علي حسن الفواز

عقيل عليالموتى وحدهم يصنعون المراثي بامتياز، ويصنعون المعجزات في اللغة،، وربما هم الوحيدون الذين يمنحوننا إحساسا بأننا نملك زمنهم، لأنهم الماضي الذي غادر لحظته الحية وأعطانا إحساسا تعويضيا يتماثل فيه الموتى مع الشعراء الذين قال عنهم بورخس بأنهم وحدهم يملكون الماضي، يمارسون فصاحته وطقوس أيامه الباسلة ...
وعقيل علي الشاعر والميت والمغلول الى مراثينا وكلامنا المباح أعطانا موته التراجيدي يقينا عن شمولية الموت وتصورا عن قسوة الحياة حين تصير موتا يمشي على أعصابنا أو فيضانا من القهر والخيانات ..
لم يألف الأمكنة ولم يعتد ان يمارس طقوسه المنزلية ، كان يملك نوعا من البوهيمية والتمرد،
سكونه لم يكن بريئا أو عاطلا عن المعنى، تنبجس عنه صيحات مكبوته، ربما هي نداء روحه العميقة التي تعاني من قهر (مازوشي) أجبرته وقائع الأيام العراقية ولسنوات طويلة على ممارسته حدّ التكرار واللذة .. السنوات العراقية لم تكن سنوات في صناعة الألفة، القلق الوطني
وأوهام الشعراء التي عادة ما تصنعها الحكومة وتسوّقها كجزء من يوميات الحرب وخطاب السياسة المليء بجرعات تعويضية وثورية مخلوطة بين اليسار الرومانسي والاغواءات القومية العصابية ..كل هذه العوامل أسهمت في صناعة بيئة نفسية لوقائع ثقافية ملتبسة، حرّضت البعض على الشروع بمغامرات غائمة الملامح نحو حيوات إيهامية لم تكن طاعنة في شعريتها، قدر ما كانت تمارس نوعا من الإغواء الغرائبي/ اللذوي الي يصطنع حروبه الصغيرة التي تقابل مغامراته الشخصية بحثا عن الحرية والجسد والحلم، وتلك بعض مكونات الخطاب الشعري الذي جاءت به مشاريع الحداثة الشعرية العربية التي أنضجتها المغامرات الشامية واللبنانية وإثارتها كأسئلة مباحة ومثيرة أمام شعراء ما بعد الستينيات!!! وسط هذا الفضاء الشعري الغرائبي نشأت صدمة عقيل علي الشعرية، كان يعيش يوميات الصدمة بكل إيقاعها النفسي والإجرائي ، حاول ان يؤسس لتجربته خصائص وملامح خاصة وهو الكائن الذي لم يزل يحمل معه استلابه المديني وسوء تعاطيه مع اطمئنانها المغشوش،،،، الشعراء من مجايليه كانوا أكثر جرأة في المغامرة والتصريح بأصوات عالية !!
البيئة العراقية كانت حاضنة لتحولات ثقافية وسياسية معقدة ،، وهذا ما جعل الشاعر عقيل علي
يواجه استحقاقات هذه المرحلة بوعي قلق وروح شائهة عن التماسك رغم انجازه المبكر لمجموعتين شعريتين (جنائن آدم) و( طائر آخر يتوارى) والتي عدّت من ابرز ملامح المغامرة الشعرية العراقية لما سمي ب(جيل السبعينات).. وربما هي أكثر المؤثرات التي عصفت بشخصيته اليومية والشعرية وافترضت لع لذة العزلة والانطواء بعيدا عن الصراعات التي إثارتها المرحلة بكل تداعياتها السياسية والثقافية والشعرية خاصة ..
لقد ظلت تجربة عقيل علي من أكثر التجارب إثارة في قراءة الصوت الشعري الجديد القادم من مدن الجنوب خاصة بعدان قام الشاعر كاظم جهاد بطبع مجموعتيه الشعريتين آنفا ليقينه بان عقيل علي يملك احتقانا شعريا داخليا ،لكنه لايملك الجرأة والشجاعة في تبني هذه المغامرة وطبعا حظيت المجموعتان الشعريتان باهتمام النقاد العرب أكثر من اهتمام النقاد العراقيين الذين كانوا مشغولين بإيجاد قراءات قسرية لهذا التحول الشعري في إطار النظرية السياسية أو في إطار ما خلفته المدارس اليسارية الواقعية من جيوب في القراءة والتأويل، وحتى القراءات التي استعارات الخطابات الحداثوية كانت محدودة جدا وذات اشتغالات لم تتبناها الصحافة الثقافية باستثناء مجلة (الكلمة) النجفية !!
ان شخصية الشاعر (عقيل علي) الإشكالية أثارت حولها الشكوك وحرضت الكثيرين على ا لكتابة عن شبحية تجربته الشعرية ، أو انه كان يعيش إشاعة المغامرة الشعرية السبعينية الضاجة بأسماء لامعة وان كتابته هي جزء من حرائق روحها المبكرة ... لكن الذين يعرفون الشاعر عقيل علي ولديهم اطلاعا نقديا وقرائيا حول تشكلات الخارطة الشعرية العراقية، أنصفوا عقيل علي في مغامرته وانجازه ووضعوه في السياق التاريخي للزمن الثقافي العراقي ... ولعل المصير الغرائبي الذي أحاط بتجربته، وضع الكثير من الأسئلة حول شخصية الشاعر في الزمن والكتابة والتي هي نظرة اجتماعية أكثر مما هي ثقافية ، لكنها كانت جزءا من تشكلات البيئة الثقافية العراقية ذات المرجعيات السياسية والفكرية والحزبية المعرفية والتي كانت تواجه عقيل علي بنوع من الطرد المنهجي لأنه لايشبه في شخصيته المازوشية غير المنتمية أيّ من نماذج شخصياتها المنتمية بامتياز !!!

