(أنطونيو ماشادو المتأمل في إيقاع الطبيعة البطيء)

محمد قصيبات
(المغرب)

أنطونيو ماشادو أنطونيو ماشادو واحد من الشعراء الاسبان الكبار الذين أثّروا في مسيرة الشعر العربي في الستينات من القرن الماضي. تأثر بالشعر العربي الأندلسي وخصوصاً بكتابات إبن عربي، وتأثّر به شعراء عرب عدة، على رأسهم الشاعر عبد الوهاب البياتي … نسمع عنه الكثير فيما نقرأ له القليل.
يغرف ماشادو أشعاره من إيقاع الطبيعة الهادئ على غرار أصدقائه الشعراء خوان رامون خيمينيز وفاسنتي اليكسندر. هو شاعر سبق زمانه، وشعره حمل تاريخ أسبانيا بخيره وشره، ولو أنه عاش في زمننا الحاضر لكان مناضلاً من أجل قضايا البيئة والإنسان. وفي زمن يمرّ بنا كقطار سريع، نجد أن ماشادو يدعونا إلى التأمل والنظر إلى ساعتنا الداخلية؛ الساعة التي خلقها الله من تراب. أشعاره تحثّ القارئ على البحث في الروح، و على فتح أبواب الداخل على كل ما يراه.

أحَبَّ ماشادو أن ننصت إلى كل ما يمرّ في هدوء، مثلما كان “فيتاغورس” ينصت إلى ذبذبات الكون. وكان يستعمل عينيه أيضاً. يقول الناقد روبرت بلاي عنه:
”من يقرأ لماشادو عليه أن يسمع ويرى ، فالشاعر لا يريد أن يقبع وحده في بئر وحشته العميقة ، ولكنه يرغب في العبور إلى الآخرين… من النهر إلى الضفاف… ثم إلى النجوم :

“عندما تتحدث مع أحد
أسأل سؤالك
ثم أنصت..”

عندما يصعد الشاعرُ الجبلَ ويحدق في “سريا” والنهرَ الذي يلوي جسده حولها في دلال، كيف له أن يتأمل الفراغ الخارجي دون أن يفقد عالمه الداخلي مثلما حدث مع الشاعر الألماني “رينر ماريا ريلكه”. يقول ماشادو : “إذا نظرنا إلى مشكلاتنا وحدها فإن عالمنا الداخلي يذوب ، وإذا نظرنا إلى العالم وحده فإنه يشرع في الفناء… إذا أردنا أن نبدع فعلينا أن نطرّز العالم الخارجي في الداخلي. كيف نفعل ذلك؟ نستطيع أن نستعمل أعيننا”.
ولد الشاعر أنطونيو ماشادو في إشبيليا عام 1875 وترعرع في بيت كبير كان يملكه أبوه المدرس وجامع التراث. أصدر أول دواوينه "الوحشة" عام 1903، وكان تحولاً مهماً في مسيرة الشعر الأسباني في ذلك الوقت. عام 1906 عمل مدرساً في اللغة الفرنسية في إحدى مدارس سريا ، وكانت سريا مدينة صغيرة تقع على مرتفع بالقرب من جبال أراجون . قابل ماشادو في تلك المدينة امرأة تدعى ليونور فتزوجها قبل أن يسافر معها إلى باريس للدراسة في السربون ، لكنه سرعان ما يعود إلى سريا بعد أن تصاب زوجته بمرض خطير؛ السل في ذلك الوقت، لتموت بعدها. لم يكن ماشادو آنذاك تجاوز الواحدة والثلاثين من العمر، وقد حزن لفقدان زوجته حزنًا عميقًا فترك باريس بعد موتها بأسابيع ليعود إلى مسقط رأسه؛ الأندلس التي أحبها، حيث الشمس، والمدن العربية بجمالها وقصورها وقلاعها. لاحقاً، يعيش ماشادو هاربًا من ذكرياته، وبعد مضي سبع سنوات من الحزن تعود ليونور لتظهر في أشعاره وأحياناً تحت إسم جيومار، حيث يكتب فيها قصائد نشرت في طبعة جديدة من ديوان حقول كاستيليا، ومن تلك القصائد قصيدة “الطرقات” الشهيرة. تجدر الإشارة إلى أن النقاد كانوا اختلفوا على هوية جيومار الحقيقية، فاعتبر قسم منهم وخصوصاً الذين أحبوا شعر ماشادو أن جيومار هي نفسها ليونور، في حين روّج نقاد آخرون (وخصوصاً الذين وقفوا مع فرانكو أثناء الحرب الأهلية) لحكاية أن ماشادو كان على علاقة بإمرأة برتغالية متزوجة تدعى بيلار فالديراما فكتب لها الشعر تحت إسم جيومار.
أي إمرأة كتب فيها ماشدو قصائد الحب : ليونور الجالسة أم جيومار البرتغالية الواقفة؟!

