحر والفقر والسياسة‮.. ثلاثة أسرار في‮ ‬حياة علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬

مصطفي‮ ‬عبد العزيز

على بعد سنتيمترات من أكثر مكان عمقاً‮ ‬بداخلك تجده واقفاً‮ ‬مبتسماً‮.. ‬تخاف أن‮ ‬يقترب أكثر فتركع أمامه من فرط الإعجاب بشخصيته‮.. ‬تحاول أن تنهي‮ ‬سيجارتك بسرعة قبل أن‮ ‬يتمكن من احتوائك‮.. ‬ولكن لا سبيل ولا مفر‮.. ‬ودون إرادة منك تشعل سيجارة أخرى تطلق معها أنفاس اللذة مستمتعاً‮.. ‬في‮ ‬جلسة علي‮ ‬الشرقاوي‮...‬
يحظى على الشرقاوي‮ ‬بقدرة‮ ‬غريبة على سرقة مشاعر الحب من الآخرين،‮ ‬يتمكن من التسلل إلى قلبك بخفة ورشاقة،‮ ‬يطلق كلماته على مسامعك فتعشق عيناك أسلوبه في‮ ‬الحديث،‮ ‬ويلوح لك بيديه فتشم رائحة السعادة قادمة من بعيد،‮ ‬ومثل طفل صغير‮ ‬يستمع إلى توجيهات والده للمرة الأولى في‮ ‬شأن الحياة تشعر مع مفردات الشرقاوي‮ ‬بطعم آخر‮ ‬غير مألوف،‮ ‬وجهة نظر أخرى لرؤية الحياة تندم بشدة أنك لم تعرفها من قبل‮.. ‬قبل أن تتلوث خزانة ذاكرتك بتجارب اغتصاب الآخرين لشرف حبك للحياة،‮ ‬وقبل أن‮ ‬يفسد صندوق فاكهتك بتفاحة الكره والحقد والضغينة‮...‬
يتنفس الشرقاوي‮ ‬الشعر‮.. ‬يأكله بعقله ويشربه بقلبه ويحتسيه بمشاعره مثلما نبدأ نحن وجبة الغذاء بطبق من الحساء الدافئ نرتشفه بالملعقة في‮ ‬تلذذ ومتعة،‮ ‬يقف إلى جوارك،‮ ‬يحدثك،‮ ‬يلقى بالسيجارة من نصفها فوق الأرض،‮ ‬ثم‮ ‬يتركك وينطلق،‮ ‬وبعد دقائق أو ساعات‮ ‬ينتهي‮ ‬من كتابة قصيدة شعرية جديدة،‮ ‬هكذا‮ ‬ينظر الشرقاوي‮ ‬إلى الشعر والكتابة والقلم والورقة البيضاء على أنه الحياة التي‮ ‬تمر ثوانيها فتسرد شطر بيت أو قصيدة شعر أو حتى ديواناً‮ ‬كاملاً،‮ ‬لذلك فهو لا‮ ‬يكتب أو‮ ‬يؤلف أو‮ ‬يسرد أو‮ ‬يقص أو حتى‮ ‬يشعر‮.. ‬إنه‮ ‬يعيش‮.‬

1

في‮ ‬حياة الشرقاوي‮ ‬ثلاثة أسرار كانت بمثابة أصابع ذهبية رسمت ملامح شخصيته على ورق من الشهور والسنين،‮ ‬نحتت أسلوبه على حجر من الخبرات والتجارب،‮ ‬صقلت وجهات نظره على معدن من العادات والعرف والتقاليد،‮ ‬ينكشف السر الأول في‮ ‬حياة الشرقاوي‮ ‬فوق رمال شاطئ البحر،‮ ‬ذلك الأفق الأزرق البعيد المتلون على أطرافه باللون الأصفر والمطعم بالصدف المكنون وحبات الرمل‮.. ‬وقف الشرقاوي‮ ‬يتأمل ضخامة الحياة،‮ ‬وعمق الزمن،‮ ‬وقوة التاريخ،‮ ‬وملوحة الشقاء،‮ ‬وزبد اللغة،‮ ‬وصفاء الكون‮.. ‬أدرك الشرقاوي‮ ‬كم عليه أن‮ ‬يقرأ حتى‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يشق طريقه نحو العمق‮.. ‬كم عليه أن‮ ‬يتعلم حتى‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يعد أنفاسه لالتقاط اللؤلؤ‮.. ‬كم عليه أن‮ ‬يعرف حتى‮ ‬يتحمل لسعة مياه الأيام القادمة‮.. ‬الشرقاوي‮ ‬يعترف لنا بذلك‮ ''‬البحر جزء أساسي‮ ‬من تكويني،‮ ‬جزء مهم في‮ ‬تكوين تصوراتي‮ ‬وإثراء خيالاتي‮ ‬الأولى،‮ ‬لقد اعتبرت أنني‮ ‬سمكة في‮ ‬هذا البحر‮''.‬

2

سر آخر في‮ ‬حياة الشرقاوي‮ ‬يكنزه مثله الكثير من العظماء والعباقرة،‮ ‬سر بمثابة هبة من الله‮ ‬يمنحها لعباد أحبهم،‮ ‬سر وهبة ومنحة إلهية تدعى الفقر،‮ ‬إنه مصنع العباقرة ومزرعة المبدعين وتجارة الموهوبين،‮ ‬إنه شطر الشعر الذي‮ ‬ينشده الشاعر ليكمل به شطيرة خبزه‮ ‬يستكمل معه ومعها طعام عشائه،‮ ‬إنه كوب مثلج من القصائد في‮ ‬نهار ساخن مع عدم وجود المكيف،‮ ‬إنه طريق مليء بالأبيات الشعرية المرصوصة والمقفاة والمنظمة في‮ ‬ظل عدم وجود سيارة‮.. ‬الشرقاوي‮ ‬نطق للمرة الأولى بكلمة بوعي‮ ‬فوجده بحاراً‮ ‬بسيطة ومن هنا انطلق اهتمامه الأول بالهموم الحياتية،‮ ‬والقضايا الاجتماعية،‮ ‬انطلق بمفرداته بحثاً‮ ‬عن تفسير الأشياء من حوله‮.. ‬الشرقاوي‮ ‬يكشف لنا عن سره‮ ''‬الفقر الشديد جعلني‮ ‬مثل السمكة كان عليّ‮ ‬أن أناضل من أجل البقاء؟ كان عليّ‮ ‬أن أطرح الأسئلة،‮ ‬هكذا‮ ‬يتفتح الوعي‮ ‬بمدية التناقضات،‮ ‬والمفارقات‮''.‬

3

حقبة الستينات من الألفية الماضية تكشف لنا عن سر ثالث أخير في‮ ‬حياة الشرقاوي‮.. ‬إنها الأعوام الأكثر سخونة في‮ ‬التاريخ السياسي‮ ‬للبحرين والشرقاوي‮ ‬معاً،‮ ‬كان طالباً‮ ‬لا‮ ‬يتجاوز أفقه السياسي‮ ‬حجم السبورة القابعة هناك أمامه وهو‮ ‬يجلس على طاولته ممسكاً‮ ‬بقلمه‮.. ‬وجد الشرقاوي‮ ‬نفسه في‮ ‬قلب الأحداث رغماً‮ ‬عنه،‮ ‬شيء ما بداخله‮ ‬يدفعه بقوة للتحرك والحديث والصراخ والغضب،‮ ‬أمسك بقلمه وبدأ‮ ‬يسطر ما‮ ‬يدور من حوله،‮ ‬ولكن شيئاً‮ ‬ما حدث،‮ ‬زلزال أصاب قلمه برعشة قوية فاهتزت معها أحاسيسه ومشاعره،‮ ‬تغيرت وجهات نظره بعدما انهارت أشياء كثيرة من حوله‮.. ‬يقول الشرقاوي‮ ''.. ‬وعندما جاءت الصدمة الكبرى في‮ ‬1967‮ ‬انهارت أشياء كثيرة،‮ ‬وتوضحت لنا الكثير من القضايا التي‮ ‬لم نكن نعرفها وعندئذ بدأت الكتابة عندي‮ ‬تأخذ شكلاً‮ ‬آخر‮. ‬لقد سكنها الحس السياسي‮''.. ‬

***

الأب الروحي‮ ‬للوطن‮ ‬

أمل العرادي

منذ أن عرفت أنك ستكرم في‮ ‬مهرجان اليوم العالمي‮ ‬للشعر،‮ ‬وأن البحرين ستحتفل بك،‮ ‬وأنا أتساءل ماذا أكتب في‮ ‬هذا الإنسان؟‮!! ‬أخشى أن تخونني‮ ‬العبارات ويقصر قلمي‮ ‬بحقك،‮ ‬ماذا أكتب لك؟‮! ‬هل أكتب عنك وأنت تنتقل بين أقسام جريدتنا الحبيبة ملقياً‮ ‬التحية الصباحية والمسائية علينا فتكون كنسمة باردة تلفح وجوها كادت تحترق لا من لهيب شمس ولكن من ضراوة العمل،‮ ‬أو كأنك ماء بارد‮ ‬ينزل على أجساد كادت تشتعل من شدة العمل،‮ ‬فتستمد الصحيفة ابتسامتها من ابتسامتك الجميلة التي‮ ‬لا تفارق شفتيك؟‮. ‬إن رؤيتك‮ -‬وأنت الأستاذ العظيم‮- ‬تجعلنا نتذكر حنان الأم وعطف الأب‮. ‬
أم أكتب عني‮ ‬عندما صادفتك على سلالم جريدتنا وكعادتك بادرت بإلقاء التحية والسؤال عن الأحوال،‮ ‬ولا أدري‮ ‬حقيقة لماذا لم أكن متكتمة كعادتي‮ ‬مع الآخرين لأخبرك بكل صراحة أني‮ ‬متعبة مما‮ ‬يصادفني‮ ‬في‮ ‬الحياة من حقد وضغينة،‮ ‬وحسد وغيرة‮.. ‬حينها فاجأتني‮ ‬بابتسامة جميلة تعجبت منها‮. ‬وتساءلت‮: ‬كيف‮ ‬يبتسم الأستاذ وأنا أشكو له؟‮! ‬لكن تساؤلاتي‮ ‬تبددت حين قلت لي‮: ''‬لا تحزني‮ ‬بل‮ ‬يجب أن تفرحي‮ ‬فلا بأس عليك ولكن الخطب في‮ ‬هؤلاء الأفراد الحاقدين الحاسدين الغيورين،‮ ‬يجب أن تسعدي‮ ‬لأنه لا ترمى بالحجارة إلا الشجرة المثمرة‮. ‬ولو لم تكن جهودك أتت ثمارها لما واجهت هذه المشاعر السلبية من أفراد هم بأمس الحاجة للحنان والعطف منا نحن الناجحون،‮ ‬إنها ضريبة النجاح‮''.‬
وبلهجة امتزج فيها الحنان مع الشدة قلت لي‮: ''‬يجب أن تمضي‮ ‬قدماً‮ ‬والتقدم أكثر إلى الأمام‮''.‬
أسعدني‮ ‬كثيراً‮ ‬كلامك وحثك لي‮ ‬على المتابعة والإصرار،‮ ‬إذ جدد الثقة بنفسي‮ ‬أكثر مما هي‮ ‬عليه،‮ ‬ومن‮ ‬يومها عاهدت نفسي‮ ‬على ألا أكون إلا في‮ ‬الصفوف الأمامية‮. ‬
أستاذي‮ ‬علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬الفاضل شكراً‮ ‬لك،‮ ‬لا‮ ‬يسعني‮ ‬في‮ ‬هذا الحدث العظيم إلا أن أقدم لك باقة ورد ملؤها الحب والاحترام،‮ ‬وأن أنحني‮ ‬إجلالاً‮ ‬لك ولروحك المعطاءة المحبة والعطوفة فأنت بحق وبكل جدارة تستحق لقب‮ ''‬الأب الروحي‮ ‬للوطن‮''.‬

***

علي‮ ‬الشرقاوي‮.. ‬كما عرفته

رندة فاروق

يدخل مسرعاً‮.. ‬بقامته القصيرة‮.. ‬وخطواته الواسعة‮.. ‬مجدفاً‮ ‬بيديه وكأنه‮ ‬يحمل مجدافين‮ ‬يحرك بهما الهواء كي‮ ‬يُسَرّع من اندفاعته نحو الأمام‮.. ‬يقول بصوت خشن لهذا‮: ''‬هلا أبوي‮ ‬اشلونك‮''‬،‮ ‬ويلوح لذاك بيده اليمنى‮: ''‬مرحبا عزيزي،‮ ‬شخبارك‮''... ‬ونظارته معلقة على عينيه تكاد تلتهم نصف وجهه،‮ ‬في‮ ‬حين التهمت النصف الآخر،‮ ‬أسنانه الأمامية البارزة‮.. ‬حتى‮ ‬يصل إلى هدفه‮.. ‬مكتب الأستاذ أحمد عبدالغني‮ ‬رحمه الله حين كان مديراً‮ ‬لتحرير أخبار الخليج،‮ ‬ثم الأستاذ لطفي‮ ‬نصر،‮ ‬أطال الله في‮ ‬عمره‮.. ‬فيغيب لدقائق،‮ ‬ثم‮ ‬يعود في‮ ‬طريقه خارجاً‮ ‬من قاعة التحرير في‮ ‬أخبار الخليج مثلما دخل‮!!‬
علي‮ ‬الشرقاوي‮.. ‬شخصية كنت أراها هكذا‮.. ‬لا أعلم عنه أكثر مما وصفت،‮ ‬وأنه كاتب رباعيات من الشعر الشعبي‮ ‬في‮ ‬الصفحة الأخيرة من أخبار الخليج‮..‬
المفارقة كانت،‮ ‬حينما علمت أنه أصبح رئيساً‮ ‬لقسم الشباب في‮ ‬صحيفة‮ ''‬الوطن‮'' ‬عند تأسيسها‮.. ‬لا أنكر أنني‮ ‬تعجبت،‮ ‬بل صرت أضرب كفاً‮ ‬بكف،‮ ‬وأقول‮: ''‬عجيب أمر هذه الصحيفة‮.. ‬كيف لهذا الشخص،‮ ‬غريب الأطوار أن‮ ‬يدير قسماً‮ ‬للشباب،‮ ‬وهو أبعد ما‮ ‬يكون عن الشباب‮.. ‬ففاقد الشيء لا‮ ‬يعطيه‮''!!‬
حين كنت في‮ ‬مكتب الأستاذ معاوية مدير التحرير السابق لـ‮ ''‬الوطن‮''‬،‮ ‬وما زلت لم أعقد العزم على الانتقال إلى‮ ''‬الوطن‮''‬،‮ ‬وجدت شخصاً‮ ‬يدخل المكتب،‮ ‬دون استئذان ودون مقدمات،‮ ‬وإن كان باب المكتب مفتوحاً،‮ ‬لكنه‮ ‬يفاجئنا بأنه‮ ‬يريد أن‮ ‬يقول ما لديه لمدير التحرير وينصرف،‮ ‬مقاطعاً،‮ ‬ويقول‮: ''‬عزيزي‮.. ‬انتظر حتى الغد لينتهي‮ ‬معسكر الشباب كي‮ ‬أسلمك الملحق جاهزاً‮ ‬دون نواقص‮''‬،‮ ‬ثم انصرف،‮ ‬أيضاً‮ ‬مثلما دخل‮! ‬فازدادت حيرتي‮.. ‬حقاً‮ ‬ازدادت حيرتي‮.. ‬شخصية أبسط ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يقال عنها‮ ''‬همشرية‮'' ‬لا أعرف وصفاً‮ ‬أدق من هذا الوصف لعلي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬ولا أعلم إن كان له أساس في‮ ‬اللغة العربية،‮ ‬ولكنها لفظة مستخدمة كثيراً‮ ‬في‮ ‬لبنان وربما في‮ ‬بر الشام،‮ ‬تطلق على الشخصية التي‮ ‬تأخذ الأمور على عواهنها ولا تتقيد بنظم وبروتوكول أو إيتيكيت‮!‬
بانضمامي‮ ‬لـ‮ ''‬الوطن،‮ ‬وتواصلي‮ ‬مع علي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬أو كما نطلق عليه جميعاً‮ (‬بو فيّ‮) ‬فهمت من هو الشرقاوي‮.. ‬لم تختلف عندي‮ ‬صفة‮ ''‬الهمشرية‮'' ‬التي‮ ‬أطلقتها عليه،‮ ‬لكن اكتشفت فيه وفي‮ ‬شخصيته جوانب رائعة بحق،‮ ‬حنان أبوي‮ ‬يفوق كل الأوصاف،‮ ‬يمر على كل المكاتب،‮ ‬ليبث روح المحبة والمودة،‮ ‬وشحن المعنويات إيجابياً،‮ ‬وجدت ارتباط محرري‮ ‬القسم الشبابي‮ ‬به‮ ‬غير طبيعي،‮ ‬وإن انتقل أحدهم من القسم،‮ ‬يشترط كي‮ ‬يقبل النقل،‮ ‬أن‮ ‬يبقى في‮ ‬مكتبه في‮ ‬غرفة الشرقاوي،‮ ‬لا‮ ‬يريد أن‮ ‬يفارق الغرفة‮.. ‬أشعر به كأنه أب روحي‮ ‬للجميع‮.. ‬ابتسامته الساحرة تزيل كل الهموم،‮ ‬وتغسل الأحزان في‮ ‬لمح البصر،‮ ‬بكلمة منه وطاقة إيجابية‮ ‬يبثها‮.. ‬أشعر أنه ساحر مجنون‮.. ‬
ليعذرني‮ ‬بو فيّ‮ ‬على هذه الأوصاف،‮ ‬لكني‮ ‬لا أقصد بها إلا كل معان إيجابية،‮ ‬أردت بها أن أكون في‮ ‬قمة الوضوح والصراحة،‮ ‬مثله تماماً‮.. ‬بو فيّ‮.. ‬المودة‮.. ‬السلام‮.. ‬المحبة‮.. ‬التواضع‮.. ‬التسامح‮.. ‬الرقي‮ ‬في‮ ‬المشاعر‮.. ‬السمو في‮ ‬الأخلاق‮.. ‬الارتقاء إلى أسمى معاني‮ ‬الإنسانية‮..‬
فوجئت حين علمت بأن مجلسه الليلي‮ ‬يرتاده الكثير من الفنانين ليلاً‮ ‬والمبدعين،‮ ‬يذهبون إليه بحميمية وتطول سهرتهم حتى الساعات الأولى من الصباح،‮ ‬سمعت عن الشاي‮ ‬الخاص الذي‮ ‬يعده لهم،‮ ‬وجلساتهم الحوارية،‮ ‬التي‮ ‬غالباً‮ ‬ما تتناول ظاهرة أدبية أو ديواناً‮ ‬شعرياً‮ ‬أو مناقشة فكر معين‮..‬
لا أنسى كلمة قالها الأستاذ محمد البنكي‮ ‬رئيس التحرير‮: ''‬اثنان تأثيرهما مفصلي‮ ‬في‮ ‬حياتي‮ ‬عبدالحميد المحادين،‮ ‬وعلي‮ ‬الشرقاوي‮''.‬
ولا أنسى قصة كوميدية سردها لنا مبدعنا المتألق سلمان طربوش،‮ ‬الذي‮ ‬أحب قصائد علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬حين كان شاباً‮ ‬وكان قد رسم له صورة في‮ ‬خياله،‮ ‬يتخيله فيها طويلاً،‮ ‬وسيماً‮ ‬ذا عيون خضر،‮ ‬فهذه الكلمات الرائعة التي‮ ‬ينتجها ويبدعها صورت له أن الشرقاوي‮ ‬بهذه المواصفات،‮ ‬حتى كانت المفاجأة حينما رآه بصورة مغايرة تماماً‮ ‬عما كان في‮ ‬خياله،‮ ‬فكانت صدمته للحظات ليقرر بعدها أن‮ ‬يستمر في‮ ‬حبه،‮ ‬كيفما كانت صورته‮..‬
علي‮ ‬الشرقاوي‮.. ‬هذا الإنسان الجميل الحنون الذي‮ ‬يبث بيننا المحبة والطاقات الإيجابية،‮ ‬فإيمانه الكبير بالقدرات الإنسانية وما وراء المادة والواقع أمر‮ ‬يخرج عن إطار الماديات ليسمو ويرتقي‮ ‬إلى الروحانيات الراقية والفكر الرفيع‮.. ‬أدامه الله نعمة علينا‮. ‬

