ديفيد هارسنت

ترجمة : عابد اسماعيل

ديفيد هارسنتيعتبر ديفيد هارسنت (المولود عام 1942) من أهم الشعراء المعاصرين في إنكلترا اليوم. أصدر تسع مجموعات شعرية، من أشهرها "أحلام الموتى" عام 1977، "أخبار من الجبهة" الصادر عام 1991، "فكرةُ العصفور عن الطيران"، الصادر عام 1998، و"زواج" الصادر عام 2002، وآخرها "الفيلق"، الصادر في لندن ونيويورك، عن دار فابر، عام 2005.

تركّز قصائد هارسنت، مجازياً، على قضايا الحب والحرب، ووصف مشاهد دامية وعنيفة، لمناطق صراع وتوتر في العالم، تتأرجح بين الواقعي والمتخيل. نال الشاعر العديد من الجوائز الأدبية المرموقة، كان آخرها جائزة "فورورد" عن ديوانه الأخير "الفيلق"، كما رُشّح ديوانه المذكور إلى القائمة النهائية لجائزة ت.س. إليوت الشعرية. ساعد عمل هارسنت في حقل المسرح الموسيقي إلى التعرف على العديد من المؤلفين الموسيقيين، من أهمهم هاريسون بريتويسل، حيث قدّم معه أعمالاً غنائية عديدة على مسرح الأوبرا الملكي في لندن، ومسرح غارنكي هول في نيويورك. في مهرجان أدنبره الدولي، الذي انعقد خلال شهر آب الفائت، حالفني حظ اللقاء بالشاعر، والتحدّث إليه مطولاً عن شعره، وترجماته الكثيرة، وخاصةً اشتغاله على قصائد الشاعر البوسني غوران سيمتش، أثناء الحصار الذي كان مفروضاً على مدينة ساراييفو، حيث أصدر كتاباً يضم مختارات مترجمة بعنوان "الهروبُ ركضاً من المقبرة"، عام 1997. ولا يخفي هارسنت تأثره بشعر إليوت وستيفنس، وأودن، ولا يتردّد في الحديث طويلاً عن صداقته القوية مع الشاعر الراحل تيد هيوز. يمارس الشاعر أيضاً الكتابة الدرامية للتلفزيون والإذاعة، وينشر قصصاً بوليسية تحت اسم مستعار.

يتميز شعر هارسنت بغنائية عالية، تدفعه إلى استثمار كل المقومات الإيقاعية في القصيدة الإنكليزية، مستفيداً من براعته في تطويع البحور الشعرية، والاستفادة من كيمياء الجملة الإنكليزية، الغنية بالأحرف الصوتية والمقطعية، مركزاً، في الآن ذاته، على الهارموني الصّوتية والدلالية التي تجعل القصيدة أقرب إلى مقطوعة موسيقية لا تشير إلى شيءٍ خارجها ـ لا تشيرُ إلاّ إلى ذاتها.

من ديوانه الأخير، "الفيلق"، اخترنا القصيدة التالية:

ثلاثيات شعرية
(إلى يانيس ريتسوس)

ردهةُ أبواب. ساعةُ الجدّ.
عاريةً تخرجُ المرأةُ، تخُفي شَعرَها بمنشفة.
لم تنظر إلى السّاعة. لم يكن الأمر كذلك.

*

ثمارُ الليمون المتدلّية في الضباب كالفوانيس.
حصانان، أحدهما رماديٌ والآخر كستنائي.
تأخذينَ الرّمادي. على صهوةِ الكستنائي ألقى حتفي.

*

حشرةٌ على زجاج النافذة، عودُ ثقابٍ مطفأ
خلف بابِ غرفةِ النوم:
شيءٌ أو لا شيءَ على الإطلاق.

*

سوف أصلُ بهذه القصيدة إلى الخاتمة:
بهُدبٍ فوق خدّكِ
أو بفراشةٍ عَلِقت في شعركِ.

*

الجو حارّ. الثيابُ تنشفُ على الشّرفة.
أجل، هنا، المرأةُ العجوز ترتدي السّواد.
الشّمسُ تمسحُ نظّارتيها.

*

ملائكةٌ من حجر بين أعمدةٍ محطّمة
تتبادلُ القُبَل
فوق قبورِ الموغلين بعيداً في موتِهم.

*

تمرّرينَ لي كأساً من الماء
كنتِ قد غمستِ إصبعَكِ سرّاً
في مائِهِ.

*

قطارٌ يعبرُ القريةَ
في وقتٍ متأخّر من نهار السبت. دخانٌ يتصاعد.
مسافرٌ وحيد.

