"جان دمو" اكتشف أن تحت مياه الجرح كناراً

علي حسن الفواز
(العراق)

جان دموالشاعر وحده يفرّط بالحياة دونما اسئلة،انه يدرك لعبتها السرية ويدرك افقيتها المروعة، يمارس ازاءها كل التوحش والتوغل،ربما تمنحه عشبتها القديمة التي اضاع كلكامش من اجلها اسطورته وشهواته.

جان دمو/ الشاعر، مارس هذا الامتياز بافراط.. بددّ الحياة من حوله ،بعثرها مثل اوراق حقيبة مهملة ،لم يقتنع بالزمن الاخلاقي الذي يؤطر الكائن بالاخرين واشيائهم (السلطة/الشارع/ المقهى/مركز الشرطة/الفندق/المرأة /الحزب) كل مايؤمن به هو علاقة كائنه بكينونته ،تلك التي تضمر وجعا خفيا او صوتا يكتم هوسه تحت جلد مباح لأوهام العابرين ،كان يسخر بمرارة،يضحك احتجاجا او توهما ،لغته تبدو كلاما منثورا دونما اقنية تدفعها الى المعاني او الوضوح الى الشأن العمومي ،ليس من شأنه ان يكون واضحا او مهذبا او منتجا للمعاني،،ربما ليقين مرعب ان الكل حوله ينتجون معاني ضالة ومشوشة ،ولاحاجة لان يكون شبيها باحدهم..

الانسان في جان دمو هو اكثر حضورا من الشاعر الذي يكتب من دون ان (يصفن) كما هي عادة الشعراء وكأن الكلمات مكدسة في فمه وانها تنزلق كلما اراد لها ان تكون مناورة شعرية،،قيل انه عاش مع مجموعة كركوك (سركون بولص،فاضل العزاوي،مؤيد الراوي،يوسف الحيدري ، صلاح فائق ،جليل القيسي) من دون ان يتورط معهم في صناعة الوعي المضاد ،او مشاركتهم في اكتشاف طرق اخرى للحرير او الهند ، هو اكتشف الطريق مختصرا الى جسده، تمرد عليه بنوع من المازوخيا ،،منحه طقوسا هائلة من اللذات والسكرات والنسيان والقسوة،،لاشأن له بصناعة اية علاقة عضوية مع الخارج/الواقع الذي لم يألفه ولم يطمئن اليه .كل مايعرفه عن الخارج/الواقع هو مجموعة زوايا وشوارع ومقاه ووجوه ،وحدها هذه الكائنات/الاقنعة تعرف جان دمو،ترصد يومياته وتحولاته ونومه وصحوه ورحلاته لكنها خذلته حينما تركته وحيدا يموت، ربما كان موته عجولا بعد ان فقد (رقابة) هذه الاقنعة الحميمة، هو لم يألف العيش خارجها وبعيدا عن ضجيجها وشتائمها وهوسها المرعب بالحياة و كل عوامل الموت الطاعنة في خلاياها. يقول جان دمو:

نحو العبور ميتا/
اساهم في تطوير الاسبوع/
اسجن نفسي في ميناء السرير/
استطرف قدوم الرمل،ونواحه في جذور جبهتي.

في القصيدة لايتوهم جان دمو شكلا سائلا للحياة،انه يضع ثيمة الموت جوهرا ، يعبر نحوه،يسجن نفسه،يستطرف القدوم، وهذه الثيمة التأملية تكشف عن هوس داخلي بالحياة رغم الحضورية القاسية للموت ،اذ يضع دمو اللغة/الكتابة شاهدا على هذا الهوس ،فهو كائن يومي عالق بالوقت من دون ان يفرط به صحوا ،لذا ينحاز الى لعبة الكتابة لتكون وجوده المضاد الذي يمكنه الاحساس بعيانية الاشياء حوله. جان دمو الشاعر الوحيد الذي نقرأه بقصدية واضحة ،نحاول ان نفكك الشفرة اللغوية التي يدسّها من دون تخطيط ،ربما نعثر بقصديتنا المريبة على اسرار هذا الوجع العميق،اسرار هذا الهروب المروع من الوقت ،اسرار هذا الكائن المنفلت عن كينونته والمتورط بكل انغماراته بزاوية ضيقة من العالم يشهر بها اسلحته ويطمئن بها الى هزائمه. يقول في تدوين سيرة اوجاعه:

عاش بقلب مفعم بالالغام طوال حياته/
في صيف كله اسرار وطلاسم اكتشف ان تحت مياه الجرح كنارا/
لاتخبروه بان في الصحراء سحرا/
فقد عرف ذلك بعد طفولته
قولوا له ان السراب والموت واحد
وان الحياة ليست ولن يكون لها اكثر من وجهين:
وجهين اصفرين بائسين، ولكن قولوا له،ايضا، ان المستقبل لا أصداء فيه الاّ في الغياب.
كان يجب ان يحب.

حاول جان دمو دائما ان يفرش الكثير من هواجسه في الكتابة ،خارجها يبدو بوهيميا مطرودا ،لايمكنه ان يقترح حلولا لعالم يدرك في قرارة نفسه انه ينحدر الى الغياب، لذا هو يرشي الكتابة لتكون برزخه بين ذاته المنفلتة وبين العالم الذي يمنهج سيولة ساعاته ولاشأن له بانتظارات جان دمو المتكررة. البعض يقول: ان جان دمو يملك صندوقا سحريا تخرج منه الطيور والكلمات، هو لايعرف ان يهندس العالم من حوله ،لايعرف ان يضع اصابعه من دون عبث على طاولة ،الاخرون هم الذين يصنعون السماء الخفيضة لجان دمو لايهامهم الدائم انهم بحاجة الى اساطير يومية !! فهل كان جان دمو فعلا اسطورة يومية يعلق عليها الكثيرون مرارات وحكايات قد لاتحدث ،المهم ان جان دمو هو مشعل حرائقها ،مراراتها ،حدوسها السرية. لو اردنا اعادة قراءة شعرية جان دمو بعيدا عن اسطورة اليومي لاكتشفنا ان هذه الشعرية تختزن الكثير من الجدة والعمق ،وان صناعته للصورة هي صناعة صاحية جدا، لان العلاقات البنائية داخل هذا التشكيل الصوري المتضاد والمتوافق تقوم على اساس وعي كل شروط الكتابة.

رحيل جديد..رحيل مضاد/
لامساواة بعد بين ظل الثلج ورماد الظل/
ايتعين اللجوء الى نرسيس او (باخوس) من اجل فك طلسمية الورد او الفراشات التي تنوس في الممرات التي يفتحها نومنا وتحجرنا.