أنطونيو ماشادو بعد دراستنا حياة وأشعار ماشادو لسنوات عدة، نجدنا نميل إلى الأخذ بالرأي الأول. وبغض النظر عن مسألة أي الرأيين هو الأصح، فقد أجمع النقاد كلهم على أهمية ديوان “حقول كاستليا” ومدى تأثيره على مسيرة التحوّل في الشعر الأسباني. والحق، أن وراء كل تيارات الشعر شبح إمرأة. ويبدو هنا ضرورياً الإضافة إلى أن الزمن الذي كتب فيه ماشادو قصائده عن الحب ومنها "قصائد حب إلى جيومار" كان زمنًا قاسياً، حيث كانت الحرب العالمية الأولي تحصد أرواح ملايين البشر…وكأن الحرب لم تكن تكفي وقتها، فحضر الموت على صورة أخرى وهي ما عرف بـِ “الزكام الأسباني” الذي أسفر عن موت 17 مليوناً من البشر. في ذلك الوقت المحزن لجأ ماشادو إلى شبح حبيبته… ليجد بعض الخلاص في حب يخرج من الذاكرة… والمعروف أنه في زمن الموت والدمار، يلجأ الشعراء إلى الحب كطريق للخلاص، إلى إعادة إحياء الماضي (الفردوس المفقود)، وهو ما فعله بروست على سبيل المثال، أو إلى التمرّد وتوجيه الإنتقادات اللاذعة، على غرار ما فعلته كوليت مثلاً، وت. س. أليوت، وعزرا باوند وغيرهم.
في الأندلس يكتب الشاعر إذاً ديوانه الثاني “كاستيليا” ليصبح بعدها عضواً في جيل 1898، الجيل الذي ضم مفكري أسبانيا الكبار مثل خوان رامون خيمينيز وميخيل دو أوناميو وفاسنتي أليكسندر ولوركا ، وكان ذلك الجيل يحاول وقف الهزيمة التي لحقت بالأدب الأسباني منذ نكسة أسبانيا في حربها ضد أمريكا. عام 1924 يصدر لماشادو ديوان ” أغاني جديدة” يليه بسنتين ديوانه “الأغاني” وفيه يظهر الشاعر في عنفوان آخر يتغني فيه بالحب والغيرة والربيع… وبجيومار. الكثير مما كتبه ماشادو يعدّ شعراً ملتزماً وخصوصاً تلك القصائد التي كتبها أثناء الحرب الأهلية، ومنها قصيدة الربيع التي يبدأها قائلا :ً “الربيع أقوى من الحرب…”، و قصيدة "موت الطفل الجريح" التي يقول فيها:” نم يا صغيري وبجانبه تمسك أمه بيده الصغيرة...”، وقصيدة "الجريمة كانت في غرناطة" … في رثاء لوركا: “رأوه بين البنادق يمشي/ وسط الطريق الطويل…” عام 1927 يصبح الشاعر عضواً في الأكاديمية الأسبانية حتى الحرب الأهلية ، وفي شتاء 1939 يرفض الشاعر الهزيمة ويهرب عندما تقترب جيوش فرانكو من مدينته… يأخذ أمه المريضة معه في رحلة شاقة عبر الجبال والثلوج في محاولة للوصول إلى مدينة “كوليور” الفرنسية. تموت أمه في الطريق من البرد ويموت هو بعدها بأيام.

