إعداد وترجمة: أحمد مرسي

إرنستو كارديناللا أدري ما الذي ذكرني بالشاعر النيكاراجوي إرنستو كاردينال علي أثر تسليط الأضواء على دانييل أورتيجا بعد فوزه في انتخابات الرئاسة مؤخرا. فقد تذكرت أني ترجمت له قصيدة نشرت في مجلة الأقلام العراقية في عدد ابريل 1980، وبرغم أني في كثير من الأحيان أفضل أن اشتري كتابا ما أحتاج إلي الرجوع إليه في أقرب وقت ممكن، مع تأكدي أن هذا الكتاب قد اشتريته من قبل وهو موجود في مكتبي إلا أنني أعلم علم اليقين أن شراء نسخة ثانية من أي مكتبة قريبة أسهل من العثور عليه بين كتبي المرصوصة والمكدسة بلا ضابط أو رابط.ولأني لا أحتفظ بالمجلات وأكتفي بالاحتفاظ بمخطوطاتي أو نصي المنشور وخاصة في عصر ما قبل الفاكس، عثرت بمحض الصدفة علي الصفحات المنتزعة من المجلة، وقد اكتشفت دهشتي أني لم أترجم القصيدة بأكملها، ويبدو أن مارتن بول، المترجم الأمريكي، لم يترجم القصيدة كاملة. وبعد قراءة الجزء المترجم، شعرت برغبة في أن أعود إلي القصيدة الكاملة لأعيد قراءتها. ولحسن الحظ، كانت ابنتي تحتفظ بمجموعته 'ساعة الصفر وقصائد وثائقية أخري' في مكتبتها المنظمة منهجيا. وفي الحال، شرعت في ترجمة نصف القصيدة الأول الذي لم أترجمه لكي تنشر القصيدة كاملة.

إن إرنستو كاردينال، القس القديم والمتصوف، يعتبر واحدا من أهم شعراء جيله في أمريكا اللاتينية. وقد ولد في جرانادا 'غرناطة' بنيكاراجوا في .1925 ودرس في ليون وماناجوا ومدينة المكسيك ونيويورك بالولايات المتحدة. وبعد حصوله علي ليسانس الفلسفة في جامعة كولومبيا، نيويورك في 1949 عاد الي نيكاراجوا حيث مر في السنوات القليلة التالية بتحولين عميقين.

في 1954 تمرد كاردنيال علي مجرد الاحتجاج الشعري الذي كانت تفوح به قصائده، واشترك في محاولة لإسقاط حكم سوموزا الديكتاتوري. وقد اكتشفت الخطة عن طريق الخيانة. ولكن كاردينال تمكن من الهرب فتفادي بذلك مصير العديد ممن ألقي القبض عليهم وتعرضوا لعمليات التعذيب الوحشي والقتل في النهاية علي أيدي زبانية سوموزا. وفي عام 1956، عندما قتل سوموزا علي يدي شاعر، كما أتم إرنستو كاردينال قصيدته 'ساعة الصفر' مر الشاعر بأزمة روحية عميقة غيرت حياته. فقد نبذل كاردينال العنف الثوري، وأعلن التزامه الدراسة للانخراط في سلك الكهنوت. وقد رسم بعد مرور 9 سنوات في ماناجوا، ولم يمض وقت طويل حتى نزح كاردينال إلي ملاذه الدائم بجزيرة في أرخبل سولينتينامي، علي بحيرة نيكاراجوا الكبرى.

وبرغم اعتراف كاردينال بتأثره ببعض الشعراء الأمريكيين، وبصفة خاصة ازراباوند، إلا أن الاختلاف بين شعره والشعر الأمريكي الحديث بصفة عامة، جد بين وجوهري، وكما يستدل من قصيدته 'ساعة الصفر'، يحاول ارنستو كاردينال دائما أن يكون واضحا ومفهوما. ومع ذلك فقد أخذ عن ازراباوند التكنيك الشعري، كما تعلم منه كرهه الشديد لشرور الرأسمالية.
وتشمل أعمال كاردينال: جوامع الكلم '1971'جيشيماني '1965' و 'صلاة إلي مارلين مونرو' '1966'، و'زامير' '1969'، و'الحب في الحياة' '1970' و'تحية إلي الهنود الأمريكيين' '1974'، و'في كوبا' '1974'.