**عقيل علي ، الأوهام المريبة**

لقد وضع النقد العربي الشاعر عقيل علي في سياق إشكالي وتم ترحيل هذا الوضع الى البيئة الثقافية العراقية ليكون الشاعر أمام أوهام مريبة حقا، فالشاعر يدرك تميز مغامرته لكنه لم يدافع عن نصه ولم يسع الى تأطير تجربته وتنميتها في الحراك الثقافي الضاج والمفتوح على احتمالات متعددة ،بسبب الكثير من الإشكالات التي كان يطرحها الواقع الثقافي بصراعاته المعروفة وبروز ظاهرة التجمعات الثقافية وضواغطها على الإعلام الثقافي، فضلا عن كونه شخصية انطوائية خالية من الضجيج، والنقد العراقي كان يصطنع له في الكثير من سياقاته ظواهر وأسئلة وأسماء معينة ويرمي عليها حجره المبارك، وكان عقيل علي بطبيعة الحال خارج هذا الضجيج رغم انه من أكثر الشعراء السبعينيين اشتغالا في المنطقة الشعرية التي أطلقها هؤلاء الشعراء في بيانهم الشعري الذي نشرته مجلة الكلمة والذي أثار زوبعة ولغطا لما تضمنه من أثارات واقصاءات ودعوة لكتابة شعرية تتبنى القصيدة اليومية بعد ان وضعت التجارب الشعرية السابقة نفسها في عطالة النموذج والمغامرة، لكن هذه التجربة ذاتها رغم صوتها العالي ورغم المسوح السسيو يسارية التي أحاطت بها أوقعت الكثير من نماذجها في مطب ما انجزته المغامرة الشعرية لتجارب أدونيس وانسي الحاج وسليم بركات وترجمات رينيه شار وسان جون بيرس وبونفوا وغيرهم باستثناءات محدودة جدا كان عقيل علي واحدا منهم، إذ كلن بعيدا عن هذا الضجيج والصخب وتبادل الأدوار والشتائم ...
ان موت عقيل علي أثار أسئلتنا عن الموت الواقعي للشاعر وأثار ايضا الطبيعة الغرائبية التي يحياها الشاعر في حياة لاتمنحه امتيازا أو تعطيه وجودا استثنائيا مثلما اعتدنا ان نقرأ في الكثير من الأدبيات العالمية وحتى في تاريخنا العربي .. عقيل علي وضع موته صورة لبشاعة ان يكون الموت إهمالا ! وكيف لنا في يومياتنا الثقافية وفي عمل مؤسساتنا الثقافية ان نقترح مصدات لمواجهة هذا الموت الغرائبي !!!
لاأظن ان عقيل علي كان يمارس موته اليومي بلذة ،،أو انه يستعرض أحزانه وخرابه بنوع من المازوش العميق، ربما كان له حلمه الذي يجعله هادئا وصامتا ولايمارس غضبا أو وقاحة أو انه يرمي شتائمه مثلما يفعل المتورطين بالإدمان !!! وربما ايضا كان له إحساس عميق في انه يمارس نوعا من الشعرية المضادة والتي يكشف فيها عن يوميات موته المعلن !! قصائده الأخيرة كانت تحمل هذا الهاجس وتنبئ عن موته القادم، كان يمارس لعنته على جسده ويرمي سخطه مثلما يرمي الحجر، نثريته الشعرية كانت أكثر انقيادا للممارسة هذه الطقوس، وان جملته تجد في هذه النثرية مجالا بينّا لتشكيل نظامها التصويري المحدود، لم يشأ ان يمارس انزياحا في التركيب البنائي للجملة الشعرية، ليقينه ان العفوية في كتابتها هي أكثر تعبيرا عن شخصيته اليومية فضلا عن ان ذخيرته في التجريب لم تسعفه في الدخول عميقا الى الجوهر الإشكالي للشعرية، كان يمارس كتابة القصيدة اليومية بامتياز، إنها قصيدته الشخصية الحميمة التي تلازم قلقه اليومي وبوهيمية حياته والمحتشدة بالتقاطات قريبة منه، الخوف / الجوع / الحزن/ الموت/السأم/ استحضار الأصدقاء الموتى ..

