ثائر صالح
بودابست

جورج فالوديتوفي الشاعر المجري جورج فالودي في الأول من أيلول، قبل أسابيع ثلاثة من حلول عيد ميلاده السادس والتسعين. هكذا انتهت رحلة هذا الشاعر والمترجم والكاتب في بيته، بعد طول تجوال ورحيل.

تميز شعر فالودي بسعة الخيال وبالكثير من روح الدعابة والفكاهة، فقد كان يطمح إلى جعل القارئ يتمتع بالقراءة، لكن شعره كان في الوقت نفسه صرخة ضد مآسي القرن العشرين، وضد تغييب العقل وابتذال الثقافة وانحطاط الفكر وهيمنة المال. أراد الإحتفاظ بقوة الشعر السحرية المقدسة، في الدرجة الأولى عبر البوح الإنساني الصادق ونقاء اللغة والشعر. كان يخشى اضمحلال القيم الأوروبية الإنسانية أمام هجمة البربرية الجديدة التي تستعمل العنف والإيهام والخديعة الجماعية، بما تحمله من منتجات الثقافة الصناعية البائسة التي تهدد هذه القيم والأذواق، لا بل تهدد البشرية كلها. وتبلور هذا الموقف بشكل واضح في عمله المشترك مع اريك جونسون المعنون "ملاحظات حول الغابة الإستوائية" (1988). لم يتخل فالودي عن أساليبه الشعرية التي بلورها لنفسه في الثلاثينات، ولم يتأثر كثيراً بالتيارات الأدبية المجرية ولا العالمية، أي أنه لم يتبع الموضة، ولهذا بالذات يرميه البعض بأن الزمن قد فات على شعره وتجاوزه. لكن كل الذي فعله هو معالجة الظواهر المعاصرة (وما أكثرها وما أكثر تعقيدها) بالروحية الشابة التي كان يعيشها في الثلاثينات.

ولد جورج فالودي في 22 أيلول 1910 في بودابست، درس بين 1928 و1933 في جامعات فيينا وبرلين وباريس وغراتس النمسوية، فأتقن العديد من اللغات الأوروبية. صدرت أولى مجموعاته الشعرية في الثلاثينات، بيد أن ترجماته الحرة لأشعار الفرنسي فرنسوا فيّون في 1937 هي التي أثارت زوبعة في أوساط النقاد والمشتغلين بالأدب: كيف يجرؤ هذا الشاب على إعادة كتابة أشعار فيّون شعراً، ويضيف عليها؟ مع ذلك، طبع من ترجماته لأشعار فيّون ما يقرب من أربعين طبعة حتى الآن. في 1938 سافر إلى باريس بسبب القوانين المعادية لليهود، ومنها هرب من وجه النازيين إلى المغرب، ثم إلى الولايات المتحدة. ثم خدم في الجيش الأميركي بين 1943 و1945 وحارب في المحيط الهادئ.