إرنستو كارديناليقول الناقد الانجليزي روبرت برينج ¬ ميل، الذي تربطه بالشاعر صداقة عمل وثيقة 'إن شعر إرنستو كاردينال يفضح زيف ويوثق ويسوي خلافات الواقع، ومبادؤه الجمالية أخلاقية بجلاء، ومعظم قصائده أكثر من مجرد قصائد دينية ب 'شكل غامض' ويعقد الناقد مقارنة بين 'الفيلم الوثائقي' كنوع خاص من أشكال الفن، وقصائد كاردينال الذي اعتبرها 'قصائد وثائقية'، وبصفة خاصة قصائد مجموعته 'ساعة الصفر' برغم أنه استبعد فكرة أو احتمال أن يكون كاردينال قد استلهم أسلوبه من السينما الوثائقية بشكل مباشر.

لكن استخدم في أعمال أخري من بينها علي سبيل المثال، 'أبوكاليبس وقصائد أخري' '1977' تشكيلة واسعة من الأساليب تراوحت في الطول بين الابجرامات الصقيلة والقصائد الطويلة المستلهمة من الثقافات الأمريهندية الفطرية مع استعمال كثير لتقنيات 'الكولاج الباوندي' والمجملة النابضة بالحياة. لكن جميع نصوص 'ساعة الصفر وقصائد وثائقية أخري' الثمانية ترمي إلي أن 'توثق' الواقع و'تحرره' بطريقة بصرية دياليكية أكثر، مصورا الأشياء والناس والأحداث في ضوء التزام اجتماعي¬ سياسي 'سوشيوبوليتيك' جلي، مع اختيار وتشكيل وفرض انساق تفسيرية عن العالم، باستخدام ليبرالي لتقنيات المونتاج السينمائي، أو الإطارات السينمائية، والسعي الي 'عتق الواقع الفيزيقي' عن طريق أعادتنا الي التواصل مع خشونته وجماله، ويستطيع الشعراء والكاميرات أن يؤثروا علي ما يسجلونه، لكن بينما تتحكم الكاميرات في 'الوضع المستمر' يرمي تسجيل كاردينال للحاضر أو الماضي إلي المساعدة في تشكيل المستقبل ¬ مشركا القارئ في العملية الشعرية من أجل حفزه علي التزام سياسي كامل، ومن ثم تبني تحويل ترجمة أكثر رؤى الشاعر نبوءة إلي حقيقة اجتماعية ¬ سياسية.

ويؤكد الناقد علي أن بطاقة 'القصائد الوثائقية' هي بطاقته وليست بطاقة الشاعر، لكن كاردينال فيما يبدو سعد بها عندما نحتها في 1972 لكي يبرز السمات المميزة 'لساعة الصفر' التي كتبها في المدة من 1954 ¬ 1956، و'أنشودة نيكاراجوية' '1970 ¬ 1972' و'رحلة إلي نيويورك' '1973' وقصائد أخري، ومع تأكيده علي البعد الوثائقي في قصائد معينة يحرص روبرت بينج ¬ ميل علي توضيح ان الشاعر لم يعن بتوثيق وفهم الواقع فحسب، لكنه عني أيضا بالمساعدة في تغيير هذا الواقع ¬ ولهذا سميت هذه القصائد 'شعر النبوءة المجدية' 'لكن البيانات ينبغي أن تسجل قبل أن يكون في الوسع إعادة صياغة الواقع، وأن إعادة الصياغة تكمن فيما وراء القصائد نفسها: إن التغييرات التي يتوق إليها الشاعر تكمن في المستقبل'.