كمن يدعو الواحد.. يدعو الآخر
قبله علا محسن اطيمش
وكنا بدموعه التي لا ترى نبلل دشداشة الشعر
التي تستر جسدك يا محسن اطيمش
أهكذا تساقط الأعمار ؟
يا أللّه
ما هكذا....

ان القصائد الأخيرة لعقيل علي كانت هي قصائد موته الذي يتجول معه، كان يشهر جوعه وخرابه أمام الآخرين، وكأنه يسخر من حيواتهم المليئة بالضجيج والركض خلف أوهام لم تكن شعرية ، لم يطمأن للأمكنة ، وربما كان يمارس معها نزعة غريبة في التخريب، كما لم يطمأن للآخرين الذين وضعوه في سياق قاس لم يعتد ان يمارس فيها حياته البطيئة والكسولة .
كان يبادل الآخرين الريبة، وكان يمارس هذه الريبة بنوع من اللذة، وكأنه يبحث من خلالها عن قوة آتية من اللام رئي تعيد تسمية الاشياء والطبيعة التي فقدت يقينها وبداهتها المتداولة !!وفقد هو طعمها ولونها وسيولتها على جلده وأصابعه ...

ولا هاوية لها نافذة يتسرب منها النور
ليلغي كل هذا السأم
وسط كل هذا النسييج
ينتصر اللامرئي وسط ضجة الطبيعة
الصمت يخترق ما يتعفن من الزمن
ويصهر باب الوجود المترنح تحت
غطاء الابدية..
ما جدوى كلمة شجرة ،ان لم تكن شجرة بحق
أعالي الشواطئ انكبت على ظهرها
وتركتنا صرخة منزوعة !

ان هذا الوعي الاستباقي بالموت وضع عقيل علي أمام نوع من الكتابة السرية التي تشبه هذيانات روحه اللجوجه في عزلتها.. لقد اصطنع لحظة موته مبكرا وهو يستحضر أحلامه لتكون معادلا لقسوة أوهام الخارج التي ألقت عليه العزلة..ان العزلة العقيلية هنا هي صناعة في اللذة الباطنية التي تجعله في نوبة من التأمل التييكرر فيها صناعة لذته ونسيانها. وأظن ان المكان اللذوي/ مكان العزلة هو اشتراط في حضور مقابل نفسي يجعل هذا المكان بمثابة الإيقونة الخاصة أو لازمته التي مارس عند طقوسها وتكرارها موته الشخصي

قبل ذكرى حياتك
عزلت أيامك .. أيامك الصحيحة
جلست تتأملها
وعندما ضجرت
ناديت الأحلام ،، وناديت النسيان كذلك

ومن هنا نجد ثيمة الموت/موت الجسد كانت حاضرة في يوميات عقيل علي ويتداولها كشرط انطولوجي في وعيه وفي لعبة كتابته.. إذ يخفت صوت الحياة تماما في لغته الشعرية مقابل حضور مدوي للطبيعة/الملاذ الأخير، وحضور الجسد الذي تعلّم النسيان والكبت والمراثي والذي تنهشه الحروب والسموم ولعل آخر قصيدة كتبها عقيل علي كانت هي البيان العلني الذي أجهض لعبة الحياة، أشهر من خلالها موته المباح، وربما كانت لحظة توهجه الأخير الذي أعلن انه الوحيد المكشوف العاري أمام حياة تبادله الموت، لذا رفض من اجل إحساسه السري هذا كل محاولا ت الترميم التي تجعله عند لحظات عاطلة عن الروح، لقد صرخ عاليا وبقسوة بعد زمانات طويلة من الصمت والانكفاء والعزلة والطرد، وكأنه أراد ان يمارس أقصى احتجاجه على الجسد والآخرين والحياة وينصت لوهلة فاضحة الى صوته الداخلي الطاعن بالألم والاحتجاج، واحسب ان هذا الإنصات كان استجابة لنداء سري ربما هو نداء الطبيعة أو صوت الموت الذي اخذ الجسد الى لعبة النسيان الكامل

أغمضت العينين المغلقتين
ومضيت
بعد انطفائهما
ما زال الانتظار يرتحل قبض رؤاه
في داخل روحك
الى أين تنزل يا عقيل علي
كلا انه الموت في الحياة ، كل رمشة جفن
أهي إذن ماتبقى
كفى... كفى

** ملاحظة:القصائد وجدت في ملفات الشاعر وعند بعض الأصدقاء القريبين