***

أبي‮ ‬الروحي‮

منار ثاني

حين أرسلت لنا الزميلة سوسن دهنيم رسالة بريدية،‮ ‬تخبرنا فيها عن عزمها إعداد ملحق احتفائي‮ ‬بالشاعر الكبير الأستاذ علي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬وقبل أن أكمل قراءة الرسالة أجبتها بعنوان مقال أنوي‮ ‬كتابته‮. ‬غير أنني‮ ‬وبعد أمساكي‮ ‬بالقلم،‮ ‬وقفت حائرة من أين أبدأ وكيف أصفه في‮ ‬مقال بسيط‮. ‬هنا عرفت حجم المشكلة التي‮ ‬أوقعت نفسي‮ ‬فيها‮. ‬
هذا الإنسان لا‮ ‬يعطيك خياراً‮ ‬إلا أن تحبه وتحترمه،‮ ‬يمنحك الكثير من الدفء والحنان ويشعرك بأنك ملك أرضك وزمانك‮. ‬كثيراً‮ ‬ما تردد على مسمعي‮ ‬مصطلح الأب الروحي‮ ‬أو الأم الروحية وخصوصاً‮ ‬في‮ ‬أوساط الشباب،‮ ‬معتبرين‮ ‬غاندي‮ ‬والأم تريزا أكثر الأمثلة المعبرة عن الحب والإيثار والتضحية في‮ ‬زمننا الحالي،‮ ‬رغم احترامي‮ ‬لاختياراتهم تلك،‮ ‬إلا أنني‮ ‬متأكدة وموقنة بأن أمثلتهم ستتغير وتصبح الشرقاوي‮ ‬دون منازع في‮ ‬أول لقاء معه‮.‬

؟ احتضان الأب

كوننا في‮ ‬مكتب واحد مع أبانا العظيم بأفعاله والصغير بقلبه الطفولي‮ ‬البريء،‮ ‬دائماً‮ ‬نكون في‮ ‬موضع حسد لوجود هذا الكنز الكبير بيننا،‮ ‬وأحياناً‮ ‬كثيرة من فرط الفخر-لكوني‮ ‬معه‮- ‬أخاف أن أحسد نفسي‮ ‬به على‮ ‬غرار المثل القائل‮: ''‬ما‮ ‬يحسد المال إلا أصحابه‮''. ‬فالعديد من الزملاء والزميلات‮ ‬يسرقون أنفسهم للحظات ويختبئون في‮ ‬منبع الطاقة الإيجابية‮ -‬مكتبنا‮- ‬كما‮ ‬يسمونه،‮ ‬فترى وجه كل واحد منهم عند خروجه‮ ‬ينقلب بقدرة قادر من العبوس والتعب إلى الحيوية والنشاط‮. ‬هذا الإنسان‮ ‬يملأ عليك المكان بروحه الحلوة،‮ ‬وبحنانه الكبير،‮ ‬لدرجة تشعرك بأنك في‮ ‬منزلك وبين أهلك،‮ ‬فلا‮ ‬يعود لتعب وجهد العمل أي‮ ‬مكان وأي‮ ‬معنى‮. ‬لديه عصا سحرية تسحب منك أي‮ ‬أوجاع أو إرهاق‮ ‬يصيبك،‮ ‬فتعتقد أنك في‮ ‬بداية‮ ‬يومك لا في‮ ‬نهايته‮. ‬في‮ ‬كثير من المرات أتذمر من كم الأعمال التي‮ ‬يجب أن أنجزها في‮ ‬وقت قصير،‮ ‬فأقول‮: ''‬أوف هالشغل ما‮ ‬يخلص‮''‬،‮ ‬أقول ذلك وأنا متأكدة بأن صوته سيأتي‮ ‬من الخلف ليقول‮: ''‬العمر‮ ‬يخلص والشغل ما‮ ‬يخلص‮.. ‬لا تعورين قلبج‮''. ‬أتعمد استفزازه في‮ ‬كثير من المواقف كي‮ ‬يزودني‮ ‬بجرعة طاقة وحيوية أكون بأمس الحاجة لها،‮ ‬فمع بوفي‮ ‬تتبدل الأدوار وتشعر بأنك عجوز مقابل شباب قلبه‮ - ‬الله‮ ‬يحفظه‮. ‬

؟ قول وفعل

طبعاً‮ ‬وجودك مع شخص ذي‮ ‬خبرة واسعة،‮ ‬ونظرة مستقبلية بيضاء،‮ ‬تجعلك تشعر طوال الوقت بأنك تلميذ داخل مدرسة الحياة،‮ ‬فكم العِبر والنصائح التي‮ ‬نحصل عليها في‮ ‬اليوم الواحد‮ ‬يعادل‮ ‬10‮ ‬أيام نمضيها بدون‮ ''‬بوفي‮''‬،‮ ‬هذا‮ ‬يعني‮ ‬أنه‮ ‬يختصر عليك الطريق ويسهل عليك الوصول لهدفك،‮ ‬دون أن‮ ‬يبذل أي‮ ‬مجهود،‮ ‬فالكلمة التي‮ ‬تخرج من القلب تصل إلى القلب مباشرة‮. ‬ومن أكثر النصائح التي‮ ‬يكررها لنا،‮ ‬ألا نعطي‮ ‬الأمور أكبر من حجمها،‮ ‬وأن نستوعبها بصورة تجعلها تبدو صغيرة جداً‮ ‬كي‮ ‬نستطيع في‮ ‬النهاية حلها وتسويتها،‮ ‬فأخذ المواقف بعصبية سيعود بالسلب على صحتنا وشبابنا‮. ‬ويوصينا دائماً‮ ‬بالعطاء دون انتظار مقابل أو حتى تقدير،‮ ‬فعطاؤنا هذا سيعود إلينا في‮ ‬يوم من الأيام وإن لم‮ ‬يكن بصورة مباشرة‮. ‬هذا الإنسان لا‮ ‬يلقي‮ ‬بكلماته عبثاً،‮ ‬ولا تشعر بأنه‮ ‬يستعرض حكمته عليك،‮ ‬بل‮ ‬يطبق حرفياً‮ ‬ما‮ ‬يقوله فترى أفعاله قبل أن تسمع نصيحته‮. ‬

؟ الدفء والحنان

أستاذنا‮ ‬غير جميع الأستاذة،‮ ‬يسمح لنا بالأكل والشرب في‮ ‬حصته وعلى طاولته‮!‬،‮ ‬وهو بنفسه مَن‮ ‬يحضر لنا الطعام،‮ ‬فيدخل علينا مرة‮ '' ‬بسمبوسة حارة‮'' ‬
ومرة‮ '' ‬بستوق‮'' ‬ومرة‮ '' ‬كافي‮''‬،‮ ‬حتى في‮ ‬سفراته لا‮ ‬ينسانا ويذكرنا ولو بأقل القليل‮.‬
كبقية الآباء‮ ‬يدافع عنا باستماتة،‮ ‬تكاد تشك لحظتها بوجود علاقة نسب وصلة قرابة تربطنا فعلاً‮ ‬به،‮ ‬وهنا‮ ‬يعطيك درساً‮ ‬آخر في‮ ‬فن التواصل والاتصال،‮ ‬فالقرابة مجرد اسم لا أكثر والترابط الروحي‮ ‬هو أساس العلاقات الإنسانية‮. ‬

؟ العمل‮ ‬

طبعاً‮ ‬العمل و‮''‬بوفي‮'' ‬علاقتهما أشبه بالتوأم السيامي،‮ ‬يصعب فصلهما،‮ ‬متلازمان طوعاً‮ ‬وإكراهاً‮. ‬لا أدري‮ ‬هل أصبح العمل بالنسبة إليه عادة‮ ‬يصعب عليه التخلص منها كصعوبة تخلصه من أعواد السجائر اللعينة‮. ‬
تواضعه الجم‮ ‬يضفي‮ ‬على روح العمل معه نكهة خاصة،‮ ‬فتشعر أنك أستاذه وهو تلميذك النجيب،‮ ‬يمنحك الثقة ويرضي‮ ‬غرورك الشبابي‮. ‬
مع بوفي‮ ‬لا وجود للمستحيل،‮ ‬فكل أمر بالنسبة إليه سهل المنال،‮ ‬مادام الإنسان مصمماً‮ ‬على تحقيقه‮. ‬وعلى الرغم من كثرة مشاغلة،‮ ‬إلا أنك حين تطلب المساعدة لا‮ ‬يتردد أبداً،‮ ‬وكثيراً‮ ‬ما‮ ‬يعطيك إياها قبل أن تطلبها،‮ ‬وكأنما‮ ‬يقرأ أفكارك‮. ‬

؟ مني‮ ‬إليك

كلما وددت أن أنهي‮ ‬هذا المقال،‮ ‬شعرت برغبة لكتابة المزيد،‮ ‬فالكلمات تخذلني‮ ‬عندما أسطرها لأشخاص هم أكبر من كل الكلمات‮. ‬أستاذي‮ ‬تعلمت منك الكثير الكثير،‮ ‬وسأتعلم المزيد في‮ ‬بحر شخصيتك الرائعة‮. ‬أعدك بأن أصبح كما تتمنى دائماً،‮ ‬واعذرني‮ ‬فالأحرف تخونني،‮ ‬ولكنها تأبى إلا أن تقف تقديراً‮ ‬لك واحتراماً‮ ‬لشخصك‮.. ‬كل الحب والإعزاز‮..‬

***

دعوة إلى الحب‮ ‬

محمد لوري

قبل سنتين وطأت رجلي‮ ‬أرض صحيفة الوطن لأتطلع إلى عالم لم‮ ‬يكن في‮ ‬الحسبان أبداً،‮ ‬وطأت رجلي‮ ‬عالم الصحافة والإخراج لأتعرف على شخصيات من طراز آخر،‮ ‬طراز رفيع،‮ ‬شخصيات لم أكن‮ ‬يوماً‮ ‬أحلم أن أتعرف عليها،‮ ‬وقد تعرفت على الوالد الثاني‮ ‬الأستاذ محمد البنكي‮ ‬الذي‮ ‬كان الشخصية المحبوبة التي‮ ‬أتمنى أن أكون‮.‬

‮ ‬لكني‮ ‬أيضاً‮ ‬تعرفت على الرجل الذي‮ ‬دائماً‮ ‬ما ألاحظ تجمع الشباب والشابات عنده،‮ ‬الرجل الذي‮ ‬لا تجد صعوبة في‮ ‬الكلام معه،‮ ‬الرجل الذي‮ ‬يعتبر الملهم للكثير من الأخوة،‮ ‬الشخص الذي‮ ‬كثيراً‮ ‬ما‮ ‬يلجأ إليه الناس لاستشارته بأي‮ ‬عمل‮ ‬يقومون به سواء للعمل أو لغيره،‮ ‬إنه القدوة الأديب الشاعر الأستاذ علي‮ ‬الشرقاوي‮ (‬بوفي‮).‬

‮(‬أبوفي‮) ‬الرجل الذي‮ ‬لا‮ ‬يوجد للحقد والكره محل في‮ ‬قلبه ويرى الدنيا دائماً‮ ‬بروح مرحة مشبعة بالحكمة والمعرفة،‮ ‬دائماً‮ ‬ما أشكو إليه أية مشكلة أواجهها لأجد الحل الأمثل،‮ ‬مثلاً‮ ‬شكوت إليه مرة كره إنسان ما لي‮ ‬فقال‮: ‬هو‮ ‬يكرهك؟ قلت‮: ‬نعم‮! ‬قال‮: ‬زين‮ (‬عيل‮) ‬حبه‮!!‬
الجواب كان مفاجئاً‮ ‬بعض الشيء لكنه‮ ‬يعبر عن حكمة سنين أعطت حلاً‮ ‬رائعاً‮ ‬في‮ ‬أقل من دقيقة،‮ ‬وقال لي‮ ‬أيضاً‮ ‬الله لم‮ ‬يخلقنا لنكره بل لنحب ونعيش حياتنا كلها حب‮.‬

علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬المتعمق في‮ ‬كل شيء تعمق في‮ ‬عالم البرمجة اللغوية العصبية ليوظفها في‮ ‬محلها الصحيح بفهم الناس لإدراك ما‮ ‬يريدونه دون الحاجة لأخذ وقت طويل ليجدوا عنده الحل الأمثل بسرعة‮.‬

الشرقاوي‮ ‬متخصص في‮ ‬تفجير الهمم فعندما تجلس معه وأنت محبط من القيام بعمل ما،‮ ‬تخرج من عنده وكلك ثقة في‮ ‬إنجاز هذا العمل بل وتقوم بتشجيع مَن معك بكل ثقة،‮ ‬على عكس من تذهب له وتصدم بأن‮ ‬يقول لك‮ (‬هلون أحد‮ ‬يكتب،‮ ‬روح تعلم بعدين تعال‮)!! ‬فشتان بين الاثنين فشخص‮ ‬يحاول أن‮ ‬يخرج جيلاً‮ ‬والآخر‮ ‬يدمر‮.‬

التواضع سمة لا‮ ‬غنى عنها في‮ ‬شخصية الشرقاوي،‮ ‬فتواضعه عال لا نسمع عنه كثيراً‮ ‬هذه الأيام فتراه‮ ‬يجلس مع الصغير والكبير،‮ ‬المثقف وغير المثقف،‮ ‬يجلس معهم ويشاركهم اهتماماتهم فيكون مثالاً‮ ‬للشخص الاجتماعي‮ ‬بكل معنى الكلمة‮.‬

في‮ ‬الختام واجب عليّ‮ ‬أن أشكر الأستاذ الرائع علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬على كل ما بذله لإنجاح صحيفة الوطن وعلى كل ما‮ ‬يقدمه لها من نصائح واستشارات لا‮ ‬غنى لها عنه‮.‬