*

أولموا له العسَلَ، والنبيذَ والجبنَ. اصطحبوهُ
إلى ممرّاتٍ مقنطرة. في حجرة المرايا رأى
إلهاً صغيراً، عارياً، يربطُ حذاءَه بخيوطٍ من ذهب.

*

انظر ـ القمرُ اليانعُ
أسقطَ للتو
سكّيناً في كمّ قميصِها.

*

كلابٌ نابحةٌ. أشجارٌ مغبرّةٌ.
شرفةٌ محطمةٌ. بابٌ يفضي إلى اللّيل.
على أوّلِ الدّرجِ أضعُ قدمي.

*

ترمي باقتَها على السّرير.
تسرّحُ شعرَها.
تتعرّىُ، وتتوجّهُ إلى النافذة.

*

كلّ ليلة، فيما تغمضينَ عينيكِ، يقفُ
الذي لا يُسمّى قرب سريركِ. يحدّقُ
طويلاً بكِ، ويخبركِ عن كلّ شيء.

*

ولأنّ أمّه غائبة، يحضّر قهوتَه بنفسه،
ويرتّبُ فراشَه. ينجزُ عملَه على أكمل وجه.
هما يداه اللتان تكبران كيدي الأمّ.

*

تصلُ الشمسُ أخيراً إلى نافذة الغرفة الخلفية.
أحدهم يصرخُ في الشّارع.
هذه الأشياء تبدو مختلفةً لمن لا يحبّ.

*

أسود في هذا الجانب، وأبيض في الجانب الآخر.
مهمتكَ أن تجعلَهُ أبيضَ في هذا الجانب
وأسود في الجانب الآخر.

*

خفيفةً تتساقطُ الأوراقُ فوق ريحِ اللّيل.
في نومي أسمعُها
وأتبعُها حتىّ الجذور.

*

تخيّل المطعمَ المضاءَ بسطوعِ النيون،
احتدام الأصوات، واحتدام الأطباق. الصمت
وهي تنزعُ حذاءَها. وهي تتأهّبُ للرّقص.

*

المحطةُ ليلاً: صامتة، مظلمة، ومهجورة.
حارسُ المحطة يشعلُ سيجارة.
يسحبُ سحّابَه ويبولُ بين أثلام السكّة.

*

بيتٌ مغلقٌ. دَرَجٌ.
سمكةٌ ذهبيةٌ تسبحُ
في المرآةِ الملطّخة.

*

ما يزالُ ثوبُكِ منشوراً على الحبل.
نسيمٌ يملأهُ.
فجأةً، يهبطُ المساء.

*

رائحةُ الطبخِ تأتي من غرفةِ جاري.
خلف شباكٍ آخر، رجلٌ وحيد.
لو كنتُ أستطيعُ أن أسمعَ لحنَها، لمرّةٍ واحدة...

*

المدنيةُ بكاملها تنعكسُ
على خاتمكِ اللؤلؤِ:
حتى بيتي الصغير في الضّواحي.

*

رميتُ عقبَ سيجارتي من النافذة
باتجاهِ الحاوية. أهي التي تتوهّجُ،
أم نيزكٌ هوى؟

*

صعدَ البرجَ لكي يدقّ الجرسَ.
عصفورٌ حدّق في عينيه.
جلسَ القرفصاء، عندئذٍ، وأشعلَ سيجارة.

*

الزهورُ على البيانو ترمي بتلةً
مع كلّ لحنٍ تعزفين.
هل هذا خطأي؟ أهي غلطتي؟

*

نومُكِ بحيرةٌ هادئةٌ.
وعلٌ ينحني ليشرَبَ.
أنا أيضاً أنحني لأشرَبَ.

*

ماذا لو أنّ هذه الأحجار
تهوي إلى البحر؟ ماذا لو أنّ أحدهم
بنى ضريحاً من أحجار على حافّة البحر؟

*

حين يسقطُ ظلّ عصفورٍ
على الحائط الأبيض، المقابل،
سوف أكتبُ إليكِ تلك الرسالة.

*

تقلبينَ فنجانَ قهوتكِ رأساً على عقب.
"أرى باباً يفضي إلى الغد".
بابٌ مفتوحٌ أم مغلقٌ؟ هي لا تجيب.

*

النوافذُ تهشّمت، والبيتُ ينهبهُ الفراغُ
بسبب الغيابِ العاري والمصقول
لجسدكِ على السّرير.

*

تلكَ الليالي المطرّزة بالنجومِ... كنّا
نسمعُ التفّاحَ يتساقطُ فوق العشبِ النَدي.
وكنّا نتركُ التفّاحَ مرمياً، ونجمعُ الرّنين.

المستقبل
الاحد 3 كانون الأول 2006