أخبار الأدب
24 ديسمبر 2006

*****

الدين والثورة عند الأب إرنستو كاردينال

محمد بلال أشمل

نشرت "مارغريت راندال" كتابا هاما في "نيكاراغوا" سمته "مسيحيون في الثورة". ويتضمن مجموعة من الشهادات كانت في الأصل، إجابة على أسئلة كثيرة من سائرها هاذان السؤالان:

ماذا كانت تعني التجمعات? المسيحية القاعدية في تاريخ كفاح "نيكاراغوا"؟
من هو المسيحي الثوري الذي ظهر? في سياق التجربة النيكاراغوية؟
وقد نقلت "مارغريت راندال" أصوات كل من الأب "إرنستو كاردينال" Ernesto Cardenal الذي شغل منصب وزير الثقافة في الحكومة الثورية بـ"نيكاراغوا"، حاصل على نوبل للآداب، ومؤلف كتاب "أنوار الثورة" وصوت "أورييل مولينا" Uriel Molina مدير المركز اللاهوتي "أنطونيو فالديفيزو" A. Valdivieso و "فيرناندو كاردينال" Fernando Cardenal -شقيق إرنستو- عضو اللجنة التنفيذية الوطنية للشبيبة الساندينية تاسع عشر يوليو، و "لويس كاريون" Luis Carri?n من ضباط الثورة ونائب وزير الداخلية، وأصوات أخرى تعكس تاريخ دخول المسيحيين في تجمعات شعبية ناضلت حتى النهاية ضد الديكتاتورية السوموزية في "نيكاراغوا". وشهادة الأب "كاردينال" كانت بالأساس حول تجربته في تلك التجمعات المسيحية القاعدية طيلة عشر سنين من 1966 إلى 1977 في "سولينتينامي" وهي أرخبيل يتألف من ثمان وثلاثين جزيرة صغيرة في البحيرة الكبيرة لـ"نيكاراغوا" في أمريكا اللاتينية قرب "كوستاريكا". وقد احتضنت "سولينتينامي" تجربة ثرية لتلك الحركة الفريدة، حركة المسيحيين في النضال الثوري لـ"نيكاراغوا". انطلاقا من هذه الشهادات، سنحاول رصد تصور الأب "كاردينال" عن الدين والثورة في التجربة المسيحية، وفي السياق الأمريكولاتيني.

الأب إرنستو كاردينال والدين

يصف "إنريك دوسيل" E.Dussel "لاهوت التحرير" بـ"الخطاب النقدي" الذي يطرح الأسئلة التقليدية، كالخطيئة والخلاص والكنيسة ودراسة المسيح والأسرار المقدسة… على "صعيد ملموس ومناسب"؛ "غير ناكر المجرد(الخطيئة في ذاتها) بل واضعا إياه في شروط الواقع التاريخي الملموس (خطايا التبعية)(1). مثال على تلك الأسئلة التقليدية والمجردة، مسألة الجزاء النهائي؛ فالجزاء النهائي حسب الأب "كاردينال"، لن يكون بعد الموت، بل سيكون في الأرض بعدما ستنتهي كل مظاهر الاستغلال (2). وقد اكتشف الأب "كاردينال" وصحبه هذه المسألة في "رؤى يوحنا". ويتعلق الأمر بنهاية المجتمع الغير العادل، وبداية المجتمع الجديد (3).
وهكذا يضع الأب المذكور مسألة مجردة، كمسألة الجزاء النهائي، على محك الملموس، ويراها في المحسوس، ويضعها في العالم وعلى الأرض. وذات الشيء يصنعه مع الله؛ فهو لا يراه في التعالي، ولا في المفارقة، ولكنه يراه في المحايثة والحلول.إن الله حسب الأب "كاردينال" خلق كل شيء، وهو بكيفية ما، منغمر في خلقه وليس بريئا عنه. ولأنه يعتبر نفسه "ماركسيا"، فهو يرى أن الله قوة التحولات الاجتماعية، وقوة الثورات. بل ويعتبره قوة الحب أيضا، وإن كان يعترف أن هذا هو التصور الإنجيلي لله (ص93).
وعلى الجملة، نرى أن تصور الأب "كاردينال" للجزاء النهائي ولله ،وهما ما يشكلا حجر الأساس للدين عامة، تصور أنثروبولوجي ثوري يذكرنا بالأطروحة الأولى لـ"فويرباخ" التي تقول "إن سر اللاهوت هو الأنثروبولوجيا" (4).

