أميري بركة لم تكن رحلة هذا الرجل الذي توفي يوم الخميس البارد في التاسع من يناير 2014 بعد ثمانين عاما تقريبا رحلة سهلة.

مات وهو يحمل الاسم الذي لم يولد به. رحل وخلفه حياة حافلة من العمل الأدبي والثقافي شاعرا وناشرا وناقدا موسيقيا، أحب "الجاز" كسمة من سمات الثقافة الأفرو-أميركية، تاركاً نقاده يرتبكون في بحث حقيقته.

اسمه يوم ولد في أكتوبر الخريفي عام 1934 لوروي جونز، ليعيد اسمه المسلم امامو أمير بركة، ويستقر أخيرا باسم شهرته الذي عرف به أميري بركة.

التحق بأكثر من جامعة دون أن ينال درجة علمية ليلتحق بسلاح الطيران عام 1954، وتتوالى رسائل من أشخاص وهميين تتهمه بأنه شيوعي، ويفصل من عمله لإخلاله بشرف القسم بعد اكتشاف بعض الكتابات الشيوعية في حوزته.

اعتقل بعد ثورة عام 1967 في نيوجيرسي لحيازته أسلحة نارية، وفي ذلك العام قرر أن يحمل اسمه الجديد.

تزوج أميري بركة بالناشرة هيتي كوهين، وبعد اغتيال الناشط الأسود مالكوم اكس عام 1965 انفصل عنها، كما انفصل عن غيرها في ما بعد، ليكرس حياته للحركات السوداء التحررية، ويقود مساهماتهم مؤسسا لحركة الأدب السوداء. قدم أحد أهم مسرحياته عن الصراع الملون في أميركا Dutchman في عام 1964.

في كتاب آن تشارتر "قراءات في البيت" كان أميري بركة مصنفا كأحد كتاب جماعة "البيت" الأشهر، إضافة لجاك كاروواك والن جنسبرغ ووليم بورو، الا أن دوره الأهم كان في ولايته نيوجيرسي ومساندة حركة الشباب السود حتى وصول أول عمدة أسود لها عام 1970.

وتسميته شارع البلاط للولاية عام 2002-2003، قبل أن تتسبب قصيدته الأهم في مشواره الشعري في سحب اللقب منه. لا أحد يذكر أميري بركة دون أن يربط اسمه بتلك القصيدة التي أثارت غضب أميركا حكومة ونقادا حين ألقاها في يوليو 2002 في السنة التي تلت أحداث سبتمبر، كانت قصيدة مباشرة وصريحة:

"من الذي كان يعرف أن مركز التجارة الدولي سيتفجر.
من الذي أخبر 4000 إسرائيليا يعملون في البرجين أن يلزموا منازلهم ذلك اليوم.
من يعلم لماذا يصور خمسة إسرائيليين الانفجار
من... من... من؟"

كانت القصيدة اتهاما مباشرا للإدارة الأميركية يومها وإسرائيل بوقوفها خلف الأحداث التي غيرت العالم سياسيا وفكريا. لم يندم بركة على قصيدته، وظل يصر دائما على أنها حقيقة وليست قصيدة شعر.

وكان الاتهام الجاهز له هو معاداة السامية. لم يتقبل النقاد الأميركيون قصيدة "أحدهم فجر الولايات المتحدة" التي كان يلقيها دائما بطريقته الساخرة والساحرة في الالقاء. لم يحتج أحد على تفاصيل القصيدة التي هاجمت تاريخ أميركا الطويل تجاه الآخر، وكان السبب الأول لرفضها أنها ضد اليهودية. وهو اتهام رفضه بركة وقال: نعم أنا ضد الصهيونية وليس الديانة اليهودية.

طلب منه حاكم ولاية نيوجيرسي أن يستقيل كشاعر للولاية، ويتنازل عن اللقب، لكنه رفض، وفي عام 2003 سنت الولاية قانونا يلغي مسمى شارع البلاط في نيوجيرسي، لسحب اللقب من بركة، واكتفت مدارس نيو وارك في الولاية ذاتها، حيث ولد، بالابقاء على لقبه.
رحل اميري بركة بعد صراع طويل مع حكومات أميركا، وبعد أن تغيرت أميركا تجاه مواطنيها السود بصفته مساهما كبيرا في حركات مدنية وثقافية كان لها الأثر الأكبر في تحقيق هذا التغير.

عن (آراء)
12/01/2014

أميري بركة والقصائد التي تقتل

كتابة ضرار كلش

"عندما أموت، أوصي بلا وعيي إلى السود.
علّهم يفنّدوه، ويختارون الأجزاء المفيدة:
لحم مشاعري النقيّ.
ويتركون قذارة الأجزاء المرّة العفنة وحدها".
من قصيدة Leroy

توفّي في التاسع من الشهر الجاري الكاتب الثوري الأميركي أميري بركة. الثائر ضد العنصريّة ضد السود، ولاحقاً ضد وهم المساواة بين العرقين الأبيض والأسود، وضد حروب أميركا في الداخل والخارج ودعمها لإسرائيل. أميري، الذي ولد باسم "إفريت ليروي جونز"، وتخلّى عن اسمه لاحقاً كـ"إسقاط لاسمه الأبيض"، أصدر العديد من الأعمال في الشعر والمسرح والنقد الموسيقيّ. إضافة إلى مساهماته الموسيقيّة ودعمه للموسيقيّين.
كان من المقرّر أن يحضر أميري إلى فلسطين في أواخر أيّار /مايو من هذا العام لتقديم أمسيّة شعريّة موسيقيّة بمرافقة الموسيقيّ الفلسطيني ضرار كلش، والذي يكتب هذا النص التالي كتحيّة.
هذا ليس رثاءً، بل تحيّة إلى قضيّة تجسّدت بشخص، إلى حالة تجاوزت الاسم، إلى وجود ثباته التحوّل والتغيير إلى السواد. “نريد قصائداً بإمكانها أن تقتل" (1)، لم يكن أميري بركة مساوماً في ما يتعلق بالثقافة، فبالرغم من البيئة الاجتماعيّة التي نشأ فيها -عائلة سوداء من الطبقة المتوسطة-، ما كان يعتبر نوعاً من اليسر بالنسبة للسود في المجتمع الأميركي، اليسر ذاته الذي أتى بباراك أوباما إلى البيت الأبيض، ومن قبله كولِن باول وآخرون، إلى أنّه وعي منذ البداية للصراع الكامن داخله بمجرد كونه أسود في مجتمع أبيض (2)، ووعي بأنّه من غير الممكن تجاهل أو الهروب من هذا الصراع، ولا بد من أن يتخذ موقفاً حاسماً بشأن وجوده كإنسان أولاً، أسود ثانياً، ومثقّف ثالثاً (3).

لم يكن ذلك الموقف مؤسّساً على خيارات جاهزة، بل حالة عمليّة كان لا بد من أن يخوضها وأن يمر بتجاربها كافة. ولم تكن تلك عملية سهلة، ولا أظنّها انتهت بعد. إذ أنّها عملية خلق ذات ولغة وتعبير، كجزء من خلق أدوات تخدم النضال من أجل الحريّة. وهذا ما قصده بقوله عن القصائد التي "بإمكانها أن تقتل": أن تواجه العنف والوحشيّة التي لا زال يمارسها النظام الأميركي. إذ لم ير أميري في الشعر والأدب مجرد أداة للهروب من المواجهة المباشرة. من هنا برزت "حركة الفن الأسود"، الحركة الثقافيّة التي عمل على تأسيسها، والتي اتّخذت قصيدته "فن أسود" كبيان لها، والتي ترسّخت كصوت إضافي إلى جانب حركة التحرّر السوداء (4)، وعكست، فنيّاً وثقافيّاً، ما مارسته حركة التحرير السوداء" في نضالها السياسي والاجتماعي في الستينيّات من القرن الماضي.
لم تكن العلاقة ما بين الثقافة والسياسة، في حياة أميري، عارضة فقط، ولم تكن مجرد تنظير مفاهيمي، بل كانت عملية واحدة جمعت ما بين الخلق والإبداع وبين العمل والنضال بشكل لا يسعنا أن نغطيه في هذه السطور. ولكن ما يمكننا قوله هو أنّها تجسدت بأميري بركة، فلم يكتب مجرّد قصائد ومسرحيّات ونقد وأدب، بل ساهم أيضاً في خلق ما سماه آنذاك بالموسيقى الجديدة (ما يسمى بالجاز الحر)، التي تحرّرت من التبعية للموسيقى "البيضاء" بالشكل والمضمون، وتحرّرت من سيطرة وهيمنة شركات الإنتاج والإذاعة. وكان ذلك إما من خلال كتاباته النقديّة في الموسيقى، أو مشاركته في الأداء بإلقاء قصائده بمرافقة موسيقيين آخرين، أو من خلال توفيره لمساحة في "مسرحه" (5) الخاص من أجل العروض الموسيقيّة، أو تأسيس "شركة جهاد للإنتاج" التي أصدرت عدة أسطوانات موسيقيّة.