***

الشرقاوي‮« ‬تماماً‮ ‬كشروق الشمس‮!‬

أحمد كريم

عندما تكتب عن أستاذ كبير بحجم علي‮ ‬الشرقاوي؛ فأنت بحاجة إلى موسوعة لغوية تُساعدك على رسم صورة‮ ''‬قلمية‮'' ‬لهذا الأستاذ الكبير‮.‬
وعندما تكتب عن شاعر كبير بحجم علي‮ ‬الشرقاوي؛ فإنك بحاجة لامتلاك الحد الأدنى من الأدوات‮ ‬الشعرية لمحاكاة هذا الشاعر الكبير‮.‬
وعندما تكتب عن زميل كبير بحجم علي‮ ‬الشرقاوي؛ فعليك أن تعرف جيداً‮ ‬كيف تفي‮ ‬حق الزمالة لهذا الزميل الكبير‮.‬
وعندما تكتب عن إنسان كبير بحجم علي‮ ‬الشرقاوي؛ فعليك أن تبذل مجهوداً‮ ‬جباراً‮ ‬لتجمع صفات هذا الإنسان الكبير‮.‬
إذن الكتابة عن علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬أصعب مما‮ ‬يتخيلها المرء برغم أنها ـ الكتابة ـ ستتناول شخصية قطفت من كل بستان زهرة،‮ ‬وحجزت لنفسها مكانة خالدة في‮ ‬صفحات التاريخ‮.‬
عبثاً‮ ‬تُمسك القلم وتُرتب الأوراق على أمل أن تنقش على بياضها الناصع سطور تعتقد أنها ستتحول تلقائياً‮ ‬إلى قصيدة،‮ ‬وتحت هذا شعار الخادع‮ ‬يصدمك الواقع؛ لأنك ستفاجأ بالأسئلة وهي‮ ‬تتقافز من قلب الورقة الخرساء‮: (‬كيف تبدأ وإلى أين تمضي‮ ‬وكيف تنتهي‮ ‬؟‮!).‬
تكتشف حينها عجزك عن الإجابة على هذا السؤال،‮ ‬وستتذكر أنك قبل بدء مشروع الكتابة كُنت مقتنعاً‮ ‬تماماً‮ ‬بعدم إمكان تقديم شيء جديد لتضيفه لهذا الرجل العملاق‮.. ‬ولكن تُكابر‮!‬
المُكابرة هي‮ ‬علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬ذاته،‮ ‬فأنت ستكتشف لاحقاً‮ ‬أن هذه الشخصية هي‮ ‬من زرعت فيك حس المكابرة وعشق التحدي‮ ‬والنظر بتفاؤل‮.. ‬هذه الميزة تفضح التأثير الذي‮ ‬يُحدثه شروق شخصية الشرقاوي‮ ‬في‮ ‬حياتك‮!‬
ستكتب بخطوات مرتبكة كطفل لم‮ ‬يشتد عوده في‮ ‬بادئ الأمر،‮ ‬وستمضي‮ ‬قُدماً‮ ‬في‮ ‬كتابتك بتحسن سريع بعد ذلك وستذهلك سرعة خطواتك،‮ ‬وبعد أن تملأ أوراقك ستكتشف أن الكتابة لم تكن عملية نقش على ورق وإنما كانت خطوات قطعت مسار حياتك بوقود كلمات استقيتها من الشرقاوي‮!‬
إذن أنت لست بحاجة للكتابة عن الشرقاوي‮ ‬فمهما تعمقت في‮ ‬وصفك وفي‮ ‬انتقاءك للزاوية التي‮ ‬ستسلط الضوء عليها في‮ ‬شخصية هذا الرجل،‮ ‬فأنت دائماً‮ ‬ستكون مهدداً‮ ‬بالوقوع في‮ ‬الزلل وعدم الإنصاف،‮ ‬لأنك ستصف مشهد‮ ‬يُشاهده الجميع ولا‮ ‬يعرف كيف‮ ‬يصفه‮!‬
ببساطة،‮ ‬الشرقاوي‮ ‬مثل شروق الشمس،‮ ‬مشهد عجائبي‮ ‬لا‮ ‬يمكن وصفه،‮ ‬فالشمس تُشرق من خلف البحر،‮ ‬ومن خلف الجبال،‮ ‬ومن خلف الأشجار ومن خلف تلال الصحراء‮.. ‬ولكن لا‮ ‬يمكنك تمييز جمالية منظر عن آخر لتكتب عنه‮.. ‬فالشرقاوي‮ ‬يمثل أمامك أستاذ،‮ ‬وشاعر،‮ ‬وزميل،‮ ‬وإنسان‮.‬
خلاصة القول عندما تكتب عما تعلمته من هذا الرجل العظيم،‮ ‬هو أفضل بكثير من الكتابة عنه،‮ ‬ففي‮ ‬الحالة الأخيرة ستكون عرضة للزلل وعدم الإنصاف،‮ ‬ويا لها من خطيئة تقترفها لو فعلت ذلك‮.‬

***

ابـن الشرقاوي‮ ..‬

علي‮ ‬الستراوي

بقدر ما أعرفه،‮ ‬أضيع في‮ ‬مسافات انشغالاته،‮ ‬لأنه كالعصفور،‮ ‬ينقر الحبَّ‮ ‬والحُبْ‮.‬
من هنا عبر البحر إلى جزيرة الحياة‮.. ‬احتضن زرقة النهار بظل الحياة،‮ ‬مجتازاً‮ ‬ذاكرة طفل تدلى فوق صارية حروفه المتعبة،‮ ‬وعلى سطح داره وقف كشاهد لعصر مضى،‮ ‬كحل عيون الفتيل بجذوة الروح،‮ ‬منشغلاً‮ ‬بقصيدة‮ ''‬دلمون‮''. ‬
ابن الشرقاوي‮ ‬حينما‮ ‬ينشغلُ‮ ‬بطيف ليلى،‮ ‬يوزع أحلامه على كل الأصدقاء،‮ ‬يبتسم في‮ ‬العيون،‮ ‬يسافر كطائر على ذاكرة محبيه‮. ‬

هو الابن والحبيب‮ ''‬لفتحية العجلان‮'' ‬التي‮ ‬تقيسُ‮ ‬خطواتها بمقدمه،‮ ‬تسأل المرأة عن شاعرها الذي‮ ‬أدخلها في‮ ‬الغواية،‮ ‬فكانت أجمل‮ ‬غواية تحدثت عنها حبيبته،‮ ‬يوم كان الفتيل مرهوناً‮ ‬بحب الوطن،‮ ‬ويوم ذاب الفتيل في‮ ‬عشق الوطن قالت فتحية لمحبيها‮: ‬دونكم والفتى‮'' ‬علي‮'' ‬نسلُ‮ ‬له خصلات شعره الساقطة على عينيه،‮ ‬أعجنا أقدامه بحناء الصبر‮'' ‬
ومرت السنون والحبيبة‮'' ‬كبينلوبي‮'' ‬في‮ ‬انتظارها الأسطوري‮ ‬لزوجها،‮ ‬رمزاً‮ ‬للوفاء الزوجي‮ ‬والإخلاص ونكران الذات،‮ ‬هكذا ظلت تغزل وجعها بشال الانتظار،‮ ‬تنتظر فارسها الذي‮ ‬غاب‮.‬
وعندما عاد ابن الشرقاوي،‮ ‬كانت الذاكرة مشحونة بجلالة الحب،‮ ‬وكان القلب من شدة اشتياقه‮ ‬،‮ ‬قد تعلق بذيل نجمة احتضنتها سماء الوطن‮.‬
دخل مع المغامرين لعبته الجديدة التي‮ ‬أسس من خلالها نضاله الجديد،‮ ‬مشدداً‮ ‬على أنه باقٍ‮ ‬مع الباقين،‮ ‬يعصر الريح ويدعو كل حمامات الحب والسلام على مائدة جديدة من النضال،‮ ‬وكان هو أكثر المتشددين لفكرته الجديدة،‮ ‬إذ‮ ‬يرى أن الوطن‮ ‬يجب أن‮ ‬يخرج من عباءة العنف،‮ ‬نحو عباءة المشاركة السياسية،‮ ‬دون تعريض منجزات الوطن إلى التخريب،‮ ‬ودون خسران الشباب،‮ ‬معتبراً‮ ‬كل خسران في‮ ‬العنصر البشري‮ ‬أو الخدمي،‮ ‬خسران لطاقات الوطن إنجازاته
ابن الشرقاوي،‮ ‬كثيراً‮ ‬ما سافرتْ‮ ‬أحلامه نحو محبة الناس،‮ ‬دون أن‮ ‬يزايد في‮ ‬حبه،‮ ‬فابتسامته كفيلة بفضح مشاعره التي‮ ‬يختزنها بداخل قلبه،‮ ‬وقصائده من الرقة والإحساس بحيث تدعوك هذه النبضات الشعرية‮ ‬إلى قلب شاعر لا‮ ‬يرى في‮ ‬قصيدته إلا رسالة،‮ ‬تعبرُ‮ ‬من جهة البحر لتلتقي‮ ‬بأناس قد زرع الأمل وروداً‮ ‬على شفاههم ومحبة الكل،‮ ‬لهؤلاء‮ ‬ينتمي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬وإلى امرأة انشغل بها وبحنينها،‮ ‬لأنها احتضنت في‮ ‬صبرها فارسها الجميل،‮ ‬احتضنته ابناً‮ ‬وحبيباً‮ ‬وجسرها الممتد على ساقين من الحب وقلب‮ ‬يرف بالحنان والشوق،‮ ''‬علي‮ ‬والوطن‮ '' ‬هكذا جمعتهما ذاكرة الحب،‮ ‬فلم‮ ‬يعرف علي‮ ‬غير فتحية ولم تعرف‮ ''‬فتحية‮'' ‬فتى‮ ‬غير‮''‬علي‮''‬،‮ ‬التقيا بحنين قصيدة عامية،‮ ‬متشظيان‮ ‬ببحر كبير من قصائد الوطن،‮ ‬التي‮ ‬ألفا في‮ ‬سكون‮ ‬بيتها الكبير حكاية المحبين‮.‬
كان لابن الشرقاوي،‮ ‬شجرة من الأصدقاء،‮ ‬وكانت هذه الشجرة تثمرُ‮ ‬أدباً،‮ ‬وكلما مرَّ‮ ‬أحد من الناس عليها،‮ ‬استغربوا من ثمر هذه الشجرة،‮ ‬فتمنوا أن تكون لهم شجرة مثلها‮.‬
وتمرّ‮ ‬السنون وتمدُّ‮ ‬هذه الشجرة من أطرافها،‮ ‬وتستظل بكل البلدان،‮ ‬شعراً‮ ‬ومسرحاً‮ ‬ونثراً‮ ‬وقصة وسيناريو،‮ ‬حكاية طفل وشاب،‮ ‬يحكون بصوت واحد،‮ ‬ويتغنون بصوت واحد،‮'' ‬نحبُ‮ ‬الوطن‮''.‬
‮ ‬وإذا وقفت على أفنانها الطيور تقف مستغربة من هذه الشجرة التي‮ ‬لم تغب الشمس عنها في‮ ‬يوم ما ولم‮ ‬يفارقها القمر،‮ ‬كل اللغات تجمعها هذه الشجرة،‮ ‬وكل الأصدقاء تحمل قلوبهم هذه الشجرة،‮ ‬وعلى كل ورقة من أوراقها حكاية،‮ ‬وكانت أجمل الحكايات حكاية تلك الجزيرة التي‮ ‬ارتبطت حروفها بحروف الوطن‮.. ‬التي‮ ‬علمت الفتى علي‮ ‬سرّ‮ ‬الندى‮.‬

وما بيني‮ ..‬
وبين الصحاب‮ ‬
كتاب كبير‮ ..‬
على شرفتيه‮ ‬يستريح الوقت‮ ‬
وما بيني‮.. ‬وبين علي‮ ‬
ساقية الماء‮ ..‬
وربان سفينة‮ ..‬
كلما ابتعدنا عنها‮..‬
رجعنا اليها‮ ..‬
نستعيدُ‮ ‬ما للقصيد‮ .. ‬من وجع‮ ‬
وما للنساء من حكايات‮ ..‬
أقربها سر رجل لا‮ ‬ينام‮! ‬

هو ابن الشرقاوي،‮ ‬يمرُّعليك دون أن‮ ‬يدعوك إلى مائدته،‮ ‬فهذا ليس ابن الشرقاوي،‮ ‬لأنه ألّف الجمع على سفرة الزاد،‮ ‬وأبقى على مائدته مفتوحة لكل الصحاب‮.‬
وهل‮ ‬يستريح النهار،‮ ‬قبل أن‮ ‬يستريح علي‮ ..‬
أم‮ ‬يستريح علي،‮ ‬قبل أن‮ ‬يستريح النهار
فتلك مفارقة،‮ ‬أكثر الناس إدراكاً‮ ‬لها،‮ ‬هو ابن الشرقاوي،‮ ‬فلا تدعوه‮ ‬يفلتُ‮ ‬من قلوبكم،‮ ‬لأنه قصيدة البحر الذي‮ ‬لا‮ ‬ينام،‮ ‬والنخل الذي‮ ‬في‮ ‬حبه أينع رطباً،‮ ‬واستظل هواه‮. ‬

***

كزهرة عباد الشمس حيث‮ ‬يكون الضوء‮ ‬يتوجه‮.. ‬في‮ ‬ندوة‮ »الوطن«‬

كتب (ت)

علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬شاعر من الشعراء المهمين والمجددين في‮ ‬الشعر المحلي،‮ ‬له العديد من المساهمات التي‮ ‬أثرت الساحة الشعرية المحلية والعربية‮. ‬نشر العديد من الكتب في‮ ‬مجال الشعر العربي‮ ‬الفصيح،‮ ‬الشعر العامي،‮ ‬الموال،‮ ‬المسرح الشعري،‮ ‬الأغنية،‮ ‬وأدب الأطفال،‮ ‬وكان لـ‮ ''‬الوطن‮'' ‬هذه الندوة عن الشاعر في‮ ‬مقر الصحيفة،‮ ‬ضمن ملف كامل‮ ‬يحتفي‮ ‬بالشرقاوي‮ ‬تزامنا مع احتفال أسرة الأدباء والكتاب بالشاعر‮. ‬

؟ البنكي‮: ‬نرحب بكم جميعاً‮ ‬ونشكركم على تفضلكم بالمشاركة في‮ ‬هذه الندوة،‮ ‬التي‮ ‬تتناول بالحديث الشاعر علي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬الذي‮ ‬سنخصص له احتفاء به عدد الكنش المقبل،‮ ‬إذ كانت فكرة الاحتفاء تراودنا بقوة،‮ ‬لكن مبادرة أسرة الأدباء والكتاب‮ - ‬المشكورة‮ - ‬بتكريم هذا الشاعر جعلتنا نسارع لإنجاز هذا الملحق،‮ ‬إلى جانب كتابة عدد من موظفي‮ ‬الوطن عن هذا الشاعر الجميل من ناحية إنسانية،‮ ‬بفعل احتكاكهم به في‮ ‬العمل بصورة‮ ‬يومية‮. ‬ونحن في‮ ‬هذه الدعوة أردنا أن نضيء جانباً‮ ‬آخر من الشرقاوي‮ ‬وهو إبداع الشاعر من وجهة نظر نقدية‮. ‬

نبدأ هذه الندوة بورقة آثر الأخ صابر الحباشة أن‮ ‬يقدمها حول كتاب الشين للشرقاوي‮. ‬

؟ فتنة للكلام ومراودة للقول لافتتين

‮- ‬الحباشة‮: ‬لا أريد أن أذكر هنا إنجازات الشرقاوي،‮ ‬أو أعرف به،‮ ‬فأنتم أدرى من‮ ‬يكون،‮ ‬لكني‮ ‬أود أن أشير إلى أنه رغم‮ ‬غزارة إنتاج الشرقاوي‮ ‬وتنوع إبداعه،‮ ‬يظل من الشعراء الذين لم‮ ‬يكتب عنهم الكثير ولم‮ ‬يدرس إبداعهم،‮ ‬وسأقدم هنا مدخلاً‮ ‬لقراءة كتاب‮ (‬الشين‮) ‬مركّزاً‮ ‬على العنوان والاستعارة في‮ ‬هذا الكتاب‮: ‬

‮''‬ليس‮ ''‬كتاب الشين‮'' ‬أثراً‮ ‬شعرياً‮ ‬سهل الاندراج في‮ ‬حلبة الشعر،‮ ‬إلا أن تحتال عليه مثلما احتال عليك صاحبه،‮ ‬فأوقعك وأنت تقرأه في‮ ‬حبائل الضم والرفع والنصب والفتح والجزم والجرّ‮. ‬إنّه ديوان لا تلتبس فيه الألفاظ بالمعاني‮ ‬بل‮ ‬يتحالف فيه المعنى ومعنى المعنى على سلب الذات حرية القراءة،‮ ‬لأنّ‮ ‬مؤلفه قد جمح فيه جموحاً‮ ‬أعيا‮ ‬‭-‬‮ ‬في‮ ‬تقديري‮ ‬‭-‬‮ ‬مشارط الناقد وآلاته،‮ ‬لا‮ ‬يكاد الدارس لهذا‮ ''‬الشعر‮'' ‬يجسّ‮ ‬من‮ ''‬القصيدة‮'' ‬موضعاً،‮ ‬حتى‮ ‬ينفلت النص إلى ركن آخر،‮ ‬وكلما رام الناقد من المتن اقتراباً،‮ ‬غيّر الهامش مجراه عبر فتنة للكلام ومراودة للقول لافتتين‮.‬

نصّ‮ ''‬كتاب الشين‮'' ‬يعود إلى بدايات الفوضى الدلالية التي‮ ‬تنتشر في‮ ‬مفاصل الحياة الإنسانية الساذجة‮. ‬يوقفك منها‮ ''‬الوحي‮'' ‬الشعري‮ ‬على نقاط عميقة في‮ ‬تفجير المعنى،‮ ‬ما هو أعزل من الدلالة في‮ ‬عرف الناس‮. ‬لو قيل لأبي‮ ‬نواس صف ديوان الشرقاوي‮ ‬هذا لقال في‮ ‬عجُز أبياته هو‮:''‬عدول في‮ ‬عدول في‮ ‬عدول‮''!‬
ولمّا كان الدارس بحاجة إلى بوصلة تقوده وتشده إلى جادة الطريق،‮ ‬الذي‮ ‬اجتهد الشاعر في‮ ‬طمس معالمه،‮ ‬فقد عمدنا إلى النظر في‮ ‬محاور قليلة من القول الشعري‮ ‬في‮ ‬هذا الديوان،‮ ‬ناظرين فقط إلى‮: ‬بناء الاستعارة في‮ ''‬كتاب الشين‮''‬،‮ ‬وتوظيف المصطلحات اللغوية في‮ ‬القول الشعريّ