الأب كاردينال وكنيسة الفقراء

هذا التصور الأنثروبولوجي الثوري للدين، حيث يتم النظر إلى عناصره مثل الجزاء النهائي والذات الإلهية في تجليهما المحسوس على الأرض، يرافق الأب "كاردينال" في تصوره للكنيسة. فإذا كانت الكنيسة جسدا للمسيح كما يراها المجمع الفاتيكاني الثاني (5)، فالكنيسة الحقيقية في نظر الأب "كاردينال"، أي كنيسة المسيح، هي كنيسة الفقراء. ولهذا يعتقد الأب الثوري أن الكنيسة ستشهد انقساما في المستقبل سيكون مداره انقسام صراع طبقي سيفصل كنيسة الفقراء عن كنيسة الأغنياء. وبما أن نيكاراغوا شكلت نموذج مشاركة المسيحيين في الثورة، يعتقد الأب المذكور أنها ستكون أول مكان يشهد ذلك الانقسام. ويعلل ذلك بوجود قطاع رجعي إلى جانب المسيحيين الذين شاركوا في الثورة. وكسائر الثورات، يرى الأب "كاردينال" أن هذا القطاع الرجعي سيصطدم مرة بعد أخرى، بالثورة وبالشعب المسيحي الثوري، وبرجال الدين والرهبان المنحازين إلى جانب الثورة؛ مما سيولد صراعا مريرا، لن يكون بين الحكومة والكنيسة فحسب، بل داخل الكنيسة ذاتها (ص97). ويرى الأب "كاردينال" أن الانقسام الذي ستشهده الكنيسة نتيجة لهذا الصراع الداخلي، لن يكون انقساما لاهوتيا عقائديا؛ كما حدث في الغرب ولا كما حدث بين الكاثوليك والبروتيستانت، ولا قطيعة مع البابا وسلطته، بأسباب مثل أسباب الانشقاق أو بأسباب عقائدية كما فعل لوثر"، بل سيكون انقساما سياسيا. ومن ثم فالرهان رهان سياسي لا علاقة له باللاهوت ولا بالإخلاص لسلطة روما. ومع ذلك ينفي الأب "كاردينال" أنه سينشئ وصحبه كنيسة أخرى أو كنيسة شعبية (ص98). إن الكنيسة الحقيقية في نظره هي كنيسة الفقراء، وتمثل هذه الحقيقة خلاصة النظر الثوري المتبصر في المتن الإنجيلي، فالمسيح جاء كارزا للفقراء، ومبشرا بملكوت الله للجياع والباكين (لوقا 6 : 20-21) ومتوعدا الأغنياء والشباعى (لوقا 6 : 35-36). وحينما ينحاز الأب "كاردينال" إلى الفقراء، يكون رجل دين ثوري بامتياز، يوجد في جبهة متقدمة من لاهوت التحرير الذي يناضل من أجل قضايا التنمية والتقدم والتحرر…