***

مسافر بلا حقائب ونصف عارٍ مثل أطفال البحر
(مختارات من أشعار ماشادو)

عن الاسبانية: ترجمة
محمد قصيبات
(المغرب)

الرؤيا

أنطونيو ماشادو البارحة ، رأيتُ في المنام
- عجبًا -
أنّ عينًا كانت تنبع من فؤادي
قلت ُ:
أيها النبع
هل جئتني بماء ِ حياةٍ جديدة
لم أشربها من قبل؟
البارحة ، رأيتُ في المنام
- عجبًا -
أنّ في قلبي خلية نحل ٍ
وأنّ النحلَ الذهبيَّ
كان يصنع عسلا ً نقيا
من هزائمي القديمة
البارحة ، رأيتُ في المنام
- عجبا -
أنّ شمسا ملتهبة
كانت تبعث النورَ إلى قلبي
ملتهبة لأنني أحسستُ
بدفءٍ كأنه يجيء من مدفأة ،
والشمس لأنها أضاءت
وأحضرت الدموعَ إلى عينيّ
البارحة ، رأيتُ في المنام
- عجبًا -
أن الله كان في فؤادي
أنائمة هي الروح؟
هل توقّف في ليله النخلُ؟
هل جفّت ساقية ُ أفكاري ،
هل جفّت الأقداحُ؟
كلا، لم تنم روحي
مستيقظة هي
إنها لا تحلم ولا تنام ، ولكنها
تتأمّل
إنها تنصتُ
عند شواطيء الصمت.

حياتي

طفولتي ذكرياتُ بيتٍ في إشبيليا
وساحةٍ بأشجار الليمون اليانعةِ تحت الشمس،
شبابي عشرون عاماً في أراضي كاستيليا
لم أعش فيه شيئاً مذكورا
لم أغر النساء مثل مينارا ولم أعشق مثل روميو
فأنتم تعلمون كيف كنتُ أرتدي
ملابسي الرديئة
لكن سهماً من كيوبيد
جاء نحوي
فوجدت النساءُ
في صدري بيتاً
في جسدي يجري دمٌ من سلالة التمرّد
لكن شِعري يشرب من ماء الأنهار
الهادئة الصافية
لا تقولوا كان رجلا ً يصنع الأفكار
ولا كان يدّعي الحكمة
قولوا فقط كان رجلا ً طيبا
من حبي للجمال
قطفتُ زهرات من حديقة رونسار
ولكني لا أحب بائعي مواد التجميل
وسوف لن تراني أفخر بهيئتي
لا تذهلني أصواتُ المغنين المنفوخي الأوداج
ولا غناءُ الجدجد في ضوء القمر
تعلمتُ أن أميّز في الصدى بين الأصوات
وأن أستمع من بينها إلى صوتٍ واحد
قولوا كان رومانسياً أو كلاسيكياً
لا يهمّ
ما يهمني هو أن يتذكّر الناس
الشِعر الذي أبقيه
مثلما يتذكّرون اليد الخشنة
التي ترفع السيف
وينسون يد الحداد الرقيقة التي صنعته
أتحدث مع الرجل الذي لا يفارقني
فالإنسان الذي يكلّم نفسه يأمل يوماً أن يكلّم الله
في اليوم الذي تأتي فيه السفينة التي تحمل الناس
عبر التيار دون عودة
سوف أكون من المسافرين
دون حقائب ، ونصف عار
مثل أطفال البحر.

قصائد حب إلى جيومار

(1)

أنطونيو ماشادو لم أعرف
إن كان الذي تحملين في يدك ِ
ليمونةً صفراء
أم خيط َ نهار
يا جيومار
في خيوطِ الذهبِ
رأيتُ شفتيك تبتسمان لي
ماذا تعطينني؟ سألتها
أَالزمن في فاكهة ٍ
تقطفها يدك ِ
من نضرةِ البستان؟
أزمن العشيّاتِ الساكنةِ الفارغة
أم الغياب الذهبي؟
أم لعلها صورة في المياهِ الراكدة؟
أمن جبل ٍ لآخر محترق ٍ
يرحل النهار؟
هل يكسر الحبّ
في المرايا الباهتة
خيوط َ الغسق؟

