شوقي بزيع
(لبنان)

حبيب الزيوديبرحيل الشاعر الأردني حبيب الزيودي ترحل معه شاعرية عذبة لا تتغذى من سطوة الكلمات والكنايات وحدها، بل من ذلك الاقتران الفريد بين الشعر ودورة الدم، بين تدفق الحياة في العروق وبين تدفقها على الورق. لذلك فقد وجد الكثيرون فيه الوريث الشرعي لكوكبة الشعراء الغنائيين، الذين كانوا يحفرون قصائدهم كالسكاكين في لحم الحياة المجرد من الحذلقة والتعسف التأليفي، تماماً كما كان الحال مع بدر شاكر السباب وأمل دنقل ومصطفى وهبي التل، المعروف بعرار، إضافة بالطبع إلى محمود درويش.

تعرفت إلى حبيب في أحد مهرجانات جرش، التي عرفت ذروة تألقها في ثمانينيات القرن المنصرم. قدمني إليه يومها أستاذه في الجامعة الأردنية الكاتب والشاعر خالد الكركي بوصفه أحد ألمع الوجوه الجديدة والواعدة في الساحة الأردنية. ولم يطل الأمر حتى غدا صاحب مجموعة «الشيخ يحلم بالمطر» أحد أقرب الأصدقاء وأحبهم إلى القلب. ليس فقط بسبب موهبته السيالة والبرية، بل بسبب عفويته المحببة وروحه المنقسمة على نفسها بين خفر متأصل فيه وبين نزوع بوهيمي إلى التمرد والتحلل من موجبات المجاملة والرياء الاجتماعي. تعامل مع الحياة بوصفها وليمة لا يليق بنا التعفف عن التهامها، وأقبل عليها بشراهة من يتربص به الموت في اليوم التالي. أما وجهه الذي، عصمته سمرته البدوية الداكنة من الإفصاح عن مكنوناته الطافحة بالرغبات، فسرعان ما يتم افتضاحه بواسطة عينيه البراقتين اللتين لا تخشيان في طلب اللذة لومة لائم.

حب الحياة

لم يكن ذلك الجسد البوهيمي ليعرف طريقه إلى الارتواء. وتلك الروح العصية على الترويض لم تكن لتقبل المساومة على حقها في العودة متى شاءت إلى الصـهيل البدائي لصوّان القرى وسنديان البراري. هكذا جاء جسد حبيب الزيودي إلى عمان، فيما ظلت ذاكرته قابعة عند سفوح جبال السلط وممرغة وجهها في الوحول المأهولة بالمحاريث وأعقاب الحداءات. وإذ كان شديد التعلق بالنـساء، فقــد بدا حـبه لهن متصلاً بنوع من الشبق الغريزي الذي تشق بواسطته النباتات صدر التربة الأم، بعـيداً عن شبهة التهافت أو الابتذال.

وكان تعبيره عن الافتتان صاخباً وطقوسياً، إلى حد انه عمد مرة إلى الركوع عند قـدمي فتاة حـسناء على رمال خليج العقبة قائلاً لها بأن الركوع لجمال الخالق يستتبع ركوعاً موازياً لجمال مخلوقاته. ومرة أخرى أوقف سيارته في عرض الطريق الرئيسية الممتدة بين عمان وإربد من أجل ان يعتذر عن إساءة له بحق فتاة أحبها، تاركاً لأرتال السيارات المنتظرة في الخلف أن تطلق أبواقها العالية بلا طائل. وإذ تبوأ مناصب ثقافية عدة في بيت الشعر والجامعة الأردنية وأمانة عمان، سرعان ما كان يشيح بوجهه عن كل منصب رسمي، مكرساً نفسه للشعر وحده ولكل ما يضرم النيران تحت حطب الكتابة اليابس.
لقد بدا حبيب الزيودي من غير زاوية امتداداً منقحاً لصورة عرار وروحه المتبرمة بالعالم وشغفه المفرط بالحرية. كان يمتدح السلطة أحياناً وينقلب عليها أحياناً أخـرى. كان مسرفاً في حبه للحياة كما في زهده منها، في عقد الصداقات كما في إشهار الخصومات، في جباية الأموال كما في تبديدها، في التنسك الـصوفي كما في معـاقرة الـلذات. ورغم تعلقـه الظاهر بعمان فقد كانت البادية الأردنية موطئ قلبه المترع بالحنين إلى نسيم الماضي والمـصوب أبداً إلى بيت بعيد في الضباب يقول عنه: «في الليل/ في ليل «الجببهة» والبيوت تنام كالأطفال/ أركن جانباً سيارتي وأقود قلبي/ كي أرى بيتاً بعيداً في الضباب/ السرو حول السور رهـبان أمام الله/ لا كشفٌ هناك ولا حجاب/ أتشمم الأسلاف فيه/ وجوههم غابت وذابت في الوحول/ وكلما سح الغمام على الثرى/ طلعت زنابق في التراب».

هذا الشاعر الموغل في عوالمه الرعوية وإيقاعه الريفي المثخن بالشجن، بدا في أعماله المختلفة مثل «طواف المغني» و«منازل أهلي» وكأنه يسير عكس الزمن، حيث ينأى الشعر عن التأليف والمثاقفة والتنقيب الذهني ليتصل بالكلام اليومي ولغة المشافهة وتواشجات الوجدان الجمعي: «يا آخر الصيف علقني على شجر/ يا آخر الصيف واشهقني مع المطر/ يا آخر الصيف واتركني أطير غوى»/ مع الحمام الذي يأوي إلى شجري». كان حبيب الزيودي بهذا المعنى لا يحفر ولا ينسج ولا يتكلف الكتابة، بل كان يتدفق ويسيل رقراقاً كالمياه العذبة أو العسل البري. وإذا كان يحلو له في غير واحدة من قصائده أن يشبه نفسه بالناي فلأنه كان يشعر بأنه يشبه إلى حد بعيد قصبة مجرحة بالغصات على ضفاف نهر الأردن، وسيكفيه أن يمر النسيم على الذكريات لكي يعود مرة أخرى إلى ترابه الأصلي: «ناي البراري ما الذي أغواك يا ناي البراري/ بي، فاشتعلت لتستبيح دمي وأدراجي وداري/ يا ناي أسندني لنطلع نجمتين على خيام البدو/ خذ قلبي لنطلع كوكبين بلا مدار/ أو أيقظ الأسلاف في روحي نشيداً/ ضُجَّ في إيقاع نمر وفي عرار».

[ إشارة إلى شاعر البادية الأردني نمر العدوان.

30-10-2012- السفير