في ذلك الوقت، كان الموسيقيون السود عبيداً، بالمعنى الحرفي، لرأسماليّة شركات الإنتاج والإذاعة البيضاء. وكانوا مضطرين لأن يقدموا ما يرى المنتج بأن عليهم تقديمه. هذا المنتج النهائي الذي لم يكن يعبّر عنهم كسود في مجتمع أبيض. حتى أن تسمية "جاز" (6) جاءت كمجرّد مسمّى للصورة التي رسمها الرجل الأبيض "للآخر" الأسود. وكذلك كان "البلوز": كتعبير عن الحزن والانكسار الذي كان من مصلحة الرجل الأبيض تكريسه. من هنا، كان نشوء "حركة الفن الأسود" والموسيقى الجديدة في الستينيّات ثورة بكل معنى: على الشكل والمضمون وأساليب وطرق الإنتاج (7). حيث لم يعد الموروث الثقافي والموسيقي مجرد ماضٍ وذاكرة، بل أصبح ذات جديدة متجذّرة في الماضي ومتجاوزة للحاضر، ما أسماه بركة بالـ"متغيّرذاته" (8)، حيث المادة الموروثة هي ذاتها، ولكنها دائمة التحول والتغيّر، متخذة أشكال جديدة.
هذا ما رآه بركة في الأدب أيضاً، حيث كان لا بد من خلق أدب "أسود" جديد، لا يتلخّص فقط بوجود كتاب سود يكتبون باللغة الإنجليزيّة، بل يكتبون بسوادهم وبلغتهم الخاصة. وليس من خلال تكريس صورة "لهويّة" و"ذات" الضحيّة السوداء، بل من خلال ذات ثائرة، ليست سوداء فحسب، بل إنسانيّة.
وهذا ما كانه أميري بركة: ثائراً ليس من أجل قضايا السود فحسب، بل من أجل ما هو إنساني، وضد هيمنة الاستعمار والإمبرياليّة، حيث ألصقت به تهمة "معاداة البيض" ومن ثم "معاداة الساميّة واليهود" لمناصرته القضيّة الفلسطينيّة (9). ما بدأه أميري بركة لم ينتهِ بموته، ولن ينته ما دامت كلماته تترد والموسيقى تثور، فلروحه التحيّة.

مختارات من أعمال أميري بركة

http://www.ubu.com/sound/baraka.html
http://www.ubu.com/papers/Baraka_afro-American-Literature.pdf
http://www.ubu.com/papers/Baraka-Blank_1985.pdf
http://www.ubu.com/papers/Baraka_Blues_Aesthetic.pdf
http://www.ubu.com/papers/Baraka-Cultural_Revolution.pdf

هوامش

(1) من قصيدة "Black Art”
(2) I was stretched between two lives and perceptions (I've told you it was four BlackBrownYellowWhite” but actually it's two or the real side, the two extremes, the black and the white, with the middle two but their boxing gloves)."
(3) أنظر عمله "Ducthman"
(4) من ضمنها حركة الفهود السود وجيش التحرير الأسود.
(5) 27 Copper Square وBlack Arts Repertory Theater بالإضافة إلى تنظيم العروض في شوارع هارلم.
(6) لا تزال تسمية "جاز" تثير جدلاً كبيراً، غالباً في صفوف الموسيقيين ذوي المواقف السياسية الراديكاليّة والواضحة، حيث لا يزال العديد من الموسيقيين يرفضون هذه التسمية، منذ أن بدأ التداول بها إلى يومنا هذا.
(7) لم تكن تجربة أميري بركة هي الوحيدة، حيث كانت هناك تجارب مماثلة في المدن الأميريكية المختلفة، لكنها كانت من الأقوى والأكثر تأثيراً.
(8) “And Rhythm and Blues is “new” as well. It is contemporary and has changed, as jazz has
remained the changing same.
(9) أنظر قصيدته “Somebody Blew up America”، إضافة إلى تصريحاته ضد الصهيونيّة، والممارسات الإسرائيليّة ضد الفلسطينيين.
- See more at: http://www.ma3azef.com/node/235#sthash.sVEgpX4P.dpuf

معازف
١٦ يناير ٢٠١٤

أميري بركة يتحدّى جميع المؤسسات الحكومية والشعرية الأميركية

نيويورك ـ أحمد مرسي

رغم أن أميري بركة، الشاعر والكاتب المسرحي والسياسي الأسود، قد اعتاد على مدى السنوات أن يثير الجدل والغضب وحتى النبذ أحياناً لمواقفه الرافضة للتيارات السائدة على المستويين السياسي والاجتماعي، إلا انه لم يواجه أيضاً في أية من معاركه السابقة حملة تشهير بضراوة الحملة التي لا تزال تقودها ضده أبواق الإعلام اليهودي الأميركي منذ قرأ قصيدته ـ القنبلة ـ "شخص ما فجر أميركا" في 19 أيلول الماضي في مهرجان شعري بولاية نيوجيرسي، فقد أثارت القصيدة رد فعل عاماً عنيفاً، مطلقة عناقيد الغضب من الصحافة المحافظة والمنظمات اليهودية، وفي مقدمتها بطبيعة الحال "رابطة مناهضة التشهير" الصهيونية.
وقد توالى نشر صور أميري بركة، بوجهه المغضن من الغضب والازدراء مع مقالات حادة الانتقاد مطالبة راديكالي الستينات السابق وشاعر ولاية نيوجيرسي المتوّج بتقديم استقالته من هذا المنصب الشرفي والاعتذار عن "عدائه السافر للسامية"، وقد هاجمه حتى شاعر الولاية المتوّج الأول جيرالد ستيرن الذي قال إنه قد شعر بالصدمة من "سخف" الرسالة التي حملتها قصيدته، ورماه بالكذب، مُعرباً عن الأسف لأنه هو الذي أوصى باختياره لمنصب الشاعر المتوّج، والذي يأتي بمكافأة سنوية قدرها 10 آلاف دولار.
وكان المقطع الذي أثار هذه الزوبعة ينطوي على إشارة إلى علاقة يهودية بكارثة مركز التجارة العالمي، ويرد أنصار الشاعر بأن الكلمات تلمس وتراً حساساً لأنها عارية من التخيل والرمزية.
وفي أوج هذه الحملة الدعائية السلبية وبّخ حاكم الولاية أميري بركة وطالبه بالاستقالة في الوقت كان يدرك فيه أن التشريع الذي اعتمدته حاكمة الولاية السابقة كريستي ويتمان التي أنشأت المنصب لا يسمح حتى الآن لأي ضغط من الحكومة بإجبار الشاعر على التخلي. ولا يزال الحاكم يحاول بالتعاون مع المجلس التشريعي للولاية إصدار تشريع يسمح بطرد بركة، ومع ذلك، فقد جمد الحاكم الراتب الرمزي الذي يتقاضاه الشاعر الأسود الداهية.

ومنذ تفجير حملة الغضب على أثر قراءة القصيدة من أيلول الماضي، لا تزال رابطة الدفاع اليهودية والصحف اليهودية الشعبية مثل "جويش وورلد ريفيو" تنعت رائد الشعر الأسود الحداثي "شاعر نيوجيرسي المتوّج المتعصب".
وبعد عشرة أشهر منذ قراءة قصيدته، لا يزال أميرى بركة يصر على أنه لن يستقيل وأنه يقاتل من أجل حقوق الشعراء والتعديل الأول (قانون حماية حرية التعبير من الدستور الأميركي) وقد بلغت مشروعات القوانين المطروحة على المجلس التشريعي للولاية لطرد بركة، عشرة قوانين.
وفي مقابلة أجراها روبرت فليمنغ مع الشاعر لمجلة "قضايا سوداء" من مسكنه في نيوارك، بيشيرس، بعد عدة أحداث أدبية نظمها شعراء "داون تاون" من مانهاتن لمناصرة بركة، سارع الشاعر إلى تأكيد عدم اكتراثه بالضجة المثارة حوله والمستمرة حتى الآن: "لقد أدهشني الهجوم الذي تقوده "رابطة مناهضة التشهير اليهودية". ان رؤيتهم الضيقة تستبعد كل القصيدة لتؤكد على أربعة أبيات، واعتبار مجرد ذكر إسرائيل معاداة للسامية جعلني أدرك أنهم يحمون الإرهاب الاسرائيلي، ويخفون ممارسيه من صورة "الضحايا" ويقدمون الفلسطينيين كإرهابيين".
ويبدو أن بركة على ثقة من أن لا أحد يستطيع أن ينحيه من منصبه ولا حتى المجلس التشريعي للولاية: "إن المجلس التشريعي لنيوجيرسي لا يملك إنهاء ولايتي أو منع صرف مكافأتي. وهذا هو سبب الضجيج الذي يحدثونه. لقد كانت نتيجة آخر عملية تصويت. مقابل صفر و20 ممتنعاً عن التصويت لإقصائي. لكن لا تشريع يمكن أن يقصيني. وهناك عشرة مشروعات قوانين أخرى في مجلس شيوخ الولاية تتعلق بالقصيدة لكن لا يرجح أن يجاز أي منها".
وكما اعتاد بركة أن يثير الخلاف حول مواقفه السياسية والاجتماعية، ومن بينها، على سبيل المثال، تأسيس حركة أدبية سوداء "حركة القوة السوداء الجديدة" في أعقاب اغتيال مالكولم إكس، بإصدار كتب مثل "نظام جحيم دانتي" (1965) و"حكايات" (1967) و"النار السوداء" (1968)، ويضم مجموعة هامة من الكتابة السوداء، إعداد وتحرير بركة ولاري نيل. وخلال الستينات غير اسمه من لو روا جونز إلى أميري بركة، وعلى طريقة الحرباء، تنكر بركة لبراعته الأسلوبية كشاعر، وكاتب مقال وروائي. وانتقل من نهج شكلاني متأثر بحركة "البيت" التي كان أحد روادها باستخدام صور صادمة والتلاعب بالألفاظ إلى شكل نثري سهل الفهم، ما أدى إلى زيادة شعبيته. لكن بعض القراء انتقدوا هذا التحول كمثال لتدهور سريع لساحر كلمات.
ويقول بركة "لقد تغيرت مع مرور السنوات لأنني جاهدت لكي أفهم وأغير العالم. والناس الذين يشككون في التغير لا يملكون حقيقة أن يفعلوا ذلك. كيف تكون من العالم ولا تتغير أفكارك مع مرور السنوات؟" ويضيف "إن الذين يشككون في التغير كسالى ثقافياً، أو أنهم يعانون سلبية الامتلاء المفرط أو أنهم راضون بشكل خفي".