(2)

رأيتكِ في المنام ، يا جيومار
وأنت ِ في بستانك
من تحتكِ الأنهار
كنتِ في بستانك ِ الذي
من زمن ٍ تحيط به قضبانٌ باردة
رأيتُ عصفورا
يغني في العطش وحيدا
بنعومة على شجرة “الميس”
عند النهر المقدس،
حيث العطش وحيث النبع
في ذلك البستان، ياجيومار
يولد بستانٌ آخر
من إتّحادِ قلبينا
فتذوب أوقاتنا بعضها في بعض
ونعصر معا
عناقيد الحلم ِ
في أقداحنا النقيّة
فننسى حكاياتنا المزدوجة

(الأولى عن رجل ٍ وأمرأةٍ
هما كالغزالة والأسد… جاءا يشربان معا
والأخرى تقول:
ليس الحبُّ سعيدَ الحظ ّ
إنه وحشتان في وحشةٍ واحدة )

يفكّر الشاعرُ فيك يا جيومار
والمسافة بيننا من ليمون ٍ ومن بنفسج
والحقول لم تزل خضراء
تعالي معي، يا جيومار
سوف يلتهمنا الجبل ُ
من الأيكة إلى بستان السنديان
يتعب في مشيته النهارُ ، وقطارنا يمضي
يلتهم سكته مع النهار
ويتحرك الرتم إلى الظلِّ
ويفقد “الخوادامارا” لونه الذهبي
لأن أميرة ً وعاشقها يهربان معا
وخلفهما يلهث القمرُ
ويختفي القطارُ ويدوي
في جسدِ الجبل ِ
الأرضُ عاقرٌ ، والسماءُ عالية
خلف جبال ِ الجرانيت
وجبال ِ البازلت
ها هو البحر واللا منتهى…
فنرحل معا …إنها الحرية.

(3)

أكتبُ لك من عربةِ القطار
في ساعةِ اللقاء الوهمي
حين يكسر المنحدرُ قوسَ القزح في الريح
ويتصدع حزنه على ظهر الجبل ِ
الشمسُ والأجراسُ في أبراجها القديمة
فيا لهذه العشية الهادئة والمنعشة
ويا لهذا المساء الطفولي الذي أحبه شاعرك
ويا لهذا النهار… نهار الصبا
أيام كنت ِ جسدًا
بلون الوردِ على الشاطئ…

الطرقات

(1)

أنطونيو ماشادو من المدينة ِ العربية
خلف الأسوار القديمة
أتأمل العشية الهادئة
وحدي مع ظلي وأحزاني
يجري النهرُ
في الظلِّ بين البساتين
وأشجار ِ الزيتون الفضية
عبر حقول ِ “بايزا”
للأعناب محاليق ذهبية
على سيقان ٍ حمراء
ومثل مرآة ٍ مهشمة ٍ
يتألق “خوادالكبير”
بعيداً , ينام الجبلُ
تحت عباءةٍ من ضباب ِ الخريف
والفيجن الرقيق
على الصخور
بلونه البنفسجي في العشية ِ الدافئة
هزت الريحُ
أشجارَ الدردار العتيقة
وهي ترفع الغبارَ
في زوبعةٍ عن الطريق،
والبدرُ يعلو في السماء
الطرقاتُ الصغيرة ُ البيضاء
تتقاطع وتبتعد،
تبحث عن القرى المبعثرة
قرى الوديان والجبال
الطرقاتُ في الحقول
لكنني , ويا أسفاه،
لا أستطيع أن أمشي مع الحبيبة.

(2)

ربّاه
لقد أخذتَ مني من أحب
فأسمع الآن بكاءَ هذا الفؤاد وحيدا وأحزانه
تلك هي مشيئتك ضد مشيئتي
الآن، يا ربي، إنهما وحيدان
قلبي والبحر.