ازاء هذا ينبغي لنا حقا اعادة قراءة جان دمو ليس في مجموعته الشعرية(اسمال) التي طبعها فاضل جواد في دار الامد،و التي ادعّى كثيرون انهم جمعوها وشذبوها وربما اضافوا لها لتصير كتابا ! وانما في اطار كل ماكتب وماترجم من يقين ان جان دمو الشاعر كان شاهدا متميزا على الشارع السري لحيواتنا ،وكان المراقب الخفي لكل فجائع الزوايا التي تمور بهموم الاخرين مثلما تمور بهموم القطط وجوعها وهريرها ، كلنا نذهب الى اسرتنا العائلية نثرثر عن الوقت والنساء والعشيرة والحكومة والراتب الشهري ودفاتر المدرسة وديون البقالين ،وحده جان دمو كان يذهب الى الزاوية او الى ظل الشارع يمارس سكرته النبيلة او ربما يمارس طقوسه في المراقبة الخفية لما يحدث في عوالمنا الجوانية ،لا شأن له بالتفاصيل ولا باغواءات الحكومة وحتى بيوميات الحروب المكررة والطاحنة، كل ما يدركه جان دمو ان يراقب على طريقة باربوس العالم وهو يكذب ويتنازل عن شروطه الادمية!
لا اظن ان جان دمو كان صعلوكا بالمعنى التقليدي ،فهو ليس مطرودا من قبائل المركز، وهو ليس من اصحاب السكنى عند تخوم الامكنة ،وهو لايكتب على طريقة الشنفرى ولا عروة بن الورد او تأبط شرا، ما يعيشه جان دمو هو تجوهره في المركز الانطولوجي للمدينة الثقافية وليست المدينة السياسية التي لايطمئن لها،والمشكلة ان المدينة الثقافية كانت ضيقة ولا تؤوي مريديها بيسر!! بينما كانت المدينة السياسية العراقية اشبه بالسيرك فيها الفرحة والتبادل والعبور والغواية وكل طقوس الاطمئنانات المغشوشة، ولعل هذا ما جعل دمو اكثر اثرة لزاوية غانم محمود وهوس الشعراء العاطلين عن الصحو واحيانا الشعراء الذين يغاششون الخارج بسكرتهم وجنوحهم واكاذيبهم.. هو الشاعر الغريب الذي لم يفلسف ما حوله، لم يتورط مع احد في صناعة انقلاب او خيانة،الكل كان يخون الكل ،الكل كان يقامر باللغة والجسد والمكان، هو الوحيد الذي لم يربح من حروب الاخرين وخياناتهم، ولايتناغم مع احلام البعض المفخخة بالامنيات السود ،بما فيها امنيات الرحيل ،الشعراء يبحثون عن اوطان بلا حروب ،اوطان بلا مراكز شرطة ،اوطان تكتفي بالمقاهي والنساء فقط ، هو الشاعر الذي لايعرف هذه المعادلة !! كان يسخر من المفهوم البائس والضيق للوطن ، كل مايدركه من الوطن هو الامكنة الحميمة التي تمنحه احساسا بوهم الترف .. في قصيدة ساحة النصر تصعد الامكنة الى الذروة ،تصبح صانعة للمعجزات ،لانها تؤويه ولانها تختصر فكرة الوطن المغلول الى الوحدة والوحشة والقفر،وطن لانملك منه الاّ فنطازيا الحنين..

انه لقفر داخل القفر
ماتتعاكس به مرايا المتفرج
على ساحة النصر بعد الساعة
التاسعة ليلا..
ايمكن انتظار معجزات اخرى
غير هذه الفراغات
التي يتشارك اللص والقس
لعاهرة في ملئها؟
البحار التي فقدناها
بم يمكن ان تعوض
بعاهاتهم الجميلة
مؤهلة لاستجلاء بواطن
ساحة النصر
ساحة النصر..

كان جان دمو يمدّ لسانه لكل اشكال المهيمن، ربما لاحساسه المفرط بانه تجاوز الخسارات الوجودية،وانه يشبه ابطالا كانوا مصابين، التوحد واللاجدوى، لكنه مع كل هذا لايطيق ان يكون وحيدا معزولا ،سخريته المرة وشتائمه التي لم تخطىء احدا .. الاصدقاء لانهم يصنعون سعاداته الموهومة، الشرطة لانه يدرك انهم مغفلون بشروط القانون الذي يحمي الحكومة التي تصنع الجوع والحرب، تطرد الشعراء ولاتصنع لهم اطمئنانا ونوما كاملا.
لم يحاول ان يفلسف علاقته بالاخرين الاّ مرة واحدة فسقط في كتابة السفسطة والتجريد واللغة المفخخة المحتقنة بالاف الاوهام ،تلك التي ورطه بها نصيف الناصري، حتى قيل انها كانت خارج ارادته ،او ربما كتباها معا وهما يكرعان كأسا من العرق المهبهب!

عظيمة كل الحقائق مابعد الصفر
دون لماذا
حتى لو بقي العنقاء محبوسا
في خرافات اللامحدود
ستبقى كل بوصلاتنا بلا جدوى..الاحرى
ان يصار الى مؤاخاة التنين
والابقاء على الفراغات
على ما هي عليه، أو
قريبا...

لم يكن المنفى عند جان دمو رحيلا استثنائيا في الامكنة ،قدر ماكان تواصلا في تأمل الاشياء حوله، فالزوايا الضيقة هي هي ، والاصدقاء صانعو الحرائق هم ذاتهم يكررون العاب الليل والسكرة، واللغة لم ينكسر ايقاعها الموصول بايقاع الجسد صانع الفجائع والخطايا، ربما كان المنفى ايهاما استلبه وتركه فريسة تركض في الغابة والعتمة بحثا عن موتها..

جريدة الصباح
28/08/2007