وعلى الرغم من أن معظم كتبه قد نفدت طبعاتها، يقول بركة إن عدم إعادة طبع هذه الكتب يرجع إلى اندماج دور النشر الأميركية والتأكيد على الربح وما يسميه "الغطاءات (عندما يستنسخ كاتب أو فنان أبيض عمل كاتب أو فنان أسود ويصبح أكثر شهرة) التي تغطي عملاً مشروعاً بأعمال مقلدة مثيرة". ويؤكد أن الأدب الأسود قد تعرض للسطو عن طريق "غطاءات" متقنة البناء كما يحدث ذلك في الموسيقى السوداء. ومنذ نشر تقرير دون آند براستريت عن وجود أضخم طفرة متزايدة من حجم مشتري الكتب بين الأميركيين السود بالقياس إلى القراء الأميركيين عامة، "غطت الجثث، كما حدث في موسيقى الراب، وهمشت وحجبت أكثر الفنانين السود الشبان جدية والتزاماً بواسطة بعض الزنوج الذين يسعون إلى تعظيم الذات والتخطي. أو إرضاء السيد". ويقول بركة "إن عملهم سطحي وتافه، ويرتبط بالنزعة التجارية الضحلة للتيار السائد. إن ما يسمى بالتيار السائد "يغطي" أكثر فنانيه أهمية وعمقاً".
ويضيف "إن حركة الفنون السوداء لا تغطى وتسوء سمعتها فقط بواسطة الزنوج القواد والناس البيض، ولكن المؤسسات الأكاديمية والتجارية قد رفعت من شأن كتاب وفنانين زنوجاً من بين الكتاب المأجورين السطحيين أو الرجعيين الذين يعلنون أنفسهم".
ويؤكد الشاعر والناشط السياسي أن النموذج التاريخي للتقليد الديموقراطي الثوري للأدب الأفرو ـ أميركي يهاجم ويعمى بقدر الإمكان، "فأعمال الكتاب البارزين من أمثال فريدريك دوغلاس، ودوبوا، ومارغريت ووكر ولاري نيل، على سبيل المثال، مخفاة تقريباً. وبينما يذكر لانجستون هيوز أكثر وأكثر، لم يقترب أحد من أعماله الروائية والدرامية العظيمة. ويتساءل أين هي الأعمال المسرحية العظيمة لهانز بري، وبولدوين، وكالدويل، وبولينز، وورد". ويضيف "ولكننا نجد مسرحيات تمجد أجبن قطاعات المجتمع الأسود، قطاع البورجوازية الصغيرة الزنجية، بل إن البعض يقدم الفنانين السود بصور كاريكاتورية أو يعارض التحرير الأفرو ـ أميركي نفسه".
وبركة الذي يشارك دائماً شعراء الهيب ـ هوب الأصغر سناً من القراءات الشعرية الأدائية (سلام)، يشعر بتفاؤل أكثر بالنسبة لحالة الشعر الراهنة "إن الشعر حي وفي حالة جيدة. والشعر الأفرو ـ أميركي و"اللاتينو" قد بلغ نقطة امتياز فني وانتفاضة سياسية. وهناك المئات من الشعراء السود و"اللاتينو" الشبان، وبعض الشعراء البيض أيضاً، يكتبون قصائد ثورة ومقاومة. وليس هناك نوع من أنواع الفن في الولايات المتحدة، معاد للامبريالية، ومعاد للعنصرية وراديكالي وثوري عن وعي بقدر أعمال هؤلاء الشعراء. ورغم عدم توازن البرنامج التليفزيون "راسل سايمونز يقدم شفر ديف"، فلا يزال يقدم لمحة مثيرة من الغالب عن الشعراء الجدد والشبان، وغير الشبان تماماً الذين يعتبرون الآن هامين أو الذين سوف يصبحون هامين للغاية وأصواتاً مؤثرة".
وبينما ينتقد شعراء آخرون من جيله "الرا" كشكل فن، يؤكد بركة أن "الرا"، من منظور حركة الفنون السوداء يظل هاماً، "لقد بدأ كشكل شعبي وملهم ومجدد بمضمون راديكالي وجياش العاطفة. وقد أثار إعجابي في مرحلة مبكرة جداً لأني كنت أعرف أنه النوع الشعري الذي تنبأت به "حركة الفنون السوداء"، فهو أولاً: فن أسود ثانياً: فن موجه للجماهير، ثالثاً: فن ثوري".
"ولكن هذه الموسيقى الجديدة قد حوربت، وغطيت من طريق الاندماج والادعاءات العنصرية بالمشاركة من التأهيل والتفوق المطلق من جانب آخرين".
وبينما لا يزال حاكم ولاية نيوجيرسي يحاول خلعه بالتعاون مع المجلس التشريعي للولاية من دون نجاح حتى الآن، ورغم تجميد مكافأته الشهرية المتواضعة منذ سبتمبر الماضي، لا يزال أميري بركة يواصل سلسلة قراءاته الشعرية الشهرية بصفته الشاعر المتوج، ويواصل عمله كمنسق منذ 15 سنة لمحترف فنون تشارك زوجته ـ أمينة ـ في إدارته.
لقد قال جيمس بولدوين ذات يوم "يستطيع كاتب أن يعيش لفترة طويلة على كتاب واحد وشهرة". ولا تنطبق هذه الملاحظة على حالة أميري بركة فهو وعمره الآن 69 سنة، وبينما يواجه الإصابة بمرض السكر، لا يزال يشارك في القراءات الشعرية الشبابية من "داون تاون مانهاتن"، ويقدم حفلات موسيقية ـ شعرية مع زوجته، ويمارس هوايته الجديدة: الفن التشكيلي، وقد أقام معرضين حتى الآن. وقد أعد للطبع مجموعة من القصص القصيرة، ومجموعتين من الدراسات، وكتاباً يضم مسرحيات جديدة والأعمال المسرحية الكاملة إلى جانب ثلاث روايات تنتظر الطبع. كما أنه يحضر لرفع دعوى قضائية ضد ناشره القديم، ويليام مورو، لترك كثير من كتبه تنفد من دون اصدار طبعات جديدة لها.

المستقبل

وفاة "مالكوم إكس الأدب" أميري بركة

غدير أبو سنينة-مناغوا

أميري بركة كان لا يؤمن بمقولة الفن للفن ويرى أن الأدب موقف ونضال (رويترز) لسنوات طويلة اعتاد الشاعر والكاتب المسرحي الأميركي، أميري بركة (ليروي جونز) أن يثير الجدل والغضب والمعارك كلما تكلم، بالنظر لحدة مواقفه السياسية الرافضة للسائد. الشاعر الذي لم يكل يوما عن النضال بالكلمة والموقف، خاض آخر معاركه بالأمس ليرحل عن 79 عاما بعد صراع مع المرض قضى الشهر الأخير منه في مركز طبي بأميركا.

كانت قصيدته "من فجر أميركا؟" التي كتبها عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول هي التي فجرت موجة من النقد ضده، خصوصا من الجهات الصهيونية والأميركية التي اتهمها دون تسمية مباشرة بوقوفها وراء التفجيرات، واتهم الراحل بمعاداة السامية، وأكثر من ذلك التهريج والغوغائية، لكن الكثير من النقاد اعتبروه في المقابل عبقريا ومالكوم إكس الأدب.

شاعر راديكالي

كتب بركة قصائده على إيقاع البلوز، وهو نوع موسيقى صوتي وآلي يتحدر من أغاني للزنوج بالولايات المتحدة وبه يتغنّى المغنون بحزنهم وأساهم، أما أعماله المسرحية والنقدية فقد تحولت لقوة محرضة ومستفزة للثقافة الأميركية.

وربما لم يكن هناك شاعر من جيل الستينيات والسبعينيات براديكالية أميري بركة، أو إفريت ليرويْ جونز، كما كان يدعى قبل أن يلتقي مالكوم إكس (الداعية الإسلامي والمدافع عن حقوق الإنسان) الذي منحه اسمه الجديد "إمام أميري بركة" قبل أن يتخلى الأخير عن لقب إمام ويبقي على (أميري بركة) عندما اعتنق الفكر الماركسي لاحقا.