الأب كاردينال والماركسية

هذا الموقع الذي يوجد فيه الأب "كاردينال"، جعل "فيديل كاسترو"F. Castro (1927-) يقدمه إلى ثلة من الجامعيين على أنه رجل دين ماركسي. ويوضح الأب "كاردينال" المسألة قائلا: " في الحقيقة بدأ شباب تجمعنا في سولينتينامي وباقي الفلاحين المجاورين لنا يصيرون ثوارا، فقد مضينا نجري حلقات الدرس حول الماركسية. قرأنا كثيرا لـ"ماو" Mao Zedong (1893-1976) وكل خطب " كاسترو" التي توفرت لنا. وشيئا فشيئا بدأنا نحوز على قاسم مشترك مع الجبهة الساندينية، وراح الشبان يغادرون التجمع ويريدون اللحاق بجبهة القتال" (ص52).ويحكي الأب المذكور أنه بعد لقاءات متعددة مع الأب "أورييل مولينا" U.Molina وبعض قياديي الجبهة الساندينية، بدأ رجال الدين يتحولون إلى رجال دين تقدميين (ص56). وقد التقى الأب "كاردينال" في التشيلي مع كثير من رجال الدين الماركسيين (ص57). وهكذا رأى بأم عينيه ذلك التحالف الذي طالما دعا إليه "كاميلو توريز" بين المسيحيين والماركسيين(ص58). ويحكي الأب الثائر أنه لما زار كوبا للمرة الثانية عام 1971، تحادث طويلا مع "كاسترو" حول إشكالية المسيحية والثورة والمسيحية والماركسية. وفي تصريحات بماناغوا، اعتبرت فضيحة في حينها، أعلن الأب "كاردينال" أنه "اشتراكي" لا "ماركسي" (ص57).
غير أنه لما عاد من كوبا، مضى يدافع عن الثورة الماركسية، ولو أنه لم يعلن نفسه كماركسي؛ لأن حركة لاهوت التحرير لم تكن قد ظهرت بعد في نيكاراغوا. ويرد الأب الثائر عدم انضمامه إلى مجموعة "الإحدى عشر" التي كانت تقود حملة دعائية لصالح الجبهة الساندينية في الخارج، وبعد ذلك في الداخل، لكونه كان يعلن نفسه "ماركسيا جدا" والحال أن المسألة كانت تقوم على تحاشي العدوان الأمريكي في حال تكون مجموعة فيها عضو ماركسي (ص59). ولو أردنا تأصيل ماركسية الأب "كاردينال" لقلنا إنها تكمن في تلك المقارنة التي يجريها بين السيد المسيح وماركس؛ ففي نظره جاء السيد المسيح ليقول لنا إن المملكة الكاملة جاءت معه، وهذا في نظره ذات ما عبر عنه ماركسMarx (1818-1883) بالشيوعية الكاملة (ص93). فلا عجب إذن أن يكتشف رجال الدين من لاهوتيي التحرير أنه بإمكانهم أن يكونوا ماركسيين ومسيحيين في نفس الوقت (ص99).

الأب كاردينال والثورة

هذا التحالف بين المسيحيين والماركسيين؛ الذي يؤمن به الأب "كاردينال"، وعمل على هديه طيلة سنوات النضال الوطني إلى تسلم الجبهة الساندينية الحكم في "نيكاراغوا"، أعطاه اليقين بانتصار الثورة في كل مكان من الأرض (ص97).غير أن هذه الثورة تأخذ لديه معنى خاصا ويؤطرها ضمن إطار الوحدة، وينفي عنها شبح الاختلاف. يقول الأب "كاردينال" عن الثورة والوحدة: " لا ينبغي لنا أن نثور كما ثار مثلا سافونارولاSavonarola (1452-1498) ، أو مارتن لوثر في الماضي، لأن الأمر الآن يتعلق بالوحدة مع من كان يطلق عليهم منشقو الكنيسة الأرثوذكسية"، وليس بين المسيحيين والكاثوليك والبروتيستانت. بل إن الأب الثائر يوسع دائرة الوحدة فيدخل فيها حتى باقي الديانات لأن المناخ في نظره الآن ليس مناخ خلافات جديدة (ص98). وبالفعل ففي اختتام أحد اللقاءات الثقافية بكوبا، تحدث الأب "كاردينال" عن الوحدة والثورة كما تحدث عن مشاركة المسيحيين والمسلمين في الثورة، واندماج الثوريين المسلمين والمسيحيين والبوذيين في الماركسية (ص98-99).