أولاً‮ : ‬بناء الاستعارة في‮'' ‬كتاب الشين‮''‬

شذ الشرقاوي‮ ‬في‮ ‬هذا الديوان عن أساليب الاستعارة النمطية كما ألفيناها عند الشعراء التقليديين وحتى الرومانسيين،‮ ‬إنه‮ ‬يشتق استعارته فريدة نابية تنأى عن كلّ‮ ‬مثال وتنحاز بعيداً‮ ‬عن كل نمط‮.‬

ليست الاستعارة في‮ ''‬كتاب الشين‮'' ‬موضوعة على أريكة‮ ‬يهيئها لها صاحبها لأنها موضع القلادة في‮ ‬الشعر على النحو الذي‮ ‬وقفنا عليه عند النقاد القدامى إذ أثنوا على الاستعارات الجيدة،‮ ‬فالشرقاوي‮ ‬يخرج الاستعارة من عليائها ويعيدها سيرتها الأولى‮: ‬إذ تنبثق من القول الساذج،‮ ‬من الكلام العاديّ،‮ ‬غير المعمول ولا المصنوع،‮ ‬تنداح اندياحاً‮ ‬وتنثال انثيالاً،‮ ‬حتى كأننا في‮ ‬زحمة من الاستعارات‮ ''‬الحية‮'' ‬لا نقف لها في‮ ‬معترك التآويل،‮ ‬على تفسير واضح ولا رأي‮ ‬سديد‮.‬
يجد الناظر في‮ ‬هذه القصائد عروجاً‮ ‬من الاستعارة القائمة على التماثل والتمثيل إلى إجراء ذهني‮ ‬إدراكيّ‮ ‬على النحو الذي‮ ‬يدرسه علماء الدلالة والسيميولوجيا في‮ ‬النظريات المعرفية الإدراكية حديثاً‮.‬
عندما قلنا إنّ‮ ‬هذا الديوان هو عدول شامل،‮ ‬فهذا العدول‮ ‬يشمل لا محالة عنصر الاستعارة أيضاً‮.‬
يرى بعض الدارسين الغربيين أنّ‮ ‬الاستعارة عندهم فارقت التصورات التقليدية التي‮ ‬تعتبرها وجهاً‮ ‬بلاغياً‮ ‬وتصويراً‮ ‬بيانياً‮ ‬منذ أربعينات القرن العشرين،‮ ‬وذلك من خلال‮ ''‬نظرية العدول الدرجة البلاغية الصفر‮''‬،‮ ‬كما‮ ‬يرى ذلك بول ريكور‮. ‬وقد تكلم النقاد القدامى عن الاستعارة المبنية على استعارة أخرى،‮ ‬انظر قول ابن الأثير‮:'' ‬ألا ترى أنا إذا أوردنا هذا البيت الذي‮ ‬هو‮:‬

‮(‬فأَمْطَرَتْ‮ ‬لُؤْلُؤًا مِنْ‮ ‬نَرْجِسٍ‮ ‬وَسَقَتْ‮ ‬وَرْداً‮ ‬وَعَضَّتْ‮ ‬عَلَى الْعُنَّابِ‮ ‬بِالْبَرَدِ‮)

‬وجد عليه من الحسن والرونق ما لا خفاء به وهو من باب الاستعارة،‮ ‬فإذا أظهرنا المستعار له صرنا إلى كلام‮ ‬غث،‮ ‬وذاك أنا نقول فأمطرت دمعاً‮ ‬كاللؤلؤ من عين كالنرجس وسقت خدّاً‮ ‬كالورد وعضت على أنامل مخضوبة كالعنّاب بأسنان كالبرد،‮ ‬وفرق بين هذين الكلامين للمتأمل واسع‮''.‬

أمّا الاستعارات المبنية على استعارات أخرى،‮ ‬فهي‮ ‬محلّ‮ ‬انتقاد من قِبل البلاغيين والنقاد الذين كانوا‮ ‬يخافون هروب المعنى فيشتطّ‮ ‬مزاره ويعسر تأويله وكانوا‮ ‬يحاولون تقييده ويخشون جموحه ويريدون تسييجه،‮ ‬فالمعنى عندهم إما قريب أو متناول بعد فحص‮ ‬يسير،‮ ‬أمّا إذا اعتاصت المداخل وغمضت المخارج،‮ ‬فإن القول‮ ‬يؤول إذّاك إلى الإغراب وهو في‮ ‬عرفهم من وجوه التقصير،‮ ‬وبهذا آخذوا أبا تمام،‮ ‬وهذا أمر متداول في‮ ‬نظرية البيان عامة وفي‮ ‬كتب الموازنات خاصة،‮ ‬ولعله لهذا السبب كان أبوتمام قبلة الحداثيين‮ ‬يدرسونه ويفحصون شعره من السياب إلى أدونيس‮...‬

وأمّا محاولة تسييج الاستعارة ووضع حدود لها لا تتجاوزها،‮ ‬أمر استقر في‮ ‬المنظومة البلاغية القديمة،‮ ‬يقول ابن الأثير أيضاً‮:''‬وكنت تصفحت كتاب الخصائص لأبي‮ ‬الفتح‮ ‬عثمان بن جني‮ ‬فوجدته قد ذكر في‮ ‬المجاز شيئاً‮ ‬يتطرق إليه النظر وذلك أنه قال لا‮ ‬يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا لمعان ثلاثة وهي‮ ‬الاتساع والتشبيه والتوكيد فإن عدمت الثلاثة كانت الحقيقة البتة‮''. ‬ولعلّ‮ ‬لغة الشعر الحديث قد قلبت المعادلة،‮ ‬فأصبح المجاز هو الأصل والحقيقة هي‮ ‬الفرع‮... ‬فكيف صاغ‮ ‬الشرقاوي‮ ‬استعاراته في‮ ''‬كتاب الشين‮''‬؟

اختيار العنوان لافتة مهمة في‮ ‬تدقيق النظر إلى المتن‮. ‬وههنا لا‮ ‬يجد الناظر عسراً‮ ‬في‮ ‬التفطن إلى أنّ‮ ‬تمحيض الحرف بالعنوان،‮ ‬ضرب من المحاكاة إما للمتصوفة أو لكتّاب الأعلام،‮ ‬إذ‮ ‬يرمز أولئك بالحروف إلى أمور بعيدة ويؤشر هؤلاء بالحروف إلى أسماء الأعلام‮. ‬ولعلّ‮ ‬الشعر واقع بين ظاهر هذا وباطن ذاك‮. ‬أمّا أن‮ ‬يصير الحرف كتاباً‮ ‬في‮ ‬الشعر فهو ضرب من التجديد في‮ ‬العنونة‮ ‬يجعل النص منفتحاً‮ ‬على فن الخط العربيّ‮ ‬وما أرساه الرسامون من إنطاق لصورة الحرف بألوان من البيان وضروب من الدلالة‮. ‬وبذلك تندغم الدلالة الصوفية الرمزية الإشارية العتيقة للحرف مع جمالية فنية تنتمي‮ ‬لفن الخط،‮ ‬لتنكسر الحدود بين الفكر والفن،‮ ‬وبين المثال والصورة،‮ ‬في‮ ‬دهشة بالغة مبلغ‮ ‬اعتقال المعنى‮.‬

وجد الشاعر علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬في‮ ‬صيغة توزيع المتن والشروح على بياض الورقة في‮ ‬كتب التراث،‮ ‬طريقة لكتابة نصوصه الواردة في‮ ‬أشكال تشكيلية توحي‮ ‬بالتصاحب والتوازي‮ ‬والتناظر والتماس والتجاور،‮ ‬وغير ذلك من العلاقات الهندسية التي‮ ‬شكلت فضاء الورقة،‮ ‬مما‮ ‬يخوّل للقراءة الطوبوغرافية أن تمارس دورها في‮ ‬تأويل النص الجامع والنصوص الفرعية المتفرعة عنه‮.‬

تنويع للخط وتوزيع مخصوص للنصوص على بياض الورقة،‮ ‬اتخذ شكلاً‮ ‬ثلاثيًا في‮ ‬الأغلب،‮ ‬كلّ‮ ‬ذلك‮ ‬يخلخل قدرة القارئ على القراءة التفاعلية مع النصوص‮. ‬إذ جعل الشاعر نصه‮ ''‬أثراً‮ ‬منفتحاً‮''‬،‮ ‬كي‮ ‬نقتبس عبارة أمبرتو إيكو،‮ ‬على أنساق عديدة،‮ ‬فإن حاول القارئ أن‮ ‬يقف على تلك الأنساق،‮ ‬وفشل،‮ ‬ظنّ‮ ‬بنفسه العجز عن التقاط شفرات النصّ‮ ‬السرية،‮ ‬ولم‮ ‬يظنّ‮ ‬البتة أنها جمالية فارغة من المعنى‮. ‬أو قل هي‮ ‬طريقة في‮ ‬نزع السؤال عن المعنى من مركز الاهتمام‮. ‬وقد‮ ‬يصل الأمر بك إلى متابعة لعبة القراءة باعتبارها مقتضى ضرورياً‮ ‬من‮ ''‬ألاعيب اللغة‮'' ‬كما وصفها لودفيغ‮ ‬فيغنشتاين،‮ ‬محاولاً‮ ‬تقصّي‮ ''‬الاستعارات التي‮ ‬بها نحيا‮'' ‬على رأي‮ ‬جونسن ولايكوف،‮ ‬غير أنّ‮ ‬النص‮ ‬يمارس معك طقساً‮ ‬آخر،‮ ‬هو سياسة للكلام أعسر من سياسة الأنام،‮ ‬فيفر بك إلى الأمام‮.''‬

‮- ‬البنكي‮: ‬شكراً‮ ‬جزيلا للأخ صابر،‮ ‬لم‮ ‬يكن الهدف من هذه القراءة تسليط الضوء على هذا الكتاب فقط،‮ ‬لكن للموجودين الحق في‮ ‬الحديث عن أيّ‮ ‬من كتب الشرقاوي‮ ‬التي‮ ‬درسها،‮ ‬فالمجال مفتوح في‮ ‬عموم تجربته‮. ‬أفضّل أن أترك المساحة مفتوحة لمن‮ ‬يريد أن‮ ‬يداخل في‮ ‬الموضوع‮.‬

؟ شاعر وفي‮ ‬للتراث والإيقاع

‮- ‬رضي‮: ‬سأتحدث عن الشرقاوي‮ ‬من زاوية قد تكون شخصية لكنها مرتبطة بالإبداع والإطار الإبداعي‮. ‬لقد كان للشرقاوي‮ ‬دور كبير في‮ ‬رفد تجربتي‮ ‬في‮ ‬الكتابة‮. ‬وهناك حادثة دائماً‮ ‬ما أتذكرها بهذا الشأن وهي‮: ‬عندما كان الشرقاوي‮ ‬يعمل في‮ ‬وزارة الزراعة بالبديع،‮ ‬كنت دائماً‮ ‬ما أزوره بمقر عمله مع الشاعرة ليلى السيد‮.. ‬يوماً‮ ‬أو‮ ‬يومين في‮ ‬كل أسبوع‮ ‬،‮ ‬وكنا نقرأ عليه تجاربنا،‮ ‬ويستمع إليها ويعلق عليها،‮ ‬وكنا نستمع إلى رؤاه كما‮ ‬يستمع المريدون إلى الفيلسوف،‮ ‬وكان حينها‮ ‬يدير صفحة ثقافية بصحيفة الأيام،‮ ‬ونشر لي‮ ‬بعض التجارب التي‮ ‬لم أكن أجرؤ على نشرها‮.‬

بالنسبة للجانب الإبداعي‮ ‬فقد تميز الشرقاوي‮ ‬بالجمع أمور‮ ‬قد تبدو متناقضة،‮ ‬لكن التحولات التي‮ ‬جاءت بعد الحداثة جعلته‮ ‬يعيد النظر في‮ ‬هذه الأمور،‮ ‬فأن‮ ‬يكون كاتباً‮ ‬للعامية البسيطة،‮ ‬وفي‮ ‬الوقت نفسه له كتابات فصيحة‮ ‬غارقة في‮ ‬الغموض والفلسفة،‮ ‬إلى جانب المسرح،‮ ‬فذلك أمر‮ ‬يدعو للتأمل‮. ‬إن انفتاح الشرقاوي‮ ‬على كل أشكال الفن مسألة ليست بسيطة خصوصاً‮ ‬وأننا نشأنا ضمن تربية تتقضى أن نكون إما‮ ''‬حداثيين‮'' ‬أو من كتاب الشعر العامي‮.‬

عندما‮ ‬يشاهد المتلقي‮ ‬الأعمال التلفزيونية‮ ‬يقول إن هذا هو الشرقاوي‮ ‬وعندما‮ ‬يقرأ النصوص الشعرية الفصحى‮ ‬يشعر أن هذا هو الشرقاوي،‮ ‬وكذلك الحال عندما‮ ‬يقرأ عامي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬ومسرحياته‮. ‬في‮ ‬كل تجربة تجد الشرقاوي‮ ‬قادراً‮ ‬على أن‮ ‬يكون مع الجميع دون حواجز،‮ ‬وأعتقد أن الكثير من الشعراء‮ ‬يفشلون في‮ ‬تذويب هذا الحاجز مع الجميع ومع جميع الصنوف الإبداعية‮. ‬الشرقاوي‮ ‬ظل وفياً‮ ‬للإيقاع على سبيل المثال في‮ ‬جميع تجاربه التي‮ ‬لم‮ ‬يضح بها‮ ‬بالمرة،‮ ‬لا في‮ ‬الشعر الفصيح ولا المسرح الشعري‮ ‬ولا التجارب التي‮ ‬قد تبدو للوهلة الأولى سردية‮. ‬كما أنه‮ ‬يمتلك وفاء‮ ‬غير معهود بالأمكنة وهو أكثر الشعراء الذين تناولوها،‮ ‬في‮ ‬شعرهم ومسرحهم،‮ ‬كما أنه كان وفياً‮ ‬للتراث بشكل كبير‮. ‬

وهنا لابد وأن‮ ‬يطرح سؤال وهو لولا الشرقاوي،‮ ‬أين من الممكن أن نجد التراث البحريني؟ فنحن إما أن نقصي‮ ‬التراث أو نسلط عليه من ناحية سياسية فقط،‮ ‬أما الشرقاوي‮ ‬فقد استطاع أن‮ ‬يعيد الزهو إلى التراث عن طريق أخذه لهذا التراث تارة وإعادة صياغته من جديد تارة أخرى،‮ ‬فعندما نقرأ عذاري‮ ‬أو البرهامة مثلاً‮ ‬نجد أن الشرقاوي‮ ‬كتب تراثناً‮ ‬بصورة مغايرة وجديدة فصار لدينا تراثنا الذي‮ ‬نعرفه وتراث الشرقاوي‮ ‬المبتكر‮!‬

؟ منطلقان إنساني‮ ‬وإبداعي‮ ‬للشاعر‮ ‬

‮- ‬البنكي‮: ‬شكراً‮ ‬لك،‮ ‬أنت فتحت الآن بوابة من أوسع أبوابها على تجربة الشرقاوي،‮ ‬الأخ فهد تفضل‮. ‬
‮- ‬حسين‮: ‬شكراً‮ ''‬بوجاسم‮''‬،‮ ‬بداية أود أن أشكر صحيفة الوطن على إتاحة هذه الفرصة كي‮ ‬نجتمع اليوم ونتحاور في‮ ‬تجربة هي‮ ‬من أهم التجارب ليس فقط في‮ ‬المشهد البحريني‮ ‬بل في‮ ‬منطقة الخليج أيضاً‮. ‬

قبل أن نتحاور في‮ ‬هذه التجربة أود أن أوضح أن الشرقاوي‮ ‬لابد وأن تؤخذ تجربته من منطلقين الإنساني‮ ‬والإبداعي‮ ‬فلا أحد‮ ‬يختلف على كون الشرقاوي‮ ‬إنسان بمعنى الكلمة بمعنى كيف‮ ‬يتعامل مع الأطراف الأخرى تعاملاً‮ ‬إنسانياً‮ ‬ولو اختلف معهم فكرياً‮. ‬
شخصياً‮ ‬كانت لي‮ ‬تجربتان مع الشاعر الأولى في‮ ‬النصف الثاني‮ ‬من التسعينيات،‮ ‬حين ذهبت إلى مكتبه‮ - ‬وحينها لم تكن لدي‮ ‬علاقة بالشاعر تماماً‮- ‬وكنت أبحث عن مراجع لإكمال دراسة الماجستير،‮ ‬فأرشدني‮ ‬لكتابين،‮ ‬كتاب كان موجوداً‮ ‬في‮ ‬المكتبة فاشتريته وهو إشكالية المكان في‮ ‬النص الأدبي‮ ‬لياسين النصير،‮ ‬وكتاب نسخه بالكامل لي‮ - ‬وهو مجلة ألف‮ - ‬وأعطاني‮ ‬إياها،‮ ‬لأن بها ملفاً‮ ‬كاملاً‮ ‬عن المكان،‮ ‬ومن هنا أحسست أن هذا الإنسان شخص مميز تماماً،‮ ‬أما العلاقة الثانية فقد كانت عندما كنا في‮ ‬القاهرة في‮ ‬ملتقى الرواية وكان‮ ‬يسأل عنك في‮ ‬كل لحظة،‮ ‬ليس تطفلاً‮ ‬ولكن اطمئناناً،‮ ‬وهذا ما‮ ‬غرس حبي‮ ‬الكبير لهذا الشاعر قبل أن أتعاطاه إبداعياً‮.‬