الشاعر والمناضل الحقوقي أميري بركة متحدثا بأحد اجتماعات السود في مارس /آذار 1972 (أسوشيتد برس) كان أميري بركة من أوائل الشعراء بأميركا الذين طرحوا القضايا السياسية وناضلوا من أجلها بأعمالهم الأدبية. فهو لم يكن يؤمن بمقولة "الفن من أجل الفن" وكان ضد "الوحدة" بين البيض والسود. وقد قال عنه الكاتب المسرحي الحائز على جائزة بوليتزر (أغسطس ويلسون) "مع أنني لم أكتب أعمالا مسرحية سياسية فإنني تعلمت من أميري بركة أن كل فن هو سياسي".
كان الراحل ملهما للشعراء والكتاب المسرحيين والموسيقيين من جيله. انغماسه في القوافي واللغة العامية للشوارع جاءت بتأثر من فنون الراب والهيب هوب والشعر العربي الإسلامي.
تزعم بركة حركة "الفنون السوداء" وهي حليف لحركة "القوة السوداء" التي نادت في الستينيات من القرن المنصرم بوجوب مشاركة الفنانين السود بالقضايا الاجتماعية، وكان يعتقد بوجوب تدريس فن وتاريخ السود وبأن على الأعمال الأدبية والفنية أن تحدث ثورة.
في مؤلفه الشهير "فن أسود" كتب بركة "نريد قصائد قاتلة" كاحتجاج على الطريقة التي يعامل بها السود عام 1965، وهو ذات العام الذي نشأت فيه حركة الفنون السوداء.

تنوعت كتابات بركة بالمسرح والشعر والرواية وكتابة المقالات التي كانت بمجملها تدافع عن الحقوق المدنية للسود كما بمسرحيات "العبيد" و"التويليت" و"الهولندي، ورواية "نظام جحيم دانتي"

تحولات النضال

من ضمن الأحداث المهمة التي غيرت مسيرة حياة الشاعر بركة الثورة الكوبية، واغتيال مالكوم إكس عام 1965، فقد طلق على إثره زوجته البيضاء ذات الأصل اليهودي وتزوج من شاعرة من أصل أفريقي كان اسمها سيلفيا روبنسون قبل أن تصبح أمينة بركة، وهي من أشد الداعمين له بمسيرته السياسية والأدبية.
اعتنق بركة الإسلام، إلا أنه تبنى الفكر الماركسي عام 1974. كتب عام 1990 مقالا أوضح فيه أن جميع أحكامه كانت انعكاسا صادقا لما يشعر ويفكر به، لما يعلم ولما يفهم "لكن المعتقدات تتغير والعمل يؤكد ذلك".
ولذلك فقد تتبعه مكتب التحقيقات الفيدرالية الذي اعتبره شخصا ذا أفكار جذابة، وعرفه بأنه "الشخص الذي من الممكن أن يكون قائد الحركة الأفريقية الجديدة بالولايات المتحدة".
ولد الراحل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 1934، في نيوجرسي. تنوعت كتاباته بالمسرح والشعر والرواية وكتابة المقالات التي كانت بمجملها تدافع عن الحقوق المدنية للسود كما بمسرحيات "العبيد" و"التويليت" و"الهولندي، ورواية "نظام جحيم دانتي". وقد عمل مدرسا بعدد من الجامعات منها جامعة نيويورك في بوفالو.

المصدر:الجزيرة

"بسبب الاختلافات العنيفة بين ما كان في فطرته وبين ما أُرغِم على أن يكونه في العبودية، فإن الإفريقي قد طور مجموعة من أكثر الأفكار عن العالم التي يُمكِن تخيلها تعقيداً وعُسراً."

أميري بركة

يُسبب أميري بركة الضيق لقطاعاتٍ عريضة داخل الأكاديميا الأمريكية - خصوصاً في أقسام اللغة الإنكليزية والدراسات الإفريقية - لأنه موجود في كل مكان في تاريخ الكُتاب السود وحركة التحرر السوداء، ولأنّه شخصية إشكالية تُثير الجدل دوماً، وله آراء صادمة للمجتمع الأكاديمي الذي يحاول دائماً أن يمشي على قشور البيض فلا يهشمها. في واحدةٍ من مسرحياته، العبد، فإنّه يقدم حرباً عرقية مفتوحة بين السود والبيض. وفي مسرحيته الأكثر شهرة، الهولندي، فإنّه يصور الطريقة التي يتحول بها شابٌ أسود مُسالم ومُثقف إلى قاتل.
أميري بركة ليس كاتباً مسرحياً فحسب، بل شاعراً، وروائياً، وباحثاً في الموسيقى، وناشطاً في الدفاع عن القومية السوداء، وناشر كتب، وأستاذاً جامعياً، ورقيباً في سلاح الطيران. في شبابه، كان يُعرِف باسم ليروي جونز، الذي وُلِد به - اسمه حين مولده كان إفريت ليروي جونز. وبهذا الاسم كان رقيباً في سلاح الطيران الأمريكي قبل أن يُسرَح تسريحاً غير مُشرِف بسبب وشاية دُسَت له عند قائد وحدته تقول إنّه ماركسي، وفي متعلقاته الشخصية وجدوا كُتباً لكُتاب سوفييت. في ١٩٥٧ كانت الحرب الباردة قد بدأت، والاتهام بالشيوعية عنى تسريح ليروي جونز من الجيش لحنثه بيمين الولاء، وذلك خيرٌ له من السجن الطويل.

ليروي

قبل أن يدخل ليروي جونز الجيش، كان قد فاز بمنحة تعليمية لجامعة روتجرز الأمريكية، لكنّه لم يستطع التعايش مع أجوائها التي لم تكن مرحبة بشابٍ أسود في ١٩٥٤. انتقل إلى جامعة هاوارد، لكن الأمور لم تكن أحسن، فاتجه للجيش، أو لعل أبويه قد أرسلاه إليه، فالجيش تهذيب وإصلاح، في أمريكا وسواها.
بعد تسريحه، انتقل ليروي جونز إلى نيويورك، وعاش في منطقة غرينويتش فيلج التي كانت معقل شُعراء البيت Beats، ولفترةٍ من حياته، كان ليروي جونز منخرطاً في حركة البِتنِك التي كان من روادها آلان غنزبرغ وجاك كيروك. في تلك الفترة، كذلك، نما اهتمامه بالجاز، وبشعراء حركة الجبل الأسود، وكان يُحرر مع ديان دي بريما مجلة The Floating Bear (الدب العائم). كذلك، فإنّه قد تزوج من إحدى شاعرات حركة البِتنِك، هِتي كوهِن، وكان لهما ابنتان: ليسا وكيتي.
في تلك المرحلة، فإن ليروي جونز كان غريباً وسط هذه الجماعة: لقد كان أسود وسط مجموعة من البيض، مسيحياً وسط مجموعة يغلب عليها اليهود، وسوياً وسط مجموعة اشتهرت بالشذوذ العلني. (لستيفن كولبير، مذيع أمريكي ساخر، عبارة يقول فيها إن شعراء حركة البِتنِك وكتابها هُم من اخترعوا الشذوذ في أمريكا). ولذلك، كان طبيعياً أن ينقلب عليهم ليروي جونز فيما بعد.
كذلك، شملت نشاطات ليروي جونز في تلك الفترة تأليف كتاب ناس البلوز: موسيقى الزنوج في أمريكا البيضاء، والتسبب في إزعاج السلطات الأمريكية بسفره إلى كوبا مع لجنة المعاملة العادلة لكوبا Fair Play for Cuba Committee التي كان عضواً فيها، وعضوية ورشة أومبرا التي ضمت كُتاباً سود آخرين مثل إشمايل ريد. في الوقت نفسه، كتب ليروي جونز مسرحية الهولندي، التي حازت على شهرةٍ كبيرة، لكنها سببت الصدمة والكثير من الجدل، وصدرت له مجموعته الشعرية الأولى. ولم ينسَ أن يُنجِب دومينيك دي بريما.
في ١٩٦٥ اغتيل مالكوم إكس. كان تأثير اغتيال مالكوم إكس على ليروي جونز شديداً. في ذلك الحين، كان جونز معروفاً بماركسيته، وطروحاته الصادمة في مجتمع كان يتحاشى الصدام. قبل اغتيال مالكولم إكس، كانت علاقة ليروي جونز بزوجته هيتي كوهِن قد تدهورت تدريجياً، ومع اغتيال مالكولم إكس، فقد اتخذ ليروي جونز قراراً جذرياً بهجرها - وهجر ابنتيه ومجتمعه - والرحيل إلى حي هارلم.