(3)

هناك في الجبال،
حيث يرسم “الديرو”
قوساً حول “سريا”
بين التلال ِ الفضية
وحول السنديان ،
يدخل قلبي في أحلامه…
” ليونور , هل ترين الحور الرجراج
عند النهر ِ
بأوراقها الثابتة ؟
أنظري إلى جبل ِ
“منياكو” في زرقته وبياضه،
أعطني يدك ودعينا نمشي في طرقاتنا”
ها أنا وحدي
أمشي عبر الحقول ِ التي
تحيطها أشجارُ الزيتون المغطاة بالغبار
أمشي وحيداً،
حزيناً
متعباً وعجوزاً.

بكائية دون خيدو*

أنطونيو ماشادو في نهاية ِ المطاف
تقتلك الحمىّ يا “دون خيدو”
دقّت الأجراسُ طوال اليوم
دنج.. دونج.. تقول لك وداعا!
في شبابهِ لم يقهر الجسد
أحبّ النساءَ
ومصارعةَََ الثيران
وعندما كبر
شرع يطيل في صلاتِه.
كانوا يقولون : هذا النبيلُ
كان يملك الحريمَ في إشبيليا
وكان في نهاره
يركب الخيول
وسيدا في صناعةِ النبيذ.
ثم أصبح مهووسا
عندما بدأت ثروته في النقصان
ففكّر في الزواج .. وغيرها!
استقر ذات يوم
على طريقته الأسبانية ،
وقرر أن يمضي حياته في هدوء
ويترك ميراثا لزوجته ،
بدأ يتفاخر باسم عائلته النبيل،
ثم صبغ قميصَ الحربِ بالألوان،
ووضع رسائل الحبّ القديمةَ في الصندوق،
واحتفظ بذكرياته في داخله.
شرع يتردد على الكنائس
يغني (هالالويا)

ويرتدي أزياءَه الجميلة
- زير النساء -
بملابس التائبين!
اليوم تعلن الأجراس
أن غدً “دون خيدو”
سوف يعود للتراب.
يا لهذه الخدود المجوّفة الصفراء
والجفون التي كالشمع،
والرأس الضعيف،
المسترخي على الوسادةِ في السرير!
لقد رحلتَ الآن إلى الأبد
يا “دون خيدو”، بلا خطيئة…
يسألونك ماذا تركتَ؟
أما أنا فأسألك ماذا حملت َ معكَ
إلى العالم الذي أنتَ فيه اليوم
يا “دون خيدو”؟
أحبّك َ لضفائر الشهوات، والأقمشة
الحريرية؟
والفوز في الرهان؟
ودم الثيران على التراب؟
ودخان شمعات القداس في أيام ِ الأحد؟
خذ حقيبتك يا “دون خيدو”
ورحلة سعيدة!

***

بكائية دون خيدو، قصيدة تحمل في طياتها قصةٌ تستحق الذكر: كانت شخصية الشاعر ماشادو تختلف تمامًا عن شخصية “دون خيدو”… يقول الشاعر خيمينيز عن ماشادو :
” أراه يقترب ، كان الشاعر يمشي حول القلعة في إحدى الطرقات القديمة ، كان يمشي في حذر وكأنه يخشى أن تقع خطاه على الزهور التي سقطت من السماء المورقة . عندما أقترب مني بخطواته الثقيلة وهو يتعثر على حصاة ، خُيّل إليّ أنه عملاق شرع يعلو فجأة مثل ظلّ هائلٍ يتقدم أمام ستارة مضيئة أو مثل شجرة عالية.”
ويقول أيضًا: “كان أنطونيو ماشادو يمشي على شواطئ البحر خلف أسوار مدائنه (سريا وبايزا ومدريد)، كان يمشي بتثاقل مثل عازف يأخذ أنغامه من الداخل ، كان يومها يمشي…وفي يده كتاب…كان يحدّق في أفق حلم جديد.”
ذات الصورة يذكرها الكاتب روبرت بلاي:
“عندما سافر الكاتب الأميركي جون دوس باسوس لمقابلة ماشادو في سيجوفيا وجد رجلاً صعب المراس ذا صوت رخيم… رجلاً يشبه المدرّس العجوز بسترته السوداء ، كان ذلك المدرّس لا يتوقف عن المشي في طرقات سيجوفيا”.
لا يستوي ماشادو ودون خيدو قط.
كان ماشادو رجلاً ينظر إلى الداخل يطلق الروح إلى سمائها الصافية ويقهر الجسد…
يقول في قصيدة حياتي :
“لم أغر النساء مثل مينارا ولم أعشق مثل روميو
فأنتم تعلمون كيف كنت أرتدي
ملابسي الرديئة”.

