بعد نكبة فلسطين، صارت بغداد مدينته، فاحتضنت إنتاجه الإبداعي ونشاطه الثقافي. البيت الذي تركه بعد رحيله كان متحفاً، وقد زعزعته أخيراً عاصفة الحقد والجنون. وقفة على أطلال العراق الحديث

بغداد - حسام السراي

جبرا إبراهيم جبلم يكن الشاعر فوزي كريم يتوقّع أنّ الأقدار ستقذف أرضاً بديوانه الأول «حيث تبدأ الأشياء» (1969)، بعد أكثر من أربعين عاماً على كتابته هذا الإهداء إلى جبرا إبراهيم جبرا: «بين يديك قصائدي الأولى مع الحبّ والشكر والاعتزاز». هذا المشهد يواجه الداخِل إلى بيت جبرا (1919 - 1994) في حيّ المنصور في بغداد. المنزل الأسطوري الذي وصفه كل من زاره وعرفه بمتحف الثقافة العراقيّة الحديثة، ومكتبتها وأرشيفها، تحوّل إلى خربة بعد تفجيرات وقعت أخيراً واستهدفت السفارة المصريّة الواقعة بالقرب من البيت. لم يبق من المكان الذي ضجّ ذات يوم بالنقاشات الأدبية والفكرية، سوى جدران مهشّمة وأثاث معصوف بديناميت أصوليّ من الدرجة الأولى.

تجربة عبثيّة ومؤلمة أن تقف على أطلال ذاك الزمن السعيد. تعثر بين بقايا أشلاء الكتب المرمية في زوايا المنزل، على كتاب «الأشجار واغتيال مرزوق» لعبد الرحمن منيف، مجاوراً «حكايات من لافونتين» التي ترجمها جبرا... منيف وجبرا اشتركا بحبّهما لبغداد، واشتركا في رواية مهمة وأثيرة هي «عالم بلا خرائط» (1982). جبرا حمل روح القدس معه إلى بغداد ليندمج فيها ويبدع ويعيش بمخيّلة أقامت مع العاصمتين صلة تجلّت في إصداريه «البئر الأولى» (سيرة ذاتيّة عن حياته في بيت لحم) و«شارع الأميرات» (حياته في شارع الأميرات في حي المنصور الشهير في بغداد).