لطالما شكل اليهودي جورج فالودي أيقونة ورمزاً لمقاومة النازية في بلاده. فعلا، بعد عودته إلى المجر في 1946 عمل في صحافة الحزب الإشتراكي الديموقراطي، ونشر أشعاره قبل أن يودع السجن في 1949 بتهم مفبركة، ثم اضطر تحت التعذيب إلى الإعتراف بأنه عميل للأميركيين، وزعم، بسخريته اللاذعة المعهودة رغم وطأة الألم، أن العميلين السريين النقيب ادغار ألان بو والرائد والت ويتمان هما اللذان جنّداه! هكذا أمضى فالودي ثلاث سنوات في معتقل رَتْشْك الرهيب حيث جرت العادة أن يتم إرسال "أعداء الشعب" الى هناك. و"أعداء الشعب" هؤلاء كانوا خليطاً، الاشتراكي الديموقراطي (مثل جورج فالودي نفسه)، بل حتى الشيوعي الذي أرادوا التخلص منه. كتب فالودي الكثير عن السنوات الثلاث هذه بأسلوب ذكي وجميل يشد القارئ، ولعل يعدّ من أرقى ما كُتب عن هذا الموضوع. وهو يروي أنه كتب مرة في المعتقل قصيدة بدمه بواسطة قشة اقتلعها من مكنسة. أغلق معتقل رتشك بعد وفاة ستالين فأطلق سراح المعتقلين السياسيين. وخلال ثورة 1956 عاد الشاعر ليعمل في الصحافة ونشط في اتحاد الأدباء قبل أن يترك المجر إثر التدخل السوفياتي، حيث ذهب إلى باريس ثم إلى بريطانيا وهناك كتب مذكراته عن رتشك "أيامي السعيدة في جهنم" (1960 - 1961)، وفي 1964 انتقل إلى فلورنسا، ثم إلى مالطا قبل أن يسافر إلى تورونتو في كندا في 1967، حيث نال الجنسية الكندية من دون أن يتخلى عن جنسيته المجرية. نشر أشعاره التي كتبها في المعتقل في 1983، في ميونيخ، وصدرت بعنوان "أعوام السجن 1949-1952". حاضر في العديد من الجامعات الكندية والأميركية مثل جامعة كولومبيا في نيويورك وجامعة مونتكلير في نيوجرسي، وجامعة فيلادلفيا، وكذلك في جامعة تورونتو، حيث ألقى محاضرات في أدب وسط أوروبا. نشط في الكتابة للعديد من الصحف المجرية في المنافي، وكان ينشر باللغة الإنكليزية في صحيفة "تورونتو ستار" بانتظام. صدرت أعماله الشعرية الكاملة في نيويورك عام 1980، بينما عمدت السلطات المجرية وقتذاك إلى سحب أعماله ومنع اسمه.

عاد فالودي إلى المجر للمرة الثانية في 1989 بعد السماح بالتعددية السياسية، وألقى بثقله في الحياة الأدبية، فصدرت له في التسعينات مجلدات جديدة مثل "200 موشح [سونيت]" (1990) أو "100 موشح خفيف" (1995)، أو "على شراع إلى كَكوفا" (1998). رحل فالودي قبل بضعة أيام من صدور مجلد جديد له، عنوانه "A pokol tornáca"، الذي يمكن ترجمته بكلمة أجنبية "فرندا جهنم". وهو فصل جديد من سلسلة مذكراته التي بدأها ب "أيامي السعيدة في جهنم".

جورج فالودياشتهر فالودي كثيراً بترجماته لروائع الشعر العالمي، فإلى جانب ترجماته لفيّون، ترجم لهاينه وأراغون وبريخت وآخرين، وترجم مختارات من الشعر الغرامي والأيروتيكي العالمي الى اللغة المجرية، ومنه العربي والفارسي والصيني وبشكل أنتولوجيات. لكن ترجماته ليست في المعنى الدقيق للكلمة، فهي إعادة كتابة للشعر، فقد يختلف شعره المترجم عن النص الأصلي تماماً، ولا يشبهه، لكنه يحتفظ بعقلية القصيدة الأصلية وروحيتها.
كان فالودي استفزازيا، يعب الحياة، يلتهمها التهاماً، ويتلذذ بها حتى آخر نقطة، حتى في عقده العاشر، حينما اقترن عام 2002 بفتاة في الثامنة والعشرين، هي الشاعرة فاني كوفاكس. وقد اثار فضيحة عندما نشر صورتهما معاً عاريين في مجلة "بنتهاوس" البورنوغرافية (باعت المجلة يومذاك 70 ألف نسخة)، علما أنه كان على علاقة قبل فاني برجل عاش معه طويلاً. ومع رحيله ينطفىء نجم أحد آخر "أساتذة" الأدب والشعر في المجر في القرن العشرين.