بالنسبة للإبداع فهذه الندوة هي‮ ‬ندوة احتفائية بتجربة علي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬جئنا لنتحاور فيما‮ ‬يمكن أن نتعاطاه من التجربة،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأن أسرة الأدباء أقرت بتكريمه،‮ ‬وهنا أتمنى من الوطن أن لا تكون هذه الندوة الوحيدة في‮ ‬الجانب الأدبي‮ ‬والنقدي،‮ ‬بل أن‮ ‬يكون هناك عديد من الندوات فهناك تجارب كثيرة في‮ ‬المملكة تستحق منا الوقوف عندها،‮ ‬وما نشر في‮ ‬الوطن اليوم عن المبدع عبدالله السعداوي‮ ‬كان أكبر دليل على الهم الإبداعي‮ ‬التي‮ ‬تتبناه صحيفة الوطن تجاه الواقع الثقافي‮. ‬

وأنا أشكر الأستاذ صابر على الورقة التي‮ ‬فتحت المجال للمناقشة في‮ ‬شعرية الشاعر علي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬فحينما نقول علي‮ ‬المبدع،‮ ‬تتبادر إلينا شخصية أحمد شوقي‮ ‬الذي‮ ‬كتب للأطفال وفي‮ ‬المسرح والشعر الفصيح،‮ ‬فالشرقاوي‮ ‬ظل متعدد المواهب والإبداعات،‮ ‬وتعدد التجارب عنده لم‮ ‬يأتِ‮ ‬لأنه أراد هذا التعدد،‮ ‬بل لأنه موجود لديه وتجربته الإبداعية تحفزه على الإبداع والتنوع‮.‬

الشرقاوي‮ ‬كتب العامي،‮ ‬الفصيح،‮ ‬المسرح وكتب للأطفال‮. ‬إنتاجه الغزير‮ ‬يجعل الآخرين‮ ‬يعرفونه كمبدع،‮ ‬لكن الشاعر لم‮ ‬يأخذ حقه في‮ ‬البحرين كشاعر أبداً،‮ ‬فلو لاحظنا الدراسات التي‮ ‬كتبت عن علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬لوجدناها قليلة جداً‮. ‬كثير من الدراسات الأكاديمية تتناول مجموعة من الكتاب ولكن قلما نجد كاتب بحريني‮ ‬له إبداعاته ونتاجاته‮ ‬يحظى بالدراسات الأكاديمية إلا القليل،‮ ‬حتى الدراسات البحثية،‮ ‬فلم توجد إلا دراسة عن تجربة واحدة أو قصيدة واحدة،‮ ‬ويبدو لي‮ ‬أنه كان هنالك سبباً‮ ‬لكتابتها،‮ ‬فعندما كان الدكتور علوي‮ ‬الهاشمي‮ ‬يحضر الدكتوراه طلب منه أن‮ ‬يقوم بدراسة قبل الموافقة فكتب دراسته هذه‮. ‬الدراسات عن علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬موجودة ضمن دراسات أخرى،‮ ‬وهذه مسؤولية النقاد داخل وخارج البحرين،‮ ‬ومسؤولية المؤسسات الثقافية داخل البحرين بمعنى أن‮ ‬يكون للمؤسسات الثقافية كأسرة الأدباء والكتاب،‮ ‬الملتقى الأهلي‮ ‬ومركز الشيخ إبراهيم،‮ ‬أجندة لدراسة الأدب البحريني،‮ ‬هل هناك أجندة لدى هذه المؤسسات لتقديم دراسة كاملة لكل تجربة تستحق الدراسة؟ هل تقوم الصحف أن تقوم بورش عمل لدراسة تجربة من التجارب البحرينية دراسة نقدية فاحصة؟

؟ كتابة تمزج بين جانب احتفائي‮ ‬وجانب نقدي‮ ‬صلد‮ ‬

‮- ‬البنكي‮: ‬بعد هذه المداخلات المهمة،‮ ‬كنت أحاول أن أقبض على محاور كي‮ ‬أعطي‮ ‬بقية المحاورة بعداً‮ ‬منصباً‮ ‬على مواضيع معينة،‮ ‬ولكن عذري‮ ‬أن الشرقاوي‮ ‬مترامي‮ ‬الأطراف فبالتالي‮ ‬أصابنا بالعدوى،‮ ‬أنا سأحاول أن أركز الموضوع في‮ ‬إطار كتاب الشين وبعض الظواهر الفنية المحيطة بكتاب الشين،‮ ‬وسأنطلق من اللفتة الجميلة للأخ فهد وهي‮ ‬أن المحاولة التي‮ ‬كتبها د.علوي‮ ‬عن الشرقاوي‮ ‬تكاد تكون الوحيدة،‮ ‬لا أريد أن أغفل عن شيء في‮ ‬هذه الدراسة،‮ ‬وبما أن هذه الدراسة كانت شكلاً‮ ‬من أشكال المران النقدي‮ ‬لباحث‮ ‬يقدم أطروحة الدكتوراه في‮ ‬بيئة تجهل الحركة الشعرية في‮ ‬البحرين وهناك نوع من المراهنة الضمنية بين الهيئة التعليمية في‮ ‬الجامعة بتونس،‮ ‬وبين علوي‮ ‬الباحث الذي‮ ‬أراد أن‮ ‬يتحدث عن أحقية هذه التجربة،‮ ‬وهي‮ ‬أن هذه الدراسة تستحق العناء أو لا تستحقه،‮ ‬أعتقد أن هذه المراهنة فرضت نفسها بشكل شعوري‮ ‬أو لا شعوري‮ ‬على ما كتب،‮ ‬كان علوي‮ ‬حسب اعتقادي‮ ‬يكتب من وحي‮ ‬أنه‮ ‬يريد أن‮ ‬يثبت لأساتذته أن تجربة البحرين تجربة قوية،‮ ‬تستحق الدخول في‮ ‬النقد الأدبي‮ ‬الأكاديمي‮ ‬من بوابة علي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬ينبغي‮ ‬ألا نغفل عن آثار هذه المراهنة في‮ ‬طريقة التعامل مع التجربة،‮ ‬أتذكر من المسائل التي‮ ‬طرحت في‮ ‬نقاش هذا الكتاب في‮ ‬تونس مسألة الدفاع عن الخطأ اللغوي‮ ‬في‮ ‬التجربة،‮ ‬وإلى الآن لم تحسم هذه القضية رغم النقاشات التي‮ ‬دارت حولها،‮ ‬وهذه لم توجد فقط في‮ ‬التعامل مع تجربة الشرقاوي‮ ‬بل في‮ ‬الصف الذي‮ ‬أتى قبل الشرقاوي‮ ‬في‮ ‬التجربة الأدبية في‮ ‬البحرين‮. ‬أخشى أن مثل هذه الكتابة مازجة بين الجانب الاحتفائي‮ ‬والجانب النقدي‮ ‬الصلد الذي‮ ‬لا تأخذه إلا ولا ذمة في‮ ‬مسألة النقد‮. ‬

؟ تجربة لها مشكلاتها على صعيد الإبداع‮ ‬

ظلت تجربة الشرقاوي‮ ‬بها ما‮ ‬يميزها الكثير،‮ ‬ولكن بقيت بها مشكلاتها على صعيد الإبداع،‮ ‬لا زلت أتذكر رأياً‮ ‬نقدياً‮ ‬تآمر علي‮ ‬في‮ ‬كل مرة أريد أن أقرأ بها تجربة الشرقاوي،‮ ‬وهذا الرأي‮ ‬جاء في‮ ‬ندوة أقيمت بأسرة الأدباء قبل سنوات وكان المتحدثون فيها سليمان العطار وصلاح فضل،‮ ‬ولا أتذكر من منهما طرح الرأي‮ ‬الذي‮ ‬سأقوله الآن ولكنه‮ ‬غدا شرفة لا أستطيع النظر إلى تجربة الشرقاوي‮ ‬إلا من خلال التأمل في‮ ‬هذه الكوة التي‮ ‬فتحت،‮ ‬أحد الناقدين قال بأن التجربة تعاني‮ ‬من خلل بنيوي‮ ‬في‮ ‬مسألة معمار القصيدة،‮ ‬فعلى مستوى الصور تواجهك صور متفلتة منداحة بشكل تقطع الأنفاس لاهثاً‮ ‬وأنت تلاحقها‮.‬

هذه المسألة،‮ ‬أعني‮ ‬مسألة الانشداه وراء الصورة وما تعطيه الصورة،‮ ‬وتوليد صورة من صورة،‮ ‬ورغم أن أحداً‮ ‬ربما لم‮ ‬يتوقف عند هذه النقطة التي‮ ‬طرحت تلك الليلة،‮ ‬لكن الشرقاوي‮ ‬بطريقته الخاصة وربما بشكل لا شعوري،‮ ‬توقف أمام هذه الفكرة،‮ ‬كيف أبني‮ ‬قصيدة تتميز بمعمار فيه إيقاع داخل القصيدة وهنا أنا لا أعني‮ ‬الإيقاع العروضي،‮ ‬أعتقد أن المرحلة التي‮ ‬ضمت كتاب الشين وربما مخطوطات‮ ‬غيث بن اليراعة وأوراق ابن الحوبة والمجموعة التي‮ ‬صدرت في‮ ‬هذه الفترة كانت تتصدر لهذه المشكلة،‮ ‬بشكل واعي‮ ‬أو‮ ‬غير واعي،‮ ‬هذه التجارب الثلاث دخلت على مشكلة الشرقاوي‮ ‬في‮ ‬الشكل باعتبار الشكل هو جزء من المعمار لديه،‮ ‬قد‮ ‬يكون الشرقاوي‮ ‬في‮ ‬تلك الفترة محاط بشكل من أشكال الاستبارات النقدية،‮ ‬التي‮ ‬كنا نشكلها كجيل شاب نجلس معه في‮ ‬البيت والمكتبة،‮ ‬فبدأت تطل أفكار نقاد كدريدا،‮ ‬ديلوس،‮ ‬فأعتقد أن الشرقاوي‮ ‬فتنته فكرة المركز والهامش وكانت بشكل من الأشكال محاولة لكي‮ ‬يلعب عليها لمحاولة تجاوز الشكل والبناء‮.‬

؟ استيقظ الشاعر مع مشكلة التعامل مع اللفظ

‮ ‬هناك مشكلة أخرى فمثلما استيقظ الشرقاوي‮ ‬على مشكلة التعامل مع الشكل تيقظ أيضاً‮ ‬على مشكلة التعامل مع المؤلف،‮ ‬فمثلما تلاحظون أن هذه التجارب الثلاث بدأت تدخل أشياء في‮ ‬العناوين تشي‮ ‬بتسلط فكرة المؤلف على الشرقاوي‮ ‬من ناحية،‮ ‬وبدأت تتداخل في‮ ‬طريقة نسبة الكتاب إلى قائلة كمبدع،‮ ‬فبدأت الفكرة تتحول إلى مخطوطات بما تعنيه من بعد طمس المؤلف وإعطائه نوع من القدم وتحويله لمجموعة من المؤلفين ثم تأتي‮ ‬من أوراق ابن الحوبة بما تحويه كلمة أوراق من دلالات وغموض،‮ ‬وحتى كتاب الشين،‮ ‬فكأنك تتكلم عن كتاب مقدس أو ما شابه،‮ ‬هذا من ناحية العنوان،‮ ‬أما من ناحية الكتابة فتجد في‮ ‬أوراق ابن الحوبة‮ ''‬جمعها وبوبها‮''‬،‮ ‬فهو‮ ‬ينسب له صفة تأليفية أخرى في‮ ‬طريقة التعامل مع النص،‮ ‬كما لو أن هنالك إقراراً‮ ‬ضمنياً‮ ‬إننا لا نكتب إلا ما‮ ‬يقوله الآخرون،‮ ‬وهذه كانت تأتي‮ ‬في‮ ‬الأجواء التي‮ ‬كانت تطرح في‮ ‬تلك الفترة،‮ ‬من فكرة المؤلف ودوره في‮ ‬تأليف الكتاب ومدى نسبة المكتوب لمؤلف واحد،‮ ‬حتى أتينا إلى كتاب الشين الذي‮ ‬قال فيه حققه،‮ ‬فحول العملية كما لو أنه حقق هذا الكتاب وأنا أحب أن أنظر إلى الكلمة بمعنيين‮: ‬المعنى الدارج القار المستقر للتحقيق،‮ ‬وهو أن‮ ‬يقوم الشخص باستلام أثر سابق ويتحقق من نسبته إلى مؤلفه وما‮ ‬يرد فيه،‮ ‬ويقف عند الكلمات من ناحية وأميل من ناحية أخرى أن أنظر إلى التحقيق بمعنى الإنجاز‮.‬

هل استطاعت حلول التحول من كتاب نريد فيه أن‮ ‬يكون له بناءه المعماري‮ ‬لنفحصه بأدوات أسلوبية أو بنيوية،‮ ‬هل تحقق القفز عليها عندما دخل على فكرة المتن والهامش وبدأ‮ ‬يلعب على فكرة الكتاب المنبث كما‮ ‬يسميه ديلوس الكتاب الجذمور،‮ ‬ليس له جذور ضاربة في‮ ‬الأرض أو ارتفاع في‮ ‬السماء بل له امتدادات أفقية،‮ ‬أو مثلما‮ ‬يطرحها دريدا أن المتن‮ ‬يدخل في‮ ‬الهامش وتلتبس العلاقات فيما بينهم،‮ ‬هل نجح الشرقاوي‮ ‬أن‮ ‬يلامس هذه الأدوات بشكل‮ ‬يعطينا في‮ ‬الساحة العربية إمكانات للحديث عن معمار آخر؟ وأنا لا أتكلم عن تجربة الشرقاوي‮ ‬فقط فالشرقاوي‮ ‬لديه انشغال مبالغ‮ ‬فيه باللغة والصورة وهذا ما اعتدى على المكونات الأخرى الجمالية،‮ ‬هل اقترح مقترح جمالي‮ ‬جديد،‮ ‬أنقذ تجربته من بعض المساءلات أو مهد الطريق للتجارب المغايرة لماذا لم‮ ‬يلتفت لمشكلة العلاقة بين المؤلف والكتاب كما حاول أن‮ ‬يطرحها الشرقاوي؟
أعتقد أن الوقت قد حان للسماع من الدكتور عبد الحميد المحادين

***

الشرقاوي‮ ‬المحب للحياة

‬سهير المهندي

يجلسُ‮ ‬هناك على كرسيهِ‮ ‬يتوسطُ‮ ‬غرفةِ‮ ‬الشباب بقلبهِ‮ ‬الشاب المليء بروحِ‮ ‬الحب والحياة،‮ ‬نمرُ‮ ‬عليه فنراه‮ ‬يتقدم بسلامٍ‮ ‬يدفعُ‮ ‬للحماسِ‮ ‬إلى الأمامِ‮ ‬وبتحيةٍ‮ ‬مليئةٍ‮ ‬بنشاط الصباح كانت في‮ ‬الظهِر أو في‮ ‬المساءِ،إنه الشرقاوي‮ ‬الذي‮ ‬لطالما رأيناه انتظرنا كلمته التي‮ ‬تبث فينا حب الحياة‮ ''‬هل أنتم بخير؟‮'' ‬فيأتيه الجواب ونحن الشباب في‮ ‬بعض الأحيان‮ ''‬إنه الملل والضجر من الحياة‮''.. ‬فينظر إلينا مبتسماً‮ ‬وهو‮ ‬يقول‮: ''‬إنها الحياة ابتسموا لها فأنتم مازلتم شباباً‮ ‬فنحن بخير وأنتم بخير‮'' ‬إنها مفتاح الشرقاوي‮ ‬للحياة ولإنعاش روح الشباب التي‮ ‬لا ترتبط في‮ ‬قاموسه بأرقام العمر وسنه‮.‬

الشاعر والكاتب علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬الرجل الذي‮ ‬عرفته في‮ ‬سنٍ‮ ‬صغيرة حيث كان أول لقاء لي‮ ‬معه في‮ ‬جمعيةِ‮ ‬الملتقى الثقافي‮.. ‬التقيته فابتسم لي‮ ‬بابتسامة عبرت لي‮ ‬الكثير من المعاني،‮ ‬ابتسامة فيها روح الوطن تحمل معاني‮ ‬الحياة‮... ‬فاقتربت منه لأقتني‮ ‬كتاباً‮ ‬لشاعر عماني‮ ‬فأهداني‮ ‬إياه بكل حب على أن أقرأه واسترجعه فيما بعد وكأنه‮ ‬يؤكد لي‮ ‬ضرورة القراءة واللقاء‮.‬

ولحرصي‮ ‬وحبي‮ ‬على قراءة الشعر في‮ ‬تلك اللحظة ولعدم حصولي‮ ‬على فرصة اللقاء بوالدي‮ ‬الشاعر علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬احتفظت بهذا الكتاب الذي‮ ‬فرحت به لأني‮ ‬حصلت عليه من‮ ‬يد شاعر كنت أسعد بلقائه من خلال كلمات شعره وبه‮.‬