الرجل الأسود الغاضب

كثيراً ما تُتهَم كتابات الروائيين السود الكبار مثل ريتشارد رايت بأنها "وعظية"، تمجد العُنف، وتهتم بقضايا السود فحسب. رواية الابن الحق Native Son تدور حول شابٍ أسود يقتل فتاة بيضاء. وبرغم وجود الكثير مما يُمكِن قوله عن الرواية، إلا أنها عُرضة للتنمر الأكاديمي المستمر لأنها تقدم صورة من "المحظور": شابٌ أسود يقتل فتاة بيضاء. رالف إلِسُن - كاتبٌ أسود آخر - أكثر شهرة من ريتشارد رايت، واختلف معه كثيراً فيما بعد (حين قُلت لأحد أساتذتي أن رواية رالف إلِسُن، الرجل الخفي Invisible Man على نفس خط رواية رايت القصيرة، الرجل الذي عاش تحت الأرض، فإنّه قال إن مثل هذه الأقاويل قد تبدأ حرباً ضروس، فمن الثوابت في الأكاديميا أن رالف إلسُن وريتشارد رايت على عداء شديد) يرى إن كتابات رايت مهمة لأنّه من أوائل الكُتاب السود ذوي الحيثية في جيلهم (رايت كان يتسكع مع جان بول سارتر)، لكنها تبقى ساذجة وصدامية.
الرمز في رواية إلسُن يتعلق بالخفاء الاجتماعي: بطل روايته رجلٌ خفي لأن أحداً لا يراه، وهو يلجأ إلى أعمالِ عُنفٍ من حينٍ لآخر لأجل أن يجبر المجتمع على رؤيته. مشكلة الرجل الخفي أنّه مثقف، لقد تعلم تعليماً عالياً، وتحول إلى خائنٍ لعرقه، إذ أنّه يكره أن يأتي ما لا يحب البيض، ويهتم بآراء البيض أكثر مما يهتم بآراء السود. في يوم تخرجه، يُجبره مُلاك الجامعة وزملاءَه على القتال فيما بينهم حتى يوشكوا على الموت، مُعيدين إياهم إلى حالة بهيمية. ويُلقون لهم المال على سجادة كهربائية، بعد أن عرضوا عليهم فتاة بيضاء لتحريضهم على بعضهم البعض. في النهاية، يفوز الرجل الخفي، وبفمٍ مليء بالدم، يلقي خطاب التخرج، فلا يكترث به أحد، حتى يتحدث عن العدالة الاجتماعية. إذ ذاك، يصير مسموعاً، ومطروداً. ويتحول إلى رجلٍ خفي بعد ذلك، لا يراه أحد، ولا يشعر به أحد.
رمز الخفاء الاجتماعي واضحٌ في رواية إلسُن الذي يعتبر أن فنّه أكثر رقياً وتعقيداً من فن ريتشارد رايت الحافل بخنق الفتيات البيضاوات، ومن حجرة لي دانيالز تحت الأرض التي فيها رضيع ميت (لم يقتله لي دانيالز).
ثم يجيء أميري بركة (ليروي جونز في ذلك الوقت)، بمسرحية الهولندي التي يقتل فيها شابٌ أسود امرأة بيضاء من جديد. كلاي - بطل الهولندي - ليس شاباً غير متعلم تعطف عليه المرأة البيضاء، بل شاباً حسن التعليم، يُطالع كتاباً في قطار الأنفاق، ويصير فجأة عرضة لسخرية امرأة بيضاء وتجريحها واستفزازها.
ويواصل في مسرحية العبد تمثيل العُنف على المسرح، المثقف الأسود يعود لزوجته البيضاء وزوجها الثاني (الأبيض) ليقتلهما، وقد صار قائداً في حربٍ عرقية شاملة يشتد أوارها في الخارج. وفي النهاية، يقتلهما، لكن كشف المسرحية الرئيسي أنّه قد قتل ابنتيه منها.
من السهل اتهام أميري بركة بالميزوجينية ومعاداة السامية، ومن السهل وصفه بالهوموفوبيا، ومن السهل القول إنّه رجلٌ عنيف يُبشر بعُنفٍ عرقي لا حدود له، لكن المؤكد أن الرجل الأسود يُدفَع دوماً إلى الرُكن، يُحاصَر باستمرار لتأكيد الفكرة الموجودة عنه: أنّه عنيف بطبعه.
غير أن كتابات أميري بركة ليست ميزوجينية، وليست معادية للسامية في هاتين المسرحيتين بالذات - بغض النظر عن مقالاته. في الرجل الخفي، الرجال البيض هُم من يستعرضون الفتاة البيضاء ليتقاتل عليها الرجال السود. في الفكر الاستعماري الغربي، فإن الرجال السود والرجال الشرقيين يريدون الظفر بالنساء البيضاوات. تظهر هذه المخاوف الكولونيالية بوضوح في أعمالٍ مثل ممر إلى الهند وأن تقتل طائراً غريداً. الاعتقاد إن السود والشرقيين يريدون الظفر بالنساء البيضاوات اعتقادٌ بطرياركي، لكنّه اعتقادٌ موجودٌ في الفكر الكولونيالي - وفي الفكر الشرقي، العربي على الأقل: العرب يفضلون الشقراوات على أي عرقٍ آخر.
ذيول هذا الفكر تظهر في أماكن مختلفة، بأشكالٍ مختلفة، منها تهميش النساء السودوات - والسمراوات - بوصفهن غير جميلات وغير مرغوبٍ فيهن ولا يملكن خصائص (أنثوية)، وفي الوقت ذاته فإن أجسادهن عرضة للاستباحة من قبل بني جلدهن، ومن قبل الرجال البيض. هذه نُسخة حديثة (مُلطفة)، فيما التبعة الأكبر لهذا المُعتقد كانت عمليات شنق الرجال السود من دون محاكمة التي استمرت مُنذ إلغاء العبودية حتى ثلاثينيات القرن العشرين. التُهمة التي يُتهم بها مُعظم المشنوقين تتعلق بالنساء البيضاوات، فهم إمّا يُضايقونهن، وإمّا يغتصبونهن. هذه كانت ذريعة الشنق دوماً، فيما كان ضحايا الشنق غالباً من الرجال السود الذين لهم عملٌ ثابت، وعوائل يعولونها. الشنق كان يُستخدم لتصفية السود الذين يحرزون قدراً من التقدم في حيواتهم قد يجعلهم على قدم المساواة مع البيض، والحجة كانت النساء البيض. الرجل الأبيض هنا يقتل الرجل الأسود، وفي الوقت نفسه، يُشيء المرأة البيضاء، ويُمارِس عليها اضطهاداً بطرياركي، محولاً إياها إلى (شيء) يريد الرجل الأسود سرقته، ويتوجب على الرجل الأبيض أن يعاقبه لمحاولته سرقته.
(الجدير بالذكر إن هذه الأفكار السائدة لم تعنِ استثناء للنساء السوداوات من عنف الشنق. الصور المنشورة للجثث المشنوقة غالباً ما تكون صوراً مُرتبة، حيث يجري إلباس الضحية ملابسها، فيما تكون - عادة - عارية كُلياً أو جزئياً في اللحظة الفعلية للشنق. وفي معظم الحالات، يجري خصاء الرجال السود الذين يُشنقون قبل شنقهم، كما تتعرض النساء السوداوات المشنوقات إلى اغتصابٍ جماعي. [مزيد من التفاصيل في كتابِ كوريثا ميتشل، العيش مع الشنق بلا محاكمة] هذه المعرفة تُحتوى داخل الجُدران الأكاديمية، وتُحجب عن العامة. بطبيعة الحال، فإن مشاهد الشنق من دون محاكمة، واستعراضات الكوكلكس كلان جزء من الوعي الجمعي الأمريكي، ومشهد يتكرر في الكثير من الأفلام الأمريكية، إلا أنّ ما يشيع صورة (مرومسة) - إن جاز التعبير - لطبيعة الجرائم الوحشية التي كانت تُرتكب بشكلٍ منهجي ضد السود، رجالاً ونساء).
بطبيعة الحال، الحديث عن "عُنف" أميري بركة الأدبي، فيما يوجد عُنف حقيقي، كُلي، ومنهجي يُمارَس ضد السود كيلٌ بمكيالين. الأكاديميا تحصر ذلك في ممارساتٍ جاهلة (كانت) تُمارَس في القرن التاسع عشر وانتهت بنهايته، متجاهلة استمرار هذه الممارسات حتى قرب منتصف القرن العشرين بشكلٍ منهجي - ثم استمرارها بشكل حوادث متفرقة - وجرائم أخرى مرتبطة بالعبودية والتفريق العنصري مثل السُخرة وعبودية الدين التي أدت إلى الهجرة السوداء الكُبرى نحو الشمال.
وفي مسرحيتيه الشهيرتين، فإن بركة يرى أن المجتمع الأبيض ما زال يمارس عنفاً عنصرياً ذا طبيعة بطرياركية إزاء السود: إيف في الهولندي فتاة من النوع الذي يُسمى white trash (الحثالة البيضاء) قد استبطنت فكرة المجتمع الأبيض عنها بوصفها "شيئاً" يرغب فيه الرجل الأسود، وحولتها إلى طريقة في الوجود. إيف تُسقط على كلاي كل معتقدات المجتمع الأبيض العنصرية: هو شابٌ أسود، إذن فهو عنيف. هو يريد أن يكون شاعراً، لكنّه لا يملك مستقبلاً إلا بالانخراط في الفنون السوداء التي يسمح المجتمع الأبيض للسود بممارستها. قراءته للأعمال الكلاسيكية البيضاء لن تفيده، لأن التراث الأبيض ليس تراثاً للبشرية، وإنما تراثاً للرجل الأبيض يفرضه الرجل الأبيض على البشرية. الرجل الأسود لا يستطيع أن يكون جزءاً من الكانُن canon لأنّه رجل أسود. ولا شك في أن كلاي، الذي يحاول القراءة، إنما يخون مجتمعه.
من الجدير بالملاحظة أن إيف ذاتها فقيرة وحياتها مفككة وضائعة. بسبب الإزاحة الطبقية التي تعرضت لها - حيث أنها قد أخرجت إلى طبقةٍ أدنى اقتصادياً - فإن السبيل الوحيد الممكن لها لتأكيد بياضها التأكيد على "إبقاء الرجل الأسود في مكانه"، غير قادرٍ على الترقي طبقياً، عنيفاً، يريد الظفر بامرأة بيضاء. (في النهاية، فإن ليروي جونز ماركسي).
في مسرحية العبد، فإن المرأة البيضاء زوجة ليروي جونز السابقة: أستاذة جامعية مثقفة، يهودية، تزوجت رجلاً أسود من باب التحرر من الخرافات والأوهام، ثم حين تطلقا، تزوجت أستاذاً جامعياً أبيض. حين يعود الزوج الأسود، وقد صار زعيماً في حربٍ عرقية شاملة، فإنّه يدخل مع الزوجين في محاورة أكاديمية حول الشِعر، وشِعر الزنوج، وحول اعتبار الرجل الأسود فاشلاً بالمقاييس الأكاديمية، وحول الطريقة التي تستغل بها الأكاديميا الأعراق غير البيضاء، وتكيفها لأغراضها الأكاديمية، ثم تطرحها جانباً وقد مسختها وأفرغت كل ما فيها، فلا هي صارت جزءاً من الكانُن، ولا هي احتفظت بأصالتها.
بشكلٍ ما، يُمكِن فهم مسرحية العبد، على أنها مُحاكمة ليروي جونز لزوجته السابقة ومجتمع البِتنِك بأكمله. المحاكمة التي جعلته موصوماً في الأكاديميا بمعاداة السامية والهوموفوبيا. لعل ليروي جونز مُحِق، فالتغيير الوحيد الذي جلبه البِتنِك في المجتمع كان أنهم تموضعوا لصورٍ عارية، وجعلوا من شذوذهم الجنسي القضية الرئيسية لهم، مُمارسين نوعاً من الإقصاء نحو الشعراء السود الذين تحلق البِتنِك حولهم في البداية. (مصطلح Beat مأخوذ من كناية عن التعب في العامية الأمريكية السوداء). ومُفرغين الماركسية من محتواها، محولين إياها إلى عدمية بليدة.
قد يختلف المرء مع نقد بركة الشديد للبِتنِك، لكنّ نقده لا يُمكِن أن يُختزل إلى مجرد اتهامات فضفاضة: "معادٍ للسامية"، "هوموفوبي"، و"ميزوجيني". هذه الاتهامات تعكس الروح الشريرة للمجتمع الأبيض، الطريقة التي امتص بها البِتنِك البيض حركة الشعراء السود وحولوها إلى شيء يخصهم هم، يخص وساوسهم وكرههم للأدب الكلاسيكي ولتيار الحداثة الأدبية (ولـ ت. س. إليوت على وجه الخصوص)، وهواجسهم بشأن ذواتهم، وذاتيهم المفرطة، وحاجتهم اللاهثة إلى أن يتقبل المجتمع شذوذهم، لا بمعنى ألا يحرمهم من حقوقهم المدنية، بل أن يرى في مجتمعهم الخاص المثال الأسمى.
مع ذلك، فإن أميري بركة فنانٌ وليس كاتب عرائض سياسية، وثمة مستويات عديدة للخطاب الذي يُقدمه في كتاباته، خصوصاً في هاتين المسرحيتين. من يبحثون عن أحد مواطني دولة هولندا، أو أحد المنحدرين منهم، في مسرحية الهولندي سيتعرضون لخيبة أمل. أغلب الأقوال النقدية ترى في العنوان إشارة إلى أسطورة الهولندي الطائر The Flying Dutchman السفينة الشبح التي تجوب البحار إلى يوم القيامة. المسرحية كلها تدور تحت الأرض، وتشير إلى فكرة العود الأبد، ما حدث سيظل يحدث، على عدة مستويات رمزية: أولها - وأبسطها - أن المسرحية بطبيعتها تفترض إعادة تمثيل الحدث في كل مرة تحدث فيها المسرحية، وعلى مستوى "الهولندي" نفسها، فالمسرحية نفسها تنتهي بعودة الحدث من جديد في هيئة كلاي آخر وإيف أخرى. ثمة إحالة الهولندي الطائر التي ستظل في البحر إلى الأبد: الحدث يدور في مكانٍ متحرك، مكانٍ مؤقت، له حركة استمرارية لا تنتهي، فقطارات الأنفاق لها مواعيد محددة، ولها دورة مستمرة. الحدث يحدث للأبد، يحدث تحت الأرض، ويحدث في مكان: قطار/سفينة ينطبق عليه توصيف النطاق المحكوم ذاتياً المؤقت Temporary autonomous zone. المركبات المتحركة مثل القطارات والسفن تمثل مناطق مؤقتة، لأنها ليست قطعة ثابتة من الأرض. إنها متحركة، وفي حالة سُفن القراصنة - التي ابتُكِر المُصطلح لوصفها - فإنها تتمتع بالاستقلال الذاتي، ولا تتبع أي نطاق أرضي ثابت. في حالة قطار الأنفاق، فإن سيرورته اللانهائية تحت الأرض تجعله نطاقاً مُستقلاً عمّا فوق الأرض، وعن محيطه. بمعنى أن المسرحية تحدث في بعدِها الخاص، الذي - لكونه تحت الأرض - لا يبعُد أن يكون الجحيم، أو نطاقاً منفصلاً تدور فيه الأحداث حول نفسها كما يدور القطار.
وفي العبد، فرغم أن النطاق الذي تدور فيه الأحداث ثابت - شقة الزوجة السابقة - إلا أن انعزاله عن الحرب التي تدور حوله يجعله مثل القطار، نطاقاً منفصلاً مؤقتاً. وبالإضافة إلى محاكمة الأكاديميا البيضاء، والمجتمع الأبيض (المتعاطف) مع السود، فإن المسرحية تنطوي على نبؤة مريرة ومُريعة: العبد - إذ يعود لينتقم - قد قتل ابنتيه أولاً. إنّها فاجعة عبثية ومريعة، حيث سينتهي العالم، وأول ما سينتهي منه هم الأطفال الخلاسيون الذين تحولوا إلى خمايرات يُدمرها الأب قبل أن يدمر المجتمع الأبيض، ويدمر نفسه في النهاية. إنها نبؤة حول الخواء، وليست مانفيستو حرب عرقية كما يعتقد طُلاب الدراسات العُليا المهمومون بأنفسهم فقط.