خاتمة: الثورة دين العصر

موقف الأب "إرنستو كاردينال" من الدين وكنيسة الفقراء والماركسية والثورة موقف متجانس يحكمه تصور ثوري متقدم في جبهة "لاهوت التحرير" بأمريكا اللاتينية، يريد تأسيس ملكوت الله فوق الثرى اعتبارا أن الدين ثورة والثورة دين العصر.

achmobi@yahoo.es

الحوار المتمدن
العدد: 1016
13-11-2004

***

مسيحيون في الثورة: شهادة الأب إرنستو كاردينال

محمد بلال أشمل
(المغرب)

تمثل هذه الشهادة امتدادا لتصورات الأب "إرنستو كاردينال" عن الدين والثورة. والواقع أن هذه الشهادة تؤلف مادة تلك التصورات وروحها، منها كان الأخذ، على قصرها،لتركيب أطروحات شاعر الثورة الساندينية حول الله وكنيسة الفقراء والماركسية والثورة؛ ميزتها أنها تنتمي إلى نمط الشهادة الحية بكل دفئها وتلقائيتها، دون أن يعني ذلك الذهول عن باقي نصوصه الأكثر تمثيلية لمواقفه من ذات القضايا التي أفصح عنها في شهادته لـ"مارغريت راندال" ولذلك استحسنا ترجمتها لتكون الفائدة مزدوجة وفي نيتنا أن يشتغل الفعل النقدي على المتن فيرى نمطا من التفكير ما نحسبه إلا جديدا حول قضايا الدين، وعلاقته بالمجتمع، والله، وعلاقته بالعالم، والإنجيل، وعلاقته بالثورة، والكنيسة، وعلاقتها بالتطور.

كما في نيتنا أن يشتغل ذات الفعل على تلك التصورات، فيعقد ما شاء الله له من المقارنات بين تصورات ثورية متقدمة لرجل دين مسيحي، ساهم في تحرر "نيكارغوا" من نظام استبدادي، وبين تصورات لرجال ينتمون إلى حضارة الإسلام وثقافته، عليهم أن يساهموا في تحرير وطنهم العربي الإسلامي من أنظمة الاستبداد السائدة فيه. فالزعم أن ترجمة متن الشهادات واستخلاص التصورات منها عمل يخلو من نية نضالية لنقل وقائع تجربة مغايرة ومختلفة دينيا وثقافيا وحضاريا، زعم باطل وادعاء فاسد، لأنه لا حاجة لنا بما صنعه راهب نيكاراغوي في إحدى الجزر النائية، إذا لم يكن يقدم لنا معالم على الطريق، نستهدي بها في معاركنا من أجل الديموقراطية والتقدم والوحدة، في إطار لاهوت للتحرير يناسب قدرنا الديني والحضاري.