مقطع من مذكراته
كان تأثير قوة الحياة العقلية أكبر من تأثير مساعدة الأصدقاء. في الأسابيع الأولى انطلقنا في الفجر تحت المطر وسقطنا في المساء كالجثة الهامدة على أكياس القش؛ وكان هناك من لم يتمكن حتى من خلع حذائه القذر. بعد اسبوعين أو ثلاثة جمعت حولي بعض الناس، بعدما أطفأوا الأنوار، وأخذنا نتحادث. "إخرسوا ودعونا ننام"، صرخ بنا الباقون. بعدها توقف الإحتجاج وتشكلت جماعات جديدة. تحدثنا بشكل اعتيادي عن الأدب والتأريخ والفلسفة. لم يفهم دومي شيبوش الفتى الجميل ذو القوة الفظيعة الذي كان جزاراً في مسلخ، كل شيء، وبعد انتهاء الأحاديث كان يحملني فوق كتفه ويأخذني إلى مرقده ويضعني تحت دثار دافئ ويجعلني أقول له ما هو الشعر السافوي. وبما أني اعتبرت المحادثة جزءا لا يتجزأ من الحياة، لم أتنبه إلى أنها أكثر من ذلك.
كان يوشكا بوروشتوبي أحد المشاركين في محاوراتنا المسائية. خلال فترة المجاعة الكبيرة وقفت أمام العنبر أغتسل بالثلج. جاء إليّ وقال:
- لن يأتي بعد الآن إلى كيس قشي في المساء، لأنه تعب وسينام ساعة إضافية بدلاً عن ذلك.
وقف أمامي وبدا عليه أنه ينتظر أن أثنيه عن عزمه هذا. لكني كنت تعباً جداً أنا الآخر، أغمضت عيني وعببت رائحة زهور شرفة جدتي الشتوية. عندما نظرت حولي مجدداً لم أره واقفاً هناك. يجب أن اشجعه، حتى يأتي – فكرت في نفسي -، لكني كنت تعباً جداً لأذهب وأفتش عنه.
بعد أيام، خلال العمل، بدأ يعدو في حقل الثلج. صرخ فيه الحارس، قف. ركض بوروشتوبي أمتاراً عشرة أخرى، ثم هوى. أخذوه إلى المستوصف، لكنه – وكما يحصل مع الآخرين في هذه الحالة – لم يفق بعدها أبداً. عندها فهمت أن هذه المحادثات ليست جزءاً من الحياة، بل هي الحياة نفسها. وبقي لديَّ الشك، بأني أنا الذي قتلته، لأني أضعت فرصة ثنيه عن عزمه.
إلى جانب الأصدقاء والمحادثات كان هناك شيء آخر ثالث، ساعدني في البقاء. غفوت خلال ثانية واحدة في بعض الأحيان. وفي أحيان أخرى مر في ناظري حادث تأريخي مهم. أنا كنت بطله. مثلاً تخيلت أني كنت المستعصم، آخر الخلفاء العباسيين الذي سلم هولاكو قائد المغول بغداد في مقابل وعده بعدم التعرض له.
-بعدذاك كنت أنا أيضاً المستعصم الذي لفه المغول في سجادة قصره البالغ طولها مائة متر. أو تخيلت نفسي فرديناند الخامس المعتوه، الذي نجح أخيراً وبصعوبة في إنجاب طفل، ويقف الآن في شرفة القلعة يحصي إطلاقات المدفع. مئة طلقة وطلقة إن كان ذكراً، وإحدى عشرة إن كانت بنتاً. وأعدّ الطلقات في ارتباك حتى العشرة، وبعد ذلك لا شيء. ما هذا – أقول -، حتى أنها ليست بنتاً؟ أو أتخيل نفسي كوبرنيكوس، يخطر في بالي، أو لعلّي على خطأ، لأن دوران الأرض حول الشمس حقيقة عرفناها بالتجربة.
ترجمة ث. ص.

***

مقطع من قصيدة "في ما يخص جنازتي"
ازرعوا فوق رأسي شجرة
إجاص وحيدة، وفوق صدري العشب،
لكن بحق السماء الزرقاء لا تضعوا فوقي
نصباً متعجرفاً من المرمر الغالي أو الغرانيت:
لم أطلب قط قبراً مزخرفا،
ورغم تأرجح حياتي على كف الجلاد،
كان اسمي نقياً أكثر من المعتاد
نسبة إلى ما يسمّى الشرف النبيل.

لا تهتموا لمأدبة عزائي،
سيكفيكم الخبز البائت، إن توافر،
وحتى لا يكلفكم الجهد الكبير،
أكتبوا بالسخام أو الزفت على صخر
متوسط الحجم، رمادي أو أبيض،
تجدون مثله ألوف الصخور تحت أقدامكم في البيدر،
مَن كان في حياته،
هذا الذي يتحلل تحت في باطن الأرض.

النهار
6 تشرين الاول 2006