أميري

وإذن، فقد اغتيل مالكولم إكس، وكان رد ليروي جونز عنيفاً. هجر زوجته وبناته، وهجر المجتمع الذي كان فيه، ومن كانوا أصدقاءه، وانتقل إلى حي هارلم، ليعيش هناك - قبل أن يعود للعيش في مسقط رأسه، نيوجيرسي. التقى زوجته الثانية، سلفيا روبنسُن، وحاضر في جامعة سان فرانسسكو. واعتقل بتهمة حيازة سلاحٍ غير مُرخَص والتآمر لإثارة الشغب في أحداث شغب نيوارك في ١٩٦٧، وكتب عموداً موسيقياً مهماً في مجلة Down Beat.
ثم زار ليروي جونز مولانا كارينغا (المولود باسم رونالد مكنلي إفريت)، وتبنى فكرة التخلص من الأسماء الموروثة عن العبودية، الأسماء التي فرضها الرجل الأبيض على الأفارقة، وصار من المدافعين عن فلسفته القومية الإفريقية. في ذلك الوقت، غير اسمه إلى: إمامو أمير بركة Imamu Amear Baraka، ثم حذف من اسمه لقب الإمام لأنّه لم يكن إماماً، وغير "أمير" إلى "أميري"، واحتفظ باسم "أميري بركة". ودعم أول عمدة أسود لنيوآرك، كينيث غبسُن، كما أنّه نظم أول مؤتمرٍ قومي إفريقي في أمريكا. لا يزال المؤتمر يثير الجدل إلى اليوم بسبب سياساته التي أقصت البيض عمداً عن المشاركة فيه، وبسبب الشخصيات التي شاركت فيه - وبعضها متهم بالإرهاب - ولأسبابٍ أخرى تتعلق بمشاركة أمة الإسلام والتجمعات السوداء المناهضة للبيض فيه. كذلك، ظهرت أول اتهامات معاداة اليهود ضد أميري بركة - الذي أعلن فيما بعد أنّه ليس معادياً لليهود، بل مُعادياً للصهيونية.
بعد ذلك، استقر بركة - نسبياً - وراح يُحاضر في جامعة كولومبيا عن أدب النساء السوداوات، وألف مع زوجته - التي صار اسمها أمينة بركة - موسوعة أدب النساء السوداوات. ثم عاد إلى جامعة ستوني بروك، وصار أستاذاً للدراسات الإفريقية. وظهر في فيلم بولوورث (١٩٩٦)، وساهم في تأليف سيرة كوينسي جونز، وتعاون مع العديد من فرق الهِب هوب.
ثم صار شاعر ولاية نيوجيرسي الرسمي في ٢٠٠٢، وأُبطِل المنصب في ٢٠٠٣، بسبب قصيدة بركة: "من فجر أمريكا" التي يتهم فيها اليهود بتفجير البرجين. (مع أنّه في القصيدة استخدم مصطلح "إسرائيليين" وليس "يهود").
يعترف أميري بركة بأنّه قد اشتط كثيراً، وكتب كتاباتٍ ميزوجينية وعدوانية يصعب الدفاع عنها، لكنّه برر ردات فعله العدوانية بالغضب الشديد الذي اعتراه بعد اغتيال مالكوم إكس - الذي تلا اغتيال بياترِس لومومبا وجون كينيدي، وأعقبه اغتيال مارتن لوثر كنغ وروبرت كينيدي. غير أنّه، في الفترة الزمنية نفسها، قد راجع نفسه، وتحول إلى ماركسي، حيث أتاحت له فرصة عمله في حملة كينيث غبسُن، ونشاطه السياسي داخل الجماعات القومية السوداء، ومجلس القومية الإفريقية أن يرى التقسيم الطبقي للمجتمع الأسود عن كثب.
لا يرى أميري بركة أنّه مُحِق على الدوام، ولا يرى أن كُل أفعاله كانت جيدة. هو أول من يعترف أنّه ارتكب أخطاء كثيرة في مسيرته الطويلة، من دون أن يتوقف عن كونه ثائراً. إن كونه ثائراً لا يجعله ملاكاً ولا قديساً، ولا يُنزهه عن الأخطاء. ومُراجعته لأخطائه السابقة في مراحل مختلفة من حياته لا تُفرغ نضاله من محتواه.
توفي أميري بركة في التاسع من هذا الشهر.