بعدما يعيش دون خيدو… حياة “دون جوانية” تشبع الجسد حتى يذبل وينقص العطاء، يتحول إلى الكنيسة ويعيش على طريقته الأسبانية… يطيل في صلاته ويحتفظ بذكريات نسائه في داخله.
أراد ماشادو وهو أحد أفراد جيل 1927 (يسميه بعضهم جيل 1898)… أن يتمرّد على حياة الرجل الأسباني المهزوم. فجيل 1927 تكون من أكبر مفكري أسبانيا في ذلك الوقت حيث شمل أدباء منهم فديركو غارسيا لوركا ، وخوان رامون خمينيز وفاسنتي اليكسندر… ظهر هذا الجيل ردا على نكسة أسبانيا وهزيمتها في حربها أمام أميركا عام 1898 حيث فقدت أسبانيا أمبرطوريتها إلى الأبد… كان ماشادو ثائرا على شخصية الرجل الأسباني في ذلك الوقت فكتب هذه البكائية الساخرة … لقد آمن ماشادو بالتغلب على الهزيمة عندما يغير الفرد من سلوكه… فتغيير العالم يبدأ من تغيير الذات ، وظن الشاعر أن هذه الشخصية (الكليشيه) قد ولت إلى الأبد… لكن الحرب الأهلية جاءت لتعيد الأمور إلى غيابات الهزيمة وكان الجنرال فرانكو لهذا الجيل بالمرصاد ، فحدث لهذا الجيل ما حدث… أُعدم لوركا وكتب ماشادو عن موته خير القصائد.. وهي القصيدة التي يبدأها قائلاً : “رأوه بين البنادق يمشي/ وسط الشوارع…” أما خيمينيز… فاختار طريق المنفى… وبقي فاسنتي اليكسندر بسبب إصابته بالسل في أسبانيا وعانى مقص الرقيب. وكانت نهاية ماشادو المأسوية…

****

النزول إلى الجحيم بهدوء

(دراسة عن انطونيو ماشادو من كتاب أزمنة الوحشة)

روبرت بلاي
(أميركا)

عن الاسبانية: ترجمة محمد قصيبيات
(المغرب)

(1)

إن جاءت أوزانُ الشعر العربي من إيقاع ِ مشي الجمل ِ على ترابِ الصحراءِ ، فإن شعرَ ماشادو خرج من إيقاع خطواتنا.
عندما سافر الكاتبُ “جون دون باسوس” لمقابلة ماشادو في “سيجوفيا” وجد رجلا ً صعبَ المراس ذا صوتٍ رخيم… رجلا ً يشبه المدرسَ الذي تخيله بسترتِه السوداء. كان ذلك المدرسُ لا يتوقف عن المشي في طرقات المدينة.

(2)

ربط ييتس الشعرَ بحالات الإغماءة ، وعندما يغني لوركا :
“ذات يوم ٍ … النملُ المسعورُ
سوف يلقي بنفسه في السماءِ الصفراء
التي أتخذت من عيون البقرِ بيتا ”
عندما نقرأ هذا يغمرنا شعورٌ غريبٌ ، أما ماشادو فالأمر لا يهمه كثيرا ، إنه فقط يريد “أن ينزل بهدوءٍ إلى الجحيم” أو يكون مخلصا لما هو يومي وعادي: الذباب، والبغال العمياء التي تكد في الساقية، والأرض القاحلة، والكلاب، والشيوخ الذين يحدّقون في الفراغ، وفصول المدرسة الرتيبة، وكتب الفلسفةِ التي لم تحمل الإنسانَ إلى الخلاص.
كان شعره مفعما بكل هذا، فكيف للشاعر أن يحمل قرّاءَه إلى حالةٍ ثانيةٍ من اللاوعي؟أبحروفه المتحركةِ، الفاتنةِ، السحرية؟ أبقدرته الهائلةِ على شدِّ خيوطِ الزمن ِ في أبياته ِ؟ تحسّ أحيانا كأن الشاعر منوم يحمل في يدهِ عقربَ الساعةِ الدقّاق.هذا هو ماشادو، فالحروف المتحركة تأتي بإنتظام في كلماتِه مثل دقّات الساعة… تيك..تاك..تيك…تاك… يمضي الزمنُ أمامك حتى تكاد تقيسه، إنك تنصتُ في هدوءٍ..!