الشهادة الأولى

إن "ساندينو" Sandino يقول إن الجزاء النهائي لن يكون بعد الموت، بل في الأرض حينما تنتهي جميع مظاهر الاستغلال. وهذا ما اكتشفناه نحن دون أن نقرأ هذا النص لـ"ساندينو" الذي لا أدري من أين أتى به. فقد اطلعنا على نصوص الرؤى التي لا تعني بطبيعة الحال، نهاية العالم، ولا تدميره بقنبلة نيوترونية أو شيئا من هذا القبيل، وإنما نهاية مجتمع غير عادل وبداية مجتمع عادل. في كتابي "الإنجيل في سولينتينامي" يقول "لاوريانو" Laureano [أحد شباب التجمعات المسيحية القاعدية في جزيرة "مانكارون"الواقعة في أرخبيل "سولينتامي]:" أبلغ من العمر واحدا وعشرين سنة وأريد أن يتحقق هذا الملكوت قريبا. وليس يكفي أن أحظى برؤيته فحسب، بل أرجو أن يكون ذلك في بحر عامين. كنت أملك تصورا مخالفا للأمور أكثر وفاقا قبل أن أصير متدينا. لم يكن لدي إلا التعليم الديني الذي نلته في المدارس. إن التكوين الصوفي في دير[سيدتنا جيستينامي بالولايات المتحدة الأمريكية ثم دير "كويرناباكا" بالمكسيك] غير تصوراتي. إذا ما سألتني من هو الله بالنسبة إلي لذكرت لك بصدق إنه من أتواصل وأتفق معه.كان الله من مضى بي إلى الدير حيث كنت على يقين أن قدري سيكون حياة صمت كلي. غير أنه أخرجني لكي يسوقني إلى تجمع مختلف تماما هو سولينتامي ومن ثم إلى اندماج في حركة مسلحة وكفاح من أجل التحرير. وبعد ذلك إلى شيء لم أكن أتخيله قط، وهو تحمل مسؤولية وزارية في الحكومة. وأرى أن هذا طريق واحد؛ فمنذ الصمت الذي كان يخيم على نظام الدير إلى مسؤولية وزارة الثقافة، كنت كمن يطيع إرادة ما.ولكن بما أنك كنت تسألينني عن الله، لكوني ماركسيا، فإني أعتبره قوة التحولات الاجتماعية، وقوة الثورات. وبكلمات أخرى إنه قوة المحبة، وهذا هو تصور الكتاب المقدس لله.

في الكتاب المقدس، هناك الأرض الموعودة، حيث لن يكون ثمة ظلم اجتماعي ولا فقراء، وحيث ستوزع الأرض أجزاء متساوية بين جميع الشعوب. وبما أن ذلك لن يحدث، لأن الاضطهاد والاستغلال بدأ يقع هناك، ووجد الملوك والسادة والأغنياء، كما وجد أناس محرومون وفقراء، حينئذ ظهر الأنبياء يدينون كل ذلك، ويعلنون عن مملكة العدل، تلك المملكة الكاملة؛ حيث ستنتهي كل مظاهر الاستغلال من الأرض. لقد جاء ماركسMarx لكي يقول لنا إن هذه المملكة آتية معه؛ وهذا ذات ما دعاه ماركس بالشيوعية الكاملة. وبما أنى دائما أستحضر عامل التطور أمامي، فإني أعتقد أن الكون ينطوي على معنى ما.فقد تشكلت الأفلاك، وقبلها تكتلت المادة، وظهرت الذرات وكل هذا تم وفق معنى ما. وقد أخذ هذا الكوكب شرطا خاصا للحياة: أولا وجدت النباتات، وبعد ذلك وجدت الحيوانات التي مضت تصير أكثر كمالا حتى وصلت إلى الإنسان، والى المجتمع الإنساني؛ الذي يتطور حتى الوصول إلى وضعه النهائي. وهذا المعنى هو كائن بكيفية كاملة في هذا الكوكب وفي هذه المجرة، وفي هذه اللانهائيات من المجرات. وأعتبر أن هذا الشخص الذي ذكرت لك مرة أني أتواصل معه هو صانع كل ذلك، وبكيفية ما، هو منغمر في صنعه وليس بريئا عنه.