تصدعت المرآة

***********

القصيدة التي فجرت امريكا

الشاعر "أميري بركة":

"الإرهابي" من صفى الهنود واشترى العبيد وصنع الأسلحة
نيوجرسي ـ لها أون لاين: طلب "جيمس ماكجريفي" ـ محافظ ولاية "نيوجرسي" ـ من الشاعر الأمريكي الزنجي المسلم "أميري بركة" أن يقدم استقالته من منصبه كشاعر رسمي للولاية بعد أن قرأ قصيدة كتبها عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أحد المحافل الأدبية للولاية.

وتحمل قصيدة "بركة" في طيها تساؤلات الشاعر عن علاقة الكيان الصهيوني بأحداث 11 سبتمبر، وكيف أنَّ حوالي أربعة آلاف يهودي قد تمَّ إبلاغهم بعدم الذهاب لمكاتبهم في برجي التجارة العالمي في ذلك اليوم.

وكان "بركة" قد صرَّح لجريدة "النيويورك تايمز" الأمريكية بأنه توصل إلى معرفة أنَّ الكيان الصهيوني كان على علم بأحداث 11 سبتمبر قبل وقوعها بعد قراءة مفصَّلة ومطوَّلة لما نشر من موضوعات وتحليلات على الإنترنت.

وأكد أنه غير مستعد للتنازل عن فكرته قائلاً: "إنَّ من الواضح أنهم كانوا يعرفون عن كل شيء مسبقاً، حتى الرئيس بوش كان يعرف".

ولكن الرأي العام اليهودي كانت له نظرة مختلفة فيما كتبه الشاعر، حيث اعتبر عديد من المنظمات والاتحادات اليهودية قصيدة "بركة" معادية للسامية، بل وصل الحد بأن وصفها البعض بأنَّها مهينة.

وكان "بركة" ـ الذي يبلغ من العمر 67 عاماً ـ قد صرَّح بأنه لن يعتذر أو يستقيل، وذكر أنَّ ما كتبه هو نقد للكيان الصهيوني خاصة، وليس السامية بشكل عام، ولذا يرفض أن يتهم بمعاداة السامية.

كما أشار إلى أنَّ قصيدته موجهة إلى السياسة الصهيونية في فلسطين، وهو يرى أنَّها تقف وراء الصورة القبيحة لأمريكا لدى الشارع العربي.

وفي لقاء تضامني مع "بركة" حضره حوالي مئتي شخص في مكتبة نيوآرك العامة بولاية نيوجرسي في الثاني من أكتوبر الماضي، قال الشاعر: "أولاً وقبل كل شيء الصهيونية واليهودية ليسا شيئاً واحداً، وأظنَّ أنَّه من العبث أن يتخفَّى دعاة الصهيونية وراء الديانة اليهودية كلما وجه أحد أصابع الاتهام إلى أعمالهم المشينة" كما ذكر بأنَّ قصيدته "تهدف إلى جعل القارئ يحرك عقله وضميره، ولكنها أبداً لا تتضمَّن معاداة للسامية".

"أميري بركة" ـ الذي كان يدعى "ليروي جونز" قبل اعتناقه الإسلام ـ سبق وأن أختير ليكون الشاعر الرسمي لولاية نيوجرسي في شهر يونيو الماضي، وتم ترشيحه من قبل مجلس الفنون بالولاية ومجلس نيوجرسي للعلوم الإنسانية.

ومنصب "الشاعر الرسمي" هو عبارة عن منصب تكريمي للشعر والشعراء يتولاه الشاعر لمدة عامين، وله الحق في الاستمرار تلك المدة أو الاستقالة إذا أراد، كما يحصل الشاعر خلال العامين على عشرة آلاف دولار أمريكي.

الجدير بالذكر أنَّ أميري بركة ولد في مدينة "نيو آرك" بولاية نيوجرسي الأمريكية عام 1935م لأب كان يعمل مراقباً في البريد، وأمه عملت كموظفة خدمة اجتماعية.

وفي عام 1952م ترك بركة دراسته الجامعية والتحق بالقوات الجوية، وفي تلك الفترة بدأ بالكتابة.

في عام 1957م ترك بركة الدفاع الجوي لأسباب قهرية، وانتقل للعيش في شرقي "منهاتن" بمدينة نيويورك، وانضم إلى دوائر الفنانين والموسيقيين والكتاب في حي "جرينتش" الشهير.

في عام 1958م تزوج من "هاتي كوهين"، وقام معها بإعداد وتحرير مجلة "يوجان" حيث قام بنشر إنتاجه الشعري والنثري لأول مرة.

وفي عام 1961م كانت أعمال بركة قد لاقت نجاحاً وتقديراً كبيراً جعلته من أهم شعراء فترة الخمسينيات، وكان قد ركَّز في كتاباته على "قيمة" الحرية ومشاكل السود.

في بداية الستينيات اشتهر بركة كأحد أهم كتاب المسرح، حيث حازت مسرحيته "دوتشمان" على جائزة أفضل مسرحية، وتمَّ عرضها على أحد أهم مسارح نيويورك "شيري لاين" وذلك في عام 1964م

*******

وفي ما يلي ننشر النص المترجم للقصيدة:

"من فجَّر أمريكا"
للشاعر أميري بركة
ترجمة: خلود سليمان
يقولون إنهم بعض الإرهابيين

بعض البربر
ع.. ر.. ب
في أفغانستان
لم يكونوا إرهابييننا من أمريكا
لم يكونوا عصابات "الكلان"
أو "السكن هد" العنصرية
أو أولئك الذين فجروا الزنوج والكنائس
أو استنسخونا لنوضع في قائمة الإعلام
لم يكن "ترنت لوك"
أو "ديفيد ديوك" أو "جولياني" أو "شندلر"
ويستقيل هلمز
لم يكن السيلان متخفيا
أمراض الملاءات البيضاء تقتل السود
وترهب منطق وعقل الإنسانية كما تشاء
هم يقولون..
من يقول؟!
من يقول الكلام؟!
من يدفع لهم؟!
من يروي الأكاذيب؟!
من يتخفى؟
من يملك العبيد؟
من أخذ خيرات الدولارات؟!
من أصبح سميناً من عرق فلاحي المزارع؟!
من قام بتصفية الهنود؟!
وحاول أن يدمِّر السود؟!
من يعيش في شارع "وال ستريت"؟!
المزرعة الأولى؟!
من أفقدك رجولتك؟!
من اغتصب أمَّك؟!
من أعدم أباك بلا محاكمة؟!
من يسرق النفط.. من لديه الريش؟!
من لديه أعواد الكبريت.. من أشعل النار؟!
من قتل ومن دفع؟!
من الأكبر؟!