(3)

ماشادو لديه الإجابة إن سألته ما الشعر؟ “إنه الكلمة في الزمن” أو “أنه لغة بشرية تحسّ فيها الوقتَ الذي يمر” أو “هو الكلمات التي تأخذ طاقتها من الزمن” أو”الكلمات التي تأخذ مكانها ـ مثل دقات الطبول ـ في الوقت المعلوم”.
La palabra en el tiempo
إنه أحب أن يرددها. إنه يرددها حتى لا يكاد السامع يفقه ما يريد قوله، لقد أحبّ ماشادو أن يروي لنا الحكايات في شعره… الحكايات التي تحوي الزمنَ مثلما تحوي الجرّة ُ الماءَ.
وهل لا يتحرّك الشكلُ في فراغ ِ الزمن؟ إن الجرّة الصينية مازالت تتحرك في فراغها، والحلزون ألا يكوّن صدفته من دورانه في الزمن؟ لاشك أننا سنقول أن الحلزونَ يفعل ذلك فقط عندما يقبل بفكرة أنه ليس كائنًا خالدًا، وينزل إلى الزمن الأرضي الذي يتجلى في بطء، وعندها فقط يكوّن الحلزونُ صدفتَه التي نظنها ـ نحن البشر ـ خالدة.
يقول ماشادو:
“ان ترسم حروفك
ببطءٍ وإتقان
لهو خيرٌ من فعل الشيء ”

(4)

أعجبتني قصيدة كتبها ماشادو عن حقل الفول:
“السماءُ الزرقاءُ، والنهرُ ، وأغصانُ
شجرة حور الرجراج النحاسية اللون،
وشجرة اللوز المبيضة فوق التل
آه يا ثلجا مزهرا ويافراشة فوق الشجرة!
مع رائحة الفول، تجري الريح ِ سكرى
في الحقول!..”
نحسّ هنا كأن ماشادو يرسم الطبيعة بيد خفية. لقد تعوّدت أن أرى الشاعر يملأ قصائده عن الطبيعة بالفلسفة ، فتصبح الأوزة المبحرة عنده رمزًا للكبرياء، وقد تكون الحيّة ُ عنده رمزًا للشرّ وأحيانًا للحكمة، ولكنها على أية حال ليست بحية. يبدو أن الإنسانَ المعاصرَ إذا أراد الكتابة عن حقلٍ ما فإنه يدخله في رأسه ويغلق الأبواب… الشعراء لا يفعلون ذلك، ماشادو لا يسأل الحقلَ أن يدخل في شعره ولكنه يحمل هو قصيدته إلى حقل الفول… إنه يتركها هناك.. فتفتح القصيدة أنفها:
“مع رائحة الفول ، تجري الريحُ سكرى
في الحقول! ”
هذا لا يعني أن ماشادو شاعرٌ رومانسيٌ، إنه يكره الرومانسية، لكنه أراد في شعره أن يدفع القارئ إلى التأمل واحترام الطبيعة… الطبيعة التي تمشي أمامنا في بطء.