وبعد أن مرت الأيام التقيت بهذا الرجل في‮ ‬الكثير من الملتقيات الثقافية التي‮ ‬كان‮ ‬يهديني‮ ‬فيها سلاماً‮ ‬مبتسماً‮ ‬به من اللوم الخفيف البعيد عن التأنيب كأنه‮ ‬يقول لي‮ ‬هذه الحياة علينا ألا نلتفت إلى صغارها وعلينا أن نقتني‮ ‬منها بقدر ما نستطيع لنستفيد من كنزها‮.‬
الشرقاوي‮ ‬وبعد كل اللقاءات العابرة معه كانت المفاجأة بأنه هو أول المستضيفين لي‮ ‬عندما دخلت أبواب الوطن قبل النشر في‮ ‬مبناها القديم بمنطقة سند إذ التقاني‮ ‬وهو‮ ‬يقول مبتسماً‮ ‬يشغله نشاط‮ ‬يحمل الكثير من العمل‮: ‬إن شاء الله ستكونين معنا‮'' ‬وهم بعدها بمساعدتي‮ ‬للقاء الإدارة وحينما تأملته وجدته كالفراشة في‮ ‬وسط المكان شاعر وكاتب وخفيف الظل في‮ ‬زوايا الوطن‮ ‬يبتسم ويتلاطف لكل مَن كان في‮ ‬المكان حينها كان هو الشعور بالأمل‮ ‬غير البعيد بأني‮ ‬سأكون من أسرة الوطن في‮ ‬ظل وجود رجل مثقف وشاعر نشيط بروحه وبكلماته التي‮ ‬يحرص على أن تكون متنفساً‮ ‬للوطن،‮ ‬وبالفعل وبعد قليل من الأيام أصبحنا زملاء عمل،‮ ‬فأصبحت أرى هذا الرجل الذي‮ ‬يتوسطنا نحن الشباب وكأنه الأكسجين في‮ ‬المكان‮ ‬ينتقل من حين إلى آخر‮ ‬يتفقدنا ليرى من انتابه الملل حتى‮ ‬يبث ويبعث فينا الأمل بكلمات حلوة وخفيفة تأتي‮ ‬بمداعبة لطيفة منه‮ ‬يختمها بابتسامة خاطفة لمواصلة العمل لينتقل بعدها إلى مكان آخر حتى‮ ‬يصل إلى مقعده ويواصل عمله بهمة ونشاط‮ ‬يدفعه كوب القهوة المنزلية الذي‮ ‬لا‮ ‬يكاد أن‮ ‬ينتهي‮ ‬من شربه إلا بانتهاء ما جاء في‮ ‬خاطرة من إبداع‮ ‬يكتبه بعيداً‮ ‬عن القلم الذي‮ ‬اعتاده‮ ‬مستخدماً‮ ‬الجهاز الآلي‮ ‬ليؤكد بألا فرق بينه وبين الشباب وأن روحه رغم اختلاف العمر إلا أنه مثلهم في‮ ‬العلم والتعلم والعطاء وربما كان أفضل بكثير بالحركة والنشاط‮ ‬لامتلاكه سر مفتاح الحب في‮ ‬الحياة هذا هو الشرقاوي‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يقبل هماً‮ ‬في‮ ‬الحياة ولا حرفاً‮ ‬من كلمة لها‮.

***

فـي‮ ‬بيت الطاقـة

أميرة السبيعي

رغم اختلاف الظروف والأوقات بالنسبة لدوام الصحفيين ترى مصباح ذاك المكتب الذي‮ ‬يتوسط‮ ''‬الوطن‮'' ‬مضاءً‮ ‬منذ الصباح الباكر وحتى آخر ساعات المساء،‮ ‬في‮ ‬معظم الصباحات التي‮ ‬مرت عليّ‮ ‬منذ أن عملت فيها منذ أواخر‮ ‬‭.‬2005‮ ‬فذاك المكتب الذي‮ ‬يتوسط المبنى حالياً‮.. ‬كان ولايزال‮ ‬يحتل قلب الوطن وقلب كل وطني‮ ‬حقيقي‮ ‬منذ ذاك العام إلى هذا اليوم‮! ‬ولا داعي‮ ‬للاستغراب‮.. ‬فأبوابه مفتوحة على مدار الأيام للجميع دون استثناء،‮ ‬من داخل الصحيفة وحتى من خارجها‮! ‬

وأهلاً‮ ‬بكم أنتم أيضاً‮ ‬في‮ ''‬بيت الطاقة‮''.. ‬نعم بيتنا الصغير هو بيتٌ‮ ‬للطاقة‮.. ‬طاقة الحب‮.. ‬طاقة التسامح‮.. ‬طاقة الفرح‮.. ‬وبالتأكيد طاقة العمل‮! ‬فهذا المكتب‮ ‬يعج بالفرح،‮ ‬شديد المرح،‮ ‬يستحي‮ ‬الحزن المكوث فيه طويلاً،‮ ‬ينتحر الجرح بعد الاستقرار فيه مدة دقائق‮..! ‬والسبب هو ملك الطاقة‮.. ‬والدنا العزيز‮ ''‬بوفي‮'' ‬علي‮ ‬الشرقاوي‮.. ‬المدرسة التي‮ ‬تنبع فصولها مودة وعطفاً‮ ‬وحناناً‮ ‬وإيجابية‮.. ''‬بوفي‮'' ‬الذي‮ ‬تتعالى الضحكات بمجرد أن تجالسه لساعة أو حتى لدقائق‮. ''‬بوفي‮'' ‬المكتبة المتنقلة التي‮ ‬تتراقص حروفها شوقاً‮ ‬للحياة،‮ ‬وسعياً‮ ‬إلى بث التسامح في‮ ‬دروب البشر‮. ‬

هو ذاك الإنسان الذي‮ ‬لم أحلم قط الالتقاء بمثله،‮ ‬فهو نادر لا‮ ‬يحمل في‮ ‬داخله ضغينة لأي‮ ‬أحد،‮ ‬متسامح لأبعد الحدود،‮ ‬ينثر في‮ ‬المكان أريجاً‮ ‬هادئاً‮ ‬أعطر من عبق الورود‮.. ‬

الآن أرى حروفي‮ ‬تتراجع إلى الخلف خجلاً‮ ‬من أن تقصر معه‮.. ‬فلا توفيه قدره،‮ ‬أو لا تتناسب مع منزلته الرفيعة‮.. ''‬بوفي‮'' ‬ملك بيت الطاقة وشعلتها التي‮ ‬لا تنطفئ حتى في‮ ‬إجازاته الرسمية،‮ ‬فكثيراً‮ ‬ما‮ ‬يتملكني‮ ‬الضيق عندما‮ ‬يُعلمني‮ ‬أنه راحلٌ‮ ‬في‮ ‬إجازة،‮ ‬لكنه‮ ‬يباغت حزني‮ ‬بابتسامة واسعة وقطعة كاكاو،‮ ‬وهو‮ ‬يدخل عليّ‮ ‬في‮ ‬كل‮ ‬يوم من إجازته،‮ ‬فهو الوحيد الذي‮ ‬طالما شاطرني‮ ‬أوقات دوامي‮ ‬الصباحي‮.. ‬صرت انتظر عودته من أسفاره الشعرية بشوق حراق،‮ ‬كالطفلة التي‮ ‬لا تعي‮ ‬من عودة والدها إلا هداياه المغلفة،‮ ‬وعلب حلواه الشهية‮!.‬
‮''‬بوفي‮'' ‬طاقة إيجابية محاطة بخيوط من نور وتفاؤل أنارت حياتي‮ ‬بابتسامات عميقة منذ أن التقت بها أيامي‮. ‬لا‮ ‬يجلس هادئاً‮ ‬على مكتبه؛ فهو‮ ‬يشاغبني‮ ‬رغم انشغالاته الكثيرة بالكتابة‮.. ‬إما بالاستماع إلى قصيدة جديدة أو بطباعة‮ ''‬بيادر‮'' ‬أو إندياحات‮''.. ‬فصرت اسمي‮ ‬نفسي‮ ''‬سكرتيرة بوفي‮'' ‬مُغترةً‮ ‬بهذا المنصب‮! ‬غير متنازلة عنه لأيٍ‮ ‬كان‮!. ‬

لا‮ ‬يرتاح إلا إذا‮ ‬غادرت‮ ‬كل ذرات الكدر أبوابنا،‮ ‬فصار مكتبنا‮ ''‬بيت الطاقة‮'' ‬مقصد الجميع لتفريغ‮ ‬ما‮ ‬يعتريهم من حزن أو‮ ‬غضب أو تعب طارئ،‮ ‬يتوافدون الواحد تلو الآخر لتتتالى الفضفضات التي‮ ‬اختلطت دموعها ببعض الضحكات‮! ‬فقد علّمنا أن الضيق ما هو إلا ساعات تنقضي،‮ ‬وأن المشكلات لا تستحق كل عناء التفكير،‮ ‬فقدرتنا على استنشاق الهواء هي‮ ‬نعمة‮ ‬يجب ألا‮ ‬يصرفنا عن الاستمتاع بها أي‮ ‬هم‮. ‬علمني‮ ‬هذا الإنسان الرائع أن المشكلة كالجرح؛ كلما ضغطنا عليه التهب وصعب علاجه،‮ ‬وكلما عالجناه برفق صار أسرع تماثلاً‮ ‬للشفاء،‮ ‬دون أن‮ ‬يترك ندوباً‮ ‬كريهة‮. ‬

يملؤني‮ ‬حماسة الشاب شغفاً‮ ‬لعيش الحياة،‮ ‬إلى الكتابة،‮ ‬لكن ليست أية كتابة‮! ‬يُهديني‮ ‬في‮ ‬بيت الطاقة كل‮ ‬يوم معلومة،‮ ‬خبرة،‮ ‬ابتسامة،‮ ‬تسبيحة،‮ ‬كتاب،‮ ‬وقطعة حلوى‮..! ‬

***

فـي‮ »‬الشرقاوي‮« ‬لا حاجة لعملية السلام في‮ ‬الشرق الأوسط

زينب عبدالأمير

أتسلل بهوادة على طول الممر المؤدي‮ ‬إلى قسم الشباب،‮ ‬أقف قبالة باب مكتبه مطلة بوجهي‮ ‬من الفتحة التي‮ ‬أهمل إغلاقها،‮ ‬فيفاجئني‮ (‬هلااااااا ابووووي‮) ‬فصوت طقطقة حذائي‮ ‬يجرني‮ ‬بخيبة آمال دائمة بأن أفاجئه ولو لمرة بقدومي‮ ‬من حيث لا‮ ‬يدري‮.‬
‮(‬حياااااج آمري‮ ‬تدللي‮.. ‬شخبارج؟ أمريني‮) ‬جميعها الكلمات تأتي‮ ‬بلهجة محرقية دافئة ممدودة تشعر معها بأن قاموس الكلمات لدى الشرقاوي‮ ‬أكبر من أي‮ ‬قاموس لغوي‮ ‬آخر‮.‬
أسأله عن الصوفية،‮ ‬عن الاشتراكية والعلمانية،‮ ‬وعن معتنقات فكرية‮ ‬يفتش لها عقلي‮ ‬عن مغزى‮.‬

لا‮ ‬يهم إن كان منغمساً‮ ‬في‮ ‬كتابة مقال،‮ ‬أو مختفياً‮ ‬وراء أكوام من الكتب القديمة المثخنة بالمعلومات،‮ ‬فقد كان‮ ‬يعتبر الإجابة على أسئلتي‮ ‬مهمة‮ ‬يجب أن تتم‮.‬

أحياناً‮ ‬يكون طاغور وتشارلز ديكنز وربما‮ ‬يكون‮ ‬غاندي،‮ ‬ويفاجئني‮ ‬بإطلاله ميشيل فوكو وأخيراً‮ ‬بالتأكيد هو علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬لا‮ ‬غير‮. ‬

حينما‮ ‬يتحدث هذا الأخير أشعر بعدم الحاجة لعملية السلام في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬فهو‮ (‬سيد‮) ‬من‮ ‬يعشم الجالسين،‮ ‬يجعل‮ (‬الدنيا ربيع والجو بديع ويكنسل على كل المواضيع‮).‬
أتساءل ما إذا كان الشرقاوي‮ ‬في‮ ‬وصفه للحياة‮ ‬يكذب كم أود أن أقول له‮ ''‬ليست جميلة هي‮ ‬الحياة‮ ‬يا عزيزي‮ ‬فكلها تعب وشقاء‮'' ‬لكنني‮ ‬أقف أمام ستيني‮ ‬حكيم تطرز أنامله عالم مشرق‮ ‬ينبض بأولى صفحات الوطن‮ ‬يستلني‮ ‬كل صباح للخوض في‮ ‬وحول عالم أفلاطوني‮ ‬بحت،‮ ‬وبعدها بساعات أفيق على وقع اصطدام سفينتي‮ ‬بجبال من الجليد توقظني‮ ‬من أحلام كان‮ ‬يوزعها الشرقاوي‮ ‬علينا نحن النائمون‮''.‬

تورط معي‮ ‬ذات‮ ‬يوم فسألني‮: (‬مَن قال لك بأنني‮ ‬متصوف؟‮). ‬
أجيبه بحذلقة صحفية‮: (‬الصحافي‮ ‬الشاطر لا‮ ‬يكشف عن مصادره أنت متصوف،‮ ‬هل لي‮ ‬أن أعرف ما‮ ‬يعني‮ ‬أن تكون صوفياً؟‮).‬
يضع‮ ‬يده على جبينه ممسكاً‮ ‬ببعض شعيراته المخضبة بالشيب والتي‮ ‬تضفي‮ ‬على وجهه وسامة لا تكون من نصيب ستينيي‮ ‬العمر عادة‮.‬
يبدأ في‮ ‬سبر أغوار الصوفية مضيفاً‮ ‬لرصيدي‮ ‬تساؤلات أعمق وحباً‮ ‬في‮ ‬معرفة المزيد‮.‬
‮(‬لمزيد من المعلومات زوريني‮ ‬في‮ ‬مكتبتي‮ ‬الواقعة بتوبلي‮).‬
؟ حرري‮ ‬المشاعر السلبية من قلبك
في‮ ‬يوم آخر،‮ ‬كعادتي‮ ‬أتوجه لقسم الشباب لا‮ ‬يعطيني‮ ‬القدر فرصة لأن أطل بوجهي‮ ‬من فتحة الباب هذه المرة،‮ ‬إذ حالما‮ ‬يسمع‮ (‬طقطقات‮) ‬حذائي‮ ‬يناديني‮ ‬من بعيد‮ (‬ابووووي‮ ‬زينب تعالي‮ ‬اشوي‮..).‬
يسألني‮ ‬عن الأحوال وعن خططي‮ ‬الصحافية ويحقنني‮ ‬بجرعات من التفاؤل‮.‬
‮(‬تستطيعين بابتسامة أن تقلبي‮ ‬العالم لصالحك،‮ ‬حرري‮ ‬المشاعر السلبية من قلبك،‮ ‬كل‮ ‬يوم من عمرك لن‮ ‬يعود فاحرصي‮ ‬على أن تتركيه‮ ‬يحمل ذكريات مفرحة‮).‬
يا له من عالم جميل‮.. ‬وما أن أغادر مكتبه حتى‮ ‬يدوسني‮ ‬الهم كما‮ ‬يدوس القطار سكة الحديد فتزورني‮ ‬المتاعب اليومية وكأنني‮ ‬محطة لابد منها و(لا عالم جميل ولا هم‮ ‬يفرحون‮).‬
فيقول الشرقاوي‮ (‬عديها،‮ ‬وهونيها وانسيها‮).‬