أواصر المحبّة التي يقيمها جبرا مع المكان تمتدّ إلى الإنسان أيضاً. لقد كان صديقاً للسياب والبياتي، وقد وصفه الفنان الرائد نوري الراوي بأنّه صديق عمره. يقول الراوي: «لم تذهب إلى عالم الغيب شخصيّة ألطف وأسمّى وأنبل منه»، ويضيف: «هو كان كالراهب في عبادته لبغداد». روايات كثيرة ودواوين وكتب تتبعثر في أرض غرفتين من البيت المنكوب، لا تشي إلا بتنوّع اشتغالات جبرا واهتماماته. هذا التنوّع والمتابعة الدؤوبة للفنّ التشكيليّ، يعزوه الناقد ياسين النصير «إلى كون جبرا ابن مدينة حقيقيّة ومتنوّعة هي القدس. اغتنى بثقافة لندن وبالحياة في بغداد. هذه المدن الثلاث تعيش في ذاكرة جبرا وحياته وثقافته، هو الناقد والفنان والشاعر والروائيّ والمترجم، وهذه الثقافات تجدها في أي جزئيّة من المدينة».
لا بد من المجاهدة كي تصل إلى ما بقي من تلك الدار الأسطوريّة التي تختزن ذاكرة وتاريخاً. عليك أن تجتاز أربعة حواجز أمنيّة، بحكم وجوده قرب السفارة المصريّة في منطقة دبلوماسيّة محصّنة... لذا فإن تلك الفكرة المتأخرة التي أعقبت الكارثة، لتحويل بيته إلى متحف لا تبدو سهلة. «الاتحاد العام للأدباء والكتّاب» عقد أخيراً جلسة بعنوان «لنستعد جبرا»، قدّم فيها مقترحات عدة، أبرزها «مطالبة أمانة بغداد بإعادة بناء المنزل وتأهيله وتحويله إلى متحف ثقافيّ خاصّ بعد موافقة أهله المقيمين في الخارج».
رئيس اتحاد الأدباء فاضل ثامر علّل هذه المبادرة المتأخرة، بأن «المآسي والهموم اليوميّة التي يمرّ بها العراق، حيث تتساقط الضحايا يوميّاً، يجعل من تدمير منزل جبرا حدثاً يندرج ضمن سلسلة مآسٍ ومحنٍ أكبر». إلا أنّ ثامر يستدرك قائلاً: «لا نستغرب الصمت الرسميّ، لأنّ معظم مسؤولي الثقافة الرسميّين يجهلون ألف باء العمل الثقافي ويستعدون المثقفين».
أما السلطة، فمشغولة باستعادة الوثائق التي فقدها العراق بعد الاجتياح الأميركي لبغداد عام 2003، ويبدو أن هذا هو التفسير الرسمي لتأخر ردّ فعل وزارة الثقافة على ما حدث لبيت جبرا، ويشير وكيلها طاهر الحمود: «كنا مشغولين باستعادة بعض الوثائق كأرشيف يهود العراق وحزب البعث من الطرف الأميركي، كذلك شُغلنا بمتابعة مركز الملكيّة الفكريّة المؤسَّس حديثاً». لكنّ الحمود ما زال مصرّاً على «اتخاذ الخطوات المناسبة»! ويشك الناقد ماجد السامرائي الذي كان مقرّباً من صاحب «الغرف الأخرى»، في
قبل رحيله أعرب عن رغبته في أن يتحوّل بيته البغدادي إلى متحف خاص
إمكان تحوّل البيت إلى متحف. يقول: «هذا حلم مستحيل لأنّ المسؤولين لاعلاقة لهم بالثقافة والمثقفين، ولا يهمّهم إنشاء متحف لجبرا، رغم أنّها كانت رغبته التي صارحني بها قبل موته». ويتذكر السامرائي السيّدة أم علي توفيق التي حافظت على البيت طوال سنوات، ولم يبق منها إلا «الغطاء الذي حُمل به جثمانها وصورة ممزّقة لتخرّجها من كليّة الآداب في بغداد». تقف على أطلال البيت الذي احتضن جزءاً أساسياً من تاريخ العراق الحديث. راكم فيه الرجل الموسوعي كمية نادرة من الأعمال الفنية والمراجع والكتب والوثائق، وفيه كانت محطته الأخيرة في عام 1994. لقد دُمّر بالكامل ولم يبق منه إلا حاجيات بسيطة، ولوحات تضرّرت بالعصف. يقول المعماري خالد السلطاني وهو يقلب كتاب «تأملات بصريّة» لمؤلفه المعماريّ معاذ الألوسي، من تقديم جبرا، إنّ ما حصل لبيت أحد مواكبي نهضة العمارة العراقيّة الحديثة هو خسارة ثلاثيّة الأبعاد: «إنّها حدث همجي جرحنا في العمق نحن العراقيّين، ونسفٌ محزن لبيت مثقف كبير، كذلك فإنّه تدمير لذاكرة ثقافيّة لا تعوَّض».