(5)

لقد أعجب ماشادو بفيتاغورس. يظهر فيتاغورس في شعره من البداية إلى النهاية. إنها فلسفة فيتاغورس في “موسيقى الكون” التي تظهر في أغلب الأحيان:
” قد يحدث في نومي
أن اليدَ التي تنثر بذورَ النجوم
قد ترسل بموسيقى من الأزل
مثل نغمة من قيثارةٍ كبيرة
فتأتي الموجة الرقيقة إلى شفاهنا
مثل كلمة أو إثنتين.”
لقد جعل فيتاغورس ماشادو يكتب القصائدَ القصيرة ، لم يترك لنا فيتاغورس سوى مقولات قصيرة لكنها توحي بوجودِ رباطٍ سري بين زارع النجوم وبين عازفِ القيثارة، فنحن نرى صورة الذي ينثر البذورَ وتحرك أصابعُه أوتارَ القيثارة فتنبعث الألحان!

(6)

عندما هُزمت أسبانيا عام 1898 وفقدت أمبراطوريتها إلى الأبد ، تعلم الأسبان أن ينسوا فخرَ أجدادِهم الذين أعتمدوا على النص الطويل في كتاباتهم ، فشرعوا في بداية القرن العشرين يعيشون أحزانهم… ويتعلمون الإقتصادَ في الكلمات.

(7)

من يقرأ لمشادو عليه أن يسمع ويرى، فالشاعر لا يريد أن يقبع وحدُه في بئر وحشتِه العميقة ، ولكنه يرغب في العبور إلى الآخرين… من النهر إلى الضفافِ … ثم إلى النجوم
” عندما تتحدث مع شخص ما
اسأل سؤالك
ثم أنصت..”
عندما يصعد الشاعرُ الجبلَ ويحدق في “سريا” والنهر الذي يلوي جسده حولها في دلالٍ، كيف له أن يتأمل الفراغ الخارجي دون أن يفقد عالمه الداخلي مثلما حدث مع الشاعر الألماني “رينر ماريا ريلكه”. يقول ماشادو: “إذا نظرنا إلى العالم وحده فإنه يشرع في الفناء… إذا أردنا أن نبدع فعلينا أن نطرز العالمَ الخارجي في الداخلي . كيف نفعل ذلك؟… نستطيع أن نستعمل أعيننا.”

(8)

يروي المعلّمُ الصيني “تشان” حكاية لتلاميذه.. كان يحكي عن رجل ٍ خرج يناقش معلمًا بوذيًا فقال له: “قل لي بإختصار ماذا تعلمتَ في حياتك؟” ، فمده المعلمُ بورقةٍ كتب فيها كلمة واحدة : أنتبه ، فكتب الرجلُ على الورقةِ : إنتبه..إنتبه ، ثم أعاد الورقة َ للمعلم ِ ، ثم أشار إلى قلبه ِ وقال للمعلم : “أنا أيضًا أملك روحًا وسوف نموت معًا فقل لي ماذا تريد أن أتعلم؟” فقال المعلم: “صدقتَ “، ثم أخذ الورقة وكتبَ عليها: انتبه..انتبه..انتبه!
إن حياة ماشادو تحمل الكثير من هذا. يوضح ماشادو في شعره أن الأنسانَ المعاصرَ له طريقته في الإنتباه. لقد كان فيتاغورس ينصتُ إلى الذبذبات… كان يبدأ محاضراته بالضرب على المصوات حيث ينقره بشدة ليسمع التلاميذ النغمة التوافيقية، ثم يثبت لهم أن العلاقة بين الذبذبات التي سمعوا تتوافق مع العلاقة بين سرعة كل كوكبٍ ، هذا يعني أن الإنسان ينتبه إلى ذبذبات الكون.
يقول فيتاغورس: “عندما تستيقظ في الصباح اصقل شكلَ جسدك من فراشك.”عندما ينتبه ماشادو فإنه يوجه إنتباهه إلى ما جاء قبل البشر وإلى الطبيعة التي يقول الشاعر إن إيقاعها هو أقل سرعة من إيقاع الإنسان… إنه إيقاع بطيء.لقد انتبه الشاعرُ إلى كل مدينةٍ عاش فيها ، وإلى الطريقةِ التي تتوزع فيها الألوان مثلما فعل”جوته” وانتبه إلى تزامن أحداث البشر مع البيئة ، ثم انتبه في نهاية المطافِ إلى عالم الرؤيا الغريب. إن مصوات فيتاغورس يظلّ يطارد الشاعر في أحلامه.

تحرير أمال نوّار