‮- ‬لا ما تعدي‮ ‬يالشرقاوي‮ ‬ولا بسهولة تهون شفت أشلون الحياة مستقصدتني؟

؟ للشاي‮ ‬طعم الذكريات‮ ‬

أحد الأسباب التي‮ ‬دفعتني‮ ‬لزيارة مكتبته القابعة في‮ ‬إحدى البنايات المتهالكة بتوبلي‮ ‬هو شغفي‮ ‬لمعرفة سر شاي‮ ‬الشرقاوي‮.‬
‮(‬ما أدري‮ ‬شنو‮ ‬يحط فيه هالشاي،‮ ‬يخلي‮ ‬الواحد‮ ‬يدمن عليه‮) ‬شهادة من الأستاذ محمد البنكي‮ ‬في‮ ‬وصفه لشاي‮ ‬الشرقاوي‮.‬
عقدت العزم لزيارة مكتبته بعد دعوة صريحة ليعطيني‮ ‬مجموعة من الكتب علّها تشفي‮ ‬غليل التساؤلات التي‮ ‬تصّدع رأسي‮ ‬إثر عملية تحول إجابات الشرقاوي‮ ‬إلى أسئلة متكاثرة‮.‬
لم أكن لأتصور بأن هذه البناية المتهالكة الأشبه ببنايات‮ (‬الآيلة‮)‬،‮ ‬تضم مكتبة بهذه الضخامة‮.‬
أرفف متوازية مليئة بالكتب والقواميس والموسوعات والغبار والأتربة تبدو منافساً‮ ‬قوياً‮ ‬للمكتبة العامة‮.‬
‮(‬هنا وكري،‮ ‬حيث أجلس لأؤلف القصائد‮.. ‬تحبين تشربين شيء؟‮) ‬يسألني‮ ‬الشرقاوي‮.‬
الإجابة في‮ ‬الحالة الطبيعية ستكون‮ (‬لا شكراً‮ ‬لا تتعب حالك‮).‬
لكنها بالطبع لم تكن إجابتي،‮ ‬فأنا بانتظار هذا السؤال‮ (‬أبي‮ ‬الشاي‮ ‬اللي‮ ‬يقولون عنه‮). ‬
يسكب الشاي‮ ‬الأحمر في‮ ‬كأس كبير بكرمِ‮ ‬لم تعهده تقاليد العرب،‮ ‬فتعبق مكتبته برائحة الزعفران وأخشاب الدارسين‮.‬
ارتشفه ببطء محاولة تذوق كل نكهة‮ ‬يضمها هذا الشاي‮ ‬العابق،‮ ‬ويؤسفني‮ ‬جداً‮ ‬أن أكون أول مَن عرف سر الخلطة،‮ ‬فكاشفته بها،‮ ‬ابتسم ولم‮ ‬يجب‮.‬
؟ رنة الشرقاوي‮ ‬
‮(‬إذاً‮ ‬هو من كتب‮ (‬جمال الكون‮) ‬للفنان علي‮ ‬بحر وهو من كتب‮ (‬المحبة طيور‮) ‬لخالد الشيخ ؟ لا أصدق نفسي‮ ‬بأنني‮ ‬في‮ ‬حضرة المبدع علي‮ ‬الشرقاوي‮).‬
أفقت من وسوسة أحاديث النفس على وقع رنة موبايل علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬التي‮ ‬جاءت لتناسب أجواء مقاهي‮ ‬خان الخليلي‮ ‬الحزينة‮.‬
كانت كلمة‮ (‬لسة الدنيا بخير‮) ‬على طرف لساني‮ ‬لولا أنني‮ ‬أعرف بأنه‮ ‬ينبوع من التفاؤل الذي‮ ‬لا‮ ‬ينضب‮.‬
يكاد هذا التناقض الغريب‮ (‬يجنني‮) ‬كيف‮ ‬يكون علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬صاحب هذه الرنة الحزينة؟‮!! ‬
‮ ‬
؟ ملابس علي‮ ‬الشرقاوي
من‮ ‬غيره‮ ‬يرتدي‮ ‬تي‮ ‬شيرت رياضي‮ ‬وعليه جاكيت البدلة؟ من‮ ‬غير الشرقاوي‮ ‬يبتكر ملابس‮ (‬لا تخطر على بال أحد)؟ انظر الصورة لتحكم،‮ ‬الأنيق كيفما لبس،‮ ‬الوسيم مهما فعل،‮ (‬رياضي‮ ‬شايب‮) ‬يرتدي‮ ‬حذاء أديداس وجاكيت بدلة رجال الأعمال وتي‮ ‬شيرت البرازيل‮! ‬

***

إلى علي‮ ‬الشرقاوي

وليد القاسمي

صاحب رؤية جميلة في‮ ‬شعره ومسرحه وقصته‮. ‬أحبّ‮ ‬العيش في‮ ‬لحظاته حتى عشق الدنيا والكون‮. ‬دائم الفخر بلغته العربية الفصيحة،‮ ‬إلا أن عشقه لناسه وأحبته جره للعامية وترنم فيها فغدى شعره متوجاً‮ ‬فيها بلا منازع‮. ‬أبدع في‮ ‬فنون لم‮ ‬يعرف الناس معنى لها،‮ ‬فحار النقاد فيها‮. ‬ولا‮ ‬يكاد‮ ‬يُؤسس لمحطة ثقافية أو شعرية أو‮ ‬غنائية إلا والشرقاوي‮ ‬حاضر فيها،‮ ‬وإلا كيف‮ ‬يُكتب لها النجاح؟
إن وقف على المنصة تراه‮ ‬يسبح في‮ ‬عالم آخر لم‮ ‬يعرفه إلا الشرقاوي‮. ‬وإن دنى منك خطوة ارتاح قلبك وتبسمت شفتاك ابتهاجاً‮ ‬بما سيقوله لك الشرقاوي‮. ‬هذا هو الشرقاوي‮ ‬الذي‮ ‬عرفته خلال سنين عمري‮ ‬القصار في‮ ‬الوطن‮. ‬ولو كنت أعرفه من قبل لكتبت عنه قصة طويلة،‮ ‬ولطلبت منه أن‮ ‬يدعمني‮ ‬في‮ ‬طباعتها ونشرها‮.‬
تحية تقدير مني‮ ‬إلى الشرقاوي‮ ‬الذي‮ ‬جلست قربه،‮ ‬وشربت من مائه،‮ ‬وتحادثت من فكره‮. ‬إن الشرقاوي‮ ‬أصبح اليوم جزءاً‮ ‬من حاضرنا وماضينا،‮ ‬فهو أصيل في‮ ‬ماضي‮ ‬تراثنا الوطني،‮ ‬ومتجدد في‮ ‬فكره‮. ‬وليس‮ ‬غريباً‮ ‬إن قيل محال أن‮ ‬يولد شرقاوي‮ ‬آخر في‮ ‬عصرنا الحاضر‮. ‬فالدنيا لا تعرف إلا شرقاوي‮ ‬أصيل هو علي‮ ‬الشرقاوي‮.‬

***

الشرقاوي‮.. ‬الشاعر المحبوب

جعفر الديري

هناك دائماً‮ ‬شيء عصي‮ ‬على التعبير،‮ ‬شيء‮ ‬يتركك في‮ ‬فجاج من الأرض تمرح فيها لوحدك،‮ ‬وتتأمل صنع مبدعها،‮ ‬وتحسّس كيف أن الكلمات،‮ ‬أكبر من أي‮ ‬صورة تراها العين وتلمسها الحواس‮. ‬
والشرقاوي،‮ ‬أحد هؤلاء الذين‮ ‬يعرفون كيف‮ ‬يبنون عوالمهم بخيوط من نور،‮ ‬في‮ ‬أمكنة لا‮ ‬يدخلها أي‮ ‬فرد إلا بعد استئذان‮. ‬
في‮ ''‬الوطن‮'' ‬تعرفت على هذا الشاعر عن قرب،‮ ‬ولمست طيبته وإنسانيته في‮ ‬التعامل،‮ ‬وقد جدّد في‮ ‬نفسي‮ ‬سؤالاً،‮ ‬عن المبدعين ونظرتهم للحياة والناس،‮ ‬فقد صادفنا أشخاصاً‮ ‬مبدعين لكنهم‮ ‬غير متواضعين،‮ ‬مبدعين لكن‮ ‬غير اجتماعيين،‮ ‬مبدعين لكنهم‮ ‬يشعرونك دائماً‮ ‬أنك لا تطاول سقف أنوفهم‮. ‬
لكنني‮ ‬وجدت هذا الشاعر مختلفاً‮ ‬متسامحاً،‮ ‬فقد جدّد في‮ ‬نفسي‮ ‬الإحساس بوجود الشاعر المحبوب،‮ ‬وهي‮ ‬صفة طالما افتقدناها في‮ ‬المبدع،‮ ‬فهناك من المبدعين من‮ ‬يكون محترماً‮ ‬لكن ليس بالضرورة أن‮ ‬يكون محبوباً،‮ ‬لكن الشرقاوي‮ ‬كسر هذا التابو فكان محترماً‮ ‬ومحبوباً،‮ ‬إن الجميع‮ ‬يبشّون له ويهشّون،‮ ‬فأية سعادة‮ ‬يعيشها هذا الشاعر،‮ ‬فهو إن جلس مع المثقفين والمبدعين كان محترماً‮ ‬بينهم،‮ ‬وإن دخل في‮ ‬مجلس‮ ‬يؤمه عامة الناس وجد الحب بينهم‮. ‬
ولنتصور حال مبدعين‮ ‬يدخلان مكاناً‮ ‬عاما،‮ ‬فيه من الناس أجناس وأشكال،‮ ‬من شيخ كبير في‮ ‬السن إلى شاب إلى طفل أو طفلة،‮ ‬يستقبل المبدعون أحد المبدعين بالسلام في‮ ‬وقار،‮ ‬ليقف معهم كأحد المبدعين،‮ ‬بينما المبدع الآخر وحالما‮ ‬يدخل المكان‮ ‬يهش له الجميع‮ ‬‭-‬‮ ‬الجميع بلا استثناء‮ ‬‭-‬‮ ‬وقد‮ ‬يتعلق به طفل وتبتسم له فتاة جميلة ويضع كهلاً‮ ‬كفه على كتفه‮. ‬
فيالها من سعادة حققها الشرقاوي،‮ ‬وهل سعادة للشاعر أكبر من أن‮ ‬يحبه الجميع ويودون لقائه‮. ‬
لكنني‮ ‬أعتقد بأن الشرقاوي،‮ ‬بعد أن تمكن منه هذا الحب،‮ ‬جعله‮ ‬يتنازل كثيراً،‮ - ‬ولا عجب في‮ ‬ذلك،‮ ‬فأنت تدفع عمرك ولحظات حياتك في‮ ‬سبيل رضا إنسان تحبه،‮ ‬فكيف بهذا السيل العارم من محبة الناس؟‮ ‬
جنى هذا الحب على الشاعر حينما جعله‮ ‬ينزل بالكثير من شعره لمستوى الناس العاديين،‮ ‬فأصبح هناك تفاوت كبير بين نصوص هي‮ ‬في‮ ‬القمة من نتاج الشعر البحريني،‮ ‬ونصوص أثارت نقمة النقاد وجعلتهم‮ ‬يلقون عليه باللائمة لأنه‮ ‬‭-‬‮ ‬في‮ ‬نظرهم‮ ‬يسيء أشد الإساءة لنتاجه الشعري‮ ‬كأحد أبرز شعراء الحداثة في‮ ‬الوقت الحاضر في‮ ‬البحرين‮. ‬
لكن ليس لنا أن نفرض على هذا الشاعر شيئاً‮ ‬فهو حر كبقية الناس،‮ ‬يفعل ما‮ ‬يشاء ويقول ما‮ ‬يشاء،‮ ‬وحسبه أنه نجح في‮ ‬تحقيق وجود إبداعي‮ ‬كبير،‮ ‬وحضور استثنائي‮ ‬في‮ ‬قلوب الجميع‮. ‬

***

اللسانيات الاجتماعية والنقد الثقافي

كتب (ت)

‮ ‬عندما‮ ‬يغازل الشاعر المكان فهذا أمر ليس بغريب عن سُنّة القول الشعري‮ ‬العربي‮ ‬الذي‮ ‬بدأ بالوقوف على الأطلال،‮ ‬واختتم برثاء البلدان وبكاء الأوطان‮.‬
وعندما تتحول القصيدة موطناً‮ ‬لولادة عشق المكان،‮ ‬فهذا أمر تتحول فيه التعبيرة الشعرية من إفاضة في‮ ‬التعلق بالمكان عبر استدعائه من الخارج إلى الداخل،‮ ‬إلى زرع للمكان في‮ ‬ذات كائن في‮ ‬صلبه،‮ ‬بحيث تخالط حشاشته وتغامر في‮ ‬طوايا نفسه الهائمة‮.‬
‮ ‬انتابني‮ ‬هذا الشعور بانغراس المكان في‮ ‬نفس الشاعر عندما قرأت على صفحات الكنش‮ (‬العدد820‮ ‬الصادر في‮ ‬9مارس‮ ‬2008‮) ‬قصيدة‮ ''‬قرطاج‮'' ‬الرائعة التي‮ ‬كتبها علي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬وأرجّح أن‮ ‬يكون ذلك،‮ ‬من وحي‮ ‬زيارة عمل وسياحة لتونس أدّاها لها الشاعر منذ بضعة أشهر‮.‬
؟ دلالات التضايف
‮ ‬مضاف إليه ومضاف متواتران في‮ ‬أسلوب الشرقاوي‮ ‬بغزارة،‮ ‬ولا‮ ‬يقتصر الأمر على قصيدته هذه فحسب،‮ ‬مما‮ ‬يحتاج إلى دراسة مستقلة،‮ ‬حول الخصائص الأسلوبية في‮ ‬شعر الشرقاوي،‮ ‬ولكن نكتفي‮ ‬في‮ ‬هذا السياق برصد دلالة التضايف حيث تحوّلت من دلالته النحوية؛ إذ‮ ‬يقول ابن جنّي‮ ‬معللاً‮ ‬أسلوب الإضافة‮: ''‬لأنّ‮ ‬الغرض في‮ ‬الإضافة إنما هو التعريف والتخصيص‮''‬،‮ ‬أمّا الإضافة عند الشرقاوي،‮ ‬وقد تواترت تواتراً‮ ‬كبيراً،‮ ‬فهي‮ ‬تعبّر‮ ‬‭-‬‮ ‬في‮ ‬تقديري‮ ‬‭-‬‮ ‬عن معنى التضايف،‮ ‬أي‮ ‬تبادل الضيافة،‮ ‬فهو‮ ‬يقيم ضيفاً‮ ‬على المكان،‮ ‬ويُحلُّ‮ ‬المكان في‮ ‬قلبه،‮ ‬فيصبح الشاعر مستضيفاً‮ ‬للمكان‮: ‬انقلاب للأدوار وتبادل لها في‮ ‬آن‮.‬
تتخذ القصيدة في‮ ‬بدايتها واستهلالها أسلوب التمييز‮ ''‬قرطٌ‮ ‬من حجرٍ‮''‬،‮ ‬حيث البدايات بالحليّ‮ ‬تذكرنا بقصيدة‮ ''‬القرط الطويل‮'' ‬لنزار قباني،‮ ‬ولكن كونها من حجر تدفع القارئ إلى تبيّن الحليّ‮ ‬الإفريقي‮ ‬الساذج‮ (‬بمعنى أنه لم تمسّه أيدي‮ ‬الصناعة،‮ ‬ولا تنميقات الصاغة‮). ‬

ويتكاثف الوصف التجسيدي‮:‬
‮ ''‬مشاعر زلزال عاشر أغنية في‮ ‬رحلتها الأحلى
وسقاها ريحانا لغبطة،‮ ‬في‮ ‬كأس‮ ‬يشبه تفاح النقطة،‮ ‬
يمشي‮ ‬جذلان نحو فضاء الجدول
قرط من جمر فوسفاتي‮ ‬البسمة
ي
ت
د
ل
ى
من أوّل زهر في‮ ‬شفق الكلمة
حتى لغة الخلق الأول
قرط
م
م
ت
ل
ئ
بعصافير القر
يدوزن أغصان القول الراكضة الآن على صدر الزلزال
كجوقة حلم‮ ‬يفتل نور اللحظة
نحو ربيع الزيتونة،‮ ‬يركض محتقنا برضاب الضوء الصاعد
من صهد النخلة،‮ ‬يحنو لأغاريد الذروة في‮ ‬ماء لا‮ ‬يشبه‮ ‬غير فحولته،‮ ‬
يحمل رعشة أرض تدخل نهر أنوثتها برياحين الذئبة في‮ ‬الوادي
وتصب هواها بين صباحين‮ ‬يهزان جذوع المستقبل
من منكم شاهد قرطا‮ ‬يجلس في‮ ‬قامته
كالريح على الريح
يمسّف خارطة الكون الحامل فجرا
يشبه عين الجالس في‮ ‬فنجال المقهى؟‮''‬

وتستمرّ‮ ‬السنفونية في‮ ‬إيقاعات متقاربة ومتقابلة رتيبة ومتصاعدة ومتسافلة‮... ''‬يموسقها‮'' (‬نسبة إلى الموسيقى‮) ‬و‮''‬يمسّفها‮'' (‬نسبة إلى المسافة‮) ‬الشاعر على هواه‮. ‬متهاطلة من‮ ''‬أبي‮ ‬فيء‮'' (‬وهذه كنية الشاعر‮) ‬في‮ ‬لطف أليف واندفاقات متتابعة‮.‬

يستغلّ‮ ‬الشرقاوي‮ ‬‭-‬‮ ‬وهو عدوّ‮ ‬البلاغة التقليدية،‮ ‬ويا للمفارقة‮ ! ‬‭- ‬‮ ‬الجناس بين قرطاج وقرط،‮ ‬فيستدعي‮ ‬أداة الزينة وهو‮ ‬يصف جمال المكان،‮ ‬فتصبح قطعة الحليّ‮ ‬ملتبسة بجسد المكان‮.‬

المواد التشكيلية للصورة

‮ ‬ولكن ألا‮ ‬يحق لنا أن نتساءل كيف تتولد التشكيلة الخيالية في‮ ‬هذه القصيدة؟
يبدو الإيقاع متجهاً‮ ‬من البرودة‮ (‬قرط من حجر‮) ‬إلى الحرارة‮ (‬قرط من جمر‮)‬،‮ ‬ثم‮ ‬يصبح القرط موضوعاً‮ ‬يتم تشبيهه بعدد من المشبّهات بها‮: (‬كجوقة حلم‮ ‬يفتل نور اللحظة‮) ‬و(كالريح على الريح‮) ‬و(مثل‮ ‬غزالات‮ ‬يغرين الحربة‮)... ‬تتنوع المصادر التشبيهية بين عناصر بشرية‮ (‬جوقة‮) ‬وبين عناصر طبيعية جامدة‮ (‬الريح‮) ‬وعناصر طبيعية حيوانية‮ (‬غزالات‮).‬
تنقلات‮ ‬غريبة عجيبة،‮ ‬بين الموجودات،‮ ‬تصنع منها كونا من التشبيهات تنشطر إلى مادة تشبيه وموضوع تشبيه،‮ ‬المحاكاةٌ‮ ‬تجد ألقها ووهجها في‮ ‬الاقتراب من الواقع والانفلات منه‮.‬
حركات المعنى تتموّج بين نسق التلاقي‮ ‬وحتمية الافتراق‮.‬