*******

بعد الانفجار

وسط الخراب والفوضى وبقايا الأثاث والحجارة والغبار وأشلاء الزمن السعيد، تفاجئك لوحة صامدة للعراقيّ ياسين شاكر، وإلى جانبها لوحات بريشة جبرا نفسه، تضرّرت بسقوط هذا الجدار أو زجاج تلك الواجهة من البيت. كل شيء على حاله بعد أسابيع على الانفجار المدمّر، لم يهرع أحد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. تراصُف اللوحات في مؤخرة البيت يحيل إلى تلك الفترة التي كان فيها جبرا أحد المبشِّرين بولادة الحداثة الفنيّة العراقيّة. لوحات ومنحوتات وخزفيات، تحكي علاقة هذا الناقد الفذّ بـ«جماعة بغداد للفنّ الحديث» مطلع الخمسينيات. ذلك التاريخ الحافل، تشير إليه أيضاً مقتنيات كثيرة للراحل، نقلها قريبه علي توفيق إلى مكان آمن، بعد تعرض المنزل للسرقة. يقول: «أنقذت بعض اللوحات التي تحمل توقيع جواد سليم وضياء العزاوي وعلاء بشير... وتماثيل ومنحوتات صغيرة وكبيرة من بينها أربع لمحمد غني حكمت. فيما احتفظ ابن جبرا سدير بلوحة للفنان شاكر حسن آل سعيد». تحف قليلة أفلتت من دوامة الحقد والجنون.

************************

«شارع الأميرات» لم يعد يجيب

نجوان درويش

نجوان درويش لم يتوقع أحد أنّ تفجير بيت جبرا إبراهيم جبرا في بغداد سيحمل كل هذه الرمزية، ويستدعي كل هذا الشجن. ليست القصّة ضياع متعلقات نصف قرن من الثقافة العراقية، ونصف قرن من حلم المنطقة العربية، ضمّها بيت إحدى أبرز الشخصيات الفنية والأدبية العربية في القرن العشرين. الأمر يتعدّى ذلك، ونحتاج إلى وقت لاستيعابه، مثلما نحتاج إلى وقت لاستيعاب ما حدث لنا وللعراق منذ احتلاله. كل ما استطعته في الأيام الماضية كان استجماع شجاعتي لأتمكّن من النظر إلى صورة البيت كما نشرت بعد التفجير. البيت الذي دخلناه من كتابات صاحبه، ولا سيما «شارع الأميرات» (الجزء الثاني من سيرته) ومن خلال ما ذكره معاصروه وأصدقاؤه. أبدى بعض هؤلاء، في السنوات الأخيرة، قلقاً على محتويات البيت الذي رأوا فيه متحفاً صغيراً للحياة الأدبية والفنية في بغداد خلال القرن الماضي.

فكّرت في أن رؤية بيت جبرا بعد التفجير تشبه أن يرى المرء صورة يده المقطوعة. وعاد إلى الذهن مشهد من «صراخ في ليل طويل» (باكورة جبرا الروائية التي كتبها في القدس بالإنكليزية عام 1946). يد امرأة جميلة تخرج من تحت أنقاض بيت فجّرته العصابات الإرهابية الصهيونية، في نهاية غير متوقعة لقصة حب معاصرة في أجواء قدس الأربعينيات، كما حلم بها جبرا.

تفجير بيته العراقي يُعيدنا إلى أصل قصّته الفلسطينية

جبرا الذي اتّسمت شخصيته وأدبه بقدر من الكوزموبوليتية، يمتلئ عالمه بالإحالات والصور المحلية، التي تعود جذورها إلى بيت لحم، ولا سيما الرؤية المسيحية. لا شك في أن لطفولته وصباه في بيت لحم والقدس أثراً حاسماً. في إنتاجه الشعري والسردي، نجد ذلك التشبّث بمتعلقات المكان الفلسطيني. وهو ما تلخّصه جملة وضعها في مطلع أعماله الشعرية: «فلتكن هذه فروع زيتونة أخرى في جبل الزيتون، زرع بذرتها في زمن مضى/ فتى كان كثير الرؤى ولم يملك في حياته سوى الحب والكلمات».
وإن كانت الآراء النمطية اعتادت تهميش إنتاجه الشعري لمصلحة قيمته كروائي وناقد ومترجم، فإنّنا نجد في شعره مقترحاً مهماً حتى اللحظة. ورغم تفاعله العضوي وتأثيره في الثقافة العراقية واختياره العراق وطناً وأفقاً للإنتاج والحلم... بقي جبرا اللاجئ الذي تشاء قوة المفارقة أن تعيدنا إلى أصل قصته الفلسطينية بتفجير بيته العراقي.
هل كان مترجم شكسبير وفوكنر، والمعرّف بالتيارات الأدبية والفنية في الغرب، يتخيّل أن الأوراق والصور التي بقيت منه، ستُحرق وتُبدَّد في زمن احتلال أنغلوسكسوني جديد للعراق؟ العراق الذي بدا له حصناً وملاذاً بعد نكبة فلسطين. هل سيصدّقنا إن قلنا له إنّ حروب الغزو والنهب أقوى من الكلمات والصور؟ سنفزع إلى واحد من كتبه حتى لا نصدّق نحن، حتى تستمر كذبة الإيمان بمستقبل لهذا العالم.