الشهادة الثانية

هناك لاهوتي فرنسي ماركسي أشرت إليه في كتابي "في كوبا" قال إن كنيسة المستقبل ستتألف من الثوريين فقط. وأعتقد أنها حقا ستشهد انقساما في كيانها. إنه انقسام الصراع الطبقي الذي سيفصل كنيسة الفقراء عن كنيسة الأغنياء. إن الكنيسة الحقيقية الوحيدة ليسوع المسيح هي كنيسة الفقراء، ومن المؤكد أن الكنيسة الأخرى ستظهر حتما، نظرا لاعتقادي الراسخ أن الثورة ستنتصر في كل مكان على الأرض. وبما أن نيكاراغوا كانت نموذج مشاركة المسيحيين في الثورة، فإني أعتقد أنها ربما ستكون المكان الأول الذي سيشهد ذلك الانقسام داخل الكنيسة. فإلى جانب المشاركة الواسعة للمسيحيين في الثورة، يوجد ضمنها أيضا القطاع الثاني أي قطاع الرجعيين. وأعتقد أن هذا القطاع سيصطدم، مرة بعد أخرى، بالثورة. ولكنه سيصطدم أيضا بالشعب المسيحي والكهنة والرهبان المناصرين للتقدم. وهذا لن يكون صراعا خالصا بين الحكومة والكنيسة، أو بين الجبهة الساندينية والكنيسة، وإنما سيكون صراعا داخل الكنيسة ذاتها.

الشهادة الثالثة

لن يكون انقساما، مثل الانشقاق الديني في الغرب،ولا بين الكاثوليك والبروتستانت. أي لن يكون قطيعة مع البابا، ولا مع سلطانه؛ بأسباب مثل أسباب الانشقاق البروتستانتي، أو بأسباب لاهوتية، كما حدث مع لوثرLutero (1483-1546)، لأن الأمر هنا لا يتعلق باللاهوت، ولا بمسألة إخلاصنا لسلطة روما. إن الانقسام كما ذكرت لـ"كاسوريلي" [كاتب الدولة في الفاتيكان] انقسام سياسي ولأنه كذلك فهو عظيم الخطر وربما يرجع ذلك إلى الدواعي السياسية التي تحيط به. لا يتعلق الأمر بمحاولة تأسيس كنيسة أخرى، كما تزعم الصحافة؛ التي تقوم بحملة مفادها أننا نريد تأسيس كنيسة شعبية، أي الكنيسة الأخرى. يمكنهم الآن أن يأتوا ويمارسوا علينا الحرمان من الغفران، لأننا ندافع عن الكنيسة الحقيقية. لا ينبغي علينا أن نتمرد كما تمرد في الماضي "سافونارولا" أو "مارتن لوثر" أن الأمر الآن يتعلق ليس بوحدة المسيحيين والكاثوليك والبروتستانت فحسب، بل بوحدة حتى من كانوا يدعون بـ"منشقي الكنيسة الأرثوذكسية". مرة بعد أخرى، هناك وحدة أكثر، وحتى مع باقي الديانات فالمناخ ليس مناخ انشقاقات جديدة وإنما وحدة جديدة. لقد تحدثت عن هذا في محاضرتي في كوبا أثناء اختتام لقاء بين بعض المثقفين إذ تحدثت فيه عن أهمية أن يكون هناك لاهوتيون في هذا اللقاء. كما تحدثت عن المشاركة الهامة والمعروفة حاليا للمسيحيين في الثورة، غير أنني أضفت أن هذا سيمضي بنا إلى أبعد من ذلك. يتعلق الأمر أيضا بمشاركة المسلمين في الثورة، وباندماج المسيحيين الثوريين والمسلمين الثورين والبوذيين الثوريين في الماركسية. وفيديل كاسترو F.Castro كان أول من أعلن عن ذلك. إن فيديل كان دائما يقول إن المسيحي يستطيع أن يصير ثوريا، وعليه أن يكون كذلك، وإن المسيحيين الأوائل كانوا ثوارا. وهذا كان موضوعا كرره منذ محاضراته الأولى إلى محاضراته الأخيرة. وكان يحدثني عنه باستمرار أثناء لقاءاتنا. ولكني رأيت بعد ذلك أنه ذكره مرات متعددة، وأعلن عنه لجميع لاهوتيي التحرير الذين اكتشفوا بعد ذلك أنه في الإمكان أن يصير المرء ماركسيا ومسيحيا.

achmobi@yahoo.es

الحوار المتمدن
العدد: 1014
11-11-2004