يشتقّ‮ ‬الشرقاوي‮ ‬المادة التخييلية لصوره الشعرية من البيئة المكانية،‮ ‬موضوع التشبيه‮. ‬يقول‮: ''‬قرط من جمر فوسفاتي‮ ‬البسمة‮'' ‬البسمة كيف تكون فوسفاتية؟ هذه هي‮ ‬الدلالة الغائمة التي‮ ‬تجعل القول الاستعاري‮ ‬قابلاً‮ ‬لكثير من التأويلات،‮ ‬كي‮ ‬نردّه إلى الواقع،‮ ‬مع أنّ‮ ‬الواقع،‮ ‬في‮ ‬النصّ،‮ ‬ليس سوى حيلة لتمديد الخيال،‮ ‬وصناعة أحد العوالم الممكنة‮. ‬إنه‮ ‬يشتق الصورة من مكونات الواقع الخام،‮ ‬تعتمل فيه صلات قوية ووشائج متينة‮: ‬ينصهر الخيال في‮ ‬بوتقة الواقع‮.. ‬ويمتزج نخب أدب الرحلة في‮ ‬رحم القصيدة‮.‬

؟ التناص والعدول

تنزاح العبارة الشعرية،‮ ‬في‮ ‬قصيدة قرطاج،‮ ‬لا فقط لتذكرنا بنص‮:‬
‮''‬قسما بسحر عيونك الخضر‮''‬
بل لتجعلنا في‮ ‬حضرة عشق شرقي‮ ‬لأرض إفريقية،‮ ‬الأرض التي‮ ‬زارها فأنس بها أقوام كثر وشعوب عدة وقبائل شتى‮.. ‬عشق‮ ‬يتجلى في‮ ‬الاحتفاء بالمكان،‮ ‬وتنفتح الفضاءات النصية انفتاحاً‮ ‬يشي‮ ‬بتلذذ القائل بذكرها،‮ ‬فما توزيع الكلمة الواحدة على أسطر شعرية عدة،‮ ‬سوى محاولة من الشاعر لنثر الحروف حباتٍ‮ ‬تشي‮ ‬بتمتعه بذِكر هذه الأرض المحبوبة‮.‬
وقد‮ ‬يرى فاحصٌ‮ ‬للنصّ،‮ ‬مختصّ‮ ‬في‮ ‬نقدِ‮ ‬الشعر،‮ ‬أنّ‮ ‬الشرقاوي‮ ‬يُحيل على نصوصٍ‮ ‬أُول نَمَت في‮ ‬كنفها قصيدة‮ ''‬قرطاج‮'' ‬وتفيّأت ظلالها الوارفة،‮ ‬نحو عبارة من لامية أبي‮ ‬الطيب المتنبي،‮ ‬في‮ ‬قوله‮:‬
‮''‬على قلق كأنّ‮ ‬الريح تحتي‮''‬
حيث تومئ إليها عبارة الشرقاوي،‮ ‬من طرف خفيّ،‮ ‬وإن اجتمعت لدى الشاعرين خصلة حبّ‮ ‬الترحل وعشق السفر واختراق الأماكن،‮ ‬ولعلّ‮ ‬القصائد إن هي‮ ‬إلا نتاج الرحيل،‮ ‬يقول صاحبنا‮:‬
‮''‬ريح على الريح‮''‬
غير أنّ‮ ‬ما‮ ‬يسم قصيدة‮ ''‬قرطاج‮'' ‬هو تعدّد أصواتها وتنوّع سجلاّت القول فيها،‮ ‬في‮ ‬زحف للكلمات‮ ‬ينعتقُ‮ ‬من ربقة الأعراف الكلاسيكية ولا‮ ‬يأتمر بأوامر البلاغة النمطية‮... ‬فإذا تحدّثت عن التناصّ‮ ‬في‮ ‬هذه القصيدة،‮ ‬فلابدّ‮ ‬أن تُردف حديثك ذاك بحديثٍ‮ ‬عن العُدُول‮. ‬وإذا رأيت مشابهَ‮ ‬لرُسُوم نصوص تتوالد،‮ ‬فلا مندوحة لك عن أن تقف على تداعيات وانزياحات تفلت من قبضة التراث وتنتشر مُولّدة مجازات الحداثة ومشتملة على نبضات الذات‮.‬

هو نصّ‮ ‬يتربّع في‮ ‬ملتقى أحاسيس متوهجة ومتفلتة بروعة المكان‮. ‬متخمٌ‮ ‬هذا النصّ‮ ‬بمُلامسة شغاف المكان حتى وإن وصل به الأمر إلى تشظية الاسم ليصير محلّه الذات،‮ ‬في‮ ‬نزعة للامتلاك لا نلوم عليها الشاعر،‮ ‬فهو الطفل في‮ ‬قرارة نفسه،‮ ‬وهو الذي‮ ‬ينطلق من ذاته إلى العالم لكي‮ ‬يرتدّ‮ ‬إلى ذاته وقد حمّلها العالم في‮ ‬داخله،‮ ‬يقول‮:‬

‮((‬فلنركض نحو الشمس
نراقبها قبل دخول النوم
ونمنحها شيطنة اللفظ الحافي
ولنركض نحو زلال سلالات الألق الصافي‮))‬
يا الصدر الناضج‮ ‬يا قرطاج
يا تاج الأرض وميناء الغبطة
لا أحد‮ ‬يعرف سر النقطة
لا أحد‮ ‬يدرك أن الطلسم ليس سوى قلب
مزروع الخاطر بالنيّة
لا أحد‮ ...‬
يا قرط‮ ....... ‬اجي
؟‮ ‬؟‮ ‬؟‮ ‬؟

وربما التمسنا للشاعر عذراً،‮ ‬في‮ ‬جعل الاسم نصفيْن،‮ ‬فـ‮''‬قرطاج‮'' ‬أكبر من أن تدخل فيه دفعة واحدة،‮ ‬فتقطيع اسمها علامة على أنها واسعة،‮ ‬وأنه‮ ‬يحتاج إلى هذا الإجراء كي‮ ‬تدخل بسلام إلى ذاته مطمئنة‮...‬

نلاحظ هذا الاندفاع نحو تعريف‮ ''‬قرطاج‮'' ‬باستعمال مركبات نعتية وإضافية،‮ ‬مختلفة ولكنها لم تؤدِّ‮ ‬ما أراده الشاعر منها،‮ ‬فاختتم بأن نسب قرطاج إلى نفسه،‮ ‬فإذا قرطاج قرطاجه‮.‬

وهذا التحوّل من الحدّ‮ ‬إلى التطابق وإلى امتلاك المكان،‮ ‬يقلب العلاقة العادية،‮ ‬حيث المكان أوسع من الإنسان،‮ ‬حيث الإنسان جِرم صغير مُحتوًى في‮ ‬المكان،‮ ‬فإذا بالمكان‮ ‬يتحوّل‮ ‬‭-‬‮ ‬بعد تشظية مقاطعه الصوتية‮ ‬‭-‬‮ ‬إلى ملكية خاصّة للشاعر،‮ ‬في‮ ‬طقسٍ‮ ‬طُفوليّ‮ ‬لا تنكره عينٌ‮ ‬ولا‮ ‬يُخطئه ملاحظٌ‮.‬
والذي‮ ‬ساعد على هذا الاندماج والتطابق بين الشاعر وبين المكان،‮ ‬إنما هو جوّ‮ ‬صوفيّ‮ ‬معتق أثث النصّ‮ ‬بجملة من المفردات والمتعلقات‮: (‬سر النقطة‮)‬،‮ (‬القلب‮)‬،‮ (‬الطلسم‮)‬،‮ (‬النية‮)‬،‮... ‬وهي‮ ‬عناصر هيّأت لحدث الامتلاك وحلول المكان بالإنسان،‮ ‬بشكل متدرّج‮.‬

‮ ‬تتسم النبرة الشعرية لدى الشرقاوي‮ ‬باحتضان سمات أسلوبية وظواهر خطابية متنوعة،‮ ‬بحيث لا‮ ‬يمكن حصر الجو الشعري‮ ‬في‮ ‬قالب واحد،‮ ‬بل هو أحرص ما‮ ‬يكون على تنمية التداعيات بشكل لافت،‮ ‬بحيث نكون أمام حشد من الصور والخيالات والأجواء‮ ‬غير المتراصفة أو المنتظمة وفق نسق عقلاني‮ ‬يمكن معرفة انتظامه،‮ ‬بيسر‮.‬

يتملص القول الشعري‮ ‬في‮ ‬نصّ‮ ‬الشرقاوي‮ ‬من الارتهان بلغة الواقع،‮ ‬فلا‮ ‬يتقوقع فيها،‮ ‬بل وينفتح عليها وعلى المجازات الفنطازية والتهويمات الحلمية والصور المركبة تركيبا‮ ‬يعتمد الخيال المجنح‮.‬
سجلات القول متراكبة،‮ ‬ولكنها كلها تشي‮ ‬بصدق العاطفة‮: ‬كيف‮ ‬يترجم في‮ ‬لغة عصرية متداخلة تداخلاً‮ ‬فنياً‮ ‬حبّه للمكان وعشقه لقرطاج؟ كيف‮ ‬يحقق الشرقاوي‮ ‬ذلك دون أن‮ ‬يرتهن بسابقيه من الشعراء والأدباء الذين احتفوا بقرطاج ودبّجوا في‮ ‬حبّها والتغزل بها النصوص؟
كان ذلك الرهان كبيراً،‮ ‬ونجح الشاعر في‮ ‬تذكيرنا بتلك المحاولات ولكن حبّه الخاصّ‮ ‬أطلّ‮ ‬برأسه بين السطور ليخرج علينا بذات الشاعر وقد أسكنت المكان في‮ ‬باطنها،‮ ‬بدل أن تسكن المكان‮...‬
القصيدة،‮ ‬بما هي‮ ‬نطاقٌ‮ ‬من القول الفني‮ ‬قد صيّرها الشاعر ميدانا لإبراز المشاعر الشفافة والعواطف الصادقة‮. ‬

؟ قرطاج الشرقاوي؟

ويحق لنا أن نتساءل‮: ‬هل تشكلت لنا صورة‮ ''‬قرطاج‮'' ‬أم نحن أمام قرطاج أخرى،‮ ‬هي‮ ''‬قرطاج الشرقاوي‮''‬؟ هل‮ ‬يجب على الشاعر أن‮ ‬يتحوّل إلى رحالة جغرافي،‮ ‬أو أديب رحلة وفيٍّ‮ ‬لمعايير القول الموضوعي،‮ ‬في‮ ‬نقل‮ ''‬صورة موضوعية‮'' ‬عن المكان؟
طبعاً،‮ ‬الشعر والفنّ‮ ‬عموماً‮ ‬ليس مطالباً‮ ‬بأن‮ ‬يتعامل مع الموجودات،‮ ‬والأبعاد،‮ ‬بما فيها المكان تعاملاً‮ ‬كمّياً‮ ‬يُقاس بالمتر ويوزن بالكيلوغرام،‮ ‬بل إنه‮ ‬يتعامل مع كل ذلك تعاملاً‮ ‬كيفياً،‮ ‬ينقل بالكلمات صوراً‮ ‬وخيالات ويحاول إحداث آثار نفسيّة في‮ ‬المتقبل،‮ ‬دور الفنان‮ ‬يوحي‮ ‬بالجمال ويخلق فيه‮ ‬‭-‬‮ ‬عبر الخيال‮ ‬‭-‬‮ ‬عالماً‮ ‬مدهشاً‮ ‬يُخرج المتلقي،‮ ‬من عالم‮ ‬يُحصي‮ ‬عليه أنفاسه،‮ ‬إلى عالم رحب رهانه الجمال‮.‬
هذا فضلاً‮ ‬عمّا وقع فيه بعضهم من سوء استخدام للنصوص الفنية‮ (‬الشعرية والسردية،‮ ...) ‬إذ اعتمدوها وثائقَ‮ ‬لمعرفة أحوال العصر والمصر،‮ ‬ضمن اتجاهات في‮ ‬النقد عفا عليها الزمن‮... ‬فالبحث عن الأصل أو الصورة،‮ ‬ممنوع في‮ ‬الفنّ‮: ‬لأنّ‮ ‬العلاقات بين الواقع والخيال أعقد من أن‮ ‬يزعم ناقد انعكاسيّ‮ ‬أنه ظفر بأسرارها‮!‬

إنّ‮ ‬قراءة قصيدة قرطاج قد تعطيك فكرة متكاملة عن كثير من عوالم عليّ‮ ‬الشرقاوي‮ ‬الشعرية،‮ ‬وعن تقلباته المزاجية وعن اختياراته الأسلوبية،‮ ‬وهي‮ ‬اختيارات لم تُملها عليه طبيعة العلاقة الخاصة بالمكان،‮ ‬فحسب،‮ ‬بل عمّقتها طبيعة لغته الشعرية وجعلتها سماته الفردية تتخذ طابعا مميّزاً‮.‬

قول موقّعٌ‮ ‬وإن ارتبط بعروض الخليل ارتباطاً‮ ‬هشّاً،‮ ‬قولٌ‮ ‬مخيِّلٌ‮ ‬وإن رمى أساليب البيان المكرّسة في‮ ‬مخزن الأرشيف،‮ ‬قولٌ‮ ‬دالّ‮ ‬وإن رفض المعنى المباشر ورام صناعة تدلال لا‮ ‬يحيط به صاحبه،‮ ‬ولا‮ ‬يزعم القارئ أنه أحسن حظا فيه من قائله‮!‬

وتبقى مسافة التأويل متأرجحة بين النسق واختراقه،‮ ‬وتلك‮ ‬‭-‬‮ ‬لعمْري‮ ‬‭-‬‮ ‬ميزة لافتة في‮ ‬قصائد الشرقاوي‮. ‬

***

بورتريه‮ ‬

أمين صالح

أي‮ ‬حديث عن علي‮ ‬الشرقاوي،‮ ‬بالنسبة لي،‮ ‬هو حديث عن تجربة حياتية طويلة،‮ ‬تمتد جذورها إلى طفولة سديمية المعالم،‮ ‬تنتمي‮ ‬إلى حارة واحدة،‮ ‬مدرسة واحدة،‮ ‬وأحلام لا تحصى‮. ‬

وهو حديث عن تجربة ثقافية برزت ملامحها مع انتسابنا إلى أسرة الأدباء والكتاب،‮ ‬في‮ ‬بداية تأسيسها،‮ ‬وتنامت وتطورت ونضجت في‮ ‬مسارها الثابت حتى الوقت الراهن‮.‬

رفقة‮ ‬غنية تقاسمنا فيها الضحك والوجع،‮ ‬الرجاء والخيبة،‮ ‬الشعر والسفر‮. ‬أثناء ذلك،‮ ‬نتقاذف الأحلام،‮ ‬في‮ ‬لهو عابث،‮ ‬مثلما نتقاذف الليل والنهار في‮ ‬رحلة تحفّ‮ ‬بها المدن‮. ‬

ولأن أي‮ ‬رسم بانورامي‮ ‬لهذا الكائن السامي،‮ ‬روحاً‮ ‬وشعراً،‮ ‬يحتاج إلى مجال أوسع،‮ ‬فسأكتفي‮ ‬برسم بورتريه له بلغة‮ ‬يعرف هو كيف‮ ‬يستميلها ويتبيّن كنهها،‮ ‬ومنها‮ ‬يصوغ‮ ‬ما‮ ‬يشاء من صور‮:‬
زرقة فضاء فسيح‮ ‬يتخذه عليّ‮ ‬ملعباً‮ ‬لا‮ ‬يسع صيحاته وضحكاته،‮ ‬وسريراً‮ ‬لا‮ ‬يستر طفولته النزقة،‮ ‬الخارجة عن أي‮ ‬قيد أو قانون‮.‬

شقرة زنزانة‮ ‬يؤثثها‮ ‬يوماً‮ ‬بكنوز النوم،‮ ‬ويوماً‮ ‬بمدخرات القصيدة،‮ ‬ويوماً‮ ‬بفكاهات اللعب‮. ‬وإن جاءه المعضل،‮ ‬على حين‮ ‬غرّة،‮ ‬أطلق الضحكة الصاخبة التي‮ ‬يعرفها الرفاق،‮ ‬وانتخب للسهرة جذوة الحكاية،‮ ‬تاركاً‮ ‬للمعضل الحيّز الأضيق‮.‬
حمرة كتابة لا تهدأ حتى في‮ ‬غفوة صاحبها‮. ‬يضرمها،‮ ‬يؤججها،‮ ‬يدعها تتوهج لتضيء وتبهر‮. ‬لأغنياته طراوة الآهة في‮ ‬حنجرة عاشق‮ ‬يضنيه الوله،‮ ‬ولقصائده نكهة الشهقة آن‮ ‬يلتحم الإنسان بالكون‮.‬
مع ذلك،‮ ‬لا ريشة تسعف المجازف برسم الصورة،‮ ‬ولا معجم‮ ‬يفي‮ ‬بالكشف عن جوهر الشخص‮.‬
علي‮ ‬الشرقاوي‮ ‬يظل عصياً‮ ‬على الإمساك‮.. ‬لا لغموضه،‮ ‬لكن لتعدده‮.‬

*******