************************

وليد مسعود معاصرنا، أو الحداثة حتى الرمق الأخير

حطام منزل جبرا في حي المنصور البغداديمسيرة أدبيّة استثنائيّة، لمثقّف نادر جمع بين الشعر والرواية والنقد الفنّي والترجمة... وكان من علامات عصر وجيل في مسار الإبداع العربي. جمع جبرا أيضاً بين القدس وبغداد التي احترقت فيها ذاكرته قبل أسابيع

نوال العلي

جاء أمر الكتابة عن جبرا إبراهيم جبرا كمفاجأة سارّة ومربكة، كأنّ الاستدارة إلى الخلف ممنوعة بقدر ما هي مرغوبة. استعادة الكتب التي ربتنا، وكنّا كلما قرأنا لمبدع، وقعنا في هواه وحلمنا أن نسمّي أول طفل باسمه. وجبرا كان أكثر من اسم مغوٍ وآسر. قراءة جبرا في سن مبكرة هي دخول في دوامة البحث عن وليد مسعود. حالة أشبه بالبحث عن التوازن. ذلك النوع من التوازن الذي يخلخل المشي، ومن ثم الارتباك فالسقوط، ثم البحث عن توازن مرة أخرى. مع ذلك، لم ييأس جبرا من البحث في الفنون المختلفة عن حالة تقريبية. التوازن كلّه كلمة تقريبية ما زالت تفي بالغرض: «كيف تجد توازنك الذهني أو النفسي أو الاجتماعي من دون أن تشعر بأنك تقف من الإنسانية على طرف بعيد؟» (ص13).
يمثل وليد مسعود حالة «جبراوية» نموذجية راقبناها في جلّ أعمال صاحب «يوميات سراب عفان». وغالباً ما استندت هذه الحالة إلى مطارحة مفهوم الاغتراب من كلّ مكان وفي كل موضع. وهي حالة تقترحها سرديات جبرا، منطلقةً من التجربة الجمعية أولاً إلى الفردية ثانياً، على عكس من الاغتراب كما كتبه فرانز فانون في «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء». جبرا الفلسطيني التلحمي المولد، الذي غادر بلاده بعد النكبة، ثم استقرّ في بغداد، ينطلق من وجود القضية في حياة الفلسطيني كمحرّك أساسي للأحداث. هو لا يستخدم الكليشيهات، ولا نلمح في أعماله عين الحنين المتهافتة، ولا هو بكاتب للتاريخ الفلسطيني. وجد جبرا الفلسطيني نفسه خارج المكان، على رأي إدوار سعيد، فحياته كلها خارجية الهوى، وخارج التجربة الجمعية الأصيلة. ليكون الاغتراب على مستويين فردي (النفي عن المكان تعطيل لترعرع الفرد في حاضنته الجغرافية وبالتالي الثقافية) وجمعي (تعطيل بلوغ الثقافة المحلية وصيرورتها). وما كان يفعله جبرا روائياً وشاعراً وتشكيلياً هو التعامل مع هذين المستويين ومقاومة ذلك التعطيل.