من الأكثر طيبة؟!
من أخلاقه تشبه أخلاق عيسى عليه السلام؟!
من اخترع كل الأشياء؟!
من الأذكى؟!
من الأفضل؟!
من الأكثر ثراء؟!
من يقول: إنك دميم، وإنه الأجمل؟!
من حدد الفنون؟!
من حدد العلوم؟!
من صنع القنابل؟!
من صنع الأسلحة؟!
من قهرالعبيد ومن باعهم؟!
من سمَّاهم بتلك الأسماء؟!
من قال: إنَّ السفاح "دامر" لم يكن مخبولاً؟!
من.. من.. من؟!
من سرق بورتوريكو؟!
من احتل الإنديز، الفلبين، مانهاتن، استراليا؟!
من دفع بالأفيون في أيدي الصينيين؟!
من يملك كل تلك البنايات؟!
من لديه المال؟!
من يظن أنك مضحك؟!
من سجنك؟!
من يملك الجرائد؟!
من يملك سفن العبيد؟!
من يقود الجيش؟!
من هو الرئيس الزائف؟!
من يحكم؟!
من يملك البنوك؟!
من.. من.. من؟!
من يملك المناجم؟!
من يقودك للجنون؟!
من لديه الخبز؟!
من يريد السلام؟!
من تظنه يريد الحرب؟!
من يستعمر النفط؟!
من الذي لا يتعرَّض للشقاء؟!
من يملك الأرض؟!
من الذي ليس زنجياً؟!
من هو الأفضل ؟!
من يملك هذه المدينة؟!
من يملك الهواء؟!
من يملك الماء؟!
من يسرق ويغش ويقتل الحقائق بالأكاذيب؟!
من يسكن أضخم البيوت؟!
من يرتكب أفظع الجرائم؟!
من يعطي لنفسه استراحة أينما شاء؟!
من قتل معظم الزنوج؟!
من قتل معظم الإيطاليين؟!
من قتل معظم الإيرلنديين؟!
من قتل معظم الأفارقة؟!
من قتل معظم اليابانيين؟!
من قتل معظم اللاتينيين؟!
من.. من.. من؟!
من يملك المحيط؟!
من يملك الطائرات؟!
من يملك المراكز التجارية؟!
من يملك التلفزيون؟!
من يملك الإذاعة؟!
من يملك الأشياء التي لا تملك؟!
من يملك أصحاب الأشياء؟!
الذين هم ليسوا أصحابها؟!
من يملك الضواحي؟!
من يمتص المدن؟!
من يضع القوانين؟!
من جعل من "بوش" رئيساً؟!
من آمن بأنَّ عَلَم الاتحاد
لا بدَّ أن يظلّ مرفوعاً؟!
من يتحدث عن الديمقراطية كذباً؟!
من يعرف؟!

من الشيطان في حقيقته؟!
من أصبح ثرياً من الحرب العرقية في أرمينياً؟
من أكبر الإرهابيين؟!
من حرَّف الإنجيل؟!
من قتل أغلب الناس؟!
من يرتكب أكثر الشرور؟!
من الذي لا يعنيه السلام؟!
من يملك المستعمرات؟!
من سرق أكثر الأرض؟!
من يحكم العالم؟!
من يقول: إنه خيِّر ويفعل الشر؟!
من أكبر الجلادين؟!
من علَّمك كلّ ما تعرف،
ثم اكتشف أنَّ كل ما تعلمته زيف؟!
من.. من..؟!
ربما الشياطين؟!
من دفع للسي آي إيه؟!
من كان يعرف أنَّ القنبلة ستنفجر؟!
من يعرف لماذا كان خمسة إسرائيليين يصورون الانفجار ويقهقهون على الموقف؟!
من اخترع بطاقات الائتمان؟!
من يحصل على أعلى الضرائب؟!
من غادر معارضاً مؤتمر مناهضة العنصرية؟!
من قتل مالكوم، كينيدي، وأخاه؟!
من قتل الدكتور كينغ؟!
من يريد شيئاً كهذا؟!
هل لهم علاقة بقاتل لينكولن؟!
من قام بغزو جرينادا؟!
من صنع ثروة من وراء العنصرية؟!
من أبقى ايرلندا مستعمرة؟!
من أسقط شيلي؟!
وبعدها نيكاراجوا؟!
من قتل ديفيد، سيبكو، كريس هاني؟!
هل هم أنفسهم قتلة بيكو، كابرال، نيرودا؟!
اليندا، تشي جيفارا، ساندينو؟!
من قتل كابيلا؟!
هم نفس الذين ضيعوا لومومبا
وموند لاين، بيتي شاباز،
فيذرستون، ليت بوبي؟!
من حبس مانديلا، دوروبا،
جيرانيمو,
اساتا، مومبا، جارفي؟!
أليسوا هم نفس الأشخاص
الذين حاولوا تسميم "فيديل"،
والذين حاولوا إبقاء فيتنام تحت القهر،
ووضع ثمناً لرأس لينين؟!
ومن ساعدهم على ذلك؟!
من قال: أمريكا أولا؟!
من قتل "روز لوكسمبورج لينبيكيت"
وكل الناس الطيبين؟!
جمدوا، عذبوا، اغتيلوا، اختفوا
من قطع أيدي الناس في الكونغو؟!
من جلب الإيدز؟!
من وضع الجراثيم في ملاءات الهنود؟!
من صنع طريق الدموع؟!(1)
من بدأ الحرب الاسبانية الأمريكية؟!
من دعم باتسيتا، هتلر، بيبلو، شيانغ كاي شيك؟!
لحساب من يعمل توم كليرنس؟! (2)
ما هي القذارة التي تخرج من فم كولون؟! (3)
أي نوع من السخافات هي الـ"كونداليزا"؟! (4)
من دفع لكونيللي ليصبح زنجياً من خشب؟!
من اشترى جميل الأمين؟!
من أشعل حريق الرايخ ستيج؟!
من أبلغ أربعة آلاف اسرائيلي أن لا يذهبوا ذلك اليوم لمكاتبهم في البرجين؟!
لماذا بقى شارون بعيداً؟!
من.. من.. من..؟!
الجرائد تقول: إنه انفجار البومة!
يمكن أن نرى وجه الشيطان
من يريد العالم أن يبقى كما هو؟!
من يريد العالم أن يظل تحت حكم الامبريالية؟!
والعنف والارهاب والجوع والفقر
وتحت وطأة الظلم؟!
من هو حاكم الجحيم؟!
من الأقوى؟!
ولكن من المؤكد أنَّ الجميع قد رأوا الشيطان
مثل البومة
تنفجر
في حياتك، في دماغك، في قلبك
مثل البومة تعرف الشيطان
تصرخ طوال الليل والنهار
أنصت
مثل البومة تنفجر في النار
ونسمع الأسئلة تطرح في اللهب المستعر
مثل نباح *ممنوع**ممنوع**ممنوع* مجنون
مثل القذائف الحارقة تندفع من الجحيم
من..
من..
من..؟!

مجالس الساهر

*************

ميري بركة و 60 عاما من الشعر

بحث وترجمة
* محمد خضر
(السعودية)

ولد الشاعر الأمريكي أميري بركة عام 1934 في نيويورك , عرف كشاعر ثائر ومتمرد وناشط سياسي في قضايا شائكة حول العنصرية والنظام أيضا هو مهتم بالاجتماعي وحراكه , حاضر عن القضايا السياسية والثقافية في أمريكا وأفريقيا وأوربا والكاريبي وعلى نطاق واسع وكتب الكثير من المؤلفات تصل إلى 40 كتابا مابين الشعر والموسيقى والمقالات والدراما , كتب بركة , عام 1971 " الهولندي والعبد " هذا الكتاب الذي كما يشار إليه أنه صادم بل ويؤسس للصدمة , الكتاب كله قائم على لغته وغضبه القاتل , وفي عام 1995 كتب سيرته الذاتية عبر كتاب منفرد , الكتاب الذي جاء تعليقا عليه من الناشر أنه لأحد أهم الكتاب المؤثرين السود المعاصرين , واستمرت كتبه في الانتشار وحقق من ذلك عدة جوائز بل وكان لقب شاعر البلاط من نصيبه يوما ما , ولا ننسى أن نذكر بكتابه " شخص ما فجر أمريكا " وهو الديوان الذي ذاع وانتشر واعتبر علامة في تطوير الفكر الراديكالي الأسود الحديث وإعادة بناء لمفاهيم ثقافية , بل كونه يحمل تنبؤ وسخرية لاذعة من كل ماحدث , إن جل اهتمام بركة بالإضافة إلى كونه شاعرا مهما , كان يتلخص في الدعوة إلى العدالة الاجتماعية وتحرير الإنسان ومسائل الاستعمار , >

والجدير بالذكر أن بركة شاعر عانى كثيرا من محاكمة نصوصه وأتهام كل تصرفاته ضمن حركة تمرد عامة ودعوة للعداء بل وبعد مطالبة البعض بأن يسحب منه لقب شاعر البلاط في نيو جيرسي .سحب فعلا منه ..بينما هو يعيد تعريف ثقافة السود ويؤلف الموسيقى التي تنادي للخير والسلام ويعيش في داخله روح الشاعر المعاصر ذو الروح الناقدة والأفكار الجديدة في شعره .
بعد ستين عاماً من الشعر يعيش بركة الآن مع زوجته أمينة في نيويورك ولديه خمسة أطفال من جهة أخرى وكما أشرنا من قبل حاز بركة على عدة جوائز خلال مسيرته الشعرية والأدبية منها على سبيل المثال جائزة الرسائل والفنون من الأكاديمية الأمريكية ولقب شاعر بلاط نيوجرسي , كان يعمل أستاذا في جامعة الدولة في نيويورك

*********

من قصائده:

تمهيد للانتحار في 20 مجلد

ترجمة : أمل محمد

**************

مؤخرا ،أصبحت معتادا على الطريق
الأرض تفتحت لي كأنها مظروف
في كل مرة أذهب لتنزيه الكلب
تعودت على الموسيقى الحادة الواسعة الغبية
التي تحدثها الريح
وأنا أجري لملاحقة الحافلة .......
الأشياء وصلت إلى تلك الحالة
والآن في كل ليلة اعد النجوم
وفى كل ليلة أحصى نفس العدد
وعندما تغيب النجوم
اعد الثغرات التى خلفتها
لم يعد احد يغني
ليلة الأمس تسللت خلسة إلى غرفة ابنتي
كانت تتحدث إلى شخص ما
لم يكن هناك شخص
أبنتي راكعة على ركبتيها
تنظر في يديها المتشابكتين.

الاتحاد - 18 – 11- 2007