لكن هذا لا يعني أن جبرا إبراهيم جبرا كرّس أدبه للقضية الفلسطينية فقط. اكتسبت رواياته طابعاً إنسانياً مثلما هي حال الأعمال العظيمة. فقد وضع شخوصه في مآزق إنسانية وأخلاقية وفلسفية كما في «السفينة» و«الغرف الأخرى». وكان الحب والجنس موضوعاً أساسياً وأثيراً لديه. حتى إنه شارك صديقه الكاتب البعيد عن عوالم الحب عبد الرحمن منيف كتابة روايتهما «عالم بلا خرائط» رواية عن الحب بامتياز.
ولتوضيح تعلق أعمال جبرا بأثر الاغتراب الفردي والجمعي (يمكن مراجعة بحث د.حماد أبو شاويش الاغتراب في رواية «البحث عن وليد مسعود»)، نأتي سريعاً على ذكر حبكة «البحث عن وليد مسعود» كأبرز أعمال جبرا. تبدأ الرواية باختفاء مسعود بعد استشهاد ابنه مروان، واقتناعه التام بضرورة الالتحاق بالثورة. ورغم أنه ينتمي إلى طبقة بورجوازية يكتشف أن الحياة ممحلة وأن الخلاص يبدأ من الداخل، من صميم الذات. إذاً فبنية حركة العمل هي من الانكسار الجمعي إلى الفردي، إلى المقاومة الجمعية مرة أخرى، لكن المهم هنا أنها مقاومة تحدث داخل الذات.
وربما تكون ترجمات جبرا الشهيرة، رغبة تندرج تحت هذا الإطار. قدم جبرا إلى العربية «الصخب والعنف» لفوكنر، و«في انتظار غودو» لبيكيت، وأعمال تي اس اليوت، وطبعاً كتاب يان كوت «شكسبير معاصرنا». من دون أن ننسى نصوص شكسبير «هاملت» و«عطيل» و«ماكبث» و«الملك لير» وغيرها. كأن المثقف والكاتب الذي فُرض عليه الاغتراب والنفي، قرّر أن يستفيد ـــــ بل أن يستمتع ـــــ بوجوده في الثقافة واللغة الإنكليزية التي أتقنها تماماً وبها كتب عمله الروائي الأول «صيادون في شارع ضيق» (1960) الذي عرّبه محمد عصفور. ويمتد ذلك إلى التأثر بتلك الثقافة في كتابته، فمن الوارد أن يكون جبرا قد تأثر بثلاثية بول أوستر لدى كتابته «يوميات سراب عفان» (1985) التي تتشابه قليلاً في حبكتها مع ذلك العمل، من خلال التلاعب على علاقة الشخصيات بالمؤلف. وإن لم يكن أوستر فاتحاً لهذا التلاعب، فإنّ برانديللو سبق الاثنين في عمله «ست شخصيات تبحث عن مؤلف».

على أيّ حال، بدا تأثّر جبرا بالثقافة الإنكليزية جلياً في كتابته للشعر. كان صاحب «تموز في المدينة» (1959) و«المدار المغلق» (1964) و«لوعة الشمس» (1978) أحد الشركاء المؤسسين لتجربة مجلة «شِعر» الشهيرة، رغم اختلافه مع طراز القصيدة النثرية التي كتبها يوسف الخال وأنسي الحاج وغيرهما. كان ينتمي، شأنه في ذلك شأن «الشعراء التموزيين» كما سمّاهم، إلى «الشعر الحرّ» بمفهومه الأنكلوسكسوني: الشعر المتحرر من الوزن والقافية، إنما القائم على الترابط المنطقي والدلالي بين جمله وأبياته.

لقد كان جبرا مثقفاً شاملاً بحق. لم يقلّ انتماؤه للعراق عن انتمائه لفلسطين، إن لم يربُ عليه. ومنذ أن حلّ وحتى وفاته ودفنه في بغداد، كان حجراً راسخاً ومؤثراً في حراك الثقافة هناك. بل إن بيته المليء بكنوز الفن في حي المنصور في بغداد الذي تفجّر بما فيه من رسوم جبرا وكتبه وثروته الفنية، كان مزاراً ومتحفاً يرتاده كثيرون. يشهد على ذلك الناقد العراقي حاتم الصكر الذي وصفه بأنّه «فريق من الكتّاب في رجل واحد». كما أنّ له مراسلات بديعة مع بدر شاكر السياب وكتب في التشكيل العراقي، ولا سيّما عن جواد سليم. غير أنّ علاقة جبرا بالتشكيل ليست علاقة الناقد بالفن، إنها بالأحرى علاقة الفنان بالفن.

أحد مؤسّسي مجلة «شِعر»، رغم اختلافه مع القصيدة النثرية التي كتبها يوسف الخال وأنسي الحاج

التشكيل كان في دم جبرا وعلاقته به قديمة قبل العراق. بعدما عاد جبرا من دراسته في «كامبريدج» في بريطانيا سنة 1944، أسس في القدس «نادي الفن» الذي كان له أثر رغم قصر عمره على فناني فلسطين تلك الحقبة. ومن أعماله الشهيرة التي ناقشها كمال بلاطة في كتابيه «الفن الفلسطيني حقل المجهول» و«غارة جوية».
سيرة جبرا منذ ولدنة الفتى السرياني الأرثوذكسي في بيت لحم وحتى انهمار الغارات الجوية، ومسار حياته بعدها نجده مكتوباً في سيرتين هما «البئر الأولى» (1986 ــ الريّس) و«شارع الأميرات» (1994 ــ المؤسسة العربية للدراسات). ضمّت الأولى حياته في فلسطين قبل النكبة. أما الثانية فكما يشير اسمها إلى شارع في بغداد، فتحكي عن حياته في العاصمة العراقيّة. حياته لم تخل من الفجائع الشخصية، إحداها موت شقيقته الذي ترك في نفسه أثراً بالغاً. حتى إنه اعتبر أن المأساة هي سبب الفن، بل كل أسبابه.

إلى هذه المهمات الصعبة كلها التي وضعها جبرا لنفسه، أضاف النقد والدراسات في الأدب والتشكيل، فكتب «الفن والحلم والفعل» و«الأسطورة والرمز» وغيرها الكثير. وجبرا معاصرنا أيضاً، أعماله ليست من النوع الذي يهترئ، وتعتقد أنك أحببته مراهقاً ولن يعود بمقدورك إعادة قراءته مثل كتّاب كثر ما زالوا أحياء. إنّها أعمال تنتمي إلى الحداثة التي قال عنها يوماً «الحداثة العربية التي نشدتُها، وعشت بها، لم تكن يوماً هدفاً لمسعى تبلغه، فتستريح. الحداثة تطلّع مستمر، وأهميته في استمراره الذي لا ينتهي إلا حين يطبق الظلام على الكون والإنسان».

حاتم الصكر يتذكّر

كنت أمازحه: بيتك معلم يزوره السياح، مثل آثار بغداد. فما إن يفتح لك الباب، وتسير فى ممر ضيق يؤدي إلى صالة واسعة مفتوحة على غرفة أخرى إلى اليسار، حتى تحس بأنك في متحف. لوحات لجواد سليم، وشاكر حسن آل سعيد، وفائق حسن... منحوتات لمحمد غني وإسماعيل فتاح... على يمينك رفوف الكتب كلها إهداءات بخط أصحابها: السياب والبياتي وإحسان عباس وسهيل إدريس... وصور له مع أبرز أصدقائه، كعبد الرحمن منيف ويوسف الخال وتوفيق الصايغ...

 

 

الأخبار
8 يونيو 2010